إسلام ويب

مقدمة في أصول التفسير [6]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للتأويل علاقة بالمحكم والمتشابه، فإن كان التأويل بمعنى التفسير فيكون المتشابه نسبياً، وإن كان بمعنى الحقيقة والمآل فيكون المتشابه كلياً، ولا يعلم ذلك إلا الله. وأما الاستنباط فهو قول بالرأي يتلخص في ربط معلومة بآية ما، قد تكون المعلومة صحيحة أو باطلة، والربط صحيح أو غير صحيح.

    1.   

    معنى التأويل في آية آل عمران: (وما يعلم تأويله إلا الله)

    أسباب وقوع المتشابه

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.

    وبعد:

    قد يقع الزيغ والانحراف بسبب الخوض في اتباع المتشابه وله أسباب، مثال ذلك أن الله سبحانه وتعالى أثبت المشيئة مثل: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ[الإنسان:30], فهذا فيه إثبات المشيئة لله, وأنه لا تقع مشيئة من العبد إلا بمشيئة الله, وفي آيات أخرى إثبات المشيئة للعبد.

    فيقع الزيغ هنا، وهذا من نوع المتشابه, وكذلك قوله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ[النساء:79], فنسبت الأمر إلى الله سبحانه وتعالى, ومرة تنسب الأمر إلى العبد, فهذا يقع فيه تصادم عند بعض الناس وتشابه، وخفاء، وإشكال.

    فيثبت شيئاً في الآية وينفي الشيء الآخر الذي في الآية الأخرى, فقد يقول بالجبر ويتمسك بالآيات التي تدل على ذلك المذهب, أو يقول بضد الجبر ويتمسك بالآيات التي تدل على ذاك المذهب ويترك الآيات الأخرى أو يأولها, فيقع في ذلك الانحراف.

    التشابه في اتباع المجمل

    فالمتشابه الذي يقع فيه زيغ هو مثل هذه الأشياء, أحياناً يأتي إجمال فيقع فيه الزيغ, مثل قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ[القصص:85], فإنه ثابت عندنا نحن أهل السنة أن عيسى عليه السلام يرجع في آخر الزمان فيأتي عبد الله بن سبأ ويقول: عجباً لمن يرى أن عيسى يرجع في آخر الزمان ولا يرى أن محمداً الذي هو أفضل منه يرجع، والله يقول: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ[القصص:85], يعني يردك إلى الدنيا, فهذا فيه زيغ بسبب اتباع المجمل؛ لأن هذا فيه إجمال: لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ[القصص:85], وأنت لما ترجع إلى تفسير السلف العالمين بالقرآن تجد أنه لم يقل منهم أحد بهذه العقيدة التي صنعها عبد الله بن سبأ .

    الخلاصة: أن المتشابه الذي يكون فيه زيغ ينتبه له ولا يلزم أن نقول: هذه الآية وهذه الآية وهذه الآية, فقد تكون آيات متعددة, فيأتي إنسان ويأخذ بآية ويصرفها لما يراه هو, إما لإجمال فيها, وإما لجهل فيه، يريد أن يركب هذه العقيدة له, وإما لأنه بالفعل لم يجمع بين الآيات؛ لكي يعرف المعنى الصحيح أو العقيدة التامة في قضية من القضايا التي تكون منثورة بين الآيات.

    فيقع الإشكال في مثل هذا، وهذه الآيات التي يقع فيها الإشكال مثل: لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ[القصص:85], أو ما استدلت به الخوارج، أو ما استدلت به الجهمية، أو ما استدلت به المعتزلة إلى آخره, يعلمه العلماء.

    المتشابه النسبي والكلي

    فيكون المعنى أن نرجع مرة أخرى نفسر على نفس المعنى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ[آل عمران:7], يعني: لم يقع فيها خفاء ولا إشكال بل هي معروفات معلومات: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ[آل عمران:7], لأنه ما وقع فيها خفاء: وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ[آل عمران:7], أي: وقع فيهن خفاء, بأي شكل من أشكال الخفاء، بمعنى: أن أي معنى أو أي آية لا تعرفها بالنسبة لك تكون متشابه قال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ[آل عمران:7], فقيد ذلك بالذي في قلبه زيغ، يعني: عنده نية الانحراف: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ[آل عمران:7], فيبحث عن الآيات التي تعينه على مذهبه فيستدل بها.

    وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ[آل عمران:7], أي تفسيره: إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[آل عمران:7], يعني: الذي هو علم التفسير: يعلمه الله والراسخون في العلم، وزيادة على ذلك يقول الراسخون في العلم: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا[آل عمران:7], بمعنى: إذا جاء مثل هذه المتشابهات التي يقع الزيغ فيها عند بعض الناس فإنه يؤمن بها هؤلاء الذين هم أول الناس في الإيمان؛ لأنهم أعلم بالكتاب: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ[آل عمران:7], وهذه مزية لهم: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ[آل عمران:7], يعني: كل المؤمنين يؤمنون به, لكن هؤلاء هم أول من يعلم زيغ هؤلاء وفساد رأيهم، فيثبتون على الإيمان, ويَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ[آل عمران:7], يعني: آمنا بأن هذا من عند الله، وليس فيه أي تضارب ولا تعارض.

    ما نطيل في هذا لأن فيه أفكار أخرى في قضية المتشابه.

    لو قلنا: إن التأويل ما تؤول إليه حقيقة الشيء, فسنقول في تفسيرها هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ[آل عمران:7], أي: وما يعلم حقيقة ما تؤول إليه هذه المتشابهات إلا الله, فإذا قلنا: إن التأويل ما تؤول إليه حقيقة الشيء, فإن التشابه يكون كلياً أي: على كل الناس ولذا نقف على لفظ الجلالة, مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ[آل عمران:7], المحكمات هنا أي: المعلومات للناس عموماً، فيدخل فيها المتشابه النسبي. يعني: على القول الثاني: يدخل المتشابه النسبي في المحكمات؛ لأنها بالنسبة للبشر كلهم معلومات, مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ[آل عمران:7], أي: معلومات معروفات للناس عموماً, وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ[آل عمران:7], أي: تشابهاً كلياً لا يعلمها إلا الله.

    فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ[آل عمران:7], يبحثون عن المتشابه الكلي الذي لا يعلمه إلا الله, ويريدون تفسيره قال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ[آل عمران:7], يعني: معرفته, وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ[آل عمران:7], يعني: حقيقة ما تؤول إليه هذه الآيات المتشابهات, إِلَّا اللهُ[آل عمران:7], هنا الوقف، ثم قال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ[آل عمران:7], أي: نعم استئناف, يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا[آل عمران:7], وهذا هو الوجه الثاني عند السلف في التفسير.

    فهذا الملخص يبين الصحيح في معنى الآية على هذا الوجه وعلى هذا الوجه, وما بعد ذلك فهو كلام كثير منه يدخل بسبب المصطلح الحادث, أعني: الإيهام الذي يحصل بسبب المصطلح الحادث, لكن لو أخذت كلام السلف نفسه والتأويل عندهم وحملته على الآية بهذا المعنى فلا يكون فيها أي إشكال.

    ما تؤول إليه حقيقة الشيء أي: حقائق الأمور نفسها، كمعرفة متى وقوعها, والكيفيات التي تقع عليها, ولهذا قوله سبحانه وتعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5], عندنا في هذه الآية أمران: هل يدخلها المتشابه النسبي أو ما يدخل؟ الجواب: يدخل فيها, لكن فيما يتعلق بالمعنى, ولذا قد يأتي إنسان ويقول: ما معنى استوى؟ فنقول له: قال ابن عباس : علا وارتفع, وقال مجاهد : صعد, إلى آخره, ونفسر له بما فسر السلف، هذا معنى الاستواء في اللغة وهو قول السلف, فهذا التشابه يصير نسبياً, ونخبره بهذا.

    فلو قال: كيف استوى؟ قلنا: هذا داخل في المتشابه الكلي؛ لأن الكيف مجهول بالنسبة للبشر يعني: غير معلوم.

    فنلاحظ أننا لما نأتي إلى قوله سبحانه وتعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5], ففيها جانبان: جانب المعنى, وجانب الكيف, جانب المعنى معلوم فيها, فإن خفي على أحدٍ من الناس فنقول: بالنسبة له يكون متشابهاً نسبياً, ثم إذا علمه انتهى وزال التشابه, لكن كيف استوى؟ هذا لا يمكن أن يعلمه أحد, فهو متشابه كلي.

    ولهذا مالك رحمه الله تعالى لما سأله السائل عن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5], قال: الاستواء معلوم, الذي هو جانب المعنى, والكيف مجهول، الذي هو جانب الكيفية، أي الذي يدخل في المتشابه الكلي.

    وهذه هي طريقة السلف في جميع صفات الله سبحانه وتعالى التي أخبر عنها, فتثبت حقائق الصفات لله سبحانه وتعالى, أما الكيفيات فلا يعلمها إلا هو, المعاني معروفة، والله سبحانه وتعالى خاطبنا بما نعرف ونعلم من لغة العرب, لكن الكيفيات غير معروفة بالنسبة للبشر.

    فمن تتبع هذه الكيفيات دخل في الزيغ, ولهذا كثير من المؤولة لا يأول إلا ويمر بمرحلة التشبيه, وإن شئت قل: التمثيل فهي أدق منها، فلما يأتي مثلاً إنسان إلى قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ[المائدة:64], فيقول: يداه اليد بمعنى النعمة أو بمعنى القدرة؛ لأنه يفر من التشبيه, فقبل أن يفر من التشبيه هناك مرحلة في الوسط مر بها والتي هي التمثيل، فهو أراد أن ينزه, فوقع فيما هو شر من ذلك, ولو أخذ بقول السلف لسلم.

    فلما نأتي إلى تحقيق ذلك: بَلْ يَدَاهُ[المائدة:64], على قولهم: نعمتاه أو قدرتاه, لا يستقيم الكلام هنا، نعمتاه: النعمة الأولى ما هي، والنعمة الثانية ما هي؟ والقدرة الأولى ما هي، والقدرة الثانية ما هي؟ فهذا كلام مخالف للبلاغة ولهذا أستاذ البلاغة الزمخشري رد على من أول بهذا التأويل, مع أنهم شيوخه المتقدمون, هم من قال: بل نعمتاه, فيقول: هذا من ضيق العقل، ومن البعد عن البلاغة مسافة كذا, بمعنى: أنه كلام غير محقق, لكن مع ذلك ما سلمت الآية عنده من التأويل، وحملها على المجاز, لكنه رأى أن هذا النوع من المجاز الذي فسر به قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ[المائدة:64], تفسيراً ضعيفاً للغاية عنده, مع أنه من كلام المعتزلة أصلاً, فلو ترجع إلى كلام عبد الجبار الهمداني ستجد الموجود في كلامه: بَلْ يَدَاهُ[المائدة:64], نعمتاه, نعمة الدنيا، ونعمة الآخرة, فانظر التأويل ومحاولة البعد إلى أشياء تحس بالفعل أن الإنسان يهرب من شيء فيقع فيما هو أشد منه، ولو قرأت كتاب متشابه القرآن فستجد فيه أمثلة كثيرة من هذا النوع؛ لأنه هو اسمه متشابه القرآن متعلق بهذه القضايا التي هي في المتشابه.

    على العموم نخلص إلى أن المتشابه الكلي في الغالب يقع في كيفيات الأشياء الغيبية، وفي وقت وقوعها.

    البحث عن حكمة التشريع وعلاقته بالمتشابه

    هناك نوع أيضاً يشار إليه هنا، ويحرر هل يمكن أن يدخل في المتشابه أو ما يدخل، وهو البحث عن الحكمة, يعني: لماذا الله سبحانه وتعالى جعل صلاة الظهر أربع ركعات, وجعل صلاة المغرب ثلاث ركعات, هذا لا يمكن أن يعلم, ولم يأت به خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ومما لا يدرك بالعقل.

    فتطلب هذه الحكم التي يجزم بأنه لا يعلمها إلا الله، لا شك أنه أيضاً نوع من الدخول في هذا الباب, لكن ينظر هل الآية تشير إليه أو ممكن أن يدخل في معناها أو لا، هذا يحتاج إلى تحرير.

    ولا شك أنكم تعرفون أننا في عصر فيه نوع من هذه الفتنة التي هي فتنة البحث عن فلسفة التشريع, وعن حكمة التشريع، حتى تأتي أحياناً أشياء تتعجب منها وتعرف أنها غير مرادة, فيأتي بعضهم ليبين لنا فضل الصلاة، ويقول: أنه كشف على مجموعة من المرضى فالذين لا يصلون يصيبهم المرض، والذين يصلون لا يصيبهم ويأتي بكلام طويل عريض في مثل هذه القضية, حتى إنك تستغرب كيف تنزل عقول البعض إلى مثل هذه القضية, فهذا يريد أن يثبت لنا فضل الصلاة, ونحن لا نحتاج لإثبات مثل هذه القضية.

    فقضية فضل الصلاة بمثل هذا الأمر أو غيرها من الأشياء التشريعية لا تحتاج إلى إثبات، ولهذا يجب أن ينتبه المسلم إلى أن الحكمة هي أمر الآمر, فالآمر هو الله, فما دام قد أمر انتهى الموضوع, وهذا هو معنى التسليم والإيمان لله سبحانه وتعالى, فليس المعنى أننا لا نؤمن بالشيء إلا إذا بحثنا عن حكمته أو عرفنا حكمته، لا, نحن أصلاً نؤمن به بدون البحث عن الحكمة.

    فالله سبحانه وتعالى مثلاً لما حرم الخنزير قبل أربعة عشر قرناً والمسلمون يعرفون تحريم الخنزير، ولا أحد منهم دخل في قضية لماذا حرم أو كيف؟ ثم لما جاء هذا العصر وبدأوا يشرحون الخنزير وينظرون ما فيه، فخرجت فيه تلك الطوام من الأمراض, بدأنا نحن نقول: لهذا السبب حرم الله الخنزير, هذا قد يكون أحد الأسباب وهذا يعزز ويدل على مصداقية التحريم؛ لكن ليس هو السبب بذاته, لا يلزم أن يكون هذا هو السبب, السبب عندنا -نحن المسلمين- أمر الآمر, ولهذا عائشة رضي الله عنها لما سألتها امرأة: لماذا تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنتِ يعني: فيها نوع من استخدام العقل في مسائل لا يدركها الإنسان, قالت: كنا نؤمر بذلك فنفعل, إذاً أمر الآمر هو نفس الحكمة، ما نحتاج نحن كمسلمين إلى البحث أكثر من هذا.

    فإن ظهرت حكم في التشريع فإنا نقبلها والله سبحانه وتعالى يلقي لعباده يوماً بعد يوم شيئاً من المعلومات. لكن ليست هي الأصل في التحريم والتحليل عندنا، أو في القبول وعدم القبول؛ لأن عندنا قضية كلية في هذا.

    هذا استطراد.

    الوقف والابتداء في آية آل عمران في التأويل

    ونأتي الآن إلى استطرادٍ ثانٍ وهو إذا كان الآن التأويل عندنا له معنيان فندخل في علم الوقف والابتداء.

    أي أنواع الوقوف يصلح للوقف في هذه الجملة، الآن عندنا التأويل بمعنى التفسير، والتأويل بمعنى: ما تؤول إليه حقيقة الشيء, وعلمنا أنه إذا كان المراد بالتأويل التفسير فيكون كل القرآن معلوماً للعلماء, وإذا كان ما تؤول إليه حقيقة الشيء، فالذي تؤول إليه حقيقة الشيء لا يعلمه إلا الله.

    فإذا نظرنا في المصاحف نجد المصحف المصري كاتب ميم, وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ[آل عمران:7], يعني: وقف لازم, الذي لو وصل طرفاه لغير المرام.. ولغير معنى الكلام تماماً.

    ومصحف المدينة النبوية كاتبين: قلي, يعني: الوقف أولى, فأيهما أصح بناءً على هذا؟ طبعاً لو رجعنا إلى كتب العلماء مثل الشنقيطي و ابن كثير وغيره فسنجد أنهم رجحوا أن التأويل بمعنى: ما تؤول إليه حقيقة الشيء, وأنا قد قلت: إنهما وجهان معروفان عند السلف وكلاهما حق, ما بينهما إلا مجرد ترجيح فقط، أي أن الوقوف أولى لمثل هذا المكان فتحط (الجيم) عند لفظ الجلالة أو عند: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[آل عمران:7], والمعنى أنه يجوز الوصل والوقف وفي كلا الأمرين الوقف نفسه, وهناك وقف يمكن أن يؤدي المعنيين معاً, يعني: نريد أن نؤدي المعنيين ونحرر اختلاف السلف دون أن يكون هناك ترجيح.

    هذا الوقف الذي له ثلاث نقاط, نسميه وقف التعانق. وضعوا الآن في أذهانكم لو نظرتم إلى المصحف حطوها تعانقاً على الموضوع هذا, يعني: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ[آل عمران:7], ثلاث نقط, وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[آل عمران:7], ثلاث نقط.

    فيكون عندنا في القراءة وجهان مبنيان على التفسير الصحيح، أيضاً أؤكد عليها؛ لأن كليهما حق, فلو قلنا: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[آل عمران:7], يكون التأويل هنا بمعنى: التفسير.

    والوقف الثاني: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ [آل عمران:7], هنا نقف: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ[آل عمران:7]، فيكون التأويل بمعنى: ما تؤول إليه حقيقة الشيء, والتعانق عندي أولى من هذا ومن ذاك؛ بناءً على أنه ما دام الأمر فيه قولان للسلف, فالأولى أن نختار من الوقوف ما يتوافق مع أقوالهم, وهذا أولى من اختيار (قلي) الذي فيه ترجيح قول بالأولى، وأولى من اختيار الوقف اللازم، الذي يرجح أحد المعنيين قطعاً.

    ووقف التعانق في هذا الموضع لا يوجد في كتب الوقف ولم تشر إلى هذا, بالعكس كتب الوقف كالذي للسجاوندي بالذات الذي هو صاحب الوقف اللازم, كان يختار الوقف اللازم, واتبعوه بعد ذلك, وهذا اجتهاد مني.

    يعني: أنا أذكر هذا من باب خبر التاريخ، وذكرت هذا المثال للشيخ عبد العزيز القاري حفظه الله، وقلت له: لماذا اخترتم الوقف الأولى هنا مع أن فيه قولين للسلف, فهو قال: لأن ابن كثير و الشنقيطي رجحوا المعنى هذا، فوضعنا (قلي) بدلاً عن الميم؛ لأنهم هم أشاروا في الرسالة ولهم رسالة في كتابة هذا المصحف, يعني: الذي هو التقرير العلمي, فنبهوا على هذا الموطن بالذات, ونبهوا لماذا خالفوا ووضعوا قلي ميم.

    فأنا ذكرت له هذا، أنه أولى لكي يبقى للقارئ ويفهم أن للسلف قولين، وكلاهما حق، فلمَ لا نجعله تعانقاً, فسجله عنده يعني: ملحوظة، لكن تعرفون أن غيره صار مسئولاً عن المصحف, وقل أن يغير شيئاً في المصحف فيما يتعلق في الوقوف, ومعنى ذلك أن الوقوف اجتهادية ومبناها الاجتهاد.

    1.   

    الاستنباط

    ندخل الآن في قضية الاستنباط, وهو أيضاً استطراد مرتبط بالتفسير, وذكرته بالذات لأهميته لأمرين, أحياناً لأنه يلتبس بقضية التفسير، فيفهم بعض الناس أنه من التفسير كما ذكرت سابقاً وهو ليس من التفسير.

    والقضية الثانية: أن هذا الموضوع بالذات الذي هو علم الاستنباط من القرآن مما يحتاجه الناس بعد التفسير, يعني: يحتاجه عامة الناس.

    فلهذا حرصت أن أطرح بعض الأفكار التي جمعتها في هذا الموضوع.

    تعريف الاستنباط لغة

    الاستنباط في اللغة مأخوذ من مادة: (نبط), ومادة نبط تدل على خروج شيء من الأسفل إلى الأعلى مثل: نبط الماء، يعني: خرج, ويمكن مثل نبع نفسها.

    والاستنباط كما نلاحظ فيها السين والتاء الدالة على التكلف, يعني: استنبط أي: طلب إخراج الشيء, ويقال: إن الأنباط وهم قوم من العرب سموا بذلك؛ لأنهم كانوا يستنبطون الماء من الأرض, يعني: كان عندهم خبرة في أماكن الماء.

    فإذاً لما نقول الاستنباط سيكون عندنا الآن نص يخرج منه العالم معلومات قد لا يخرجها غيره, ولهذا الطبري يقول: وكل مستخرج شيئاً كان مستتراً عن العيون أو عن معارف القلوب فهو له مستنبط, يقال: استنبطت الركية إذا استخرجت ماءها.

    تعريف الاستنباط في الاصطلاح

    والتعريف الاصطلاحي الموجود في العباب الزاخر، يقول عن الاستنباط: واستنبط الفقيه إذا استخرج الفقه الباطن بفهمه واجتهاده هذا كلام الصغاني في العباب الزاخر، حرف الفاء, حرف استنبط حرف الطاء, وهذا الجزء مطبوع.

    ولما ننظر في القرآن يمكن نقسم القرآن إلى قسمين: قسم ظاهر الذي يقول عنه الشافعي : مستغنى بتنزيله عن تأويله, وقسم يحتاج إلى تفسير, فالاستنباط قد يكون أحياناً من نص ظاهر ليس فيه خفاء، فيستنبط منه المستنبط, وقد يكون استنباطه بعد التفسير.

    إذاً القرآن إما أن يكون نصاً ظاهراً غير خفي فيقع منه استنباط, أو يكون نصاً يحتاج إلى تفسير فيفسر ثم يقع الاستنباط بعد ذلك.

    نأتي الآن نحلل عملية الاستنباط ونذكر الأنواع المندرجة تحت هذه العملية.

    فالاستنباط لو لاحظناه هو في حقيقته ربط كلام له معنى بمدلول الآية, أي أن المستنبط ذكر كلاماً, هذا الكلام الذي ذكره يربطه بالآية يقول: الآية دلت عليه، أو الآية لها علاقة بهذا الكلام, فإذاً فيه كلام يربط بآية, يعني: حقيقة الاستنباط في النهاية أنه كلام له معنى يربط بآية، بأي نوع من أنواع الربط. هذا لا ننظر إليه بمفهوم الإشارة أو بمفهوم المخالفة إلى آخره, ما ننظر إليه لكن المقصود أن عندنا كلام ربط بآية فقط, هذا هو الاستنباط.

    وممكن التعبير عنه بأنه ربط كلام له معنى بمدلول الآية, بأي شيء عبرت عنه لا إشكال في ذلك, لكن فهم المعنى هو الذي أريده؛ لأننا سنحلل فيها، أو سنجعل سبراً وتقسيماً لقضية الكلام الذي يربط.

    قال: (وكل كلامٍ ربط معنى الآية فإنه من هذا الباب؛ لأن الذي يقول به يرى أن الآية دلت عليه بأي نوع من أنواع الدلالة).

    هذه الاستنباطات أيضاً ما لها حد, أحياناً قد تكون استنباط حكم فقهي, وأحياناً قد تكون استنباط أدب تشريعي, أو استنباط أدب أخلاقي في معاملة الناس, أو استنباط فوائد تربوية تتعلق بتزكية النفوس, أو استنباط فائدة علمية, يعني: أي نوع من أنواع الاستنباطات، ما ننظر إلى نوع الاستنباط، لكن المقصود أن فيه استنباطاً.

    وهذه الاستنباطات أيضاً نلاحظ أنها أحياناً تكون قريبة للذهن, يعني: لما يذكرها المستنبط تكون واضحة ما فيها إشكال, وأحياناً تكون خفية حتى أنها تحتاج إلى تكلف منك؛ لكي تتفهم كيف جاء هذا الاستنباط, وهذا معروف طبعاً في قضايا الاستنباط.

    وأنا قصدت كلمة ربط؛ لأنا نريدها الآن ونتكلم عنها, وإلا فالاستنباط لا شك أنه استخراج, يعني: ممكن أن نقول: استخراج معنىً من الآية, لكن هذا الاستخراج أحياناً يكون كلاماً مستقلاً، ما له علاقة ويربط بالآية, وهو في النهاية فيه نوع من الاستخراج وأنا أكتب الموضوع كأني ألمح أن لفظة ربط أحتاجها في هذا، نكمل حتى نجل القانون الكلي لصحة الاستنباط.

    الاستنباط الأصل فيه لا شك واضح أنه قول بالرأي, فهو يتبع القول بالرأي, وقد ذكرت أنه خارج عن التفسير فليس معناه تفسير بالرأي, نقول: قول بالرأي؛ لأنه إعمال الذهن لإخراج معان من الآية.

    إذا كان قال بالرأي طبعاً يدخل في هذا قضية الرأي المحمود والرأي المذموم، وما إلى ذلك مما يتعلق بهاذين الموضعين.

    القانون الكلي لمعرفة صحة الاستنباط من عدمها

    ما هو القانون الكلي لصحة الاستنباط من عدمه؟ هنا سنعمل سبراً وتقسيماً لهذه القضية.

    عندنا الآن ثلاثة أمور الأول: نص مفسر, وهذا النص المفسر إما أن يكون تفسيره صحيحاً أو لا يكون, الثاني: نص ظاهر, والثالث: معلومة مرتبطة بأحدهما، التي هي الاستنباط.

    فهذه القضايا الثلاث التي يدور حولها هذا الموضوع.

    لما نربط أي معلومة بأي آية من آيات القرآن لا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال:

    الحالة الأولى: أن تكون المعلومة بذاتها فاسدةً باطلة، تخالف ما جاءت به الشريعة، فحكم هذه المعلومة باطلة.

    فهذه المعلومة لما ننظر إليها بذاتها مجردة الآن ما هي مربوطة لا بقول الله ولا بقول رسوله صلى الله عليه وسلم, كلام مجرد, ننظر إليها ونحكم بأنها هي بذاتها باطلة, فقطعاً لما تربط بأي آية يكون الاستنباط خطأً وباطلاً وفاسداً مباشرةً.

    وهذا النوع قد يكون مربوطاً بنص ظاهر، أو بتفسير صحيح، أو بتفسير غير صحيح, أي: هذا النوع الذي هو المعلومة الفاسدة الباطلة، قد تربط أحياناً بنص ظاهر، وقد تربط بتفسير صحيح يعني: يفسر تفسيراً صحيحاً، لكن يستنبط استنباطاً خطأً, أو قد يكون تفسيراً غير صحيح فقطعاً يكون الاستنباط خطأ.

    الحالة الثانية: أن تكون المعلومة بذاتها صحيحة, ما فيها إشكال, ولا تخالف الشريعة, بل هي مما دلت عليه، وهذه على قسمين:

    الأول: أن يكون ربطها بالآية صحيحاً, أي: أن الآية دلت عليها دلالة واضحة، ما يخالف فيها أحد, فهذه الفائدة أو الاستنباط واضح صحيح ما فيه إشكال.

    الثاني: أن تكون المعلومة صحيحةً بذاتها، لكن ربطها بالآية خطأ, فوقع الخطأ في الربط؛ لأن الآية لا تدل عليها بحال.

    فالمعلومة لو حكيت بدون ربطها بالآية بل حكيت مجردةً لكانت صحيحة لا يخالف في صحتها أحد، وإنما الخلاف في كونها تجعل مما تدل عليه الآية.

    هذا النوع والنوع الذي قبله قد يكون الربط بنص ظاهر أو بتفسير صحيح؛ لأن التفسير الخطأ مباشرةً الأصل فيه أن ما يستنتج منه خطأ وباطل, لكن هذا النوع والذي قبله قد يكون من نص ظاهر، أو من تفسير صحيح.

    أمثلة لمعرفة صحة الاستنباط من عدمها

    ندخل الآن إلى الأمثلة, وهذا تقريباً تقسيم فكرة الاستنباط, كيف يمكن أن يقع الاستنباط؟

    أولاً: استنباط من النص الظاهر الذي لا يحتاج إلى تفسير، سنأخذ أمثلة له, وقلنا: إنه على قسمين, لنأخذ الآن استنباطاً صحيحاً من نص ظاهر, وسبق أن ذكرت قوله سبحانه وتعالى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ[المسد:4], يقول السيوطي : واستدل بها الشافعي على صحة أنكحة الكفار, فالقضية التي يذكرها الشافعي هنا صحيحة في ذاتها وكون الآية التي تدل عليها أيضا ًصحيح ربطها بها؛ لأن الله نسب المرأة إلى زوجها, فدل على أن الزواج الذي قام بينهما صحيحاً, هذا إذاً استنباط صحيح من نص ظاهر؛ لأن قوله: وَامْرَأَتُهُ[المسد:4], ما أحد يخفى عليه معنى: وَامْرَأَتُهُ[المسد:4].

    ونأخذ مثالاً لاستنباط ليس صحيحاً، من نص ظاهر, مثل استنباط بعض الصوفية جواز الرقص من قوله تعالى: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ[ص:42], يعني: اضرب الأرضَ برجلك, إذا ضرب برجله خرج له الماء, فالصوفية من قوله: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ[ص:42], استدلوا بهذا على جواز الرقص, والرقص أصلاً من حيث هو دون ربطه بالآيات لا يجوز، فهو فاسد بذاته, فقطعاً ربطه بالآية أيضاً خطأ.

    مثال آخر: هذا الماوردي يعيب على المفسرين الفقهاء فيقول: ذهب بعض المتفقهة من المفسرين, إلى أن من وصى بجزء من ماله مطلقاً، يكون حكمه قال: إنها وصية بالعشر، ما هو الدليل؟ قال: لأن إبراهيم وضع أجزاء الطير على عشرة جبال, هذا رأي من يتفقه.

    طبعاً إثبات أن يكون وضعها على عشرة جبال إلى آخره, هذا لا شك أن ربطه بالآية خطأ, ونفس الحكم غير صحيح.

    نأخذ النوع الثاني: وهو الاستنباط من نص يحتاج إلى تفسير, فيكون استنباطاً بعد البيان, وهذا أيضاً على أقسام، نأخذ أول مثال للتفسير الصحيح والاستنباط الصحيح, وهذا طبعاً كثير جداً, يعني: أغلب الاستنباطات على هذا, مثاله ما ذكر ابن عطية رحمه الله تعالى يقول: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ[ص:29], بعد ما فسر الآية قال: وظاهر هذا يقتضي أن التدبر من أسباب إنزال القرآن, يعني: أنزلناه ليتدبر, ثم قال: فالترتيل إذاً أفضل لهذا؛ إذ التدبر لا يكون إلا مع الترتيل, هذا استنباط.

    وعندنا أيضاً أن يكون التفسير صحيحاً والاستنباط غير صحيح, مثال لتفسير صحيح لكن الاستنباط غير صحيح، أيضاً ابن عطية له استنباط غريب في قوله سبحانه وتعالى: للهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا[الشورى:49-50], الذي هو التوأم: وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا[الشورى:50], الذي هو النوع الرابع: إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ[الشورى:50], إذاً يكون الرجل والمرأة يأتيهم إناث، أو يأتيهم ذكور، أو يرزقون بالذكور والإناث، أو يكون عقيماً, هذه أربعة أحوال فلا توجد حال أخرى يقول عنها بعدما فسر الآية، وهذه الآية تقضي بفساد وجود الخنثى المشكل.

    هذه الآية لو نلاحظ أنها لا تدل على الذي قاله؛ فالآية تركت الخنثى المشكل؛ لأنه نادر وقليل, فما له اعتبار، وليس هو الأصل, لكن هذه الأربعة أصول, ولهذا ابن العربي وهو معاصر لـابن عطية رحمه الله تعالى المتوفي سنة (542) أو (541) و ابن العربي متوفى سنة (543), ولا أدري هل هو يقصده هو أو غيره وكلاهما من الأندلس.

    لكن على العموم قد يكون مذهباً معروفاً ومنتشراً عند أهل الأندلس فـابن العربي يرد عليه ويقول: أنكره قوم الذي هو الخنثى المشكل من رؤوس العوام، فقالوا: إنه لا خنثى, فإن الله قسم الخلق إلى ذكر وأنثى قلنا: هذا جهل باللغة وغباوة عن مقطع الفصاحة وقصور عن معرفة سعة القدرة, هذا كلام ابن العربي , في نفس الآية قال: وأما قدرة الله سبحانه فإنه واسع عليم, وأما ظاهر القرآن فلا ينفي وجود الخنثى؛ لأن الله تعالى قال: للهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ[الشورى:49], يعني: تدخل ضمن هذا العموم, ولذا قال: فهذا عموم مدح فلا يجوز تخصيصه؛ لأن القدرة تقتضيه.

    قال: وأما قوله: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ[الشورى:49], الآية, فهذا إخبار عن الغالب في الموجودات وسكت عن ذكر النادر لدخوله تحت عموم الكلام الأول, والوجود يشهد له, والعيان يكذب منكره, هذا رد ابن العربي على من يقول بهذا القول.

    فعلى العموم المقصود أن كلام ابن عطية فيه إشكال؛ لأن الخنثى المشكل موجود ومعروف, والآية لا تدل على ما ذكره, فيكون استنباطاً غير صحيح, وأما تفسيره فلا إشكال فيه، لكن وقع الإشكال في الاستنباط.

    نأخذ مثالاً لتفسير غير صحيح، والاستنباط أيضاً يكون غير صحيح قطعاً: قوله سبحانه وتعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي[الأعراف:143], الآية, المعتزلة قالوا: أن (لن) تفيد التأبيد, ويكون المعنى عندهم لن تراني أبداً، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

    الفضل الطبرسي المعتزلي الرافضي المشهور صاحب مجمع البيان، يقول هنا: قال: لن تراني هذا جواب من الله, ومعناه: لا تراني أبداً؛ لأن (لن) نفي على وجه التأبيد, كما قال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا[البقرة:95], وقال: لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ[الحج:73], فهذه (لن ) طبعاً لها أحوال, وتدخل فيها قضية القرينة, ليس الأصل فيها قضية التأبيد, وقرينة التأبيد هي أبداً مثلاً في قوله تعالى: لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا[البقرة:95], دخلت أبداً للتنبيه على التأبيد, لكن: لَنْ تَرَانِي[الأعراف:143], ليس فيها هذه الدلالة, فتفسير (لن) في هذا الموضع بأنها للتأبيد غير صحيح، فالتفسير خطأ, والنتيجة التي ركبها أن الله لا يرى, أيضاً خطأ, فإذاً التفسير غير صحيح والاستنباط الذي استنبطه غير صحيح.

    نأخذ مثالاً آخراً لمعاصر للقاسمي رحمه الله تعالى، طبعًا القاسمي توفي عام (1323هـ) و يقول عن معاصر له. والغريب أن القاسمي ذكر قوله ولم يناقشه، ويذكر أحيانًا أقوالاً فيها إشكال ولا يناقشها.

    يذكر لهذا المعاصر أنه فسر قوله سبحانه وتعالى: وَالتِّينِ[التين:1]، قال: يعني به شجرة بوذا ، مؤسس الديانة البوذية، يعني: التين إشارة إلى بوذا .

    بنى على هذا التفسير فائدة، فقال: إن الترتيب في ذكرها، يعني: ذكر الديانات في الآية باعتبار درجة صحتها بالنسبة لأصولها الأولى، يعني: وَالتِّينِ[التين:1]، إشارة إلى ديانة بوذا ، وَالزَّيْتُونِ[التين:1]، إشارة إلى عيسى ، وَطُورِ سِينِينَ[التين:2] إشارة إلى موسى . وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ[التين:3] إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، حتى نعرف ما هو الترتيب هذا؟

    فيقول: درجة صحتها بالنسبة لأصولها الأولى.

    فبدأ بالبوذية لأنها أقل درجة في الصحة، وأشد الأديان تحريفًا عن أصلها، ثم بالنصرانية، وهي أقول من البوذية تحريفًا، ثم باليهودية وهي أصح من النصرانية، ثم بالإسلام وهو أصحها جميعًا، وأبعدها عن التحريف والتبديل.

    هذه الفائدة يعني: غير صحيحة، وسببها: هذا الاستنباط غير الصحيح، وسببها أيضاً التفسير الذي هو غير صحيح. فالتين لا أحد يقول: التين إشارة إلى بوذا أبدًا، هذا مما قاله هذا المعاصر للقاسمي .

    بقي عندنا النقطة الرابعة في الاستنباط.

    وهي أن تكون الفائدة المستنبطة في ذاتها صحيحة، لكن حملها على معنى الآية غير صحيح، مثال هذا النوع ما ذكرناه، في قوله سبحانه وتعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ[البقرة:249]، طبعًا معروف أنه لما قال: إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ)) أنهم انقسموا إلى ثلاثة قال: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي)) هذه فرقة: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)) فصاروا ثلاث فرق، فواحد من المتصوفة قال: هذه الآية مثل ضربه الله للدنيا، فشبهها الله بالنهر، والشارب منه بالمائل إليها، المستكثر منها، والتارك لشربه بالمنحرف عنها والزاهد فيها، والمغترف بيده كالآخذ منها قدر الحاجة، وأحوال الثلاثة عند الله مختلفة، فالإشكال في الربط، وأن الآية ما تدل على هذا الكلام، وما جاءت لهذا المساق أبدًا، لكن الكلام بذاته لو أخذناه مجردًا.

    وقلنا: الدنيا كالنهر، والناس فيها ثلاثة، وذكرنا ما ذكره، فالمعنى صحيح لكن الخطأ الذي وقع عنده هو في قضية الربط.

    يقول القرطبي لما ذكر هذا الكلام، يقول: وما أحسن هذا الكلام لولا ما فيه من التحريف بالتأويل والخروج عن الظاهر، ولكن معناه صحيح في غير هذا.

    إذاً: الإشكال هنا في الربط.

    بقي عندنا فائدتان نختم بهما هذا الموضوع.

    فهذه إشارة إلى ما ذكرته من الأقسام في ربط الاستنباطات بالآيات.

    وعندي كما ذكرت أن الاستنباط لا حد له بخلاف المعاني، فلما نقول: تفسير الآية كذا، يعني: الوجه الأول، الثاني، الثالث، المرتبطة بألفاظ ومعان لا حد لها، لكن الاستنباط قد يستنبط كثير من الناس منها أشياء لا يستنبطها الآخرون، فعندنا وجوه من الاستنباط أحيانًا يكون مثلًا فيه جمع بين آيتين مع بعض، يعني: لما تجمع آية وآية يخرج لك معنى، لا تجده بانفرادهما.

    مثلاً: قد يأتي الاستنباط في ربط آية بآية فتخرج لنا معلومة أو استنباط من خلال هذا الربط، لا تكون كل آية لوحدها مبينة لهذه الفائدة، من أشهر الأمثلة في ذلك: المثال الذي ورد عن علي بن أبي طالب كما قال السيوطي : أخرج ابن أبي حاتم عن معمر بن عبد الله الجهني : قال: تزوج رجل منا امرأة، فولدت لتمام ستة أشهر، فانطلق إلى عثمان رضي الله عنه فأمر برجمها. لكونها ولدت بعد ستة أشهر؛ لأن المعروف أنها تلد بعد تسعة أشهر هذا الغالب، فقال علي : أما سمعت الله يقول: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا[الأحقاف:15]، هذه الآية الأولى، وقال: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ[لقمان:14]، هذه الآية الثانية فنجد أنه بقي ستة أشهر، قال، فقال عثمان رضي الله عنه: والله ما تفطنت لهذا.

    فالذي درس علم الشريعة يعرفونها؛ لأن هذا المثال معروف عندهم. يعني: الآن نحن إذا أتينا إلى قوله: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا[الأحقاف:15]، فعندنا ثلاثون شهرًا حمله وفصاله، يعني: مدة الحمل ومدة الرضاع.

    ثم قال: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ[لقمان:14]، العامين أربعة وعشرون شهراً، اطرح الأربعة والعشرين من ثلاثين التي هي مدة الحمل والرضاع فيكون أقل الحمل، ستة أشهر فهذا استنباط من جمع بين آيتين.

    القضية الرابعة في الاستنباط: الاستنباط بإعمال مفهوم المخالفة، وأنا كما قلت سابقاً: هذه أمثلة فقط، وإلا فالأنواع كثيرة، قد يأتينا خبر أو حكم له منطوق، وقد يستدل بعض العلماء من منطوقه بمفهوم له، ومن أشهر الأمثلة ما يذكر في كتب العقيدة، كالطحاوية وغيرها، ورد هذا المثال عن الشافعي رضي الله عنه، لما قال: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15]، جاءه رسالة من الصعيد عن هذه الآية؟ فقال: لما حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أنهم يعني: المؤمنين يرونه في الرضى.

    فهو الآن يقول: لما حجب الله الكفار في حال السخط عليهم، فالمعنى أن هناك أناساً يرونه في حال رضاه عنهم، وهم المؤمنون، وهذا الاستدلال بمفهوم المخالفة، وليس هذا دليل الرؤيا فقط، بل هذا أحد الأدلة، وهذا كما قلت: استنباط من إعمال مفهوم المخالفة.

    أقف عند هذا الحد، وأسال الله سبحانه وتعالى أن يعلمني وإياكم ما ينفعنا، وأن يقينا شر أنفسنا والشيطان.

    1.   

    الحروف المقطعة

    معنى الحروف المقطعة في أوائل السور

    فإن قيل: [ هل الحروف المقطعة معقولة المعنى]؟

    فيقال: الحروف المقطعة نلاحظ أننا نسميها حروفاً مقطعة ولا أحد يخالف أنها حروف.

    والحرف في كلام العرب لا معنى له، فلما يقول العربي: (ب، م، س، ق) ما لها معنى، هذا واحد، إذاً الحرف بذاته عند العرب ما له معنى.

    عندما يقول العربي: (حم، أو يقول: (سق) جمع حرفاً إلى حرف، فتشكل من هذا الحرف وهذا الحرف كلام، لكن لما يقول العربي: (ص) و(ق) و(د) ثم يقول: صدق، فكلمة (صدق) تتشكل منها معنى.

    فنلاحظ أن الحروف من حيث هي لا معاني لها، لكن إذا تركب منها كلام صار الكلام مفهومًا معلومًا، هذا واحد.

    كون الحروف المقطعة من المتشابه الكلي أو النسبي

    مسألة أخرى: هل الأحرف المقطعة من المتشابه الكلي أو من المتشابه النسبي؟ هذا من الاستطراد الذي ما ذكرته سابقاً، ونعيده هنا ونقول: إنه من المتشابه النسبي وليس من الكلي، الدليل على ذلك:

    أولاً: أني قلت لك إنه حرف، والحرف في لغة العرب لا معنى له، حتى لا تحتج عليّ وتقول: ما في القرآن شيء لا يعلم معناه, هذا رد على من قال: إنه موجود، قال: كما في الحروف المقطعة نقول: أصلاً هي حرف ما لها معنى أصلاً, أما أن نخرجها من قضية أنها كلمات لها معان, فدخلت في هذه القضية.

    ثانياً: أن السلف لا يتعرضون للمتشابه الكلي وهنا أقوال لـابن عباس و سعيد بن جبير و قتادة و عكرمة و عطاء و و.. إلى آخره ففعل السلف هذا في تعرضهم لتأويلها أياً كان دلالة على أنها خرجت من المتشابه الكلي وصارت في المتشابه النسبي, فإذاً عندما تقول أنت: الله أعلم بمرادها بالنسبة لك أنت, لكن ما تحكم على غيرك.

    فالخلاصة أنها ليس لها معنى؛ لأنها أحرف, وليست من المتشابه الكلي؛ لأن السلف تعرضوا لتفسيرها.

    المغزى من الحروف المقطعة

    يبقى أننا ننتبه إلى أن هذه أحرف لا معنى لها لكن لها مغزى، يعني: لها حكمة لها هدف, أي: جيء بها لمغزى.

    وأيضاً نلاحظ أن هذا المغزى اختلفوا فيه، لكن أصوب الأقوال فيه ما ذكره ابن كثير وهو الذي عليه المحققون أنه جيء بها للدلالة على التحدي بالقرآن, ولهذا غالب ما يرد بعدها شيء له علاقة بالقرآن أو بشأن من شؤون القرآن, مثل: أَلم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ[البقرة:1-2].. إلى آخره من الآيات فأغلبها، يأتي فيها ذكر الكتاب أو شيء يتعلق به, فدل على أن المراد من هذه الأحرف هي بنية الكلام الذي يتكلمون به والذي تحداكم الله سبحانه وتعالى به.

    هذا باختصار الذي ذكره ابن كثير.

    كيفية الجمع بين أقوال السلف في معنى الحروف المقطعة

    ستقول لي أنت: كيف نعمل بأقوال السلف؟ ابن عباس يقول: أَلم [البقرة:1], أنا الله أعلم, وله أقوال أخرى في غيرها وفي قول آخر أنه يتركب منها اسم الله, فـ (الر) مع (حم) مع ن , يتركب منها اسم الله الرحمن هذه أقوال موجودة في التفسير عن ابن عباس وعن غيرهم.

    فيقال ما ذكروه من باب العموم والتمثيل, وقد حقق ذلك الراغب الأصفهاني في مقدمة جامع التفاسير، وسورة الفاتحة والخمس الآيات الأولى من البقرة, لما ناقش أَلم [البقرة:1], ذكر نفس التحرير هذا: وأن السلف تفسيراتهم هذه جاءت على سبيل المثال لما تحتمل هذه الألفاظ من المعاني. فيقول: إن ابن عباس قال: الر أو الم: أنا الله أعلم, كان يمكن أن يقول: الألف من كذا, واللام من اللعن, والميم من كلمة أخرى ذكرها, يقول: لكنه اختار كلاماً شريفاً, ليبين أن هذه الأحرف يتركب منها هذا الكلام, وليس مراده أن الألف بمعنى الله فقط لا غير، وأن اللام بمعنى كذا.. إلى آخره, فأنت احملها على هذا المعنى وراجع كلام الراغب في هذا فقد حقق هذه القضية, وذكر أن جميع أقوال السلف ترجع إلى هذا.

    فيبقى الآن أن كل سؤال بعد ذلك نلاحظ أنه يخرج عن حد التفسير، مثلاً: لو جاء سائل فقال: لماذا الله سبحانه وتعالى جعل: (حم) في هذه السور ولم يجعل (حم) في تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ[المسد:1], ما قال: (حم تبت يدا أبي لهب ) تقول: هذا خارج التفسير, فإذاً غالب الأسئلة التي تأتي في الأحرف المقطعة خارج التفسير, وتدخل في: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7], بمعنى: لا يعلم حقيقة ما يؤول إليه إلا الله, يعني: لماذا جعل بعض السور تبدأ بالأحرف المقطعة بحرف، وبعضها بحرفين، وبعضها بثلاثة، وبعضها بأربعة هذه حكم, ولذلك كما قلت سابقاً: قضية الحكم الأصل فيها أن تكون من المتشابه الكلي ما دام ما عندنا فيها خبر.

    فهذا اختصار شديد جداً لقضية الأحرف المقطعة, لكن أهم شيء أحب أن نعلمه ونركز عليه هو أنه ما دام السلف تكلموا فيها، وقد ثبت ذلك عنهم، فإنها بذلك خارجة عن المتشابه الكلي.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718712

    عدد مرات الحفظ

    765788468