بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنختم ما يتعلق بالنوع الرابع والستين في إعجاز القرآن.
ذكر السيوطي رحمه الله تعالى في نهاية هذا المبحث مجموعة من التنبيهات، لعلنا نأخذ بعض ما ذكره بإشارات سريعة.
التنبيه الأول ذكره في القدر المعجز من القرآن، فالله سبحانه وتعالى تدرج بالتحدي من القرآن إلى عشر سور، إلى سورة، وقوله سبحانه وتعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطور:34] في سورة الطور، وهي سورة مكية، استنبط منها بعض العلماء أنه يجوز أن يكون التحدي أيضاً بآية، وهذا عندي فيه نظر؛ لأن الأولى البقاء على ما نص عليه القرآن صراحة وهو بسورة، والسبب هو أن التحدي كائن بقطعة لها مبدأ ولها خاتمة، وتكون في موضوع أو في موضوعات شتى، أما الآية فنحن نعلم أن الآيات بعضها يكون مرتبطاً ببعض من جهة اللفظ، أي: من جهة الإعراب، وبعضها قد يكون كلمة، وبعضها قد يكون من الأحرف المقطعة بناءً على اختلاف العادين، فالكوفيون يعدون مثلاً (الـم) آية، فهذا الاختلاف الكائن في عد الآي يجعلنا نقول: إن مثل هذه الآيات لا تدخل ضمن ما يقال بحد الإعجاز، وإنما حد الإعجاز هو المنصوص عليه بأن يؤتى بسورة من مثله، وهذه التي يقع فيها حد الإعجاز، وهي التي يمكن أن يتبين بها.
أيضاً أقول: إنه ما سُكت عنه فإنه يسكت عنه، فالله سبحانه وتعالى لم يشر إلى ما هو أقل من سورة، وإن كان قوله: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [الطور:34]، مطلقاً، لكن نقول: هذا مجمل بينه ما جاء بعده؛ لأن هذه سورة الطور مكية، وهي من أوائل ما نزل بمكة، فجاء بعدها جملة من السور تبين أن المراد بالحديث إما أن يكون بكل القرآن، وإما أن يكون بعشر سور منه، وإما أن يكون بسورة كاملة؛ فهذا عندي أولى من أن يقال: هل يكون التحدي بأقل من سورة أو لا؟
التنبيه الثاني: ذكر السيوطي رحمه الله أن أهل العلم اختلفوا هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة؟ وهذه أيضاً مسألة من المسائل التي يكون فيها نوع من فلسفة وإشكال، نعم يعلم ضرورة لمن نزل عليهم الخطاب؛ لأن القرآن نزل بلغتهم وهم كانوا في تلك الحال أحسن ما يكونون من البلاغة والفصاحة وبيان المعاني، أما غيرهم ممن جاء بعدهم فهو يعلمه استدلالاً.
التنبيه الثالث: ذكر تفاوت القرآن في مراتب الفصاحة بعد اتفاقهم على أنه في أعلى مراتب البلاغة، وهذه أيضاً قضية مهمة جداً أن ننتبه لها؛ لأن بعض العلماء يأنف أن يقول: إن في القرآن فصيح وأفصح، وهذا إذا تأملناه نجد أنه مخالف لمنهاج كلام العرب، خصوصاً أن كلام الله سبحانه وتعالى نزل بلسانهم؛ فإذاً نحن نقول: إنه في الرتبة العليا من الفصاحة، ثم بعد ذلك قد يكون فيه ما هو أفصح، وبعضه أفصح من بعض، ولكن لما نقول: هذا أفصح من هذا؛ لا يعني أن الثاني يكون في رتبة ليست من الفصاحة بل هو في رتبة الفصاحة، ولكن يتفاوت في هذه المرتبة، وهذه مسألة أحياناً تحدث إشكالات عند بعض من يتكلم عنها، وهي لا تحتاج إلى مثل هذا الإشكال ما دام أن القرآن كله في مرتبة واحدة من الفصاحة، ونزل على سنن العرب.
ويمكن أن يستدل على التفاضل في الفصاحة بأحاديث التفاضل، فإن بعض القرآن أفضل من بعض، وهذا منصوص عليه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا يمكن أن يقاس عليه..
التنبيه الرابع الذي ذكره كون التحدي هل وقع للإنس دون الجن، أو أنه وقع لهم جميعاً؟ ونص الآية في هذا واضح قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ [الإسراء:88]، ومعنى ذلك أن التحدي قائم على المكلفين جميعاً بنص هذه الآية؛ فلا نحتاج إلى نأتي ببعض التمحلات أو التأولات، وكون الجن يعرفون العربية أو لا يعرفونها، فلو كانوا ما يعرفون العربية فكيف قص الله علينا قصة النفر الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وسمعوا القرآن فآمنوا به؟! لكن لا يلزم كون الجن يعلمون العربية أن نقول: هل هم أفصح من الإنس أو ليسوا بأفصح؟ وهذه مسألة لا يمكن قياسها.
وإذا كنا نؤمن بما يقال -وإن كان فيه نظر-: إن ما من شاعر من شعراء العرب إلا ومعه شيطان أو جني يعينه على الشعر، وهذا يدل على براعة الجن لو ثبت مثل هذا؛ فإذاً: لا نحتاج إلى مثل هذا الأمر.
وأيضاً مما ذكره فيما يتعلق بالتنبيهات التنبيه السابع وهو هل يقال: إن غير القرآن من كلام الله معجز كالتوراة والإنجيل؟ وهذه مسألة مهمة ننتبه لها؛ لأن بعض الناس يغفل عن هذه القضية، فيقع عنده إشكالات علمية أو التباسات، فيذهب بادي الرأي إلى أن كل كلام لله معجز، فيظن أن التوراة معجز وأن الإنجيل معجز، وهذا ليس بصحيح وليس بلازم؛ لأننا إذا قلنا بالمعجز المتحدى به؛ فلم يكن معجزاً متحدى به إلا القرآن فقط، وإذا كنا ننظر إلى مجال التحدي فلم يقع تحدي بغير القرآن من كتب الله السابقة.
لكن إن قلنا: إن فيه أموراً أخرى تعد عندنا في القرآن معجزة مثل الإخبار بالغيب، إذا قلنا: إنه من أنواع الإعجاز؛ فهذا لا يختص بالقرآن؛ فجميع كتب الله سبحانه وتعالى فيها إخبارات بالغيب، وأهم إخبار بالغيب في كتب الله سبحانه وتعالى السابقة هو الإخبار ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذا نقول: إن كون المصدر واحداً، أي: الذي أنزل الإنجيل والتوراة والقرآن هو الله سبحانه وتعالى، فكونه المصدر واحداً فإنها قطعاً ستتفق في الأمور الإخبارية، فالخبر لن يتخلف ولن يتغير، سواء كان في التوراة أو كان في الإنجيل أو كان في القرآن، فلا يتصور أن يذكر مثلاً في الإنجيل أو في التوراة أن أبوب الجنة عشرة، ثم يأتي أن أبواب الجنة في القرآن ثمانية، لا يمكن أن يتخلف، أو أن أبواب النار سبعة؛ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ [الحجر:44]، ثم تكون أبواب النار في الإنجيل أو في التوراة مخالفة لهذا العدد؛ لا يمكن، لأن المخبر واحد والخبر عن شيء واحد؛ فهو سبحانه وتعالى إذا أخبر في أحد كتبه فالخبر واحد لا يتغير؛ فإذا نظرنا إلى هذه الوجوه وقلنا: إنها تدخل في الإعجاز.
فإذاً: لا يتميز القرآن عنها؛ لأنها كلها من كلام الله سبحانه وتعالى، وإنما يتميز بوقوع التحدي فيه، ويتميز أيضاً بكونه معجزة باقية إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى برفع هذا الكتاب في آخر الزمان.
وهنا عندنا مسألة: وهي: أن علم الإعجاز ليس من علوم التفسير، بل هو من علوم القرآن، خلافاً للزمخشري رحمه الله تعالى؛ لأن الزمخشري يرى أن علم البلاغة لازم للمفسر؛ ولهذا نقول: إن الذي يكون علم البلاغة بحقه لازماً هو من يبحث في إعجاز القرآن، فمن أراد أن يبين بلاغة القرآن فيلزم له ما ذكره الزمخشري ، لكن المفسر بمعنى المبين للمعاني لا يلزمه علم البلاغة.
والأصل في إعجاز القرآن أنه من العلوم العقلية، وما دام قلنا: إنه ليس من علوم التفسير، وهو من العلوم العقلية فإنه يرتبط بعلم البلاغة، وهو أصل في بروز هذا العلم، فعلم البلاغة ما برز إلا من خلال البحث عن إعجاز القرآن، وأيضاً له ارتباط ببدائع القرآن الذي هو النوع الثامن والخمسون، فله ارتباط بهذه العلوم وبهذه الأنواع التي ذكرها، ولا يظهر أن له علاقة بنزول القرآن وما يتعلق به، أو بالأحرف السبعة وما يتعلق بها من أداء، ولهذا لو نظرنا إلى ما ذكره السيوطي فيما يتعلق بالبلاغة، فقد أخرجناه من علوم القرآن، وجعلناه فضلة من علوم القرآن؛ فمعنى ذلك أنه يتشكل عندنا إعجاز القرآن في أن نجعله كوحدة مستقلة من أنواع علوم القرآن؛ ومثل هذا نزول القرآن، فقد أدخلنا فيه كيفية النزول، وأدخلنا فيه أسباب النزول، والأحرف السبعة، وأدخلنا فيه أيضاً ما نزل بلغة قريش، وأدخلنا فيه المعرب، وهي مجموعة مما يتعلق بالنزول جعلناها بمسمى النزول، فبدلاً من أن ننوع هذه الأنواع نقول: النوع العام هو علم النزول، وتدخل فيه هذه الأنواع التفصيلية المذكورة.
وإعجاز القرآن إما أن نجعله وحدة مستقلة مثلما نقول: نزول القرآن، وإما أن ندخله ضمن هذه الأنواع، وهذا يحتاج إلى تأمل، ويمكن أن نجمع كل ما يتعلق بالبلاغة مع إعجاز القرآن؛ لتكون كوحدة مستقلة، فهذا ما يتعلق بموضوع إعجاز القرآن..
ومن أبرز فوائد هذا العلم هو تمييز كلام الله سبحانه وتعالى عن كلام غيره، وذلك إذا كنا ننظر إلى المسلك الأدبي، والمسلك الكلامي الذي هو: ثبوت صحة أن هذا القرآن من عند الله سبحانه وتعالى، وثبوت صدق النبي صلى الله عليه وسلم في كون هذا القرآن من عند الله سبحانه وتعالى.
السؤال: [هل تحدى الله عز وجل العرب بالمعاني العجيبة في القرآن]؟
الجواب: ما فيه إشكال، إن كونهم يتعجبون مما جاء به من معاني، لا يعني أنهم تُحدوا بالمعاني؛ لأننا لو قلنا: إنهم تحدوا بالمعاني فإنهم قد طولبوا ببعض الأمور التي ليست بمقدورهم، ومثله الإخبارات بالغيب فليست بمقدورهم، فلذا نبقى على أن المراد بذلك الرصف العجيب، والنظم الغريب الذي جاء به القرآن خلافاً للمعهود عندهم مع أنه من كلامهم، فقد خالف الموزون، وخالف المنثور من كلامهم، ومن غير نظر للمعنى، وهذا هو الصواب، فالمعنى هنا صار تبعاً للفظ من جهة، ثم اللفظ تبع المعنى من جهة أخرى، لكن المقصد في أن يأتوا بحديث مثله أي: من جهة سبق الألفاظ، ولا بد أن تكون الألفاظ دالة على معاني، ولكن ليس المراد بأنهم يأتون بنفس المعاني التي وردت في القرآن، بل يأتون بمعان أخرى ويأتون بنفس السبك، فهذا هو الذي لا يستطيعون، وهكذا هم فهموا التحدي، وإلا لو كان طلب منهم أن يأتوا بمعان مثل معاني القرآن؛ لاحتجوا بأنهم ليس عندهم العلم بمثل هذا، ولقالوا: لو احتججت علينا بما نعلم لباريناك فيه، أما أن تحتج علينا بهذا الذي لا نعلمه فإننا لا نستطيع.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر