بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فنذكر في هذا اللقاء بعض الإشكالات الواردة على ما يتعلق بجمع القرآن أو نقل القرآن.
فيما يتعلق بقضية الإشكالات يجب أن ننتبه إلى أن هناك مشكلات علمية حقيقية تحتاج إلى بحث وتحرير, وهناك شبهاً؛ فيجب أن نفرق بين القضايا العلمية والشبه؛ فليس كل ما يذكر في الكتب يعد من المشكلات العلمية, ولكن قد يأخذ كما ذكرت لكم سابقاً في بداية هذه المحاضرات بعض المغرضين من المستشرقين, أو من يخالفك في نقل القرآن من المسلمين, أو بعض الملحدين أو بعض المنصرين, يأخذ بعض هذه الآثار ويحتج بها على قضايا في نقل القرآن.
وقد سبق أيضاً أن ذكرت لكم سبب هذا: أنه في الغالب: إما أن يكون عدم فهم للنص فيكون هناك شبهة, وإما أن يكون نصاً غير محتج به أصلاً, يعني: أن النص باطل، ليس من النصوص التي يحتج بها؛ ولهذا -في مثل هذا المقام- نحتاج إلى أن يكون الدرس درساً علمياً, لن أستطيع أن أستوعب كل ما يتعلق بهذه الأمثلة ونقاشاتها، ولكني سأذكر بعض القضايا المرتبطة بها.
وأرى أن هذا الموضوع في الحقيقة لا زال بحاجة إلى جمع وتحرير, لا أقول: إنه ليس موجوداً، ولكنه يحتاج إلى أن يكون مجموعاً في مكان بحيث يستفاد منه مباشرةً؛ لأنك إذا ذهبت تبحث عن مسألة من مسائل هذا الموضوع ستفتش كثيراً حتى تصل إلى الرأي المحرر فيها، فلو كانت المجموعة كلها في مكان واحد؛ لكان الوصول إليها أيسر وأسرع. فعلى سبيل المثال: في جمع أبي بكر ذكرنا أن زيداً لم يجد آخر آيتين من سورة البقرة, وليس معنى ذلك أنها غير موجودة مطلقاً؛ لكنه لم يجدها على الصفة التي أراد أن يجمع القرآن عليها.
ثم نجد في جمع عثمان حديثاً آخر يشبه هذا الحديث؛ ففيه إشكال في الجمع بينهما؛ فإنه أيضاً لم يجد آيتين مع أن القرآن كان مجموعاً في عهد أبي بكر ؛ فمثل هذه القضايا تحتاج إلى تحرير، وهي آثار صحيحة وليس ضعيفة.
فإذاً: أقول: في مثل هذا الموضوع يجب أن نفرق بين القضايا العلمية التي نحتاج فيها إلى دراسة وتحرير وبين الشبه المعتمدة على فهم خاطئ أو على آثار باطلة.
وأقول أيضاً: بما أننا نحن أصحاب الحق -ولا نشك في هذا-؛ فإنه لا يضيرنا نقاش مثل هذه القضايا وطرحها ومعالجتها؛ لأننا لا نشك أصلاً في نقل القرآن, بل كما قلت لكم سابقاً: إن الشاهد يدل على ما بلغه هذا الكتاب من عناية فائقة جداً، لا يمكن أن تجدها لأي كتاب كان, لا من كتب اليهود ولا من كتب النصارى, ولا من كتب أي أحد من البشر, وهذا وحده شاهد بذلك، لو كان الأمر يرجع فيه إلى التحكم العقلي الصحيح.
من الإشكالات التي ترد ويدندن حولها كثيراً من يعترض على نقل القرآن مسألة: مصاحف الصحابة, ومن المصادر التي ذكرت مصاحف الصحابة الكتاب الخطير في بابه, وليس الخطير من باب الخطر؛ ولكنه صار عمدة لبعضهم وهو كتاب المصاحف لـابن أبي داود ، فقد ذكر جملة من مصاحف الصحابة, وبعض الفروق التي تخالف مصحف عثمان .
هذه المصاحف التي ذكرها، وكذلك ذكرها غيره قد تجدونها في كتب التفسير أحياناً, بعض من أراد أن يطعن في نقل القرآن اعتمد على شيء مما نسب إلى هذه المصاحف.
وهذه المصاحف قطعاً هي موجودة, فلا يأتي واحد يشكك في وجود هذه المصاحف. هذه المصاحف نثبتها ونثبت أنها كانت موجودة؛ فلا إشكال عندنا في وجودها, بل إننا نجزم بما نقل فيها مما هو مخالف للمصحف أو المصاحف التي أرسلها عثمان , لكن كيف نتعامل مع هذه المنقولات في هذه المصاحف على الأسلوب العلمي الصحيح, فالطاعن إذا رأى عقولهم ضعيفة؛ استطاع أن يشبه عليها بمثل هذا.
فمن الأشياء التي يمكن أن يقع السؤال عنها: هذه المصاحف التي سميت مصاحف, هل ذكر في الآثار وجود مصحف كامل في الفترة ما بين أبي بكر الصديق و عثمان بن عفان ؟
هناك صحف وتسمى مصاحف، لكن هل هي كاملة أم لا؟ هذا يحتاج إلى استدلال بدليل صحيح صريح في هذا.
كما قلت لكم سابقاً: إن المحفوظ أكثر من المرسوم, ولا يعني ذلك انعدام المرسوم أو انعدام الحاجة إلى المرسوم؛ وإلا لما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم عناية بالتدوين, يعني: لو كان المحفوظ هو المقصود فقط ما كان هناك عناية بالتدوين؛ فعناية النبي صلى الله عليه وسلم بالتدوين تقوية شيء بشيء, يعني: المحفوظ يقوي المكتوب، والمكتوب يقوي المحفوظ؛ لكن الأصل هو المحفوظ.
الآثار من خلال ما ترد تأتي مجملة, مصحف أبي, مصحف عبد الله بن مسعود , مصحف زيد ، هكذا؛ لكنها لا تشير صراحة إلى اكتمال هذا المصحف, بل الأعجب -وسيأتينا إن شاء الله الإشارة إليه-: أن مصحف ابن مسعود لم يكن فيه الفاتحة ولا المعوذتان! وهذا يشير إلى أنه لا يلزم أن تكون مصاحف الصحابة قد حوت جميع النازل, وإنما كانت تحوي شيئاً من النازل على حسب اجتهاد الصحابي في جمع ما يجمع من القرآن.
هذه المصاحف التي جمعها الصحابة والتي أثبتنا أنها موجودة, هل يصل أحد منها إلى قوة ثبوت مصحف أبي بكر الصديق ، أو مصاحف عثمان التي أرسلها؟ من جهة العقل.. فمصاحف الصحابة, كمصحف أبي بن كعب , ومصحف عبد الله بن مسعود , وعندنا مصحف أبي بكر الصديق الذي جمع بالطريقة التي ذكرناها, ثم عندنا مصاحف العثمانية الستة على الأرجح في عدد المصاحف العثمانية, -من ناحية العقل- أيها أقوى؟
مصحف أبي بكر رضي الله عنه ومصاحف عثمان الستة؛ لأنه وقع عليها الإجماع.
أما هذه المصاحف المنفردة فهي مصاحف خاصة, فيجب أن نفرق بين هذا وهذا من جهة النقل, فإذا جاء أحد يلبس علينا بهذا رُدَّ عليه بأن المصاحف العثمانية الستة ومصحف أبي بكر الصديق قد حصل عليها الإجماع, يعني: أجمع الصحابة على صحة المنقول فيها, ما أحد ورد عنه أنه أنكر شيئاً إلا ما سيأتي من كلام ابن مسعود وسنحلله منفرداً؛ لكن ما أحد اعترض إطلاقاً على مصحف أبي بكر ، وأنا ذكرت هذه الفائدة؛ لكي تكون في البال: أنه لم يعترض أحد على ما في مصحف أبي بكر ألبتة, ومعنى ذلك: أن المجموع في مصحف أبي بكر هو القرآن.
ثم نقل مصحف أبي بكر إلى المصاحف العثمانية, وكل الصحابة اتفقوا على ذلك إلا الخلاف الوارد عن ابن مسعود وسيأتينا نقاشه؛ فإذا كان هذا هو القرآن المنقول فما يأتينا عن أبي أو عن ابن مسعود أو عن أبي موسى الأشعري أو عن غيرهم؛ فهم أفراد أمام إجماع, والإجماع يقدم عقلاً.
قد يحتج عليك في هذه المسألة في قضية الإجماع وغيرها نصراني بأن علماء النصرانية أجمعوا على الأناجيل الأربعة؛ فلماذا أنتم لا تعتبرون بها في النقل مثل ما تعتبرون بالقرآن؟!
فيقال لمثل هذا الاعتراض أو مثل هذه الشبهة: إن هذا الإجماع ليس كالإجماع الذي وقع للقرآن إطلاقاً؛ لأن هذا الإجماع الذي وقع بعد قرابة ثلاثمائة وخمسين سنة من موت المسيح عليه السلام, وكان عدد الأناجيل في ذلك الوقت فوق مائة إنجيل, وأخذ هذا المجمع -الذي هو "مجمع نيقية" المشهور- ما يتوافق مع العقيدة التي يعتقدها الوثنيون الذين تنصروا, ولم يؤخذ بالأغلبية، وإنما أخذ بالقوة، وهذا مشهور في تاريخ "مجمع نيقية" هذا.
ثم إنهم بعد ذلك لاحقوا الموحدين وقتلوهم هم في الأرض, وأفنوا كل الأناجيل الأخرى, يعني: هم حرقوا الأناجيل وقتلوا من لا يؤمن بالتثليث؛ فإذاً: هذا تاريخهم الأسود موجود, لا يوجد إنجيل يمكن أن يثبت أنه كتب في عهد أتباع عيسى عليه السلام المباشرين, كل الذي يقال هو مجرد ظن في أن يكون من تلاميذ عيسى , وإلا الأناجيل التي كتبت كتبت بعد موت عيسى أقربها بسبعين سنة.
المقصد من هذا: أنه يجب أن نأخذ الفرق الكبير جداً بين عناية الصحابة رضي الله عنهم الذين نزل القرآن بين أظهرهم والفترة التي جمعوا فيها القرآن وهي سنة واحدة يعني: مات الرسول صلى الله عليه وسلم وبعد سنة جمع القرآن, وليس بعد ما مات جيل الصحابة هم أنفسهم الذين جمعوا؛ فهذا يعطي هذا الجمع قوة عقلية لو لم يؤمن الشخص بصحة النقل على الأقل, إذا كنا نحتج بقضية العقل.
ثم بعد ذلك الجمع الثاني ما زال الصحابة متوافرين, وقراء الصحابة -الذين هم المتخصصون بالإقراء- ما زالوا على قيد الحياة في عهد عثمان , وقد رأوا ما فعل عثمان ووافقوا عثمان ومن أكبرهم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخليفة الرابع, وقد وافق على هذا الجمع, ووافق عليه: أبو موسى الأشعري و أبو الدرداء , وكبار قراء الصحابة ولم يخالفوا في هذا إطلاقاً، بل رأوه من مناقب عثمان بن عفان .
مثل هذا العمل يعتبر عملاً إيجابياً. فنحن -أحياناً- لا نعرف الحق الذي عندنا وقوته, وكما قلت لكم: نحن نجتهد في أن نتجرد من التخيل الذهني الذي يقع منا فيما نشاهد اليوم إلى تخيل ما كان عليه وقت الصحابة رضي الله عنهم؛ فسنجد أن هذا الجمع -لو تأملناه وكنا في مكانهم- فسنجد أننا لا يمكن أن نجمع أحسن مما جمعوه, بمعنى: أنك لو فكرت في طريقة الجمع هذه التي جمعت، هل ستجد طريقة أمثل مما جمع عليه الصحابة رضي الله عنهم؟ فكر وتأمل!
أدوات بين يديك متناثرة، عدد من كبار قراء الصحابة موجودون، كاتب الوحي الخاص موجود, ابدأ اجمع هذه المعطيات، وانظر ماذا تستطيع أن تفعل.
فإذا تأملنا مثل هذا فنجد أن العناية التامة التي وقعت في جمع المصحف لا توازيها عناية, وأما مصاحف الصحابة؛ فهي خاصة, زيد عنده مصحف خاص, و أبو موسى الأشعري عنده مصحف خاص, و أبو الدرداء عنده مصحف خاص, هذه مصاحف خاصة منفردة.
الآن ننتقل إلى قضية فيما لو جاءت زيادة في المصاحف الخاصة مع المصحف الإمام أو مصاحف الإمام -التي هي الستة- أيها يقدم؟ أحق لأن يقدم مصحف الإمام؛ لأنه عليه الإجماع.
ليس المقصود عند الصحابة أن يجمعوا كل ما قُرئ على النبي صلى الله عليه وسلم أو قرأه النبي صلى الله عليه وسلم, المقصود أن يجمعوا ما ثبت في العرضة الأخيرة, يعني: المقصود جمع ما ثبت في العرضة الأخيرة, وهو جمع ما بقي قرآناً؛ فما دام هذا هو المقصود فإذا وجدنا في مصاحف الصحابة زيادات ليست موجودة في المصحف العثماني؛ فمعنى هذا أنها مما ترك في العرضة الأخيرة وسنأتي إليه.
إذاً: لا يعارض المصحف الإمام، وما يعارضه يقدم عليه المصحف الإمام, وقصدي بالمصحف الإمام التي هي المصاحف الستة التي أرسلها عثمان وأبقى عنده واحداً.
في هذه القضية: قضية المصحف الإمام, وقضية المصاحف التي يوجد فيها خلافات يرد سؤال: هذه الخلافات ما تخريجها؟
بعض العلماء يذهب إلى تخريج وهو أن يقول: إن هذه القراءات قراءات تفسيرية, كيف قراءات تفسيرية؟ مثل: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات)، يقول: هذه قراءة تفسيرية.
نقول: هذه قراءات تفسيرية, كأنه يقول: إن الذي قرأ بهذا من الصحابة ودونها في مصحفه هذا من باب التفسير, إما أنه أخذه من النبي صلى الله عليه وسلم, وإما أنه اجتهد في هذا, عنده أنه من باب التفسير.
لكن عندي أن القول بالقراءة التفسيرية فيه نظر -وإن كان قال به علماء متقدمون وعلماء كبار- لكن هو تخريج, الأسلم عندي أن يقال: إنها قراءة لكنها تركت, وسنأتي لماذا تركت.
لماذا؟ لأن كل الذين يروون عن الصحابة رضي الله عنهم هذه القراءات، أو ينسبونها إلى مصاحفهم يقولون: قرأ فلان.. قرأ فلان, ويقول الصحابي في بعض الأحيان: هكذا سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويقول أحياناً: هكذا نزلت, في مثل هذه القراءات.
فإذاً: إذا كان يقول الصحابي؛ فالصحابي قوله مقدم, وهو يفهم ما يقول ويعرف ما نزل؛ فليس من الأولى تخريجها على أنها قراءة تفسيرية, فهذا -في نظري- هو تخريج عقلي، لكنه ليس هو الأصوب, الأصوب: الوجهة الأخرى وأن نقول: إنها قراءة قرآنية, يعني: ثبتت قرآناً إلى وقت العرضة الأخيرة، ثم تركت.
إذا نحن تعاملنا معها بهذا الشكل نرجع إلى قضية سؤال مهم مرتبط بهذه المسألة: هل نحن نثبت النسخ في القرآن أو لا نثبته؟ ولهذا أقول: إن هذه المسألة - مسألة إثبات النسخ من عدمه - من الأصول الكلية التي يجب أن يناقش فيها المعترض. فإذا كان المعترض لا يثق بقضية وجود النسخ؛ فإذاً سيكون نقاشنا في محل آخر في الأمثلة ونقاشات أخرى, لكن لنثبت الآن هل يوجد نسخ أو لا يوجد نسخ.
نص القرآن ثابت فيه: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا[البقرة:106], وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ[النحل:101], فالمسألة مرتبطة بالعلم الإلهي, فثبوت النسخ في القرآن واضح ومع ثبوته في ظاهر القرآن إلا أنك تجد من يعارض من المسلمين كالرافضة، من يعارض قضية النسخ.
أما اليهود أو النصارى بالذات فإنهم أيضاً لا يؤمنون بالنسخ, لكن نحن المسلمين نثبت وجود الناسخ ووجود المنسوخ وارد، ويكاد يكون عليه الإجماع من حيث القضية الكلية؛ أنه يوجد ناسخ ومنسوخ.
إذا كنا نؤمن بهذه القضية -وجود الناسخ والمنسوخ- نسأل سؤالاً: من الذي يحق له أن ينسخ؟ الذي أنزل القرآن: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ[النحل:101], من الذي يبدل آية مكان آية؟ مَا نَنسَخْ[البقرة:106], الخطاب من الله، مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا[البقرة:106], فإذاً الذي ينسخ هو الذي ينزل.
إن قضية النسخ مرتبطة بالحكمة والعلم الإلهي, وإذا جئنا إلى قوله: الحكمة والعلم الإلهي؛ أحياناً قد ندرك الحكمة، وفي كثير الأحيان لا ندركها؛ فنحن نؤمن بها مسلمة.
وما دامت هذه القضية مقررة عندنا بدل من أن نقول: قراءة تفسيرية نقول: إنها قراءة منسوخة، متروكة, من الذي نسخها؟ من الذي تركها؟ الذي أنزلها.
ما هو دليلنا على نسخها؟ على تركها؟ عدم وجودها في مصحف عثمان بن عفان ؛ لأن المصاحف العثمانية هي على العرضة الأخيرة؛ فما دمنا ما وجدنا هذه القراءة في المصاحف العثمانية فهذا يدلنا على أنها مما ترك في العرضة الأخيرة, وما دامت تركت في العرضة الأخيرة فمعناها أنها نسخت نسخ تلاوة, سواء الحكم باقٍ أو غير باقٍ.
لكن نتكلم نحن عن نسخ التلاوة, فما دام نسخت تلاوةً وأثبتنا أنها المنسوخة تلاوةً؛ فإنه لا ينسخ إلا الذي أنزل, هذه المقدمات العقلية لهذه المسألة, فإذاً هي مرتبطة بقضية كلية وهي قضية النسخ.
إذا نحن أخذناها بهذا الأسلوب فلا يشكل علينا إطلاقاً أي قراءة تصح عن الصحابة ولا نجدها في مصحف عثمان , ولا يحدث عندنا أي إشكال, ولا أي شبهة؛ لأننا نعلم أنه لا عثمان ولا أبو بكر الصديق وهو أفضل منه, ولا عمر , ولا علي بن أبي طالب ، بل ولا الأمة كلها لا يجوز لها أن تغير حرفاً مكان حرف في كتاب الله إطلاقاً.
فإذاً: هذا المجموع الذين بين أيدينا هو ما أنزله الله وارتضاه، وهو الذي على العرضة الأخيرة، ما سواه؛ فنقول: إنه نزل، ولكنه نسخ، ودلائل النسخ وشواهده كثيرة جداً.
يزعم الطاعنين أن نقل المصحف ناقص؛ لوجود هذه القراءات في هذه المصاحف, بل إن بعض المستشرقين دعا إلى أن توضع حاشية على المصحف بإثبات القراءات التي وجدت في مخطوطات قديمة -فيما زعموا- في صنعاء, ويضعوها حاشية على المصحف عندهم هم؛ لكي يستفيدوا منها, وهذا لأجل الطعن، وليس لأجل الاستفادة العلمية, نحن -كما سيأتي- سنعرف كيف نستفيد علمياً من هذه القراءات.
فلكي يستفيدوا -بزعمهم- في قضية الطعن في نقل القرآن رأوا هذا الرأي. ولا شك أن العدو لو وجد خيطاً رقيقاً يستطيع أن ينفذ منه لنفذ منه؛ فما تستغربون مثل هذا العمل منهم! حتى ولو ادعى بعضهم الحيادية في هذا العمل؛ فإنه لا قيمة لها عن العمل، ثم ما هي النتيجة من هذا العمل؟ هل سيتغير المصحف عندنا؟ هل سنستطيع نحن أن نغير شيئاً مما بين أيدينا من المصحف؟ لن يحصل هذا.
فإذاً: الفائدة العلمية منه ليست في هذا في قضية أخرى -سنأتي نناقشها إن شاء الله- يعني: ما الذي استفاده العلماء من هذه القراءات, وهو المثبت في كتب المسلمين جيلاً بعد جيل؟
أولئك استفادوا من هذه القضية في جانب سلبي جداً, وبعض العلماء استفاد من قضية مصاحف الصحابة أمراً آخر، وهو ما يتعلق بترتيب القرآن.
علماؤنا -رحمهم الله تعالى- بحثوا هل ترتيب القرآن اجتهادي أو توقيفي؟ وقولهم: اجتهادي كان من أدلة هذا القول: اختلاف مصاحف الصحابة.
هؤلاء المغرضون قالوا: إن مصاحف الصحابة مختلفة و عثمان لم يأخذ بها، ودائماً ينسبون الأمر إلى عثمان ، مع أن عثمان رضي الله عنه ليس هو وحده الذي عمل هذا العمل العظيم, وإنما كان عن إجماع, ولكن نسب لـعثمان ؛ لأنه هو الذي أمر وكان في عهده؛ فإذاً عثمان لم يعمل منفرداً أبداً, المقصد أنهم يقولون: إن عثمان هو الذي تصرف بقضية ترتيب المصحف وسوره.
لكن نقول: إن ترتيب المصحف العثماني هو نفس ترتيب المصحف الذي كان في عهد أبي بكر , وهو نفس الترتيب الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، هذا هو الأصل العقلي الذي ذكرته لكم سابقاً إذا نحن تجردنا من اختلافات الأقوال.
فالأصل العقلي يدل على أن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تدوين المصحف شيئاً فشيئاً، وما من آية تنزل إلا ويدونها، كما هو ثابت.
وعنايته صلى الله عليه وسلم بالمصحف كاملاً وهو يعرضه على جبريل عالماً ترتيب سوره, لا يتصور مع ذلك أن يخل بهذا الأمر. وإنما الصحيح الذي يدل عليه العقل فضلاً عن جملة من الآثار أن الترتيب هذا كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, وكانت عناية النبي صلى الله عليه وسلم به خاصة ومباشرة، ثم انتقل إلى عهد أبي بكر ثم إلى عهد عثمان ولم يغيروا شيئاً؛ ولهذا لما (قال ابن عباس لـعثمان قال: يا ابن أخي! لا أغير شيئاً من مكانه), يعني: في الآيات وكذلك في غيرها أيضاً من السور.
والسؤال الذي يجب أن يرد هنا: افترض أننا قلنا بالقول الثاني: إن ترتيب السور اجتهادي, وإن عثمان والصحابة الذين كانوا معه في عصره اجتهدوا في هذا الترتيب وهذا القول الثاني للعلماء, ومصحف ابن مسعود ترتيبه غير ترتيب مصحف عثمان والمصاحف العثمانية, ومصحف أبيّ ترتيبه غير ترتيب المصاحف العثمانية, اتفقنا جدلاً على هذا، ما أثر هذا في نقل القرآن؟ هل يؤثر على نقل القرآن؟ لا يؤثر، فلو أن إنساناً يحفظ القرآن قال: والله أنا سورة يوسف سهلة علي وبعدها سأحفظ سورة القصص، فقام وأخذ من الحاسب سورة يوسف في أوراق ثم ألحق بها سورة القصص مثلاً, خالف الترتيب. أو ما خالف الترتيب؟ خالف الترتيب. أو افترض أنه قدم سورة القصص على سورة يوسف للحفظ، هل هذا الترتيب له أثر أو إشكال؟ ما فيه إشكال..
فإذاً: المقصد من ذلك: أن الكلام على اختلاف ترتيب السور بين الصحابة وبين المصحف العثماني تشويش لا قيمة له في نقل القرآن, قيمته في قضية ترتيب المصحف, هل هو توقيفي أو اجتهادي, ويبنى عليه بعد ذلك مسألة تناسب السور. يعني: إذاً قصدي من ذلك: أن مثل هذا الأمر لا يؤثر إطلاقاً على نقل القرآن، اختلاف ترتيب السور عند الصحابة ليس فيه أي مشكلة فيما يتعلق بهذه المسألة التي نناقشها.
سؤال آخر -وهو أيضاً مهم جداً أحب أن تنتبهوا له؛ لأنه غاية في الأهمية-: المسلمون استفادوا منه إيجابياً، لكن غيرهم يجعله سلبياً: هل كان لهذه المصاحف أثر سلبي بعد جمع المصحف في عهد عثمان ؟
ماذا فعل عثمان وجمع ماذا؟ المصاحف وحرقها، إلا ابن مسعود فإنه أبقى مصحفه رضي الله عنه وأبى أن يحرقه.
لكن لما نرجع إلى تراثنا نجد أن بعض التابعين يقول: رأيت في مصحف أبي أو يقول: كذا في مصحف أبي , كذا في مصحف ابن مسعود ، أو قرأ ابن مسعود كذا, يعني: وجد في مصحفه، بمعنى: أننا نجد قراءات منسوبة إلى الصحابة سواء نسبت إلى مصاحف لهم أم أنها قراءة لهم نجدها الآن موجودة بين أيدينا، منسوبة لهم وصحيحة, وأشهرها الذي كررناه كثيراً قراءة: (والذكر والأنثى) قرأها كذا أبو الدرداء وقرأها ابن مسعود , وعندنا في مصحف عثمان المصحف العثماني: وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى[الليل:3].
هذه القراءات الموجودة بين أيدينا اليوم كيف أفلتت من محاولة عثمان رضي الله عنه حرق المصاحف وجمع المسلمين على المصحف النازل على النبي صلى الله عليه وسلم الذي تلقي بالقبول وأخذ من خلال العرضة الأخيرة؟
لقد أخذت هذه القراءات عن طريق الروايات؛ فبهذا نزلت إلى أن تكون رواية وليست قراناً، فلا تؤخذ رواية منفردة، وإنما يأخذ جيل عن جيل, وأمة عن أمة, وجماعة عن جماعة, ما يؤخذ برواية منفردة. فمن باب الفائدة: الإمام نافع -مثلاً- كان يجلس ويقرئ، ما يقرئ واحداً واثنين، بل يقرئ عشرات عنده, والذين سمعوا قراءته ألوف, ولا أحد استنكر من قراءة نافع أي شيء, وسنأتي -إن شاء الله- إليها لما نتكلم عن القراءات وطرائق الاختيار, لكن المقصد هنا أن ننتبه إلى هذه الحيثية: أن النقل اختلف.
إذا رجعتم إلى أي قراءة من هذه القراءات المنسوبة للصحابة وليست موجودة في مصحف عثمان حتى ما نسب أحياناً للنبي صلى الله عليه وسلم وتركت، تجدون أنها كلها روايات أفراد, يعني: آحادية, روايات مفردة.
ومع حرص عثمان رضي الله عنه ومن معه من الصحابة على حرق المصاحف إلا أنه بقي أفراد من هذه الروايات عندنا إلى اليوم موجودة, وهي التي حاول أن يدخل منها الطاعنون في مثل هذه الأمور التي ذكرتها سابقاً.
لكن نسأل السؤال المهم: هذه الروايات بين أيدينا: هل وجدنا لهذه الروايات أي أثر سلبي على نقل القرآن، عند المسلمين؟ هل هناك أي أثر سلبي.
مداخلة: لا.
الشيخ: نعم, الأثر إيجابي وسنأتي إليه، فهل رأيتم أحداً من علماء المسلمين توقف في قراءة آية قال: والله لأني قرأت في صحيح البخاري : (والذكر والانثى) إذاً أتوقف هنا, وأشك في النقل في: وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى[الليل:3], ما أحد فعل هذا, بمعنى: أنه صار إجماع أمة بعد أمة.. أمة بعد أمة, وتحرير علماء المسلمين وحرصهم ودقتهم على المسائل العلمية -ليس على نقل القرآن- لا ينكره الخصم, فكيف إذا كان فيما يتعلق بأعز وأغلى ما يملكون، وهو القرآن!
فإذاً: لا يتصور عاقل يجرد عقله في مثل هذه المسألة أن هذه القراءات المنسوبة للصحابة لها أي أثر على نقل القرآن.
أصحاب ابن مسعود لم يوافقه أحد منهم على رأيه في مسألة القرآن, التي سيأتي بعد قليل نقاشها إن شاء الله, يعني: لم يوافقه تلاميذه البارون به, الذين يتبعون منهجه وطريقته؛ الذين كان من المتوقع لو كانت المسألة حزبية أو ما يسمى بالاحتشام للشيخ والدفاع عن الشيخ، كان أولى من يبر ابن مسعود في هذه المسألة هم أتباعه: مسروق و علقمة وغيرهم, ومع ذلك هؤلاء هم أول من ترك رأي ابن مسعود الذي خالف فيه رأي الجماعة.
فإذاً: ليس هناك أي أثر سلبي, لهذه القراءات عبر القرون عند المسلمين، لكن كما قال الأخ: إن لها أثراً إيجابياً ظاهراً في كتب المسلمين, فمن الآثار الإيجابية: الاستفادة منها في الناسخ والمنسوخ, فمثلاً لما نقرأ في كتب الناسخ والمنسوخ ما نأخذ ما نسخ تلاوة وحكماً.
كذلك أيضاً استفادة الأحكام الفقهية, ونعلم أن قوله سبحانه وتعالى: (ثلاثة أيام متتابعات) فيها خلاف بين العلماء, هل الصيام على التتابع أو على غير التتابع خلاف فقهي؛ فاستفيد منها, لكن من باب الفائدة: على المذهب الذي ذكرته لكم والذي أرتضيه, وأرى أنه أقرب إلى الصواب: أن هذه القراءة نازلة وليست قراءة تفسيرية.
بناءً على ذلك - ننتبه لها في الأحكام الفقهية - سيكون عندنا مثلاً مرتبة القراءة ثلاث احتمالات:
الاحتمال الأول: أن تكون قرآناً، ولكنه ترك من جهة التلاوة.
الثاني: أن تكون بياناً نبوياً نقله ابن مسعود .
الاحتمال الثالث: أن يكون رأياً لـابن مسعود وهذا أضعف هذه الأقوال الثلاثة.
والأقرب عندي: الأول، وأنه يكون من باب المنسوخ حكماً وتلاوةً, يعني: نزلت (ثلاثة أيام متتابعات) ثم رفعت (متتابعات) حكماً وتلاوةً؛ لأن آراء العلماء - كما تلاحظون - أنه لو صام أياماً مفرقة لجاز, ولو كانت هذه ثابتة قطعاً لما وقع الخلاف فيها؛ فلما وقع الخلاف فيها بين الصحابة وظهر جداً ظهوراً بيناً خلافهم فيها؛ دل على أن لو كان هذا الحكم نزل في يوم ما فإنه قد نسخ, فمن لم يعلم بالنسخ سيبقي التتابع ومن علم بالنسخ يترك التتابع.
فإذاً: المسألة في مثل هذا مسألة فقهية حكمية في فرع من فروع الفقه؛ فليس فيها أي إشكالية؛ إن صام مفرقاً فله سلف، والسلف يتبعهم من أئمة الدين من الصحابة ومن جاء بعدهم, وإن صام متتابعاً فله سلف من أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم, وهذه جمهور مسائل الفقه التي عندنا وقع فيها الخلاف ليس في هذا الإشكال الكبير إذا أخذناه بهذا الموضوع؛ ولهذا اختلف الشافعي عن مالك عن أبي حنيفة عن أحمد , وكل واحد يعتبر الآخر على حق، ما يعتبره على باطل, ما أحد يحكم على الآخر بالبطلان المطلق؛ أبداً، المسألة في مثل هذه الأمور يحتملها الاجتهاد.
أيضاً أستفيد من هذه القراءات في علم التفسير في بيان بعض المعاني، بل أحياناً في ترجيح بعض المعاني على بعض, وهذا وارد كثير جداً في علم التفسير..
أيضاً يستفاد منها في علوم العربية، التي هي النحو واللغة وغيرهما, فهذه القراءات حتى لو لم تثبت قرآناً إلا أنها في الزمن الذي يحتج به لغةً وتحفظ, فإذا ورد شيء من هذه القراءات فإنه يعد حجة من جهة اللغة والنحو.
إذاً هذا التراث فيما نسميه نحن فيما بعد بالقراءة الشاذة, استفيد منه استفادة إيجابية، ولم يكن يوماً من الأيام مشكلاً أبداً.
فإذا كان طيلة هذه القرون ما وقع في إشكال أبداً, والعلماء يستفيدون منه مرة بعد مرة, فكيف وقع الإشكال اليوم؟ إذاً الإشكال ليس في المسألة, الإشكال فيمن أثار المسألة, وإلا بقيت طيلة هذه القرون وهي يستفاد منها، ما فيها أي إشكال.
إذا تصورنا هذا فيما يتعلق بمصاحف الصحابة رضي الله عنهم, وعرفنا أنها اتخذت مجال الرواية مثل رواية أي أثر، كأن الرواية أثر عن صحابي, فإنها لا تؤثر عندنا على قضية نقل القرآن إطلاقاً, ولا نشك طرفة عين في أن هذه مما ترك إن كانت صحيحة مسندة إلى الصحابي وجزم بها أنه قرأها عن النبي صلى الله عليه وسلم, ونريد أن تنتبهوا للقضية العقلية هذه في قضية النسخ؛ لأنها مهمة جداً في فك كثير من القضايا المرتبطة، حتى بما يتعلق بالأحرف السبعة إذا أتينا إليها وتناقشنا فيها, لعلي أعيدها لكم مرة أخرى فانتبهوا لها, أقعدها لكم؛ لأنا سنحتاجها مرة أخرى.
هذه قراءات مسندة ثابتة عن الصحابة، وكما قلنا: هي قراءة أفراد آحادية مروية بطريقة الرواية المنفردة, وليست مثل القرآن أمة عن أمة, يقرأ في المحاريب ويسمعه الناس؛ هذه روايات فقط.
هذه الروايات إذا ثبتت عن صحابي ونص على أنه قرأها على النبي صلى الله عليه وسلم أو سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإننا نثبت قرآنيتها, ثم بعد إثبات قرآنيتها نقول: بما أنها ليست في المصاحف العثمانية, فإن هذا يدل على أنها مما نسخ في العرضة الأخيرة, لماذا؟
لأن المصاحف العثمانية على العرضة الأخيرة, وهي التي تلقتها الأمة بالقبول, فإذاً: استدللنا على تركها بعدم وجودها في المصحف الذي على العرضة الأخيرة الذي هو مصاحف عثمان المنسوبة لـعثمان رضي الله عنه.
إذا اتضحت فكرة هذا الاستدلال بإذن الله ستزيل عنا إشكالات كثيرة فيما يتعلق ينشؤ الشذوذ وتعامل العلماء معه. كل هذا مبني على هذه القاعدة التي ذكرتها سابقاً.
نعود إلى مسألة أيضاً متعلقة بالمصاحف وهي مرتبطة بقضية التاريخ كما نبهتكم إلى الرجوع إليها، وهي: مرتبطة الآن بقضية الإقراء والمصحف, يعني: التلقي من خلال القراءة والعرض وقضية المصحف.
فنقول: إلى فترة عثمان رضي الله عنه, هل كانت المصاحف كثيرة؟
الجواب: لا؛ لأن السبب -كما تقدم- أنهم كانوا يعتمدون على الحفظ، ولو كانوا معتمدين على المرسوم لكثرت المصاحف؛ لأن الجمع الكبير لا يمكن أنه يقرأ في مصحف واحد.
فالاعتماد على المصاحف أقل من الاعتماد على التلقي, لكن لا يعني هذا أن المتلقى غير الذي في المصحف، بل الحق أن المتلقى هو الذي في المصحف, فالمصحف ضبط لنا المتلقى؛ فإذا كان كذلك فأي شبهة ترد فيما يتعلق برسم المصحف فهي مردودة، لأن العمدة هي في المقروء المحفوظ وليست في المرسوم.
فيما يتعلق بالمصاحف يأتي اعتراض مضمونه أنه قد يكون هناك اختلاف في الرسم بين بعض هذه المصاحف والمصحف العثماني, أو يأتي بعضهم فيقول: إن هناك أخطاء إملائية, أو يأتي آخر فيقول: إن مصاحف العثمانية ليس فيها نقط, فإذا قرأوا فإنما يقرأون حسب رأيهم، وما اتفق عندهم, هذا كلام بوزهستيهار و نولدكا وهما من كبار المستشرقين, هم كذا يفهمون.
لكن نقول -جواباً عن هذه الشبهة-: إن هذا الجيل ما كان يعتمد المصحف أصلاً, المحفوظ هو المعتمد أكثر.
والقضية الثانية: أن المرسوم هذا إذا تأملناه بأنه بغير نقط فإن من كتبه يعرفه, يعني: أن هذه القضية قضية اصطلاحية، يعني: قضية المرسوم.
المرسوم مسألة اصطلاحية اجتهادية كتبها الصحابة كما هي, وبالنسبة لهم القراءات سهلة وميسورة؛ لأن هذا اصطلاح, ولو جئنا لهم بخطوط غير خطوطهم فصعب عليهم قراءة ذلك.
مثل: لو جئنا للعربي فقلنا له: اقرأ هذا الخط الصيني ما يستطيع قراءته.
فالصينيون إذا رأيت كتابتهم تقول: كيف يقرأون هذا الكلام؟!! هذه خرابيش، كيف يقرؤونها؟!
والجواب: أن هذا اصطلاح لهم, وهي بالنسبة لنا يمكن نعتبرها خرابيش, لكن هي بالنسبة لهم لها معانٍ: هذا حرف كذا وهذا حرف كذا، وهذه تقرأ كذا، وهذه كلمة كذا.
فإذاً: يجب أن نفهم وأن نفك هذه الإشكالية، فما دام أنه اصطلاح فكل قوم يعرفون اصطلاحهم ويقرؤونه وما عندهم فيه أي مشكلة, المشكلة جاءت عندك أنت أيها المتأخر, فلما جئت تنظر إلى بعض المنسوب للصحابة من الرسوم وتأملته فإنك لا تستطيع تقرؤه, لو لم يكتب لك تحت الآية التي فوق ما استطعت أن تقرأها كاملة, وإن كنت قرأت لك كلمة أو أقل من كلمة.
فإذاً: لا يشنع على رسوم الصحابة؛ لأن رسوم الصحابة بالنسبة لهم كانت معلومة معروفة ليس فيها أي مشكلة, ولا وقع عندهم أي إشكال فيها, وإنما أشكلت على من تأخر, كذلك لا ينسب أي خطأ أو خلل إلى رسوم الصحابة؛ لأن المسألة اجتهادية, هذه واحدة؛ فكتبوا على ما يعرفون حسب عصرهم.
والأمر الثاني: أن من نسبهم إلى الخطأ من المتأخرين نسبهم إلى مصطلح اجتهادي متطور عن رسمهم؛ لأن علماءنا أبقوا رسم المصحف على ما هو عليه وطوروا الإملاء؛ فصار عندنا من باب الاصطلاح نقول له: الرسم العثماني والرسم الإملائي, مع أنه في يوم من الأيام كان الرسم العثماني هو الرسم الإملائي المجتهد, يعني: الرسم العثماني كان هو نفسه الرسم الإملائي المشتهر, فلو أنتم رجعتم في الذاكرة يوم كان الصحابة يكتبون هل كتبوا المصحف العثماني برسم وكانوا يكتبون كلامهم الآخر برسم آخر؟ نقول: لا, هو نفسه, والدليل على ذلك: أن الوثائق التي وجدت الآن حتى إلى بداية القرن.. إلى بداية المائة مما كتب نجد أنها كتبت كما يكتب المصحف, طريقتهم في الكتابة واحدة لم تتغير.
زاد في نهاية عهد الصحابة قضية النقط فقط الذي هو نقط أبي الأسود الدؤلي ونقط نصر بن عاصم و يحيى بن يعمر ، وهذه إن -قدر الله- لعلنا نشير إليها؛ لكن قصدي من ذلك أن ننتبه إلى أن الصحابة لم يكن عندهم إشكال في المقروء أبداً, وكل من خطأ رسمهم ممن جاء بعدهم فهو يخطئ الرسم إلى مصطلح حدث بعده, وهذه قاعدة كلية علمية ذكرناها سابقاً وقلنا: إن تخطئة أي مسألة علمية، أو أي منهج علمي من منهج آخر معاصر؛ فإنه يدل على خلل في طريقة التخطئة, لا بد أننا نراجع حساباتنا, وذكرنا هذا في محاضرات كثيرة.
المقصد الآن ننتبه إلى هذه المسألة وهي مسألة مهمة جداً فيما يتعلق بالرسم, ولعلها تأتي إن شاء الله إشارة إليها في المسألة الثانية، وهو سؤال أيضاً مهم جداً: هل ترك الصحابة شيئاً من القرآن أو من وجوه القرآن لم يكتبوه أو يقرأوا به؟
الجواب: لا. هذا هو الأصل, ولا أريد أن أقول: هل ترك عثمان ؛ لأن عثمان هو مشرف على العمل؛ لكونه الخليفة، وإلا الذين كانوا يكتبون من الصحابة هم زيد واللجنة الأربعة الذين معه، وكان الصحابة كلهم حولهم متوافرين, ووزعت المصاحف وقرئت في الأمصار وقرأها الصحابة هناك, وما ذكر مثال واحد يدل على أن الصحابة استشكلوا هذه الأشياء أو خطأوها.
والتخطئات التي سنوردها لمناقشتها بعض من تخطئة الصحابة موجهة ومحتملة، ما فيها إشكال, لكن ما هناك كثرة كاثرة، الذي خطأ فلان أو فلان أو فلان، فقط, أما يأتي جمهور الصحابة يخطئون عملاً معيناً فهذا لم يقع، يعني: وجود تخطئة فلان وفلان؛ هذا أمره سهل، سنناقشه, لكن قصدي أنه ما أثبت أحد أنه وقع خلاف كبير، أي: جمهور مع جمهور, بعض الصحابة ذهبوا إلى كذا وبعض الصحابة ذهبوا إلى كذا؛ ما وجد أنهم خطأوا شيئاً مما فعله عثمان أو في المرسوم العثماني؛ أبداً.
لكن عائشة تقول: أخطأ الكاتب, عثمان يقول: إن فيه لحناً ستقيمه العرب بألسنتها؛ هذا له تخريجات, ولكن فلاحظ أنها أقوال أفراد, فأنا أريد أن أقول: إنه لا يوجد قول جمهور مع جمهور، قليل مع كثير, أفراد مع جماعات, وكما قلنا القاعدة: أن الجماعة مقدمة على الفرد، يعني: الإجماع مقدم على قول الواحد؛ لأنه الواحد هذا معناه هو الذي خالف, وسنأتي إن شاء الله لتخريج هذا.
إذا عرفنا هذه المقدمة فجواب السؤال السابق هو: أن عثمان ضي الله عنه والصحابة الذين معه رضي الله عنهم لم يتركوا شيئاً من القرآن ولا من وجوه القرآن؛ هذا هو الأصل؛ لأننا نقول: هل هذه القراءات المتنوعة ووجوه القرآن من القرآن أو ليست من القرآن؟
الجواب: نعم، هي من القرآن, وما دامت من القرآن؛ فيدخلها نقل القرآن تماماً؛ فإذاً لا يوجد شيء من القرآن تركه عثمان قطعاً ولا الصحابة قطعاً.. قطعاً, هذا بلا خلاف, وكذلك وجوه القراءات تلحق به؛ لأنه لا يمكن لأحد منهم أن يترك شيئاً من وجوه القراءات إذا كانت قرآناً, إذا أثبتنا أنها قرآن فهي دخلت ضمن هذا المحيط في أنها قد جمعت.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر