إذا آمنا بأن الله شاهد علينا بما نفعل، وأنه مطلع على أحوالنا، ولا يخفى عليه شيء من أمرنا, فإن ذلك ينبغي أن يثمر مراقبة الله عز وجل في السر والعلن, والخوف منه جل جلاله.
وكذلك إذا آمنا بأن الله عز وجل حافظ, بمعنى أنه قائم علينا, يحفظ أنفسنا, ويدر أرزاقنا, فإن ينبغي أن يثمر محبة الله عز وجل, والتقرب إليه بالطاعات, تعبداً له سبحانه وتعالى والتماساً لمرضاته, وشكراً له على إنعامه وإحسانه.
من صور هيمنة ربنا جلاله أننا معشر البشر ننام ملء جفوننا, وكذلك الدواب والحيوانات والطيور, والله جل جلاله هو الذي يرعى هؤلاء جميعاً, يحرك أعضاءهم, ويحفظ عليهم أنفسهم, ثم يبعثهم من بعد موات, ويجري ما يشاء من قدره فيهم, وهو الذي يكفل للأحياء جميعاً أرزاقهم, عاقلهم ومن كان مسلوب العقل, ومن لا عقل له أصلاً, فالله عز وجل يرزق الجميع, كما قال سبحانه:
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
[هود:6].
وهو سبحانه عليم بأحوالهم في سرهم وعلانيتهم، قال تعالى:
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ
[غافر:19].
ومن صور هيمنته جل جلاله أن الإنسان يستودع النطفة في رحم الأم, كما قال الله عز وجل:
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ *
إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ
[المرسلات:20-22].
هذه النطفة ماء مهين, بملء الكف, ثم بعد ذلك الله عز وجل يحول هذه النطفة إلى علقة, قطعة من الدم المتجمد, ثم بعد ذلك يحولها إلى مضغة, قطعة من اللحم بقدر ما يمضغ في الفم, ثم بعد ذلك يشق فيها السمع والبصر واللسان ويكسبها لوناً على الوجه الذي يريد, ويكسوها شعراً, وهذا كله والمرأة تأكل وتشرب وتنام وتضحك وتتحرك, فما احتاج ربنا جل جلاله أن يخدرها ولا أن ينومها ولا أن يشق بطنها, وإنما بطنها ملتئمة, لكن الله عز وجل يجري تلك العمليات كلها؛ لأنه جل جلاله هو المهيمن.
الله هو المهيمن, وقد وصف القرآن كذلك بأنه مهيمن, قال سبحانه:
وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ
[المائدة:48], فالقرآن مهيمن على سائر الكتب.
قال المفسرون: (مهيمن) أي: عال يعلو ولا يعلى, وإن كان كله كلام الله, والإنجيل كلام الله, والتوراة كلام الله, والزبور كلام الله, والكتب التي لا نعرف أسماءها أيضاً هي كلام الله عز وجل, لكن القرآن مهيمن عليها من وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: بما زاد عليها من السور, ففي القرآن سور لم ينزلها الله عز وجل في كتاب قبله؛ ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـأبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه: ( لأعلمنك سورة ما أنزل الله في التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور مثلها, فعلمه صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
[الفاتحة:2] .. إلخ ).
الوجه الثاني: أن القرآن أنزله الله عز وجل بلسان عربي مبين, وكل نبي بين لقومه بلسانهم, ومعلوم بأن للسان مزية في البيان, بل للقرآن مزية حتى على لسان العرب؛ ولذلك لو أن الحروف تكررت في كلام واحد, فاللسان يستعجم بها ولا يستطيع أن ينطلق؛ ولذلك من عيوب بعض أبيات الشعر العربي أن يتكرر فيها الحرف الواحد، كمثل هذا البيت:
وقبر حرب بمكان قفر وليس قرب قبر حرب قبر
قالوا: هذا البيت لا يستطيع الإنسان أن يكرره ثلاث مرات دون أن يتلعثم.
وانظر في القرآن الكريم -مثلاً- آية يتكرر فيها حرف القاف عشر مرات, فينطلق بها اللسان من غير استعجام قال تعالى:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ
[المائدة:27], عشر قافات في آية واحدة، ويمكن للإنسان أن يكررها مائة مرة دون أن يتوقف.
أو مثلاً الميمات:
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
[هود:48], فهذه أكثر آية في القرآن ورد فيها حرف الميم, ولا يستعجم بها اللسان؛ ولذلك القرآن مهيمن على سائر الكتب, باعتبار أنه أفصحها كلاماً, وأكثرها إعجازاً.
الوجه الثالث: أن الله تعالى جعل نظمه ورسومه معجزاً, من حيث الإخبار عن المغيبات, والإعلام بالأحكام المحكمات, وسنن الله المشروعات, وكل هذا في ألفاظ موجزات, يعني: آيات القرآن كلها ستة آلاف وزيادة يقول الله عز وجل عنها:
وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ
[النحل:89], فكل ما يحتاج إليه البشر مستودع في هذا القرآن.
أسأل الله أن يهدينا سواء السبيل! وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.