إسلام ويب

تفسير سورة الأنعام - الآيات [84-90]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يذكر الله عز وجل منته على خليله إبراهيم عليه السلام، بأن هدى ذريته، وجعل منهم الأنبياء، وفضلهم على العالمين، ويحذرهم بأنهم لو أشركوا لحبطت جميع أعمالهم، ثم يسلي الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم؛ بأنه إن كفرت به قريش فسيأتي الله بقوم يؤمنون به، ويأمره بأن يقتدي بالأنبياء من قبله

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه ورضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

    سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى, أما بعد:

    فإن ربنا تبارك وتعالى بعدما قص علينا خبر إبراهيم مع أبيه وقومه، وكيف أنه ناظرهم على عقيدة التوحيد، بين ربنا جل جلاله نعمته على خليله إبراهيم عليه السلام، فقال سبحانه: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا [الأنعام:84]، (ووهبنا) النون نون العظمة، والهبة عطاء من الله عز وجل.

    وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ [الأنعام:84]، عوض الله عز وجل إبراهيم عليه السلام لما ترك أباه وقومه، وهاجر من وطنه إيثاراً لرضا الله عز وجل ورغبة في ما عنده، فوهب له هذه الذرية الصالحة ليأنس بها ويطمئن إليها.

    وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ [الأنعام:84]، وهب الله له إسحاق على كبر منه، كما حكى ربنا في سورة هود: أن الملائكة لما بشرته بمولد إسحاق أقبلت امرأته في صرة، أي: في صيحة وضجة، فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ [الذاريات:29]، وفي سورة هود: قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود:72].

    وبعدما وهب الله له إسحاق جعل من ذرية إسحاق يعقوب عليه السلام الذي هو حفيد إبراهيم، قال الله عز وجل: كُلاًّ هَدَيْنَا [الأنعام:84]، (كلاً)، التنوين هنا: للعوض، وتقدير الكلام: كل واحد منهم هديناه، كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ [الأنعام:84]، ونوح عليه السلام يسمونه آدم الصغير؛ لأن جميع البشر من ذرية نوح؛ لأنه عليه السلام لما دعا قومه إلى الله فأبوا، أرسل الله عز وجل عليهم الطوفان فأهلكهم جميعاً، وما نجا إلا نوحاً ومن آمن معه، قال سبحانه: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ [الصافات:77].

    أوجه الشبه بين إبراهيم ونوح عليهما السلام

    ذكر الله عز وجل نوحاً بعدما ذكر إبراهيم للشبه الذي بينهما، فإن إبراهيم عليه السلام جادل أباه وقومه، وكذلك نوح عليه السلام جادل قومه، وشدد في الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، فواجهه قومه بالنكير، وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح:23]، ثم قالوا له: يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [هود:32-34]، وهذا وجه من أوجه الشبه بين نوح وإبراهيم عليهما السلام.

    الوجه الثاني: أن جميع الأنبياء بعد نوح هم من ذرية نوح، وكذلك جميع الأنبياء بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم، وقد قال الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ [الحديد:26]، وقال عن إبراهيم عليه السلام: وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ [العنكبوت:27].

    عود الضمير في قوله تعالى: (ومن ذريته داود وسليمان ...)

    قال الله عز وجل: وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ [الأنعام:84]، والسؤال في قول ربنا جل جلاله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ [الأنعام:84]، من ذرية من؟ إبراهيم أم نوح؟ قولان لأهل التفسير:

    قال بعضهم: ومن ذرية نوح؛ لأن نوحاً هو أقرب مذكور، والضمير يرجع إليه، وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ [الأنعام:84]، أي من ذرية نوح، واستدلوا على ذلك بوجه آخر، وهو أن في هؤلاء الأنبياء المذكورين لوطاً وهو عليه السلام ليس من ذرية إبراهيم بل هو ابن أخيه باتفاق المؤرخين.

    وقال بعض المفسرين: بل الضمير يرجع إلى إبراهيم؛ لأن السياق كله حديث عن إبراهيم عليه السلام.

    الأنبياء الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: (ومن ذريته داود وسليمان ...)

    قال الله عز وجل: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الأنعام:84]، داود عليه السلام هو أول أنبياء بني إسرائيل الذي جمع الله له بين النبوة والملك، فكان نبياً ملكاً، وهذا النبي المبارك قد أثنى عليه ربه جل جلاله في كتابه، فقال: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20]، وقال عنه وعن ولده: وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء:79].

    وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ [الأنعام:84]، سليمان بن داود، قال الله عنه وعن أبيه: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ [النمل:15-16]، سليمان عليه السلام آتاه الله عز وجل ملكاً عظيماً، فسخر له الطير والإنس والجن، وسخر له ما شاء من خلقه استجابة لدعوته حين قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35].

    وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ [الأنعام:84]، وأيوب هو: العبد الصالح الذي قال الله عنه: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:44]، وَمُوسَى وَهَارُونَ [الأنعام:84] وهما ابنا عمران اللذان أرسلهما الله عز وجل إلى فرعون اللئيم وأمرهما بأن يلينا له القول، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود:96-97].

    وموسى عليه السلام كانت منته على هارون عظيمة؛ إذ جعل الله هارون نبياً استجابة لدعوة موسى، حين قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه:25-32]، وحين قال: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [القصص:34].

    وبعد أن ذكر الله عز وجل هؤلاء الأنبياء؛ داود وسليمان وأيوب ويوسف وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، وموسى وهارون.

    قال سبحانه: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الأنعام:84]، (وكذلك)، التشبيه راجع للهداية، لما قال: وَنُوحاً هَدَيْنَا [الأنعام:84]، أي: مثل هذه الهداية، نهدي بها كل من اتصف بوصف الإحسان، و(المحسنين) جمع محسن، وهو اسم فاعل من الإحسان، والإحسان كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم على درجتين: أن تعبد الله كأنك تراه، وهذه درجة سامية عالية، والتي بعدها: فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

    فهؤلاء المحسنون يهديهم الله عز وجل، كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088967608

    عدد مرات الحفظ

    780215072