إسلام ويب

مقدمة في أصول التفسير [7]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الناظر في الاختلافات الواردة عن المفسرين السلف في التفسير يجد أنها معان متقاربة ذات مرجع واحد، أو ترجع لأكثر من معنى عن طريق اختلاف التنوع أو التضاد، وأنه يمكن الجمع بينهما أو الترجيح.

    1.   

    مصطلح التأويل عند بعض العلماء

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين. وبعد:

    أخذنا في الدرس الماضي بقية ما يتعلق بالتأويل وكان الحديث عن المصطلح الحادث في التأويل، هل له حد يقف عنده, ومن خلال المثال الذي ذكرته نجد أن التأويل بالمصطلح الحادث قد تعدى إلى إنكار المعاد, وهذا مما يدل على إشكالية كبيرة جداً في هذا المصطلح.

    وكما قلت: إن مرجع هذا المصطلح هو العقل، والعقول تختلف, فمن تربى على الفلسفة وأراد أن يجعل الشريعة مطابقة لما قرأه في الفلسفة مثل ابن رشد ، فقطعاً سنجد عنده مثل هذه الأقوال المتهالكة التي ذكرنا منها مثالاً.

    علاقة التأويل بالمحكم والمتشابه

    ثم بعد ذلك انتقلنا إلى علاقة التأويل بالمحكم والمتشابه من خلال آية آل عمران , وبان لنا أن التأويل له وجهان صحيحان في تفسير الآية وهما واردان عن السلف: الوجه الأول بمعنى التفسير, ويكون المحكم بناءً على هذا التفسير الذي ليس فيه إشكال, بمعنى: المعلوم علماً تاماً عند المفسر.

    والمتشابه: هو ما يقع فيه إشكال عند المفسر أو عند القارئ وهو المتشابه النسبي, فإذا كان التأويل بمعنى التفسير تكون الآيات المحكمات، أي: التي لم يقع فيها إشكال, والآيات المتشابهات: هي التي يقع فيها الإشكال، بغض النظر عن أي سبب من أسباب الإشكال، ما دام ورد إشكال فنعتبره متشابهاً نسبياً، وذكرنا أيضاً كيف يقع اتباع الزيغ واتباع التأويل في هذا النوع، وضربنا مثلاً بالخوارج, وكذلك بالسبئية.

    فالخوارج أخذوا بعض الآيات وفسروها، وجهلوا بعضاً، فهذا نوع من المتشابه النسبي, وكذلك من يأخذ بعض الآيات التي يكون فيها إجمال ويفسرها على هواه دون أن ينظر إلى أقوال الراسخين، فقطعاً يقع عنده الخلل في هذا, سواءً كان قاصداً زيغاً، أو أراد تأويلاً فانحرف بتأويله.

    فالمقصود أن هذا النوع يقع فيه بهذا السبب, وهو معلوم للراسخين في العلم, ولعلي ذكرت سابقاً الأثر الذي رواه البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس , لما سأله السائل عن جمع من الأسئلة, فأجابه ابن عباس ؛ لأنه قال: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، ثم ذكر مجموعة من الإشكالات الواردة, فهذا يدخل في التشابه النسبي, فلما رجع به هذا إلى الراسخين في العلم بين له هذه الإشكالات الواردة عنده، فحل له هذا الإشكال الوارد.

    ثم ذكرت النوع الثاني أو الوجه الثاني في التأويل: وهو أن يكون التأويل بمعنى: ما تؤول إليه حقيقة الشيء, فيكون المحكم بمعنى: المعلوم للناس, ويدخل فيه المتشابه النسبي؛ لأن المتشابه النسبي هنا لا ينظر فيه إلى الفرد إنما ينظر فيه إلى المجموع, ولا يوجد في القرآن ما لا يعلم معناه, فإذاً الآيات المحكمات هي الآيات المعلومات, بالنظر للعموم يعني: للجميع, والآيات المتشابهات هي الآيات التي لا يعلمها أحد أبداً، وهي التي استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه, فتكون هنا هي المتشابهات أي: المتشابه الكلي, والمتشابه الكلي هو الذي لا يعلم تأويله إلا الله.

    وذكرت أن المتشابه الكلي يقع في وقت وقوع المغيبات، أو يقع في كيفيات المغيبات, وضربت مثالاً في ذلك الدابة التي تخرج في آخر الزمان, فوقتها لا يعلمه إلا الله, وأيضاً كيفيتها إلا ما ورد في الآثار الصحيحة.

    كذلك ذكرت: الصفات الإلهية، والأصل فيها أن الكيفية غير معلومة فهي داخلة في المتشابه الكلي، أما المعنى فإنه معلوم.

    1.   

    الاستنباط ودلالته

    ثم بعد ذلك انتقلت إلى الاستنباط, وذكرت الدلالة اللغوية والاصطلاحية للاستنباط, ثم ذكرت أن الاستنباط قد يكون من ظاهرٍ لا يخفى، أو من نصٍ يحتاج إلى تفسير.

    وذكرت أيضاً: أن عملية الاستنباط هي في حقيقتها عملية ربط بين قولٍ وآية, وهناك كلام يربط بآية عن طريق الاستخراج, وهذا الربط قد يكون استنباط حكم فقهي، أو قد يكون استنباط أدب أخلاقي، أو فائدة علمية.. إلى آخره, وكل هذا له أمثلة, واختصاراً للوقت لم أذكر أمثلةً لهذا.

    والاستنباط كما ذكرت: أن الأصل فيه أنه من القول بالرأي.

    مرتكز عملية الاستنباط

    ثم ذكرت بعد ذلك أن عملية الاستنباط تدور على ثلاث قضايا: نص مفسر, وهذا التفسير إما أن يكون صحيحاً أو خطأً, ونص ظاهر، ومعلومة مرتبطة بأحدهما.

    أنواع ربط المعلومة بالمعنى والتفسير

    وربط أي معلومة كما قلت لا يخلو من أحوال:

    الحالة الأولى: أن تكون المعلومة بذاتها فاسدة باطلة, وهذه من أول الأمر دلالة على بطلانها, فما دامت المعلومة بذاتها فاسدة، فربطها بالقرآن قطعاً سيكون باطلاً، بأي شكل من أشكال الاستنباط, وذكرت مثالاً في ذلك قوله سبحانه وتعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ[ص:42], وأنه دليل على جواز الرقص عند الصوفية, أي: استدلوا بقوله: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ[ص:42], على جواز الرقص للرجال, وهو الرقص الذي يعمله الصوفية معروف أن الرقص في أصله للرجال حرام, فقطعاً ربطه بالآيات سيكون خطأ.

    وذكرت أن هذا يكون في نص ظاهر, أو في نص مفسر صحيح, أو في نص مفسر غير صحيح, يعني: قد يفسر تفسيراً صحيحاً، لكنه يربط بفائدة غير صحيحة, أو يكون النص المفسر غير صحيح، فقطعاً تكون الفائدة غير صحيحة, وذكرت مثالاً في ذلك قوله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ[التين:1], للمعاصر الذي ذكره القاسمي في قوله سبحانه وتعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ[التين:1].

    الحالة الثانية: أن تكون المعلومة بذاتها صحيحة ولا تخالف الشريعة, وهذه على قسمين, الأول: أن يكون ربطها بالآية صحيحاً, والثاني: أن تكون المعلومة صحيحة، لكن ربطها بالآية خطأ, فالإشكال هنا عندنا في الربط, وليس الإشكال في ذات المعلومة فالمعلومة صحيحة وربطها بآية سواء كانت نصاً ظاهراً أو تفسيراً ظاهراً وهذا كثير جداً, وذكرت مثالاً في ذلك، وهو استدلال الشافعي رحمه الله تعالى بقوله: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ[المسد:4], على صحة أنكحة الكفار, يعني: كافر يعقد على كافرة فهذا نكاح صحيح, بدلالة قوله: وَامْرَأَتُهُ[المسد:4], لأنه نسب المرأة إلى زوجها وهما كافران.

    فهذا من الربط الصحيح, فالمعلومة صحيحة والاستنتاج أيضاً صحيح, لكن أحياناً يكن عندنا أن المعلومة صحيحة لكن ربطها بالآية يكون فيه خلل, وهذا يكثر في التفسير الإشاري، وإن كان أيضاً النوع الأول الذي ذكرت أنه من المعاني الباطلة فيه, ولم أفصل في هذا اختصاراً, وهذا يكثر في التفسير الإشاري، كما يكثر في عمل الوعاظ اليوم, وعمل بعض الدعاة أيضاً الذين يريدون أن يستنبطوا بعض القضايا المتعلقة بالدعوة أو بالواقع من الآيات, فيقع الإشكال في أن تكون المعلومة صحيحة, لكن كون ربطها بالآية التي تدل عليها فيه إشكال، فالإشكال ليس في ذات المعلومة, ولكن الإشكال في الربط.

    والمثال الذي ذكرت كان من التفسير الإشاري ذكره القرطبي رحمه الله تعالى في قصة طالوت مع النهر: إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ[البقرة:249], فهو ذكر عن هذا الرجل أي: المستنبط أنه قال: هذه الآية مثل ضربه الله للدنيا, ثم قسم الناس على هذا النهر، يعني: على مثابة أن الدنيا هي النهر, فقسمهم ثلاثة أقسام: الشارب, والمغترف, والذي لم يطعم, فالشارب هو المتهالك في الدنيا, والذي غرف غرفة الذي خلط, والذي لم يطعم الأبرار هذا بزعمه هو.

    فهذا الكلام من حيث هو لو لم يكن مرتبطاً بالآية لكان صحيحاً, فلو أن الإنسان قال: هذه الدنيا كالنهر, والناس فيها على ثلاثة أقسام: فمنهم شارب من هذا النهر, ومنهم كذا لصح، فإن المعلومة بذاتها صحيحة, لكن كون الآية دلت على هذا المعنى أو أرادت هذا المعنى هذا فيه نظر, فالخلل هنا في الربط, وقد ذكرت كلام القرطبي في تعليقه على هذا، فقال: ما أحسن هذا الكلام لولا ما فيه من التحريف في التأويل والخروج عن الظاهر, ولكن معناه صحيح في غير هذا.

    ثم ذكرت الربط بين آيتين أو استنتاج حكم أو فائدة من ربط آيتين ببعض, وكذلك الاستنباط بإعمال مفهوم المخالفة, وقلت: إنه لا يوجد حد لتنويع الاستنباطات, فما ذكرته إنما هو مجرد أمثلة لكن القانون الكلي الذي ذكرت وهذا هو مهم جداً، وهو النظر إلى المعلومة وإلى التفسير بالذات؛ لأنه نص ظاهر ليس فيه إشكال, لكن أولاً ينظر تفسيره هل هو صحيح والا غير صحيح, ثم بعد ذلك تبنى عليه الاستنباطات أو الفوائد, وهذ الاستنباطات والفوائد ينظر في المعلومة ذاتها، هل هي صحيحة في ذاتها أو غير صحيحة.

    1.   

    الاختلاف في التفسير وتنظير العلماء له

    هذا تقريباً مجمل للدرس السابق.

    ندخل الآن في الاختلاف في التفسير.

    وفي الاختلاف في التفسير كما قلت ثلاث قضايا: القضية الأولى: تتعلق بأنواع الاختلاف.

    والقضية الثانية: تتعلق بأسباب الاختلاف.

    والقضية الثالثة: تتعلق بكيفية التعامل مع هذا الاختلاف.

    فكرة وجوه التفسير

    وهذه القضية وهي قضية الاختلاف في التفسير, وكلامي عنها سيكون دائراً عن اختلاف السلف بالذات؛ لأنه كل ما بعد الزمن عن جيل السلف لا شك أن الاختلافات ستكون أكثر, لكن أهم شيء عندنا نحن تأصيل الاختلاف الوارد عند السلف, ومعرفة الأسباب التي أوجبت هذا الاختلاف, عندنا قضية كلية في قضية الاختلاف أصلاً, وهي قضية احتمال النص القرآني, بمعنى: هل الآية تحتمل أكثر من وجه أو ما تحتمل؟ فالأصل عندنا أنا لما ننظر إلى من الآيات نجد أن التطبيق العملي للسلف يدل على أن الآية احتملت أكثر من وجه, ففكرة وجوه التفسير, وهو الموضوع الذي سأطرقه الآن.

    فكرة وجوه التفسير من المهم جداً أن يعرفها دارس التفسير، لكي نفهم أن السلف كانوا يفسرون وهم يعلمون أن النص يحتمل غير ما قالوا, فهذا ما أسميه بوجوه التفسير, فسأبتدئ بهذه المسألة ثم بعد ذلك أنتقل إلى الاختلاف, وما سأذكره في الوجوه في النهاية سيكون نتيجة إلى قضية الاختلاف وما هي أنواع الاختلاف.

    عناية السلف بالوجوه في التفسير

    من الأمثلة التي تدل على أن السلف كان لهم عناية بالوجوه ما ذكر عن أبي الدرداء قال: إنك لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهاً, وهذا النص في الحقيقة جاء مجملاً, ولذا بعض المخالفين لأهل السنة ممن يفسرون تفسيراً باطنياً يستدل بمثل هذا الأثر, وليس لهم فيه في الحقيقة أي دلالة؛ لأنه ليس مراد أبي الدرداء هذه الوجوه التي يذكرونها, إنما المراد الوجوه المحتملة الصحيحة, ولذا قال: لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهاً, أي أن: القرآن يحتمل أكثر من وجه في التفسير, فهذا معناه, وليس المراد أن يدخل فيه كل من هب ودب ويذكر وجوهاً؛ فكلامنا هنا عن الوجوه المقبولة, وليس عن الوجوه المرذولة, أعني: ليس المقام مقام كلام عن الوجوه المرذولة, إنما كلامي عن الوجوه الواردة عن السلف, والأصل فيها أنها وجوه مقبولة, فهذا فسر بكذا، وهذا فسر بكذا, وكلها وجوه مقبولة, هذا الأصل فيها.

    وأيضاً علي بن أبي طالب كما هو مشهور لما أرسل ابن عباس إلى الخوارج، فقال له: اذهب إليهم ولا تخاصمهم بالقرآن فإنه ذو وجوه, وفي رواية: إنه حمال وجوه, بمعنى: أنه يحتمل أكثر من وجه.

    فقال له: خاصمهم بالسنة؛ لأن السنة لا تحتمل مثل ما يحتمل القرآن, وقد سبق أن أشرت إلى قضية أحد علماء الهند يقول: المشكلات في القرآن -مع أن القرآن مجموع بين دفتين- أكثر من مشكلات السنة، مع أن السنة كثيرة جداً, لكن مع ذلك يقول: مشكلات القرآن أكثر, ولهذا ما يخلو إنسان مسلم يقرأ القرآن من أن يثور عنده سؤال في قضية من القضايا المتعلقة بالقرآن أبداً, ولو كان كل مسلم يسجل هذا الاستشكال ويسأل عنه وتكتب هذه الأسئلة لوجدت شيئاً كثيراً جداً، وقد صدق في هذا.

    عندي نص من النصوص الذي اعتبرها عزيزة جداً يرويه محمد بن نصر المروزي في كتاب السنة له يقول: محمد بن نصر : وسمعت إسحاق يعني: ابن راهويه يقول في قوله: وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ[النساء:59], قد يمكن أن يكون تفسير الآية على أولي العلم, وعلى أمراء السرايا يعني: قولان؛ لأن الآية الواحدة يفسرها العلماء على أوجه وليس ذلك باختلاف, ثم قال: وقد قال سفيان بن عيينة : ليس في تفسير القرآن اختلاف إذا صح القول في ذلك, قال سفيان : أيكون شيء أظهر خلافاً في الظاهر من الخنس, قال عبد الله بن مسعود : هي بقر الوحش, وقال علي : هي النجوم, وبالفعل أنت لما تنظر إلى هذين القولين: بقر الوحش والنجوم, إذا جاء من هو مثلي ومثلك لا يفهم، يقول: هذا تناقض, كيف بقر الوحش والنجوم, ما بينهم أي رابط، لكن ليس هذا هو صواب اللسان، ولهذا أنا أريد أن تقعد في ذهنك قاعدة ألا تتعجل في رد أقوال السلف, حتى ترى أنه لا سبيل إلى معرفة الوجه الصحيح منها, يعني: بالفعل توقفت كثيراً حتى أوضح لك وضوحا ًتاماً لأنه يصعب عليك, فالأولى أن تمسك، إلا إذا رأيت شيئاً بالفعل يحتاج إلى أن ننبه عليه, لكن الأصل أن تقف عند عباراتهم ولا تعترض.

    وهذا سنأتي إليه إن شاء الله محرراً أكثر؛ لكي ننتبه حينما نناقش عبارات السلف في التفسير, وسنأخذ عبارات يكون فيها نوع من الإشكال كيف يحللها العلماء، وكيف يتعاملون معها.

    قال سفيان , وهذا تتمة للكلام: وكلاهما واحد, الآن سفيان يريد أن ينبهنا؛ إلى أن النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل, والوحشية إذا رأت إنسياً خنست في الغيطان وغيرها, وإذا لم ترَ إنسياً ظهرت, قال سفيان : فكلٌ خنس, فانظر أنت الآن كيف فهم سفيان هذا الموضوع وأخذه وتقبله، هذا وجه وهذا وجه, فقبلهما لأن البقر الوحش والنجوم يصدق عليها أنها خنس, فهذه توصف بهذا وهذه توصف بهذا، فلا يوجد أي إشكال في هذه القضية, فهذا رأى أنها تكون بهذا المعنى, وهذا رأى أن تكون بهذا المعنى.

    قال إسحاق : وتصديق ذلك ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الماعون, يعني: أن بعضهم قال: الزكاة، وقال بعضهم: عارية المتاع, ارجع إلى تفسير الطبري في هذه الآية وانظر الخلاف الوارد, وهو في النهاية قال: وقال عكرمة : الماعون أعلاه الزكاة، وعارية المتاع منه, وما بينهما كثير، يعني: ما بين العارية مما ذكر، وما بين الزكاة أقوال كثيرة، ستجدها كلها داخلة في هذا المعنى.

    قال إسحاق : وجهل قوم هذه المعاني, فإذا لم توافق الكلمة الكلمة قالوا: هذا اختلاف, يعني: إذا ما صارت مطابقة يقولون: هذا اختلاف, وقد قال الحسن وذكر عنده الاختلاف بنحو ما وصفنا فقال: إنما أوتي القوم من قبل العجمة, بمعنى: أنهم لا يفهموا, ولا يعرفون لسان العرب, ولا يعرفون كيف يجمعون بين أقوال السلف فوقع عندهم هذا الإشكال.

    فهذه نصوص من مجموعة من علماء السلف يتعاملون مع وجوه التفسير تعاملاً واضحاً، وأنهم يؤصلون هذه القضية، أن للقرآن أو للآية احتمالاً وأنه يكون لها أكثر من وجه في التفسير.

    و الماوردي المتوفى سنة (450), أيضاً ذكر هذه القضية, وأذكر نصه, يقول: وإذا كان القرآن بهذه المنزلة من الإعجاز في نظمه ومعانيه، احتاجت ألفاظه في استخراج معانيها إلى زيادة التأمل لها وفصل الرويَّة فيها، ولا يقتصر فيها على أوائل البديهة، ولا يقنع فيها بمبادئ الفكرة، ليصل بمبالغة الاجتهاد وإمعان النظر إلى جميع ما تضمنته ألفاظه من المعاني واحتملته من التأويل؛ لأن للكلام الجامع وجوهاً، قد تظهر تارة وتغمض أخرى، وإذا كان كلام الله منزهاً من الآفتين: الفكر والروية، ليعمل فيما احتملته ألفاظه من المعاني المختلفة غير ما سنصفه من الأصل المعتبر في اختلاف التأويل عند احتمال وجوده.

    فإذاً هو الآن يؤصل قضية الوجوه, ولهذا هو طبق هذه الفكرة في كتابه النكت والعيون لـلماوردي ولهذا تجده ذكر نصاً هنا فقال وهو يتكلم على طريقته وموضحاً عن المؤتلف والمختلف، وذاكراً ما سمح به الخاطر من معنىً يحتمل، عبرت عنه بأنه محتمل؛ ليتميز ما قيل مما قلته، ويعلم ما استخرج مما استخرجته، يعني: هو إذا قال في كتابه: ويحتمل، نعرف أنها من عنده هو.

    أيضاً عندي نص لـلطوفي لا أطيل في قراءته كاملاً؛ لأنه ذكر طبعاً نفس القضية أي: قضية الوجوه, كذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير, لما ذكر قضية المشترك والمشترك هو متوافق قال: فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف, هذا شاهد العبارة عنده, كذلك الشنقيطي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ[الحجر:17] , واعتمد على كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى, ونص على القاعدة، قال: ولا مانع من حمل الآية على ما حملها المفسرون، وما ذكرناه أيضاً أنه يفهم منها بما تقرر عند العلماء من أن الآية إذا كانت تحتمل معان كلها صحيحة تعين حمل الآية على الجميع.

    كذلك قال ابن عاشور ووضع مقدمة خاصة لهذه الفكرة، التي هي المقدمة التاسعة من تفسيره التحرير والتنوير, وعنونها في أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادةً بها, والأمثلة طبعاً من نصوص العلماء في هذه القضية كثير, وهذه بعض الأمثلة التي جمعتها.

    لنأخذ بعض التطبيقات على هذه الفكرة, عندنا سعيد بن جبير لما ذكر عن ابن عباس قال: الكوثر: الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه, فـسعيد يروي عن ابن عباس , الراوي عنه أبو بشر ، قال أبو بشر وهو جعفر بن إياس : فقلت لـسعيد بن جبير فإن أناساً يزعمون أنه نهر في الجنة, فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه, ونفهم من هذا النص أنه قبل أن يكون الكوثر نهر في الجنة فإنه جزء من الخير الكثير الذي أعطيه الرسول صلى الله عليه وسلم, فهذا وجه في التفسير، وهذا وجه في التفسير.

    وهناك أمثلة أخرى سترد عندنا لا بأس أن أذكرها، هذا مثال عند يحيى بن سلام يقول في تفسيره: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ[المؤمنون:74], ذكر تفسير قتادة قال: لجائرون, و الحسن قال: تاركون له, و الكلبي قال: معرضون عنه, قال يحيى : وهو واحد يعني: كل هذه التفاسير في النهاية معناها واحد, وهي أوجه مختلفة فقط في العبارة كما سيأتي تحريره بعد قليل.

    أنواع اختلاف السلف في التفسير والكتب المهمة في ذلك

    نأتي الآن إلى قضية أنواع الاختلاف, لما ننظر إلى أنواع الاختلاف سنجد أن العلماء درسوا هذه الظاهرة التي هي ظاهرة اختلاف التفسير إما تطبيقاً وإما تنظيراً، فعندنا علماء قد لا نجد لهم عبارات واضحة في قضية الاختلاف، لكن نجد لهم تطبيقات كثيرة, لما نقرأ هذه التطبيقات يمكن أن نأخذ منها من حيث العموم منهجية معينة.

    من أنفع الكتب في التفسير التي تفيدنا في قضية التعامل مع اختلاف هذه الوجوه أنا أرشح الآن كتابين ترشيحاً مبدئياً:

    الكتاب الأول: جامع البيان في تأويل آي القرآن لـلطبري, و الطبري كما هو معروف من منهجه وقد نص على أن الأصل عنده فيه: أنه اعتمد أقوال السلف من حيث الجملة، فلم يخرج عنها, وإذا ورد الاختلاف إما أن يجمع بينها يعني: يجوزها كلها, وإما أن يختار أحدها بدليل, وأحياناً قد يترك الخلاف مفتوحاً, يعني: فلا يذكر فيه شيئاً, لكن الأعم عنده هو أنه إما أن يجمع بينها, فيقول: يجوز هذا، ويجوز إذا, وإما أن يختار أحدها بدليل, بناءً على القواعد العلمية الترجيحية التي سنمر عليها إن شاء الله لاحقاً.

    وعندنا الكتاب الآخر: المحرر الوجيز في تفسير القرآن العزيز لـابن عطية , وهذا الحقيقة تبرز أهميته في توجيه أقوال السلف, وبيان الاتفاق والافتراق في هذه الأقوال, ولهذا هو في ذهنه هذه القضية، وهي قضية علمية مهمة جداً، وهي الجمع بين الأقوال, ما دام يمكن أن تجتمع في معنىً واحد فهو يحرص عليها, كذلك ليست القضية في هذا بل حتى في القصص التي ترد للآيات التي هي قصص إسرائيلية وغيرها، تجده يورد عبارة عندما يفسر أو يذكر القصة فيقول: هذا مجموع ما ذكرته، أو ما ذكره الرواة مما يتعلق بنص القرآن, فما يأتيك بالرواية عن فلان وعن فلان ينخل هذه الروايات كلها ويجمعها في رواية واحدة، ويقول: هذا مجموع ما يتعلق باللفظ بالذات مما رواه الرواة.

    فكأنها منهجية عامة عند ابن عطية التي هي قضية الجمع بين هذه المرويات, ويجعلها متفقة في النهاية.

    وأحياناً ينبه على عدم فهم بعض المتأخرين طريقة السلف في التفسير، وهذه أيضاً مهمة وإن كانت الإشارات قليلة، لكن الحقيقة تدل على أن البعد عن مصطلحات السلف أو عن نصوص السلف جعل بالفعل هناك جهلاً من بعض المفسرين بقضية طريقتهم في التعبير, ولهذا بعضهم يعد الاختلافات التي ترجع إلى معنىً واحد أقوالاً، كما سيأتي أيضاً ذكر هذا. وهو يعيب هذا على بعض المفسرين.

    أيضاً لو تتبعنا بعض الكتابات مثل كتابات ابن القيم وشيخه ابن تيمية , وكذلك ابن كثير , وكذلك الشاطبي , سنجد أيضاً فيها ما يتعلق بتطبيق فكرة الاختلاف في التفسير, وأن لهم تعاملاً مع الاختلاف في التفسير, ولهم طريقة.

    فكرة الاختلاف تنظيراً التي سنجدها أن أول من نص عليها، من خلال ما هو موجود شيخ الإسلام ابن تيمية ، يعني: أن الذي نظر لهذه الفكرة شيخ الإسلام ابن تيمية , وأقصد بالتنظير أنه يضع لنا قواعد معينة نسير عليها ونفهم بها.

    فالذي يعتبر أول من نظرها هو شيخ الإسلام ابن تيمية ، وإن كنت كما أشرت إلى أنها موجودة في النصوص المتقدمة لكن بتقسيمات وتفريعات أخرى, مثلاً النص الذي ذكرته عن محمد بن نصر المروزي لا شك أنه يعتبر تنظير في القضية، فالتنظير واضح لكنه مجمل, والخلاف يرجع إلى كذا أو كذا أو كذا, هذا تجده عند شيخ الإسلام ابن تيمية في المقدمة المشهورة له.

    وسأذكر مع محاولة الاختصار أقوالهم التي عندي لـشيخ الإسلام , ثم ابن جزي الكلبي , ثم الشاطبي , ثم بعد ذلك الشيخ محمد بن عثيمين رحمهم الله تعالى.

    فسأحاول أني أختصر قدر الطاقة هذه التنظيرات؛ لأنه في النهاية يعني: نأخذ نوعاً من التنظير فيها.

    طبعاً شيخ الإسلام ذكر لنا في المقدمة أن الاختلاف الوارد عند السلف إما اختلاف تنوع وإما اختلاف تضاد, وهذا مشهور جداً, يعني: لا يكاد يتوقع أن طالب علم لا يعرف هذه القضية عن شيخ الإسلام , فما هو اختلاف التنوع الذي عنده؟ هو ذكر نوعين من اختلاف التنوع, قال: أحدهما: أن يعبر كل واحد منهما عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنىً في المسمى، غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى.

    وأنا أعتبر أن محاولة تفكيك هذه العبارة فيها صعوبة، وإن كان المثال يوضح هذه التي ذكرها شيخ الإسلام في قوله سبحانه وتعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ[الفاتحة:6], فبعضهم قال: الصراط: القرآن, وبعضهم قال: الصراط: الإسلام.

    فلو نظرنا نحن هل الإسلام هو القرآن؟ يعني: هذه الذات هل هي هذه الذات؟ الجواب: لا, الإسلام ذات والقرآن ذات يعني: ما له علاقة ببعض, لكن تفسير الصراط بأنه الإسلام صحيح، وتفسير الصراط بأنه القرآن صحيح.

    ويلاحظ في هذا المثال بالذات التلازم بين القرآن والإسلام؛ لأن القرآن هو كتاب الإسلام, والإسلام مذكور أو الشريعة مذكورة في القرآن, فبينهما تلازم, لكن هو قال: أن يعبر كل واحد منهما عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه, القرآن والإسلام, تدل على معنىً في المسمى، الذي هو الصراط المستقيم, مع اتحاد المسمى الذي هو الصراط المستقيم, بناءً على المثال الذي ذكره.

    النوع الثاني: قال: والصنف الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه، على سبيل التمثيل, وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه.

    وهذه من الأشياء المهمة جداً؛ لأنه يكثر جداً في تفسير السلف هذا النوع بالذات, وإن كان شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يقول: وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوّع التفسير، تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه, كالتمثيلات هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف.

    ثم ذكر نوعين ألحقهما إلحاقاً قال: ومن التنازع الموجود، ثم ذكر: أن يكون اللفظ محتملاً لأمرين كقوله تعالى: فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:51], ضرب لنا مثالاً الذي هو في المشترك والمتواطئ.

    المشترك: فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ[المدثر:51], قسورة بمعنى: الرامي, وقسورة بمعنى: الأسد.

    أنا أريد الآن أن تجتهد هل هناك فرق في هذا المثال عن المثال الذي طرحه في الصراط المستقيم, يعني: أيش الفرق بين الصراط المستقيم كمثال وبين هذا؟

    1.   

    تابع الاختلاف الوارد في التفسير وتنظير العلماء له

    الآن نحن نناقش المثال السابق وكل الذي ذكرته الآن صحيح، أنه يلاحظ عندما نقول: القرآن والإسلام، كما قال شيخ الإسلام دلت على ذات واحدة، ليس فيه إشكال، لكن الذي يريده الآن: هل يمكن أن نوجد مثالًا آخر لهذا النوع الذي ذكره شيخ الإسلام غير الصراط المستقيم؟

    وفي الحقيقة أني بحثت وحاولت أن أوجد مثالاً ينطبق عليه فكرة شيخ الإسلام في الأول.

    المثال الثاني الذي ذكره في الثاني، والذي هو محتمل للأمرين؛ هذا كثير، نلاحظ لما قال: محتمل للأمرين إما لأنه مشترك، وإما لأنه متواطئ، وإما لغير ذلك ما دام محتملاً للأمرين، فلو كان ذكر هذا كمثال عام ودخل في الصراط المستقيم لمشى الأمر، ولو قلنا بإعادة الترتيب إنه في النوع الأول محتمل للأمرين كمثال الصراط المستقيم، فليس في إشكال إجماع سكوتي هذا!

    نلاحظ أن الفكرة التي أراد أن يطرحها شيخ الإسلام ارتبطت بقضية ذوات، بمعنى: أن الصراط المستقيم يرجع إلى ذات واحدة، وكما ذكرتم أنتم في قسورة يرجع إلى أكثر من ذات، لكن أنا هل أحتاج هذا في التفسير؟ بمعنى: أنني لما آتي وأحرر الاختلاف هل أنا أحتاج إلى أني أعرف أنه يرجع إلى ذات، أو يرجع إلى أكثر من ذات؟ هذا سؤال، يعني عملياً تطبيقياً؛ لأن نحن نناقش تطبيقات، فهل بالفعل نحتاج أن نعرف أنه يرجع إلى ذات أو إلى أكثر من ذات، أو أنا محتاج أن أعرف أنه يرجع إلى معنى أو أكثر من معنى؟ أيهم الذي أكثر في التطبيق؟ أني أنظر إلى المعنى، دون النظر إلى كونه يرجع إلى ذات؛ لأن فيما يبدو والله أعلم أنه كونه يرجع إلى ذات أو أكثر من ذات ما لها أثر في قضية التعامل مع الاختلاف.

    المتواطئ والمشترك

    ذكر مثالاً في المتواطئ في قوله: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى[النجم:8-9]، وذكر مثال الفجر ومثال الليالي العشر، والشفع والوتر، هذه كلها ضربها أمثلة على المتواطئ.

    طبعاً المتواطئ، هذا لفظ منطقي وليس لفظًا لغويًا، أما المشترك فلفظ لغوي، هنا يشترك الأفراد في الاسم العام شراكة متساوية، مثل إنسانية زيد و عمرو، يعني: عمرو إنسان وزيد إنسان مشترك، أي: يشتركان اشتراكاً تاماً في الإنسانية، ما في واحد يزيد عن واحد في قضية الإنسانية، الجميع لحم ودم وعقل ونفس.. إلخ، فهذا يسمونه متواطئاً.

    فلما نقول: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى[النجم:8]، الضمير عوده إلى الله أو عوده إلى جبريل في القول: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى لأنه قولان للسلف، لا يختلف في قضية العود من حيث عوده إلى هذا المذكور أو إلى هذا المذكور.

    لما نقول: الفجر، أول فجر في السنة، وهذا قول.. أو أول فجر من ذي الحجة أيضاً ما يختلف، أو أي فجر؛ ما يختلف، هذا فجر والآخر فجر. هذا المراد بالمتواطئ.

    التعبير عن المعنى بألفاظ متقاربة

    ثم ذكر بعد ذلك النوع الرابع، وكما قلت لكم: جعله تبعاً، قال: ومن الأقوال الموجودة عنهم، ويجعلها بعض الناس اختلافًا أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة، طبعاً هو لا يرى الترادف، لكن نكتفي بهذا؛ لأنه ضرب مثالاً في قوله سبحانه وتعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا[الطور:9]؛ لأنه قال إن المور: هو الحركة، يقول: هذا تقريب؛ لأن المور حركة سريعة خفيفة فيها اضطراب، فلما يقول واحد: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا بمعنى: تضطرب، صحيح لكنه ليس كل المعنى، بل جزء من المعنى، وعندما يقول: المور: الحركة، أيضاً هذا جزء من المعنى.

    على العموم المقصود: إنهم يعبرون عن المعنى بألفاظ متقاربة، فيها نوع من التقارب مثل: أَنْ تُبْسَلَ[الأنعام:70]: تحبس، أو تبسل: ترتهن، لما ننظر الحبس والرهن معاني متقاربة، يدلان على منع الشيء، فهذا ما ذكره شيخ الإسلام ، وهذا كثير أيضاً يوجد في تفسير السلف.

    هذه الأنواع التي طرحها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

    أقسام المختلف فيه من التفسير عند ابن جزي الكلبي

    ابن جزي الكلبي ذكر أيضاً هذه القضية في مقدمة تفسيره، ومقدمة تفسيره تعتبر من المقدمات الجيدة، تصلح للمدارسة، وفيها أفكار جيدة.

    يقول: واعلم أن التفسير منه متفق عليه ومختلف فيه، ثم إن المختلف فيه على ثلاثة أنواع:

    النوع الأول: اختلاف في العبارة مع اتفاق في المعنى، قال: فهذا عده كثير من المؤلفين خلافًا، وليس في الحقيقة بخلاف لاتفاق معناه، وجعلناه نحن قولاً واحداً، وعبرنا عنه بأحد عبارات المتقدمين أو بما يقرب منها وبما يجمع معانيها، هذا النوع الأول، اختلاف العبارة مع اتفاق المعنى، طبعاً هو رحمه الله تعالى لم يمثل.

    الثاني: قال: اختلاف في التمثيل لكثرة الأمثلة الداخلة تحت معنى واحد، وليس مثال منها على خصوصه هو المراد، وإنما المراد المعنى العام التي تندرج تلك الأمثلة تحت عمومه، قال: وهذا عده أيضاً كثير من المؤلفين خلافاً، وليس في الحقيقة بخلاف؛ لأن كل قول منها مثال، وليس بكل المراد، ولم نعده نحن خلافًا .. إلى آخر كلامه.

    ثم قال: الثالث: اختلاف المعنى، قال: فهذا هو الذي عددناه ورجحنا فيه بين أقوال الناس حسبما ذكرناه في خطبة الكتاب، يعني: إذا اختلف المعنى وقع عنده الترجيح.

    تنظير الشاطبي للخلاف في التفسير

    النص الثالث عندنا للشاطبي ، وقد ذكر الشاطبي هذا في كتابه الذي هو "الموافقات"

    قال في المسألة الثانية عشرة: ومن الخلاف ما لا يعتد به في الخلاف، وهو ضربان، ثم ذكر عندنا ثلاثاً..

    أحدهما: ما كان من الأقوال خطأً مخالفًا لمقطوع به في الشريعة، وقد تقدم التنبيه عليه، ثم قال: والثاني: ما كان ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك، هذا النوع هو الذي سيذكر فيه ما يتعلق باختلاف التنوع، وقد ذكر مجموعة تتعلق باختلاف التنوع في هذه القضية.

    ذكر أولاً: قال: أن يذكر في التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئاً أو عن أحد من أصحابه أو غيرهم، ويكون ذلك المنقول بعض ما يشمله اللفظ، ثم يذكر غير ذلك القائل أشياء أخر مما يشمله اللفظ؛ فينصهما المفسرون على نصهما، فيظن أنه خلاف، وهو اختلاف بسبب المثال.

    الثاني قال: أن يذكر في النقل أشياء تتفق في المعنى بحيث ترجع إلى معنى واحد؛ فيكون التفسير فيها على قول واحد، ويوهم نقلها على اختلاف اللفظ أنه خلاف محقق، وهذه ترجع إلى التعبير عن اللفظ بألفاظ أو التعبير عن المعنى بألفاظ متقاربة، هذا نفس ما ذكره شيخ الإسلام ، وهو طرح مثالاً قال: السلوى، قيل: إنه طير يشبه السمانى، وقيل: طير أحمر، صفته كذا، وقيل: طير بالهند أكبر من العصفور، هذا كله تقريب كما تلاحظون للمعنى.

    وكذلك ضرب مثالاً في المن، قال على أنه: شيء يسقط على الشجر فيؤكل، وبعضهم قال: صمغة حلوة، وقال بعضهم: الترنجبين، وقال بعضهم: عسل جامد، فلو تنظر هذه الأموال كلها تقريب إلى النوع هذا من المن، الذي هو مشهور أنه المن، وإن كان في المثال السابق أيضاً طرح أن المن عام، يشمل جميع ما من به الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل، لكنه هنا يوجد من قال: إن المن هو هذا النوع الذي يسقط على الشجر، وبعضهم قال: يسقط على الشجر صحيح، إنه عسل جامد أيضاً صحيح؛ لأنه يشبه العسل الجامد، ومن قال: إنه صمغة حلوة، كذلك صحيح؛ فإذاً عبروا عنه بألفاظ متقاربة.

    النوع الثالث: وهذا مهم جدًا، قال: أن يذكر أحد الأقوال على تفسير اللغة، ويذكر الآخر على التفسير المعنوي، قال: وفرق بين التقرير الإعرابي وتفسير المعنى، فالإعراب الذي هو المعنى اللغوي البحت، والمعنى الذي هو المعنى السياقي، قال: [وهما معاً يرجعان إلى حكم واحد؛ لأن النظر اللغوي راجع إلى تقرير أصل الوضع ] يعني: كيف نطقت به العرب، [والآخر راجع إلى تقرير المعنى في الاستعمال] وضرب أمثلة موضحة في ذلك، قال: [تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ[الرعد:31]] وهذا المثال الثاني عنده، قال: [ أي: داهية تفجؤهم] هذا الإعراب، يعني: المعنى اللغوي، [وقيل: سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم] هذا الاستعمال، فلذلك لما ترجع إلى التفسير تجد أن بعضهم فسر القارعة بمعنى: السرية، تصيبهم قارعة: بمعنى: تصيبهم سرية من سرايا الرسول صلى الله عليه وسلم.

    فكيف تكون السرية قارعة؟

    إذاً: هي كأنها أشبه بالمثال ولو شئنا أن نقول ذلك لجاز، لكن المقصود أنه عبر عن القارعة بأنها السرية، هذا في الاستعمال، يعني: هو تفسير معنوي كما ذكره.

    ذكر النوع الرابع عنده، طبعاً هو ذكر عشرة أسباب، لكن أربعة منها تختص بالتفسير.

    النوع الرابع هو: ذكره قضية ما يسمى بالحقيقة والمجاز، طبعاً على من يقول بالحقيقة والمجاز، فذكر أنه يقع الخلاف في تنزيل المعنى الواحد فيحمله قوم على المجاز مثلاً، وقوم على الحقيقة، والمطلوب أمر واحد، وذكر مثالاً في قوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ[يونس:31]، فبعضهم يحملها على الحياة الحقيقية، مثل ما يذكرون: البيضة تخرج من الدجاجة، والدجاجة تخرج من البيضة، يعني: حي من ميت وميت من حي، أو المراد أنه يُخرج رجلاً صالحاً من رجل كافر، ورجلاً كافراً من رجل صالح، وهذا صحيح، والأول صحيح، وليس الحديث هنا عن قضية المجاز من غيره، لكن هذا مثال لما ذكره.

    تنظير الشيخ الشنقيطي للاختلاف الوارد في التفسير

    آخر تنظير عندنا، تنظير الشيخ محمد رحمه الله تعالى، هو ذكر الاختلاف الوارد في التفسير قال: عن ثلاثة أقسام: اختلاف في اللفظ دون المعنى، وقال: هذا ما له تأثير، وهذا هو اختلاف العبارة، الذي سبق أن ذكره شيخ الإسلام ، وذكر هو مثالًا: وَقَضَى رَبُّكَ[الإسراء:23] بمعنى: وصى، أو أمر، أو أوجب.

    والثاني: اختلاف في اللفظ والمعنى، والآية تحتمل المعنيين لعدم التضاد بينهما، وذكر مثالاً في قوله سبحانه وتعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا[الأعراف:175]، يعني: هل هو من أهل اليمن أو من بني إسرائيل أو من أهل البلقاء؟ قال: كله محتمل، وهو أيضاً قال أن هذا الاختلاف إما على سبيل التمثيل وهذا مثاله، أو على سبيل التنويع، يعني: كي نذكر كلامه كاملاً، وذكر مثالاً للتنويع بقوله: وَكَأْسًا دِهَاقًا[النبأ:34]، يعني: هل هي ملأى - مملوءة - قول، أو متتابعة؛ قول، أو صافية؛ قول، فقال: هذا ليس بينها منافاة، وتحتمله الآية أي تحمل عليها جميعاً.

    القسم الثالث عنده: اختلاف اللفظ والمعنى، والآية لا تحتمل المعنيين معاً؛ للتضاد بينهما، قال: فتحمل الآية على الأرجح منهما بدلالة السياق أو غيره.

    ومما ذكره في قوله سبحانه وتعالى: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ[البقرة:237]، فالذي بيده عقدة النكاح يقول علي بن أبي طالب هو الزوج، و ابن عباس يقول: هو الولي، قال: والراجح الأول لدلالة المعنى عليه؛ ولأنه قد روي فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذا المثال لا يمكن فيه الجمع؛ لأن الذي بيده عقدة النكاح ويعفو واحد، إما الزوج أو الولي، فلا بد من حمل الآية على أحدهما.

    خلاصة تنظيرات العلماء في اختلاف التفسير

    هذه تقريباً إشارة إلى تنظيرات العلماء، يتلخص من كل هذه التنظيرات ما سأذكره، وهو ما نحتاجه في قضية التطبيق، بمعنى الآن: أننا لما نأتي الآن إلى دراسة الاختلاف في التفسير ماذا نحتاج نحن في التطبيقات؟ هل يلزم أني أنظر إلى: ماهية النوع أو أنه اختلاف في اللفظ دون المعنى أو في اللفظ مع المعنى هذا يشكل كثيراً ويشغل، فانظر إلى هذا التنظير المنخول من هذه، وهو قريب مما ذكره ابن جزي .

    في التنظير الجديد هذا، ننظر إلى الاختلاف هل يرجع إلى معنى واحد، أو يرجع إلى أكثر من معنى فقط، يعني: لما نطرح أي خلاف في التفسير، لما نحلل الأقوال ننظر هل هذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد، أو هي ترجع إلى أكثر من معنى؟ لأن هذا هو التطبيق العملي الذي نحتاجه.

    عندي الآن في الحقيقة قضية ما زالت لم تتبلور جيداً: هل نحتاج إلى أننا ننص على أنه تنوع أو تضاد؟ هذه عندي لم تتبلور من ناحية التطبيق، ولها أسباب لعلي آتي عليها.

    لاحظوا الآن! لما ننظر إلى أمثلة القسم الأول الذي يرجع إلى معنى واحد، أي تفسير في النهاية سأرجع إلى هذه، إما أن أرجع إلى معنى أو أكثر من معنى، مما يندرج تحت ما يرجع إلى معنى واحد أن يكون في اللفظ المفسر عموم، فيذكر مفسر فرداً من أفراد العموم، ويذكره غيره فرداً آخر، التي هي نفس ما طرحها شيخ الإسلام وطرحها أيضاً ابن جزي وأشار إليها وأشار إليها الشاطبي، وأشار إليها الشيخ محمد ، والتي هي قضية ذكر لفظ عام فيذكر له مثالاً.

    لنأخذ مثالاً على ذلك وننظر: عندما نأتي إلى قوله سبحانه وتعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ[التكاثر:8]، كمثال لذلك سنجد أن ابن مسعود و الشعبي و مجاهد و سفيان الثوري يقولون: النعيم: الأمن والصحة، ونجد ابن عباس و الحسن البصري يقولان: النعيم: صحة الأبدان والأسماع والأبصار، طبعاً هذا في تفسير الطبري وفي غير تفسير الطبري أقوال أخرى.

    لكن الآن نحلل، أنا بحاجة إلى أن أعرف كما قلت لكم: هل هذا الاختلاف يرجع إلى معنى واحد أو إلى أكثر من معنى؟ هل النعيم كله الأمن والصحة، أو جزء منه؟ هو جزء منه، وكذلك ما ذكره ابن عباس و الحسن أنه الصحة في الأبدان والأسماع والأبصار.

    لما أريد أن أعبر عن النعيم، أقول: النعيم كل ما يتنعم به الإنسان، هذا هو المعنى الجامع، مثل الأمن والصحة، ومثل صحة الأبدان والأسماع والأبصار.

    إذاً: رجعت إلى معنى واحد أو إلى أكثر من معنى؟ رجعت إلى معنى واحد، فعبرت عن هذا المعنى الواحد مثل طريقة ابن جزي كما أشار، نعبر عنها بمعنى جامع، ونذكر الذي ذكره السلف، أي: أمثلة لما قاله السلف.

    وهنا تنبيه ما دام أننا دخلنا في المثال، ونأخذها قاعدة كلية: أن الأصل في أسباب النزول، سواءً كانت أسباب النزول صريحة أو كانت غير صريحة أنها مثال في التفسير، يعني هذه قاعدة: يعني لما تأتيك أسباب النزول تأخذها على أنها مثال في التفسير، ما هو الآن يقولون: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فأنت تضع في ذهنك أنه لما يأتي سبب النزول.. طبعاً لا شك أن سبب النزول ما نناقشه نحن كسبب وكونه يعين على فهم التفسير وعلى فهم الآية، هذا كله صحيح، لكن النظر هنا إلى أنه قد تتعدد أسباب النزول أو يحكى أن هذه الآية نزلت في فلان أو فلان، أو فلان مثل ما ذكر الشيخ محمد ، والآية تحتمل كل هؤلاء، فأنت تضع في ذهنك ليس هناك تناقضاً في هذا، هذا هو الأصل.

    نأتي إلى النوع الثاني من الذي يرجع إلى معنى واحد، أن يعبر المفسرون عن اللفظ المفسر أو عن المعنى المفسر ما يشبه ألفاظاً متقاربة، أو عكسها: وهو أن يعبر عن اللفظ بمعاني متقاربة يعني لكي نخالف بين العبارتين، نأخذ مثالاً على ذلك: في قوله سبحانه وتعالى: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ[ق:38]، ورد عن ابن عباس قال: إزحاف، والقول الثاني عن ابن عباس ومعه مجاهد قال: نصب، والقول الثاني عن ابن زيد قال: عناء، طيب عناء، ونصب، وإزحاف.. طبعاً الإزحاف الذي هو الإعياء، ما تلاحظ فيها؟ كلها ترجع إلى معنى واحد، الذي هو معنى التعب عموماً، ترجع إلى معنى واحد، لكن اختلفت العبارة، فالآن عندنا فقط مجرد اختلاف عبارة، فهذا يرجع إلى معنى واحد، هذا التقريب الذي يرجع إلى معنى واحد فقط.

    لو نظرت الآن أعدنا فقط التحليل مرة أخرى سريعاً ما ذكره شيخ الإسلام في النوع الأول، هل يرجع إلى معنى واحد أو أكثر من معنى؟ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ[الفاتحة:6]، القرآن أو الإسلام؟

    إلى معنى واحد، لا أدري، أو إلى أكثر من معنى، هي إشكالية. أنا هذا الذي جعلني لما قلت لك: إن شيخ الإسلام عبارته فيها صعوبة إن قضية الذات ترجع إلى ذات واحدة.. إلى آخره، فأشكلت هذه، لكنه في الحقيقة يرجع إلى أكثر من معنى، الإسلام غير القرآن، فيكن له أكثر من معنى.

    ما ذكره في النوع الثاني الذي هو المثال، واضح أنه يرجع إلى معنى واحد، طيب ما ذكره أنه محتمل لأمرين واضح أنه يرجع إلى أكثر من معنى، ما ذكره في النوع الأخير في التعبير عن المعنى بألفاظ متقاربة يرجع إلى معنى واحد.

    أمثلة اختلاف التنوع والتضاد في المعاني

    نأتي الآن إلى ما يرجع إلى أكثر من معنى، وهو القسم الثاني قلنا: ما يرجع إلى أكثر من معنى، هنا الآن في القسم هذا، هذا الذي يأتينا قضية اختلاف التنوع لأكثر من معنى واختلاف التضاد، طبعاً لا شك أن النوع الأول الذي ما يرجع إلى معنى واحد، واضح أنه اختلاف تنوع، طيب ما يرجع إلى أكثر من معنى يدخله اختلاف التنوع أو ما يدخله؟ يدخله، يعني واضح أنه يدخله؛ لأن شيخ الإسلام نص عليه فيما يحتمل أكثر، يحتمل أمرين، هو داخل في اختلاف التنوع قطعاً، لكن هنا الآن لما تأتي قضية التطبيق، أنت الآن لما تأتي لحكاية الأقوال ألست أحياناً ترد بعض الأقوال التي ليست على سبيل التضاد، أو لا؟ أنت ترد بعض الأقوال التي أحياناً ليست على سبيل التضاد.

    فإذاً: في التطبيق العملي ما يحتاج أن تقول: متضاد أو غير متضاد، فهمتم الذي أريده لما قلت لكم القضية أني ما زلت أفكر في القضية، إنه هل نحن نحتاج أن ننص على قضية التضاد أو لا؟

    نضرب مثالاً، المثال يكون موضحاً للقضية: ألا تذكرون في قوله سبحانه وتعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ[التكوير:17]، التي طرحناها قبل في قول بمعنى: أقبل، وقول بمعنى: أدبر، و شيخ الإسلام نفسه في هذا المثال بالذات نص على أنه قد يحتمل الأمرين معاً، فإذا كان يحتمل هذين الأمرين وبينهما تضاد أو لم يكن بينهما تضاد؛ أقبل وأدبر؟

    إذاً ما حاجتنا أن نقول: أنه تضاد، يعني: نحن في مجال التطبيق، هل أنا بحاجة أني أقول هذا من نوع التضاد أو لا؟ أو أني أرد المعنى، سواءً كان متضاداً أو كان من التنوع نأخذ مثالاً آخر فيما هو أقوى من هذا، والآية تدل عليه أكثر من غيره صراحة مثلاً، عند قوله سبحانه وتعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ[التكوير:15-16]، عندنا في (الخنس) وجهان عند السلف، وهما: الخنس بمعنى: النجوم، أو الخنس بمعنى: بقر الوحش، فإذا اختار المفسر أن الخنس بمعنى: النجوم؛ وقال: بدلالة السياق الذي قبلها أو الذي بعدها، حديث عن آيات كونية، فجعل أن المراد بـــ: بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ[التكوير:15-16] : النجوم بدلالة السياق، وقد يذكر بعضهم دلالة أخرى، وهي أن الله سبحانه وتعالى إذا أقسم فالغالب أنه يقسم بما يراه كل الناس، لكن بقر الوحش والظباء قد يموت بعض الناس وما رآه ولا عرفه، مع أن الوصف صادق أنها: خنس وجوار كنس، لكن تلك أقرب.

    فالآن لما ننظر اختلاف: (الخنس الجوار الكنس) هذا اختلاف تنوع وليس بينها أي تناقض، ليس بينها تضاد، هذه لها معنى، وهذه لها معنى، بغير تضاد، ولما جئنا عند: (عسعس) وجدنا أنها أيضاً نفس القضية، لكن سميناها اختلاف تضاد قطعاً؛ لأن معنى: أقبل غير معنى أدبر، فأنا لماذا قبلت في قوله سبحانه وتعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ[التكوير:17] أنها بمعنى: أقبل وأدبر مع أن فيها تضاد؟ لأن المقسم به في المحل مختلف، ما هو إقسام بنفس الذات أو بنفس الموطن؛ لا، إقسام بإقبال الليل وهو أوله وبإدبار الليل الذي هو آخره؛ فاختلف وجه المقسم به، فجاز في مثل هذا المثال أن نقول: إن الآية تحتمل المعنيين معاً، لكن هل أنا بحاجة إلى ذكر التضاد؟ أنا ما زلت أفكر في هذه القضية التي قلت لك، لكن ما فيه إشكال أنه في التطبيق العملي وفي التحرير لما آتي أطبق هل أنا أحتاج أني أرد أقوالاً من باب اختلاف التنوع ولا أقبلها مع أني أنا أقعد قاعدة: أن الآية ما دامت تحتملها وأنها من اختلاف التنوع أني أقبلها.

    شيخ الإسلام ذكر هذا المصطلح، أنا في الحقيقة نسيت أن أنقله، لكن هو موجود عنده، الظاهر الذي معهم فصول في أصول التفسير يرونه موجوداً، ذكر هذا المصطلح في اقتضاء الصراط المستقيم، قال: إنه يتنافيان، يعني: لا يمكن اجتماعهما في الآية..

    في أقوال ما يكون معهما في الآية مثل قوله سبحانه وتعالى: فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا[مريم:24]، هل المنادي: جبريل أو عيسى عليه السلام؟ لأن المنادي لا بد أن يكون واحداً، إما جبريل وإما عيسى، فهذا قول وهذا قول؛ وهذا نسميه تضاداً؛ لأن الآية لا تحتملهما معاً، ما دام الآية ما تحتملهما معاً نسميه تضاداً، بغض النظر عن كونهما من أحرف التضاد أو لا؛ لأن عندنا إشكالية في قضية معرفة التضاد في (عسعس) وأمثالها.

    نلاحظ (القرء) هو من أحرف التضاد، ولكن لا بد أن نحمل الآية على أحدهما، فالمرأة المطلوب منها أن تتربص ثلاثة أطهار أو ثلاث حيض، إما هذا أو هذا، ما يمكن أن يكون المطلوب الاثنين بخلاف (عسعس) أنه جائز أن يكون إقسامه بأول الليل أو بآخره، لأنه على اختلاف المحل، فجاز هنا ما لم يجز هناك، مع أنهما من أحرف التضاد، وهذا الذي يمكن أن يكون أيضاً يلبس.

    لكن إذا قلنا: إن القضية هذه يتنافى فيها القولان، ولا يمكن اجتماعهما معا في الآية؛ فمعنى ذلك: أننا سنرد حتى بعض الأقوال التي قد تعد من اختلاف التنوع، يعني: قد يسميها واحد اختلافه تنوع، مع أنها لا يمكن حمل الآية عليهما معاً، فنحتاج إلى مثل هذا التحرير؛ ولهذا القول الأخير أرى أنه أريح في قضية التطبيق؛ لأننا ننظر هل الاختلاف يرجع إلى أكثر من معنى، ثم إلى هذه المعاني الموجودة ما هو الصحيح منها من غير الصحيح، وما هو المقبول من غير المقبول، بغض النظر عن محاولة التحديد الدقيق، وإن حددت؛ فلا إشكال، يعني: قضية مجرد إعادة تفكير ليس إلا.

    ونذكر أمثلة في قضية التضاد؛ لأن البحث عن اختلاف التنوع واختلاف التضاد، عندنا الآن إذا رجعت الأقوال إلى أكثر من معنى فإذا قلنا بالنظر الجديد كيف ممكن نصوغ، فالصياغ الموجود الآن على قضية اختلاف التنوع واختلاف التضاد، والأمثلة موجودة ومسوقة على هذا، لكن إذا أردنا على الطريقة الجديدة، في قضية الاختلاف ننظر عندما يرد أكثر من معنى هل هذه المعاني كلها محتملة أو غير محتملة، أو أن بعضها محتمل وبعضها غير محتمل، يعني الآن النظر لما ننظر إلى أن لها أكثر من معنى هل هذه المعاني المذكورة محتملة أو غير محتملة، فقط، أي: ما هو الشيء الساقط منها أو المردود، وما هو الشيء المقبول منها، وأحياناً تكون كلها جائزة، وأحياناً يكون القول منها هو المقدم والأولى، مثل ما يفعل ابن جرير الطبري في ترجيحاته.

    على العموم لا بأس، أنا كاتب هنا على التحرير الجديد الذي ذكرته لك: أن لا تحتمل الآية إلا قولاً واحداً، هذا إذا رجعت إلى أكثر من معنى، إذا كان في خلاف أو تحتمل أكثر من قول، ويوجد في الأقوال ما لا تحتمله الآية لأي سبب من الأسباب كالتضاد مثلاً، لأن التضاد أحد أسباب المنع، لكن ليس سبباً دائماً كما سنلاحظ.

    ومن أمثلة التضاد في قوله تعالى: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ[الأنفال:6]، من هم المجادلون؟ الجمهور على أن المجادل هم المسلمون، وقال ابن زيد : هم المشركون، مع أن المجادل إما هذا أو هذا، فلا بد من تعيين أحدهما فدل على تنافي الجمع بين القولين فهو من التضاد.

    وعندنا من الأمثلة الذي يمكن تراجعونها، لفظ (القرء) و(المسجور) و(سجرت) و(عسعس) و(صريم) و(وراء) وغيرها من الألفاظ المذكورة في كتب التضاد، لكن مع ملاحظات أن بعض هذه الأمثلة يجوز قبولها بشيء مختص بهذا المثال دون غيره، فيرتفع عنها الوصف للتنافي، أنه ينتفي اجتماعهما، يرتفع بسبب المثال ليس إلا، وإلا الأصل فيها أنها من أحرف التضاد، فكان يمكن أن نقول إنها غير مقبولة لذلك، والمثال الذي ذكرت لكم في قضية (القرء) واضح ومشهور.

    النوع الثاني: ترجع الأقوال إلى أكثر من معنى ليس بينها تضاد، وهذا أمثلته أيضاً كثيرة، مثل قوله سبحانه وتعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج:29]، هل هو المعتق من الجبابرة؟ هذا جائز، أو هو القديم؛ أيضاً هذا جائز، يعني جائز أن يكون هذا، وجائز أن يكون هذا؛ لأنه يحتمل هذا الوصف ويحتمل هذا الوصف، والمعنيان متغايران، والتفسير بهما أيضاً صحيح.

    في قوله: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ[الشورى:5]، أيضاً الشنقيطي رحمه الله تعالى لما ناقش قضية سبب مقاربة السماوات والتفطر ذكر وجهاً هو: أنها تتفطر من خوف الله، ووجه آخر: أنها تتفطر من شدة عظم الفرية التي افتراها الكفار، ثم ذكر أن كلا الوجهين حق، يعني: ختم كلامه بعدما نص على هذين المعنيين وما يفسرهما من القرآن، قال: وكلا الوجهين حق.

    هذا تقريباً بعض الأفكار في قضية الاختلاف الوارد في التفسير.

    والآن أقدم لكم من باب الملحوظة: أنه قد يتداخل النوع مع السبب، يعني: هو نوع وهو سبب، يعني: قد يتداخل النوع مع السبب، إلا إذا أزحنا قضية أنواع، اختلاف تنوع واختلاف تضاد وأخذنا النظر إلى عموم الخلاف، منه ما يرجع إلى معنى، أو يرجع إلى أكثر من معنى، ممكن أن نناقش قضية الأسباب من دون أن يكون عندنا إشكال، هذا ما منّ الله به، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيدني وإياكم علماً وتقى، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765792934