بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.
فقد أخذنا أن مصطلح التأويل في القرآن والسنة وفي أقوال السلف وكذلك عند اللغويين على معنيين:
المعنى الأول: بمعنى التفسير.
والمعنى الثاني: بمعنى ما تؤول إليه حقيقة الشيء.
وبناءً عليه فالفرق بين معنيي التأويل: أن التأويل بمعنى التفسير وهو بمثابة الشرح للكلام وبيان المعنى, وما تؤول إليه حقيقة الشيء هو نفس الشيء موجوداً في الخارج, فهذا الفرق بين معنيي التأويل على الصحيح؛ لأنه التأويل عندنا بمعنى: التفسير أو ما تؤول إليه حقيقة الشيء، والفرق بينهما واضح.
ثم ذكرت جملة من الآثار في إطلاق التأويل بمعنى التفسير, وبمعنى: ما تؤول إليه حقيقة الشيء.
ثم ذكرت المصطلح المتأخر الحادث بعد جيل السلف وهو: صرف اللفظ عن ظاهر إلى معنى مرجوح لقرينة تدل عليه, وذكرت بعض أقوال العلماء في تحرير هذا المصطلح وتعريفه: مثل كلام ابن حزم , وكلام أبي الوليد الباجي و الزاغوني و ابن الجوزي .
وذكرت أن سبب ظهور هذا المصطلح فيما يبدو المجاز, وأن العلاقة بين التأويل والمجاز أن المجاز أداة للمؤول؛ فكل من يقول بالمجاز فإنه يصل إلى التأويل.
ثم ذكرت أثر هذا المصطلح الحادث على نصوص الكتاب والسنة، وضربت مثالاً بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لـابن عباس , وكيف أن من شرحه وهو ابن الجوزي و ابن الأثير جعله في هذا المصطلح الحادث أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا لـابن عباس أن يعلمه صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معنى مرجوح لقرينة تدل عليه.
ونبهت على أن وجود هذا المصطلح في كتاب لسان العرب وتاج العروس ليس حجة لغوية؛ لأنهم أخذوه عن كتاب "النهاية في غريب حديث" لـابن الأثير ، و ابن الأثير شرح كلام الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه لـابن عباس على هذا المصطلح الحادث وهو لا شك خطأ وليس بصواب.
ثم ذكرت من آثار هذا المصطلح أن جملة من العلماء طلبوا الفرق بين التأويل والتفسير, وكان في كلامهم نقولات حرصت أن أذكرها؛ لكي نعرف أنه بالفعل يوجد إشكالية عند هؤلاء العلماء؛ فجعلتهم يبحثون عن الفرق بين التأويل والتفسير, وإن كان ولله الحمد لما اتضح لنا أن قضية التفسير والتأويل معروفة عند السلف وعند اللغويين فهذا يبين أن كل ما ذكروه لم يأخذوه لا بما ورد اللغة ولا بما ورد عند السلف, ولو أخذوا به ما صار مثل هذا العناء من أجل التفريق بين التفسير والتأويل.
فصار الضابط عندنا في التفريق هو مفهوم التأويل عند السلف واللغويين وفي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وضربت مثالاً بكلام الماتريدي : وأن ما سماه تأويلاً فإنه في النهاية يرجع إلى معنى التفسير؛ لأن فيه بياناً، فتسميته مجرد تخصيص وهو تحكم لا دليل عليه, وأغلب هذه التفريقات كما ذكرت سابقاً هي من باب التخصيص الذي ليس عليه دليل لا من نقل ولا من عقل ولا من لغة, فرجع الأمر إلى مصطلح الكتاب والسنة والسلف واللغويين.
ثم ذكرت المصطلح الحادث هذا لما نريد أن نطبقه على بعض الأمثلة فانطباقه لا يعني صحة هذا المصطلح؛ لأنه في النهاية يرجع إلى قضية التفسير فيما لو قدمنا معنى مرجوحاً على معنى راجح وكان هو المراد للمتكلم فإنه راجع في النهاية إلى مراد المتكلم وهو التفسير, فهذا المصطلح يمكن أن يعود إلى المصطلح الصحيح لكن يقع الإشكال في أنه استخدم للتحريف؛ فوقع فيه تحريف في كتاب الله، وفي سنة رسوله كما لاحظنا في تفسير كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وشرحه, حيث جعل المراد به هذا المصطلح الحادث, وهذا نوع من التحريف في شرح كلام الله ورسوله.
وهنا سنتكلم سريعاً عن القضايا أخيرة في التأويل, وسأختصر قدر الإمكان, ثم أيضاً سأدخل في الاستنباط, وسأختصر فيه أيضاً.
والتأويل بالمصطلح الحادث لو نظرنا إليه هل له حد يمكن أن يقف عنده؟ المرجع فيه كما نلاحظ العقل, يعني: فلان رأى أن هذا المعنى الظاهر غير مراد؛ فذهب يبحث له عن المعنى المراد بزعمه؛ فرأى أن المعنى الآخر هو المراد ثم بدأ يذكر احتجاجه لذلك, فهذا هو الغالب عليه, فما دام أن المصطلح الحادث مرتبط بالعقل يعني: بالرأي المجرد دون النظر إلى تأصيلات السلف وكلامهم ولا كتاب الله وسنة رسوله؛ فقطعاً لن يكون له حد.
لنأخذ مثالاً عند أحد المؤولة يبين لنا إشكالية التأويل.
ابن عطية رحمه الله تعالى وأذكر النص؛ كي نتدارسه, لما جاء عند قضية التأويل نلاحظ أنه لما ذكر هذه القضية وعنده إحساس أنه يمكن أن يتسلط أحد على نصوص الكتاب والسنة ويحرفها إلى معان غير مرادة بسبب التأويل.
يقول ابن عطية في تفسر الميزان في قوله: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ[الأعراف:8], يقول: بعد أن ذكر مذهبين في الميزان.. (المذهب الأول: أنه مجاز استعير به اللفظ للعدل.
والمذهب الثاني: أنه ميزان حقيقي له كفتان, كما هو معروف من موازين الناس, وأنه توزن به الأعمال, يقول: وهذا القول أصح يعني: إنه ميزان حقيقي من الأول من ثلاث جهات أولها: أن ظواهر كتاب لله عز وجل تقتضيه, وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ينطق به, ومن ذلك قوله لبعض الصحابة وقد قال له: ( يا رسول الله أين أجدك في يوم القيامة؟ فقال: اطلبني عند الحوض, فإن لم تجدني فعند الميزان ), قال: ولو لم يكن الميزان مرئياً محسوساً لما أحاله رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطلب عنده.
وجهة أخرى: أن النظر في الميزان والوزن والثقل والخفة المقترنات بالحساب لا يفسد شيء منه ولا تختل صحته, وإذا كان الأمر كذلك فلم نخرج من حقيقة الأمر إلى مجازه دون علة؟
وجهة ثالثة: وهي أن القول في الميزان هو من عقائد الشرع الذي لم يعرف إلا سمعاً, وإن فتحنا فيه باب المجاز غمرتنا أقوال الملحدة والزنادقة في أن الميزان والصراط والجنة والنار والحشر.. ونحو ذلك إنما هي ألفاظ يراد بها غير ظاهرها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فينبغي أن يجرى في هذه الألفاظ إلى حملها على حقائقها).
إذاً نلاحظ أن قضية التأويل فيها إشكالية عندهم، ويقول: إن الميزان من عقائد الشرع الذي لم يعرف إلا سمعاً, ولو فتحنا له المجاز فيها؟ كما قال: غمرتنا أقوال الملحدة والزنادقة في المعاد، يعني: في القول في المعاد، هل هو حقيقة أو غير حقيقة.
ولو تستقرئ كلام ابن عطية الاعتقادي ستجده استخدم التأويل في مكان وتركه هنا.
لننظر أحد الفلاسفة الذين عاشوا بين المسلمين وتلقوا علومهم من المسلمين لكنه مبلي بالفلسفة هو معروف ابن رشد الحفيد ؛ استخدم نفس التأويل الذي استخدمه الأشاعرة وطعن عليهم في نفس المبدأ, قال لهم: أنتم تستخدمون هذا المبدأ العقلي وترفضونه على غيركم ممن يستخدمه في نفس الطريقة, فالذي كان ابن عطية يحذر منه وقع فيه.
وهذا النص من كتاب "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" الذي يبين بالفعل أن قضية التأويل في المصطلح الحادث كان بالفعل فتح باب خطير جداً, يقول بعد أن ذكر أن الشريعة على ثلاثة أقسام: ظاهر لا يجوز تأويله, قال: وظاهر يجب على أهل البرهان تأويله وحملهم إياه على ظاهره كفر, وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة, ومن هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول.
ولن أشرح هذا الكلام؛ لأنه كلام يطول, لكن نلاحظ كل ما يقوله من أصله إلى نهايته كله باطل.
ثم قال: والصنف الثالث من الشرع متردد بين هذين الصنفين، وهما: ظاهر لا يجوز تأويله, وظاهر قال: يجب تأويل على أهل البرهان، الذين هم يعني: أهل الفلسفة العقل يجب عليهم تأويله, وحملهم إياه على ظاهره كفراً, يعني: لو واحد من أهل العقول الذي هو يظنها حمله على ظاهره فيقول: كفر, وتأويل غير أهل البرهان وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة, وهذا تحكم وتقسيمات فلسفية.
الصنف الثالث: وهو الذي أريده هنا قال: والصنف الثالث من الشرع: متردد بين هذين الصنفين يقع فيه شك فيلحقه قوم ممن يتعاطى النظر بالظاهر الذي لا يجوز تأويله, يعني: الذين يتعاطون النظر مثل الأشعرية، قال: يلحقه بالظاهر الذي لا يجوز تأويله, مثل ما فعل ابن عطية , ويلحقه آخرون بالباطن الذي لا يجوز حمله على الظاهر.
ثم قال: فإن قيل: فإذا تبين أن الشرع في هذا على ثلاث مراتب, فمن أي المراتب الثلاث هو عندكم ما جاء في صفات المعاد وأحواله, وهذا هو الذي كان ابن عطية يتخوف منه, قال فنقول - والكلام لـابن رشد - : إن هذه المسألة الأمر فيها بين أنها من الصنف المختلف فيه, وذلك أنا نرى قوماً ينسبون أنفسهم إلى البرهان - الذي هو الدليل العقلي - يقولون: إن الواجب حمله على ظاهرها إذ كان ليس هناك برهان يؤدي إلى استحالة الظاهر فيها، وهذه طريقة الأشعرية، كذا في النص.
وقوم آخرون ممن يتعاطون البرهان يتأولونها؛ إذاً يدخلون عليها مصطلح التأويل الحادث, وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافاً كثيراً, وفي هذا الصنف أبو حامد معدود هو وكثير من أهل التصوف, و أبو حامد الذي هو الغزالي المعروف.
فنلاحظ أن الذي كان يتخوف منه ابن عطية هو بالحقيقة واقع؛ ولذا ما تقرأ في كلام ابن سينا وهو من الفلاسفة ستجد فيه تأويلاً لحقائق المعاد, فالذي جعل هذا الفيلسوف يستطيل هو نفس المبدأ الذي استعمله ابن عطية في غير موطن المعاد؛ لأن ابن عطية رفضه في المعاد خوفاً أن تغمره أقوال الملاحدة والزنادقة، وهذا الذي كان يخافه وقع, والذي وقع بسببه استخدم نفس المصطلح أو نفس العمل الذي يعمله ابن عطية مع آيات الله في الصفات ومع الإيمان ومع غيره من الآيات الأخرى استخدمه هؤلاء الفلاسفة في المعاد, فوقع التحريف في كلام الله بسبب هذا المصطلح الحادث.
ومن أراد كتاب مثال لاستخدام هذا المصطلح الحادث استخداماً شنيعاً, حتى أكاد أجزم أنه ما فيه آية فسرت على القول الصحيح أرجو ألا أكون قد أخطأت, هو كتاب مجازات القرآن للشريف الرضي الرافضي المعتزلي "مجازات القرآن" مطبوع وموجود, ما في آية تعرض لها إلا واستخدم فيها المجاز وأولها تأويلاً غريباً جداً, إما أن يستخدمها على مجاز الحذف وإلا على الاستعارة، وأغلب شيء عنده فيها إذا وجد الحذف هي الاستعارة والكناية، ولا يوجد آية سلمت منه؛ ففي قوله تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ[ق:30], نفى القول، ليس قول الله عنده منفي أصلاً, لكن قول جهنم, ما في آية فيها إثبات العقل والإحساس في الجمادات إلا وألها، ومنها هذه الآية: فأولها يوم نقول لخزنة جهنم, على مجاز الحذف عنده, أو يوم نقول لجهنم فيما لو كانت تقول لقالت: قد امتلأت, والكلام الطويل ستجده في هذا الكتاب حتى كما قلت لا تكاد آية مما ذكره تسلم, وله أيضاً كتاب آخر لكن في مجازات القرآن طبعاً لم أقرأ الثاني، لكن هذا الأول يصدع رأسك وأنت تقرأ! تستغرب! ما في آية إلا وأولها هذا التأويل الباطل، الذي هو على نفس المفهوم المتأخر.
والذي جعلني أقول هذا كي أنبه أن القضية ما هي قضية المصطلح وانتهى, القضية كان لها آثار شديدة جداً كان لها آثار علمية قوية جداً وانحرافات قوية جداً.
هنا آية سورة آل عمران، هذه الآية مرتبطة بقضية التأويل, وكثير ممن تعرض لهذه الآية يحمل التأويل على نفس المصطلح الحادث, وإذا حمله على نفس المصطلح الحادث؛ تجي الإشكالات المتعاقبة التي ذكرت بعضها.
فنحن ندع هذا ونحاول أن نعرف ما هو التفسير الصحيح لهذه الآية باختصار:
الله سبحانه وتعالى هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ[آل عمران:7], هذا واحد، هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ[آل عمران:7], اثنين، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ[آل عمران:7], قال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ[آل عمران:7].
بناءً على ما تأصل عندنا من أن التأويل له معنيان:
المعنى الأول: التفسير, لنجعل الآن وما يعلم تأويله أي تفسيره وهو الوجه الأول عند السلف وقال به ابن عباس و مجاهد , وكذلك ابن قتيبة وغيرهم, يعني: أن التأويل بمعنى التفسير, إذا قلنا: التأويل بمعنى التفسير وهو أحد وجهي التفسير عند السلف, نحن قلنا: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ[آل عمران:7], بمعنى: تفسيره, لنأخذ الآية من بدايتها: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ[آل عمران:7], إذاً (محكمات) هنا بمعنى معلومات واضحات, ما فيها إشكال، هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ[آل عمران:7], يعني: وقع فيها إشكال, ووقع فيها خفاء.
قال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ[آل عمران:7], يعني: الذي يوقع في الخفاء والإشكال: ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ[آل عمران:7], يعني: لهم مقاصد هي: ابتغاء الفتنة، وابتغاء التأويل، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ[آل عمران:7], يعني: تأويل هذا الخفي الذي يشكل، إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[آل عمران:7], يعني: يجوز العطف هنا, إذا قلنا أن التأويل بمعنى التفسير؛ إذاً إذا كان التأويل بمعنى التفسير، والناس فيه ثلاث فرق: فرقة لا تعلمه فتسأل العلماء حتى تعلم, وفرقة لا تعلمه وتقع في الزيغ؛ لأنها تتبع هذا المتشابه, وفرقة تعلمه وهم العلماء, فهناك فرقة تعلمه.
بناءً على هذا ليس في القرآن ما لا يعلم معناه؛ فإذاً المعنى معروف من حيث الجملة؛ لكن قد يقع خفاء على بعض الناس.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر