أما بعد:
فيقول الله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:200-208].
جاءت هذه الآيات لتقسم الناس إلى أقسام أربعة:
وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16] .
وقد قال المفسرون في معنى الآية الأخيرة: إن العبد ليعمل العمل يشبه عمل المؤمنين كأنه يقربه إلى الآخرة، ولكنه لا يريد بعمله هذا إلا الدنيا.. يقدم المال للفقراء باسم الإنسانية، ويبذل جهده في خدمة الوطن باسم الوطنية، لكنه يفقد النية الصالحة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، فيعطيه جزاء ذلك في الدنيا من صحة وقوة في السمع وفي البصر ومن مال وولد، فيعجل له جزاءه وافياً كاملاً غير منقوص؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يظلم أحداً حقاً من حقوقه.
وهذا النوع أيضاً إذا رفعوا أكف الضراعة إلى الله لا يسألونه إلا الدنيا؛ لأنها ملكت قلوبهم، وسيطرت على أفئدتهم، فهم يقولون دائماً: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200].
حينما نحث الناس على السعي إلى الحياة الآخرة لا يعني ذلك أن تعطل الحياة الدنيا، ولكن يجب أن يعمل المؤمن للدنيا ويسعى إلى الآخرة، فيمشي إلى الدنيا مشياً: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك:15]، ويسعى إلى الآخرة سعياً حثيثاً: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19].
ومن هنا ندرك أن دين الإسلام وسط بين طرفي نقيض، فإذا كانت الشيوعية الملحدة تقدس البدن والمادة وتلغي الروح، والصوفية تقدس الروح وتلغي البدن، فإن دين الله الخالص يحترم الروح والبدن جميعاً، ويعطي كلاً منهما حقه.
إن هذا لا يذيبه إلا حر نار جهنم، يقول عز وجل عنه: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:206] .
وإن كان قد فقد النفاق الذي كان أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن في دنيا العالم اليوم من أنواع النفاق ما لا يحصيه إلا الله، ولعل من أبرز أنواع النفاق هذه الهويات التي أصبح يحملها ما يزيد على ألف مليون، ثم حينما نفتش في واقع هؤلاء المسلمين فإن الكثير لا نجد فيهم من يطبق الإسلام إلا النزر القليل.
من هؤلاء المنافقين من يتقلدون المناصب، ويمتطون الإسلام مطية إلى أغراضهم، حتى إذا انتهى بهم المطاف إلى السيطرة على السلطة وإذا بهم يعلنون الحقد الدفين على هذه الأمة.
وهناك من يدعي الإسلام، وهو في الحقيقة إنما يأخذ من الإسلام ما يتناسب مع مطالبه، أما حينما يتنافى الإسلام مع أهدافه أو يصطدم مع مخططاته فإنه يضرب بهذا الدين -دين الله- عرض الحائط غير مبال به، فحسبه جهنم ولبئس المهاد.
هناك من يتغنى بالإسلام، ويملأ الدنيا صراخاً وعويلاً: الإسلام الإسلام.. الدين الدين.. وهو أبعد الناس عن دين الله عز وجل، فحسبه جهنم ولبئس المهاد.
لا يحني رأسه لغير الله، ولا يسأل إلا الله، لا يعرف في هذا الكون من يستحق أن يعبد أو يخشى إلا الله، قد رفض الدنيا كلها في سبيل شراء عقيدته والاحتفاظ بها.
كان صهيب الرومي رضي الله عنه يريد أن يلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجراً، وكان رجلاً ثرياً، فيلحقه أهل مكة فيقولون له: يا صهيب ! والله لا تغادرنا وقد جئت رجلاً فقيراً، ثم أنت اليوم ترتحل من أثرى الناس، فيقول: يا قوم! إن كنتم تريدون مالي فإن مكانه في كذا وكذا في مكة، وإن كنتم تريدون أن تصرفوني عن اللحاق بمحمد صلى الله عليه وسلم فإني والله من أرمى العرب، ووالله لا أترك سهماً في كنانتي حتى أصيب به واحداً منكم أو تتركوني وتخلوا بيني وبين نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم، فيقولون: دلنا على مالك، فيدلهم على جميع ماله، ويخرج بنفسه لاحقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكاد يصل المدينة حتى تتلى هذه الآية في حقه وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207] .
أي: لا تتركوا منه صغيرة ولا كبيرة؛ حيث إن دين الله ملة واحدة، وإن أي مذهب من هذه المذاهب يذهب بهؤلاء الناس عن الدين الصحيح فإنه مرفوض وغير مقبول.
أما الذين يريدون أن يأخذوا من هذا الدين بطرف ليتركوا طرفاً آخر، فإن الله سبحانه وتعالى لا يقبل أنصاف ولا أثلاث ولا أرباع المسلمين، فهذا الدين إنما يؤخذ كاملاً أو يترك كاملاً، وحينما يأخذونه كاملاً يكونون مسلمين حقاً، أما حينما يرفضون الإسلام فأولئك هم الكافرون حقاً.
الإسلام منهج حياة متكامل، وليس عبادة فحسب، ولكنه عبادة ومنهج حكم ومنهج حياة.. اقتصاد وسياسة واجتماع، وأي واحد يريد أن ينحي الإسلام عن هذه النواحي فإن الله سبحانه وتعال له بالمرصاد يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! اتقوا الله تعالى، وخذوا بهذا الدين كاملاً، واحذروا تلك العبادة المؤقتة التي يتجه إليها الناس فترة من الفترات لينصرفوا بعد فترة أخرى، إن الإسلام كتلة واحدة يجب على المسلمين أن يأخذوا به جميعاً؛ لأن الله تعالى يقول: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208].
أما هؤلاء الذين يتكيفون ويغيرون ويبدلون في دين الله فيأخذون ما يروق لهم، فيحجون لأن الحج فيه لقاء، ولكنهم لا يدفعون زكاة المال لأن فيها غرامة كما يظنون، أو يصلون لأن الصلاة لا تكلفهم جهداً، ولكنهم لا يصومون لأن الصيام يحرمهم شهواتهم، أو يصومون ويحجون، ولكنهم لا يحافظون على الصلاة لأنها تتكرر عليهم في اليوم خمس مرات، هذا ليس هو منهج المسلم، إن المسلم مطالب بأن يأخذ بهذا الدين كاملاً غير منقوص؛ لأنه عبارة عن أركان أوجبها الله على كل واحد من المسلمين.
معشر المسلمين! كثير من الحجاج لا يحافظون على الصلوات الخمس في المساجد، وهي فرض عين على كل واحد من المسلمين، لا يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق.
احذروا معصية الله، وحافظوا على هذا العهد الذي أبرمتموه بينكم وبين الله عز وجل، ولا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، فاحذروا البدع فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارض عن آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه، اللهم ارض عنا معهم، وارزقنا حبهم واجمعنا بهم في مستقر رحمتك.
اللهم اكتب النصر لعبادك المجاهدين في سبيلك، اللهم انصرهم على عدوهم ولا تخذلهم، اللهم وزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم، اللهم وأتبع الظالمين بالظالمين، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم عليك بأعدائك الذين يعذبون المسلمين في سوريا، اللهم أتبعهم بالظالمين، اللهم طهر الأرض من الفجرة والكفرة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، اللهم طهر أرض المسلمين من هؤلاء أجمعين، وأتبع بعضهم ببعض، وارفع راية الإسلام برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإسلام، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم، اللهم خلص إخواننا في سوريا وخلص إخواننا في مصر الذين يعيشون في غياهب السجون، واجعل ولايتنا وأمر المسلمين عامة في عبادك الصالحين الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر