بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
[ ذكر الأخبار التي غلط في تأويلها منكرو القول في تأويل القرآن.
قال الطبري رحمه الله: فإن قال لنا قائل: فما أنت قائل فيما حدثكم به العباس بن عبد العظيم ، قال: حدثنا محمد بن خالد بن عثمة بسنده عن عائشة رضي الله عنها، قالت: (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفسر شيئاً من القرآن إلا آياً بعدد علمهن إياه جبريل).
وقال: حدثنا أبو بكر محمد بن يزيد الطرسوسي ، قال: أخبرنا معن بن عيسى ، عن جعفر بن خالد ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفسر شيئاً من القرآن إلا آياً بعدد علمهن إياه جبريل عليه السلام).
وحدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال: حدثنا حماد بن زيد ، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر ، قال: لقد أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله ، والقاسم بن محمد ، و سعيد بن المسيب ، و نافع .
وحدثنا محمد بن بشار ، قال: حدثنا بشر بن عمر ، قال: حدثنا مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، قال: سمعت رجلاً يسأل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا أقول في القرآن شيئاً.
حدثنا يونس ، قال: حدثنا ابن وهب ، قال: أخبرني مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب : أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن، قال: أنا لا أقول في القرآن شيئاً.
وحدثني يونس ، قال: أخبرنا ابن وهب ، قال: سمعت الليث يحدث عن يحيى بن سعيد ، عن ابن المسيب : أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن.
وحدثنا ابن حميد ، قال: حدثنا حكام ، قال: حدثنا سفيان ، عن هشام ، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن آية، قال: عليك بالسداد؛ فقد ذهب الذين علموا فيما أنزل القرآن.
وحدثني يعقوب ، قال: حدثنا ابن علية ، عن أيوب و ابن عون ، عن محمد قال: سألت عبيدة عن آية من القرآن، فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل القرآن، فاتق الله، وعليك بالسداد.
وحدثني يعقوب ، قال: حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة : أن ابن عباس سئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها.
وحدثني يعقوب ، قال: حدثنا ابن علية ، عن مهدي بن ميمون ، عن الوليد بن مسلم ، قال: جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله ، فسأله عن آية من القرآن، فقال له: أحرج عليك إن كنت مسلماً لما قمت عني، أو قال: أن تجالسني.
وحدثني العباس بن الوليد ، قال: أخبرني أبي، قال: حدثنا عبد الله بن شوذب ، قال: حدثني يزيد بن أبي يزيد ، قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع.
وحدثنا محمد بن المثنى ، قال: حدثنا محمد بن جعفر ، قال: أخبرنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، قال: سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا تسألني عن القرآن، وسل من يزعم أنه لا يخفى عليه شيء منه، يعني عكرمة .
وحدثنا ابن المثنى ، قال: حدثنا سعيد بن عامر ، عن شعبة ، عن عبد الله بن أبي السفر ، قال: قال الشعبي : والله ما من آية إلا قد سألت عنها، ولكنها الرواية عن الله تعالى.
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال: حدثنا ابن علية ، عن صالح -يعني ابن مسلم - قال: حدثني رجل، عن الشعبي ، قال: ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرأي.
وما أشبه ذلك من الأخبار.
قيل له: أما الخبر الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يفسر من القرآن شيئاً إلا آياً بعدد، فإن ذلك مصحح ما قلنا من القول في الباب الماضي قبل، وهو: أن من تأويل القرآن ما لا يدرك علمه إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك تفصيل جمل ما في آيه من أمر الله ونهيه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وسائر معاني شرائع دينه، الذي هو مجمل في ظاهر التنزيل، وبالعباد إلى تفسيره الحاجة، لا يدرك علم تأويله إلا ببيان من عند الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أشبه ذلك مما تحويه آي القرآن من سائر حكمه الذي جعل الله بيانه لخلقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يعلم أحد من خلق الله تأويل ذلك إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتعليم الله ذلك إياه بوحيه إليه، إما مع جبريل، أو مع من شاء من رسله إليه. فذلك هو الآي التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسرها لأصحابه بتعليم جبريل إياه، وهن لا شك آي ذوات عدد.
ومن آي القرآن ما قد ذكرنا أن الله جل ثناؤه استأثر بعلم تأويله، فلم يطلع على علمه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، ولكنهم يؤمنون بأنه من عنده، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.
فأما ما لا بد للعباد من علم تأويله فقد بين لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم ببيان الله ذلك له بوحيه مع جبريل. وذلك هو المعنى الذي أمره الله ببيانه لهم، فقال له جل ذكره: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44].
ولو كان تأويل الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يفسر من القرآن شيئاً إلا آياً بعدد، وهو ما يسبق إليه أوهام أهل الغباء، من أنه لم يكن يفسر من القرآن إلا القليل من آيه، واليسير من حروفه، كان إنما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم الذكر ليترك للناس بيان ما أنزل إليهم، لا ليبين لهم ما أنزل إليهم.
وفي أمر الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم ببلاغ ما أنزل إليه، وإعلامه إياه أنه إنما نزل إليه ما أنزل ليبين للناس ما نزل إليهم، وقيام الحجة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ وأدى ما أمره الله ببلاغه وأدائه على ما أمره به، وصحة الخبر عن عبد الله بن مسعود بقيله: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعلم معانيهن والعمل بهن، ما ينبئ عن جهل من ظن أو توهم أن معنى الخبر الذي ذكرنا عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لم يكن يفسر من القرآن شيئاً إلا آياً بعدد، هو أنه لم يكن يبين لأمته من تأويله إلا اليسير القليل منه.
هذا مع ما في الخبر الذي روي عن عائشة من العلة التي في إسناده، التي لا يجوز معها الاحتجاج به لأحد ممن علم صحيح سند الآثار وفاسدها في الدين؛ لأن راويه ممن لا يعرف في أهل الآثار، وهو: جعفر بن محمد الزبيري ].
بعد أن قال المؤلف: (فسد قول من أنكر تفسير المفسرين من كتاب الله وتنزيله ما لم يحجب عن خلقه تأويله)، ذكر بعض الآثار التي اعتمد عليها من منعوا التفسير، وأول أثر ذكره هو الأثر المنسوب إلى عائشة حيث قالت: (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفسر شيئاً من القرآن إلا آياً بعدد علمهن إياه جبريل ).
والإمام في هذا الأثر بين أنه يوافق ما ذهب إليه من أن ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لو صح هذا الحديث فإنه مما يرتبط بما ذكره من تأويل الأحكام، كما أشار لذلك في قوله: (وذلك تفصيل جمل ما في آيه من أمر الله ونهيه..) إلى آخر ما ذكره.
ثم بين أن بعض آيه قد استأثر الله بعلم تأويلها.
وقلنا: إن التأويل هنا بمعنى ما تئول إليه حقيقة هذه الآيات، وليس المقصود به المعاني، فلو صح الحديث فإنه لا يدل على عدم جواز تفسير القرآن، وإنما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر ما تحتاج الأمة إلى تفسيره، وإلا لبطل قوله سبحانه وتعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ[النحل:44]، إذا كان لم يبين ما تحتاج الأمة إلى بيانه، وهذا الموضع من المواضع التي نقد فيها المؤلف الإسناد، فالمؤلف نقد في المقدمة أربعة آثار تقريباً.
قال: [ وأما الأخبار التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه من التابعين، بإحجامه عن التأويل، فإن فعل من فعل ذلك منهم كفعل من أحجم منهم عن الفتيا في النوازل والحوادث، مع إقراره بأن الله جل ثناؤه لم يقبض نبيه إليه إلا بعد إكمال الدين به لعباده، وعلمه بأن لله في كل نازلة وحادثة حكماً موجوداً بنص أو دلالة.
فلم يكن إحجامه عن القول في ذلك إحجام جاحد أن يكون لله فيه حكم موجود بين أظهر عباده، ولكن إحجام خائف ألا يبلغ باجتهاده ما كلف الله العلماء من عباده فيه.
فكذلك معنى إحجام من أحجم عن القيل في تأويل القرآن وتفسيره من العلماء السلف إنما كان إحجامه عنه حذاراً ألا يبلغ أداء ما كلف من إصابة صواب القول فيه، لا على أن تأويل ذلك محجوب عن علماء الأمة، غير موجود بين أظهرهم ].
الخلاصة أن نقول: إن إحجام هؤلاء كان مذهباً خاصاً، ولم يكن ذلك؛ لأنه لا يجوز تأويل القرآن، وإنما هو مذهب خاص لهؤلاء، ولهذا لو تأملت في الأثر الأول قول عبيد الله بن عمر ، قال: أدركت فقهاء المدينة، وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله ، و القاسم بن محمد ، و سعيد بن المسيب ، و نافع ، فهؤلاء كلهم تابعون.
أما الصحابة ففيهم مفسرون مثل أبي بن كعب .
فإذاً: هذا الإحجام هو في طبقة التابعين.
والرواية الأخرى أيضاً عن سعيد وهو من التابعين أيضاً وكلهم مدنيون، وأما الرواية التي بعدها قال: حدثنا يونس ، قال: حدثنا ابن وهب أيضاً عن سعيد بن المسيب ، والرواية الثالثة أيضاً عن سعيد بن المسيب.
والرواية الرابعة عن عبيدة السلماني ، وهو من الكوفة، وإن كان له أيضاً مشاركة عند المدنيين في أول الأمر أنه سأله عن آية فقال: عليك بالسداد، قد ذهب الذين علموا فيما أنزل القرآن، ثم رواية أخرى نفسها عن عبيدة أنه قال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيما أنزل القرآن، فاتق الله، وعليك بالسداد.
وكذلك ابن أبي مليكة روى رواية عن ابن عباس أنه توقف في آية، لكن ابن عباس لم يكن مذهبه التوقف في جميع الآيات بل هو من أكثر الصحابة تفسيراً.
كذلك ما رواه عن طلق بن حبيب لما جاء إلى جندب بن عبد الله ، فـجندب بن عبد الله لم يعترض على سؤاله عن الآية، وإنما كان له موقف من طلق نفسه كما نبه على ذلك سابقاً وهو أن طلقاً ممن يقول بالإرجاء، فكان جندب يتجنبه من أجل هذا، وليس لأن جندب بن عبد الله توقف عن التفسير.
الرواية الثالثة عن الشعبي أنه قال: والله ما من آية إلا سألت عنها ولكنها رواية عن الله تعالى، ومع ذلك نجد روايات عن الشعبي في التفسير، وفسر آيات.
الرواية الأخرى أيضاً عن الشعبي ، وذكر فيها الرأي، ولكن الرأي الذي يريده الشعبي هو الرأي المذموم، وليس الرأي المحمود.
فالخلاصة: أن جملة من ذكر عنهم في هذه الآثار عدم القول في التفسير ليس المراد منه التوقف المطلق، أو أنهم يمنعون غيرهم أن يفسروا القرآن، وإنما هو مذهب خاص لهم من باب التوقي والاحتراز في كلام الله سبحانه وتعالى، وهذا ما نص عليه المؤلف، وأنهم توقفوا خشية ألا يصلوا إلى المعنى الصواب، وهذا هو عمل العلماء الراسخين أنهم إذا نزلت بهم نازلة أو معضلة أو آية لا يعرفون معناها فإنهم يتوقفون فيها.
فإذاً لا نقول: إن توقف هؤلاء أو إحجامهم عن التفسير دلالة على أنه لا يجوز تفسير القرآن؛ لأنه قد فسر القرآن غيرهم، وفسره بعض الصحابة وبعض التابعين.
وفسره كثير ممن كان في عصرهم، فلو احتج هؤلاء الذين أشار إليهم المؤلف إشارة بهذا الأثر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ضعيف لا يحتج به فإن له محملاً من الصحة على وجه صحيح، ولو احتج هؤلاء بما ورد عن بعض التابعين من التوقف في التفسير، فنقول: هذا التوقف مذهب خاص لهم، وهو من باب التورع عندهم، ولكن لا يعني أنه لم يرد عنهم تفسير ألبتة، كما أنهم لا يريدون من توقفهم أنه لا يجوز تفسير القرآن كله.
ثم انتقل المؤلف إلى فصل آخر فقال: [ ذكر الأخبار عن بعض السلف فيمن كان من قدماء المفسرين محموداً علمه بالتفسير، ومن كان منهم مذموماً علمه به ].
هذا المبحث يمكن أن يدخل في باب ما يسمى بطبقات المفسرين، وله علاقة بمناهج المفسرين؛ لأن فيه نقداً عاماً سواء من باب المدح أو من باب الذم.
[ حدثنا محمد بن بشار ، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن سليمان ، عن مسلم ، قال: قال عبد الله : نعم ترجمان القرآن ابن عباس ].
[ حدثني يحيى بن داود الواسطي ، قال: حدثنا إسحاق الأزرق ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، قال: نعم ترجمان القرآن ابن عباس .
وحدثنا محمد بن بشار ، قال: حدثنا جعفر بن عون ، قال: حدثنا الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، بنحوه.
حدثنا أبو كريب بسنده عن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهداً يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس : اكتب. قال: حتى سأله عن التفسير كله.
وحدثنا أبو كريب بسنده، عن مجاهد ، قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها.
وحدثني عبيد الله بن يوسف الجبيري ، عن أبي بكر الحنفي ، قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به.
وحدثنا محمد بن المثنى ، بسنده عن عبد الملك بن ميسرة قال: لم يلق الضحاك ابن عباس ، وإنما لقي سعيد بن جبير بالري، فأخذ عنه التفسير.
وحدثنا ابن المثنى ، بسنده عن مشاش ، قال: قلت للضحاك: سمعت من ابن عباس شيئاً؟ قال: لا.
وحدثنا أبو كريب ، قال: حدثنا ابن إدريس ، قال: حدثنا زكريا ، قال: كان الشعبي يمر بـأبي صالح باذان ، فيأخذ بأذنه فيعركها ويقول: تفسر القرآن وأنت لا تقرأ القرآن!.
وحدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه بسنده، عن الأعمش ، قال: حدثني سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ[غافر:20] قادر على أن يجزى بالحسنة الحسنة، وبالسيئة السيئة، إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [غافر:20]، قال الحسين : فقلت للأعمش: حدثني به الكلبي إلا أنه قال: إن الله قادر أن يجزى بالسيئة السيئة وبالحسنة عشراً، فقال الأعمش : لو أن الذي عند الكلبي عندي ما خرج مني إلا بخفير.
وحدثني سليمان عبد الجبار بسنده عن صالح بن مسلم ، قال: مر الشعبي على السدي وهو يفسر، فقال: لأن يضرب على استك بالطبل خير لك من مجلسك هذا.
وحدثني سليمان بن عبد الجبار بسنده عن سلم بن عبد الرحمن النخعي قال: كنت مع إبراهيم ، فرأى السدي ، فقال: أما إنه يفسر تفسير القوم.
وحدثنا ابن البرقي بسنده عن قتادة ، قال: ما بقي أحد يجري مع الكلبي في التفسير في عنان.
قال أبو جعفر : قد قلنا فيما مضى من كتابنا هذا في وجوه ].
في هذا الفصل: (ذكر الأخبار عن بعض السلف فيمن كان من قدماء المفسرين محموداً علمه بالتفسير، ومن كان منهم مذموماً علمه به).
سيذكر من حمد في تفسيره ومن دونه، ليس كلهم وإنما بعض ما روي من الأخبار.
أول الأخبار عن عبد الله بن عباس ، و عبد الله بن عباس أمره مشهور ومعروف وواضح، فـابن أبي مليكة يقول: رأيت مجاهداً يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس : اكتب، حتى سأله عن التفسير كله، وهذا فيه فائدة من جهة تاريخ التفسير وأن كتابة التفسير كانت أسبق من كتابة الحديث، يعني: أن العناية بتدوين التفسير أسبق من العناية بتدوين الحديث؛ لأن تدوين الحديث بدأ في عهد الزهري .
وليس مجرد كتابة في الحديث وإنما الكتابة التدوينية التصنيفة، وإلا فبداية كتابة الحديث كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ما نختلف عليها، لكن جمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتبويبها كان في عهد أبي بكر بن حزم و الزهري فهؤلاء دونوا الحديث التدوين المعروف.
والزهري توفي في فترة ما بين ثمان وتسعين إلى مائة، وتدوين التفسير في عهد ابن عباس وهو توفي سنة اثنتين وستين و مجاهد كتب تفسير ابن عباس ، فتدوين التفسير وكونه علماً قائماً بنفسه كان في عهد الصحابة وفي عهد التابعين، وكان يقصد بالتلقي، ويقصد بالتأليف، وهذه الآثار واضحة وشاهدة بهذا، فـ مجاهد كتب التفسير وعرض القرآن على ابن عباس ، وسأله عن كل آية، وابن عباس توفي سنة ثمان وستين، وبداية جمع السنة إذا قيل: إنه بدأ بها عمر بن عبد العزيز فهي أيضاً تعتبر متأخرة من هذه الحيثية، أما وجود روايات أو صحف فهذا موجود حتى في التفسير فقد كان موجوداً من قبل، لكن نتكلم عن تدوينه على أنه تفسير، أو تدوينه على أنه أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم، هذه المعلومة تنقض الفكرة السائدة في أن تدوين التفسير تأخر، والصواب أنه لم يتأخر بل هو متقدم جداً جداً، وأيضاً هو علم قائم بنفسه منذ عهد الصحابة، وظاهر جداً في عهد التابعين رضي الله عنهم.
وأيضاً فإن سعيد بن جبير كتب التفسير لـعبد الملك بن مروان .
وكذا الضحاك ، و زيد بن أسلم ، و الحسن البصري أملوا التفسير على تلاميذهم.
الرواية الأخرى أيضاً عن أبان بن صالح ، عن مجاهد أنه عرض المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، قال: من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها، وهذا لا يلزم منه أنه كان يسأله عن كل شيء، وإنما يسأله عما يحتاج من مسائل، فهي ثلاث عرضات، وليس من المعقول أنه في كل مرة يسأله ويكرر عليه نفس المسألة.
الرواية الأخرى عن سفيان الثوري ، قال: (إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به).
وهذا كله من باب توثيق هؤلاء الأعلام: ابن عباس ثم تلميذه مجاهد ، فـ سفيان عندما يقول: (إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به)، فهذا لا شك أنه تقويم لتفسير مجاهد وأنه من التفاسير المعتمدة، وقد سار العلماء على هذا.
الرواية الأخرى: لم يلق الضحاك ابن عباس ، وإنما لقي سعيد بن جبير بالري فأخذ عنه التفسير.
والتي بعدها عن مشاش (قال: قلت للضحاك : سمعت من ابن عباس شيئاً؟ قال: لا). فهذه الرواية الموجودة عندنا تفيدنا سبب اعتماد الطبري على رواية الضحاك ، عن ابن عباس ، وذلك أن عنده واسطة وهو سعيد بن جبير ، فإذا روى الضحاك عن ابن عباس بالنسبة للطبري فهو مسند لأنه ذكر أنه أخذها عن سعيد بن جبير ، ثم ذكر الأخرى للتنبيه على أنه قد ثبت عنده أيضاً أن الضحاك لم يلق ابن عباس ، ولم يأخذ من ابن عباس كما نص على ذلك الضحاك .
الرواية التي بعدها فيها نقد، قال: ( كان الشعبي يمر بـأبي صالح باذام ، فيأخذ بأذنه فيعركها ويقول: تفسر القرآن وأنت لا تقرأ القرآن)، ومعنى: لا تقرأ القرآن، ليس المعنى لا تحسن قراءته، وإنما المراد لا تحفظ القرآن، فهذا نقد من الشعبي لـأبي صالح .
ونقد آخر للأعمش في الكلبي ، لما ذكر الأعمش تفسير ابن عباس من طريق سعيد بن جبير ، قال له الحسين بن واقد المذكور في السند: حدثني به الكلبي ، إلا أنه قال.. إلى آخره، فقال الأعمش : لو أن الذي عند الكلبي عندي ما خرج مني إلا بخفير. وفي بعض النسخ: إلا بحقير. وهذه الرواية فيها إشكال؛ لأنه لم يتبين لي مراد الأعمش هل هو مدح أو هو قدح، و الكلبي قد ذمه بعضهم، ومدحه آخرون بما عنده من التفسير، وإن كانوا يعرفون أن عنده شيئاً من الأخطاء، لكن تفسيره كمفسر غير ما يرويه؛ لأن الكلام هنا عن روايته، فرواية الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس متكلم فيها. لكن رأي الكلبي في التفسير عند المفسرين معتبر، فيفرقون بين رأيه وروايته.
والشعبي أيضاً مر على السدي وهو يفسر، فقال: لأن يضرب على استك بالطبل خير لك من مجلسك هذا، وهذا ظاهر أنه نقد له في كونه يفسر القرآن، كأنه يقول: إنك لم تبلغ أن تجلس هذا المجلس وهو مجلس تفسير القرآن، وإبراهيم النخعي رأى السدي فقال: أما إنه يفسر تفسير القوم، فهذا مقابل رأي الشعبي فـ إبراهيم النخعي يمدح، والشعبي يذم.
فإذاً: معنى ذلك: أن من تكلم في السدي فهناك أيضاً من مدحه، ورواية الكلبي عن قتادة مدح له، قال: ما بقي أحد يجري مع الكلبي في التفسير في عنان. يعني: كأن الكلبي سابق له في التفسير، فهذا من باب المدح.
فإذاً: نلاحظ أن هذه الروايات التي ذكرها الإمام ابن جرير بعضها مدح لبعض المفسرين، وبعضها فيها نقد لبعض المفسرين، وبعض الذين نقدوا فيهم من يمدحهم، وفيهم من يذمهم، فهذه الآثار التي بين يدينا لها أثر فيما سيذكره الإمام، وهل روى الإمام عن مقاتل بن سليمان مع أنه لم يذكره هنا؟ لا نجد رواية لـمقاتل بن سليمان ، مع أن كتاب مقاتل بن سليمان كان مشهوراً ومتداولاً؛ لأنه توفي سنة مائة وخمسين، وكان الكتاب في بغداد، والإمام جاء إلى بغداد، ومع ذلك لم نجد أنه ذكر تفسير مقاتل ألبتة.
والكلبي ذكره الإمام راوياً ورائياً، يعني: صاحب رواية وصاحب دراية، ولكنه قليل، وهذا يتمشى مع ما ذكره الإمام فيه من التنبيه على أن الكلبي له وجهان: وجه انتقد فيه، ووجه يعتبر مفسراً معتبراً، ومع ذلك نجد أن الرواية عن الكلبي قليلة جداً، وغالب ما يرويه من جهة رواية الكلبي إما أن يكون عن سفيان وإما أن يكون عن معمر، وهذا لا شك أنه نوع من توثيق لـ الكلبي، كونه يروي عن سفيان أو معمر.
والمقصد من ذلك أن نقول: إن هذه الرواية التي ذكرها الإمام لا شك أنه سيكون لها أثر في نقل الإمام من أقوال هؤلاء.
فـ السدي مع النقد الذي وجه إليه، إلا أننا نجد أنه ذكر أقواله، و أبو صالح مع النقد الذي وجه إليه إلا أنه أيضاً قد ذكر أقواله وذكر أيضاً روايته، فهذا هو الجزء المتعلق بهذه الآثار، وسيأتي الإمام مرة أخرى ويذكر النص الذي قرأناه، لذا سنقرؤه ونقرأ نصاً آخر مرتبطاً به.
والذي يظهر من قول الأعمش : لو أن الذي عند الكلبي عندي ما خرج مني إلا بحقير الذي يظهر أن المعنى فيه صعوبة.
مع أني ما زلت متردداً في هذا؛ لأن النص هل هو خفير أو حقير؟ لو كان عندي من العلم مثل ما عند الكلبي ، مع أن العلم الذي عند الكلبي كثير، وهو كذلك ما خرج مني هذا العلم إلا بخفير أو بحقير.
ولعل المقصود بصعوبة، ويقولون: هذا معروف عن الأعمش، أنه ما كان يحدث إلا بصعوبة، فإذا كان المراد هذا فلا شك أنه من باب المدح، وأنا أتمنى من الدارسين في علوم القرآن خاصة في التفسير ولهم عناية بالآثار، لو جمعوا مثل هذه الآثار المرتبطة بتاريخ التفسير، وحررت وبين أيضاً ما فيها من خفايا.
وسأعرج على ذكر مواقف نقدية وآثار في تاريخ التفسير وأذكر سببها، فمثلاً الحسن البصري مع جلالته، و أبو العالية مع جلالته كان بينهما نوع من المشاحة والمشاحنة، فأحدهما يعترض على الآخر، فمعرفة مثل هذه الأمور مهمة لكي نعرف هذه الآثار كيف خرجت، خصوصاً في مقام النقد، أما في مقام المدح فمعروف ألا يمدح الإنسان إلا إذا كان مقتنعاً بالشخص.
قد يكون هناك بدعة وبسببها تكلم من تكلم، فإذا بحث تاريخ الشخص سيخرج عندنا أسباب بعض هذه الأقوال.
ويستفاد من كون مجاهد يسأل عن تفسير القرآن، أن علم القرآن كان علماً قائماً في هذا الوقت.
وهنا فائدة وهي أنه لا يفهم أن الطبري لم يتعرض لنقد الأسانيد مطلقاً. لا. ولكنه لم يبن كتابه على نقد الأسانيد ولم يكن النقد منهجاً عاماً أو غالباً له.
[ قال أبو جعفر : قد قلنا فيما مضى من كتابنا هذا في وجوه تأويل القرآن، وأن تأويل جميع القرآن على أوجه ثلاثة:
أحدها: لا سبيل إلى الوصول إليه، وهو الذي استأثر الله بعلمه، وحجب علمه عن جميع خلقه، وهو أوقات ما كان من آجال الأمور الحادثة التي أخبر الله في كتابه أنها كائنة، مثل: وقت قيام الساعة، ووقت نزول عيسى بن مريم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، والنفخ في الصور، وما أشبه ذلك.
والوجه الثاني: ما خص الله بعلم تأويله نبيه صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته، وهو ما فيه مما بعباده إلى علم تأويله الحاجة، فلا سبيل لهم إلى علم ذلك إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم لهم تأويله.
والثالث منها: ما كان علمه عند أهل اللسان الذي نزل به القرآن، وذلك علم تأويل غريبه وإعرابه، لا يوصل إلى علم ذلك إلا من قبلهم ].
قبل أن نختم المقدمة ننقل كلاماً متعلقاً بمنهج الطبري مأخوذاً من تفسيره لقوله سبحانه وتعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ[آل عمران:7]، حيث ذكر المحكم والمتشابه، ثم ذكر قولاً آخر في المحكم والمتشابه، ثم علق عليه، ونذكر النص لأنه مرتبط بالفكرة التي ذكرها بما يتعلق بما لا يعلم تأويله إلا الله، لأنه كرر قوله (وما يعلم تأويله إلا الله) في ثلاثة مواطن: الموطن الذي ذكرناه أولاً، ثم ربطناه بهذا الموطن، والموطن الذي ذكرناه سننظر الآن منهجاً تطبيقياً له في التفسير عن هذا الموضوع.
قال رحمه الله: [ وقال آخرون: بل المحكم من آي القرآن ما عرف العلماء تأويله، وفهموا معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مخرج عيسى بن مريم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناء الدنيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلمه أحد، وقالوا: إنما سمى الله من آي الكتاب المتشابه الحروف المقطعة التي في أوائل بعض سور القران من نحو (الم)، و(المص)، و(المر)، و(الر)، وما أشبه ذلك؛ لأنهن متشابهات في الألفاظ، وموافقات حروف حساب الجمل، وكان قوم من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الإسلام وأهله، ويعلموا نهاية أكل محمد وأمته، فأكذب الله أحدوثتهم بذلك، وأعلمهم أن ما ابتغوا علمه من ذلك من قبل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه، ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله، وهذا قول ذكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب أن هذه الآية نزلت فيه، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه، وعن غيره ممن قال نحو مقالته في تأويل ذلك في تفسير قوله: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ[البقرة:1-2].
وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية، وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنما أنزله عليه بياناً له ولأمته وهدىً للعالمين، وغير جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجة، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل، فإذ كان ذلك كذلك، فكل ما فيه لخلقه إليه الحاجة، وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى، وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة، وذلك كقول الله عز وجل: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً[الأنعام:158]، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عباده أنها إذا جاءت لم ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك، هي طلوع الشمس من مغربها، فإن الذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك هو العلم منهم بوقت نفع التوبة بصفته بغير تحديده بعد بالسنين والشهور والأيام، فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مفسراً، والذي لا حاجة بهم إلى علمه منه هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية، فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا، وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خلقه، فحجبه عنهم، وذلك وما أشبهه هو المعنى الذي طلبت اليهود معرفته في مدة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من قبل قوله: (الم)، و(المص)، و(الر)، و(المر)، ونحو ذلك من الحروف المقطعة المتشابهات التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله. فإذ كان المتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمحكم؛ لأنه لن يخلو من أن يكون محكماً، بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد، وقد استغني بسماعه عن بيان مبينه، أو يكون محكماً، وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف في معان كثيرة، فالدلالة على المعنى المراد منه إما من بيان الله تعالى ذكره عنه، أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته، ولن يذهب علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بينا ].
أردت من ذكر هذا النص أن يرتبط بما ذكره هنا؛ لأن له ارتباطاً من باب التطبيق الذي طبقه الإمام ابن جرير على شيء مما ذكره في المقدمة مما لا يعلمه إلا الله، بغض النظر عن رأيه في الأحرف المقطعة؛ لأننا لا نناقش رأيه، لكن المقصد أن الإمام طبق شيئاً مما ذكره في المقدمة هنا فيما يتعلق بما لا يعلمه إلا الله، وما يعلمه أيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم، وأيضاً له تطبيقات أخرى من جهة ما يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون منقولاً عنه إما بخبر العدل الواحد، وإما بالنقل المستفيض، ويتكرر عنده ذكر الخبر الذي يقطع الحجة وهو إما خبر العدل الثقة، وإما الخبر المستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا مما يقطع الحجة عند الإمام، وهذا تكرر عنده، لكن هذا من باب المثال.
ثم انتقل المؤلف إلى موضوع مهم وهو من أحق المفسرين بإصابة القول في تأويل القرآن؟ وسنناقش هذا.
قال: [ فإذ كان كذلك فأحق المفسرين بإصابة الحق في تأويل القرآن، الذي إلى علم تأويله للعباد السبيل ].
قوله: (الذي إلى علم تأويله للعباد السبيل)، خرج أحد الوجوه الثلاثة وهو الذي لا يعلمه إلا الله.
قال: [ أوضحهم حجةً فيما تأول وفسر مما كان تأويله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته، من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، إما من جهة النقل المستفيض، فيما وجد فيه من ذلك عنه النقل المستفيض، وإما من جهة نقل العدول الأثبات، فيما لم يكن عنه فيه النقل المستفيض ].
ثم ذكر النوعين: الخبر المشهور، والخبر الآحاد، يعني: النقل المستفيض، أو النقل الذي يكون أقل من النقل المستفيض؛ سواء سميناه متواتراً أو مشهوراً، يعني: الخبر الذي تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما كان دون مرتبة المتواتر، وهو خبر العدل الضابط عنده يعتبر من هذا النوع الثاني.
[ أو من وجه الدلالة المنصوبة على صحته ].
يعني لو أردنا أن نقسم فنقول: أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه نوعان: الخبر المستفيض، وما دون الخبر المستفيض.
النوع الثاني وهو ما يقابل الأخبار الثابتة: وهو ما جعل له دلالة منصوبة على صحته، يعني الدلالة التي نصبها النبي صلى الله عليه وسلم التي سبق وذكرها أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما يؤخذ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون مباشراً وهي الأخبار الثابتة المستفيضة، وإما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد نصب لأمته دلالة على المعنى الصحيح.
فصار عندنا ثلاثة أقسام الأول: الخبر الثابت المتواتر.
الثاني: الخبر الثابت دون المتواتر.
الثالث: ما نصب النبي صلى الله عليه وسلم له دلالة.
هذا فيما يتعلق بالمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأوضحهم حجة من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد هذه الأنواع التي ذكرها.
فإن قيل: ما الفرق بين ما دل النبي صلى الله عليه وسلم على تفسيره وبين ما نصب عليه دلالة؟
فيقال: الأول يكون تفسيره مباشراً، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم بينه بياناً مباشراً.
والثاني: دل أمته عليه بأي دلالة من الدلائل، وسبق أن شرحناه سابقاً، ما يستنبط من السنة، يعني: يأتي المفسر ويقول: إن هذه الآية معناها كذا؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم كذا، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يقصد التفسير وإنما يعتبر المفسر أن هذا دلالة من قول النبي صلى الله عليه وسلم على أن المراد كذا، وهو يعتبر نوعاً من التفسير بالسنة.
قال: [ وأوضحهم برهاناً فيما ترجم وبين من ذلك مما كان مدركاً علمه من جهة اللسان ].
هو فرق فقال أولاً: أوضحهم فيما تأول أو فسر، وهنا قال: أوضحهم برهاناً فيما ترجم وبين، فهو الآن يفسر، وهناك قال: أوضحهم فيما تأول وفسر، يعني: ففرق بينهما.
فإذاً: عندنا مرتبتان: الأولى مرتبطة بالسنة، والثانية مرتبطة بجهة اللسان.
قال: [ إما بالشواهد من أشعارهم السائرة، وإما من منطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة، كائناً من كان ذلك المتأول والمفسر ].
هذا النوع الذي ذكره هنا قال فيه: (وأوضحهم برهاناً فيما ترجم وبين من ذلك)، المقصود بالمترجم المبين هو المفسر، وفي الأول: (أوضحهم حجة فيما تأول وفسر مما كان تأويله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون سائر أمته)، يعني: أوضحهم من اعتمد على تفسير نبوي، أو اعتمد على حديث يبين هذه الآية.
والنوع الثاني: من فسر وكان معتمده في ذلك لسان العرب، ما كان مدركاً علمه من جهة اللسان إما كما قال بالشواهد من أشعارهم السائرة، وإما من منطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة، وهذا طبقه هو في التفسير، (كائناً من كان ذلك المتأول والمفسر)، يعني: كأنه يقول: إن الاعتماد على اللغة باعتبارها مصدراً من مصادر التفسير يستوي فيه جميع المفسرين، ولم يحدد طبقة دون طبقة، وهذا سيؤثر في قضية التعامل مع أقوال المفسرين عنده.
قال: [ بعد ألا يكون خارجاً تأويله وتفسيره ما تأول وفسر من ذلك عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة والخلف من التابعين وعلماء الأمة ].
هنا يشترط المؤلف على من أراد أن يفسر وكان عالماً بمنطق العرب ألا يخرج تفسيره عن أقوال السلف.
والسلف هم الصحابة والأئمة، والخلف من التابعين وعلماء الأمة، فحين نرجع إلى التفسير ونستقرئ التفسير كاملاً نجد أنه ذكر تفسير النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا النوع الأول الذي ذكره، واعتمد عليه كثيراً.
ثم ذكر الثاني وهو الصحابة.
وذكر الثالث بعده وهم التابعون.
ثم ذكر طبقة أتباع التابعين، ولم يذكر بعد طبقة أتباع التابعين أحداً إلا النادر، فنفهم من قوله: (أقوال السلف من الصحابة والأئمة والخلف من التابعين وعلماء الأمة) أنه يقصد الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، والدليل على ذلك استقراء تفسير الإمام فهو يدل على ذلك، فقد ذكر التفسير عن الصحابة، وذكر التفسير عن التابعين، وذكر التفسير عن أتباع التابعين، ابن جريج و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والمقاتلان وكلهم في طبقة أتباع التابعين، طبعاً المقاتل الأول سليمان ما ذكره، ذكر مقاتل بن حيان ، وذكر عنه تفسيراً، فاشترط في المفسر ألا يخرج عن طبقات التابعين الثلاث.
الخلاصة أنه يعرف منهج الطبري في موطنين: الموطن الأول: في بداية المقدمة حين تكلم عن طريقته في عرض الأقوال، وهذا الموطن هو الذي نص فيه صراحةً على منهجه، وما عدا ذلك فإما أن يكون باستقراء يدل عليه الدليل، وإما أن يكون من باب الظن أن هذا من منهج الإمام وهو ليس من منهجه، كما قلت لكم في العبارة المشهورة: أن الطبري استخدم قاعدة: من أسند لك فقد أحالك، وهنا يقول: من أراد أن يفسر فأوضح المفسرين حجةً فيما تأول أو فسر هو من اعتمد أولاً على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إما تفسيراً مباشراً، وإما دلالة منصوبة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم على المراد بالآية.
والنوع الثاني: الذين اعتمدوا على اللغة، بشرط ألا يخرج من اعتمد على لسان العرب عن أقاويل الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، ومن خلال الاستقراء نجد أن الطبري طبق هذا المنهج ونادراً ما يخرج عنه.
والمؤلف يرى أن الاعتماد على الحديث أولى من الاعتماد على الأقوال، وهذا لم نفهمه من منهجه، ولهذا سيأتينا كيف يعتمد على الأحاديث، وأحياناً قد يكون الحديث ضعيفاً لكنه مسند أو يسنده أقوال بعض المفسرين، فيذكر هذا الحديث، على سبيل المثال: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، يورد حديث ( أما عثمان -يقصد ابن مظعون- فقد أتاه اليقين من ربه )، فهذا فيه نص دلالة بناء على رأيه أن المراد باليقين في الآية هو الموت.
وهنا ملاحظة مهمة وهي القول بأن التفسير كان باباً من أبواب الحديث وهذا ليس بصحيح، فلم يكن باباً من أبواب الحديث بل كان التفسير قائماً قبل أن يدخل في أبواب الحديث، مع أن بعضهم جعله باباً من أبواب الحديث.
وهذا غير صحيح فـ البخاري توفي سنة مائتين وست وخمسين، ويمكن أن تعد خمسين نسخة من نسخ التفسير قبل كتاب البخاري، فأنا قصدت أنه ينتبه إلى هذه المعلومة، والمشكلة أن هذه المعلومة ما زالت تدرس وما زالت موجودة في الكتب، وتاريخ التفسير ينقضها نقضاً واضحاً.
السؤال: في قول الطبري : بأن الأحرف السبعة هي السبع اللغات، ثم ذكر سبب ورود حديث عبد الله بن عمرو و هشام بن حكيم وهما من قريش، فهل يفهم من هذا أن اللغات هي لغات القبائل أم أن للقبيلة نفسها عدة لهجات؟
الجواب: هذا سؤال جيد، فهو لما ذكر الأحرف السبعة، ذكر من أسباب ورود الحديث ما حصل بين عمر و هشام بن حكيم وكلاهما قرشي، فهل يعني ذلك أنها لغات متعددة، أو من نفس اللهجة يكون أكثر من قراءة؟
نقول: لو كان على ما قال الطبري لا يمنع أن يكون مثلاً أحدهما قد علمه النبي صلى الله عليه وسلم اللغة الأخرى، وهذا على رأي المؤلف فقط، لا يمنع أن هشاماً عرف اللغة الأخرى وقرأ بها، فعلى قول الطبري لا يمنع عقلاً أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد علم هشاماً أو علم عمر إحدى اللغات الأخرى، فيكون قد قرأ بهذه اللغة، فصار بينهما هذا الإشكال.
السؤال: لماذا لم يذكر المؤلف في طرق التفسير تفسير القرآن بالقرآن؟
الجواب: هو لم يذكر فيها القرآن بالقرآن، لكن من خلال تطبيقاته أورد تفسير القرآن بالقرآن وجعله أحد أوجه الترجيح، فهو موجود وإن لم ينص عليه.
السؤال: المعروف عن سفيان الثوري أنه كان يحذر من الكلبي، فلما سئل أن يروي عنه قال: أنا أعرفه؟
الجواب: هنا نوع من التأويل فيه، هل رواية سفيان عن الكلبي تعد نوعاً من التوثيق؟ هي نوع من التوثيق، كونه يقول: أنا أعرفه، هي نوع من التوثيق، لكن على حسب رأي علماء الجرح والتعديل في كون رواية الثقة عن الضعيف تعد توثيقاً مطلقاً أو لا، لكنها نوع من التوثيق.
السؤال: من أول من قال بأن الأحرف السبعة هي أوجه المغايرة؟
الجواب: أول من قال بأوجه المغايرة قبل ابن جرير هو ابن قتيبة، وهذا يدل على أن الإمام لم ير كلام ابن قتيبة، وإما أنه رأى كلام ابن قتيبة ولكن لم يعتد به وتركه، واعتبر أن أوجه التغاير لا علاقة لها بالأحرف، وهو واضح من كلامه أن أوجه التغاير لا علاقة لها بالأحرف.
السؤال: هل تفسير الطبري من قبيل التفسير بالمأثور أو من قبيل التفسير بالرأي؟
الجواب: أنا عندي أنه تفسير بالرأي، وتفسير بالرأي المطلق أيضاً، لكن الرأي المحمود المعتمد على الأثر، أنا عندي أن هذا هو الصحيح، أن أقول: إن تفسير الطبري تفسير بالرأي المحمود المعتمد على الأثر، عندما نقول: تفسير أثر أو رأي لا يتقابلان.
السؤال: هل تفسير الآية بالآية يعتبر من التفسير بالأثر؟
الجواب: تفسير الآية بالآية ليست أثراً، لكن الطبري اعتمد في تفسيره على مصادر التفسير، اعتمد على الحديث النبوي، ثم على آثار السلف، ثم على اللغة؛ لأن المصادر الكبرى ثلاثة: القرآن، والسنة، واللغة، فمن جاء يفسر بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلا بد أن يعتمد على المصادر الثلاثة؟
والطبري لأنه متأخر زاد الصحابة والتابعين وأتباع التابعين وهم السلف، فالاعتماد على السلف مصدر نسبي، وليس مصدراً كلياً، أما اللغة والسنة والقرآن فهي مصادر كلية، بمعنى: أن كل مفسر يرجع إليها، من الصحابي إلى من دونه، لكن الصحابي مصدر نسبي، فهو لنفسه لا يعد مصدراً، فلا تقول: ابن عباس مصدر لـابن عباس ، ولكن ابن عباس مصدر لـمجاهد فإذاً: يعتبر مصدراً نسبياً.
السؤال: تقسيم التفسير إلى تفسير بالأثر وتفسير بالرأي؟
الجواب: أن تفسير ابن جرير من أكبر أنواع التفاسير المعتمدة التي فسرت بالرأي المحمود، فهو مثال للرأي المحمود، وعده من التفسير بالمأثور من أخطاء المعاصرين لما قسم التفسير إلى تفسير بالمأثور وتفسير بالرأي، وأنا ناقشت هذا، وبسبب هذا التقسيم وقع التخليط هذا عندنا، بل عندي أن التفسير بالرأي بدأ من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الصحابة يفسرون بالرأي والنبي صلى الله عليه وسلم قائم بين ظهرانيهم، لكن لما كان الصحابة يفسرون بالرأي كان لهم مرجع يرجعون إليه، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فمثلاً قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ[الأنعام:82] فقالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ فهذا تفسير بالرأي، فهم رأوا برأيهم، فجاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم.
و عدي بن حاتم حين فهم من قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ...[التوبة:31] فقال لسنا نعبدهم إلى آخره، و عائشة حين سألت عن قوله: ( من نوقش الحساب عذب ). وقوله تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:8]، وأمثلة ذلك كثيرة للصحابة بأنهم فهموا القرآن على وجه، واستفسروا من النبي صلى الله عليه وسلم فبين لهم، فلما كان بين أظهرهم استطاعوا أن يعرفوا القول الصحيح.
ولما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم صارت الثلاثة التي ذكرناها هي المراجع، وهناك مراجع نقلية معها مثل أسباب النزول وغيرها، وهذه تدخل في السنة من باب الحكم، فالصحابة كانوا يعتمدون على هذه المصادر، ولهذا لاحظ مثلاً في تفسير وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً [العاديات:1]، فابن عباس كان يقول: إن العاديات الخيل، فسأله رجل فقال: الخيل، فذهب إلى علي وكان في سقاية زمزم، فقال له: ما العاديات ضبحاً؟ قال: سألت أحداً غيري؟ قال: نعم، سألت ابن عباس ، قال: ما قال لك؟ قال: إنه يقول: الخيل، قال: ادعه لي ثم عاتبه في تفسيره، وذكر أن المراد بالعاديات الإبل، فهذا واضح جداً أن المسألة مرتبطة بالتفسير بالرأي، ولم يكن عند ابن عباس سند من النبي صلى الله عليه وسلم ولا كان عند علي رضي الله عن الجميع سند عن النبي صلى الله عليه وسلم، واضح أنه مرتبط بالرأي.
فالمشكلة أننا حين نذكر الرأي لا يتبادر إلى أذهاننا إلا الرأي المذموم، ونسينا أن الرأي المحمود قائم منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم.
و الطبري يمثل التفسير بالرأي المحمود الذي اعتمد على المصادر الصحيحة الأصيلة.
السؤال: هل كتاب دراسات لأسلوب القرآن لـمحمد عبد الخالق كافٍ في علوم القرآن؟
الجواب: الكتاب أصلاً ليس في علوم القرآن، وليس في الأساليب النحوية في القرآن، فمن كان يريد كتاباً في علوم القرآن يمكن أن يستفيد من كتاب الدكتور حازم حيدر وهو كتاب علوم القرآن بين البرهان والإتقان، ولا زلت أنصح الدارسين بقراءة هذا الكتاب؛ لأن فيه ميزة وهو أنه جمع علوم القرآن من خلال هذين الكتابين، وصنف العلوم الموجودة، وذكر ملحوظاته على هذه العلوم، وهو مطبوع في دار الزمان.
السؤال: إذا قلنا: لا يخرج المفسر عن أقوال السلف، فإذا وجد في الآية تفسيران، وأحدهما لم يثبت عن قائله لكونه من طريق سيئ الحفظ أو مجهول، فهل يسوغ للمفسر أن يقول: قد سبقني مجاهد وهو لم يثبت عن مجاهد أصلاً؟
الجواب: هذه مسألة نتركها للنقاش إذا جئنا إن شاء الله إلى التطبيق، هو يسأل عن مسألة نضطر نرجع إليها مرة بعد مرة، وهي إذا وجد أثر فيه ضعف، هل يعتبر حجة للمتأخر ليحتج بأن تفسير الآية كذا أو لا؟ أنا أريد أن ننظر إلى طريقة المفسرين في هذا، كيف أتعامل مع هذا؟ وستجد من خلال العمل أنهم يعتمدون مثل هذا.
السؤال: على هذا يكون التفسير مهزوزاً، يعني: مبنياً على ضعف؟
الجواب: لا. التفسير ليس مهزوزاً بهذا، ما في بأس يبدو أنها مسألة إذا اعتمدنا الروايات التي اعتمدها علماء التفسير، ونعرف أن فيها روايات ضعيفة، ليس مهزوزاً، التفسير الذي سيكون مهزوزاً لو جردناه من هذه الروايات، فلو جردت الروايات الصحيحة صحيحه أو حسنه، فلن يبقى معك من الروايات إلا الشيء القليل.
إذا قلنا: إن الروايات عند السلف فيها ضعف وإنها مقبولة عند علماء التفسير، وإن لهم طرائق فيها، وعلماء الحديث أيضاً لهم طرائق فيها، فهذا يكون تفسيراً مهزوزاً والدليل على ذلك أنك لو خرجت تفسير الطبري بطريقة نقض الأسانيد ستنتقد أشياء كثيرة وستسقط شطر التفسير، بل ستسقطه كله، ستذهب روايات كثيرة جداً من الطبري ، ومن اختلاف الطبري بطريقة نقد التفاسير هذه، وهنا يكون التفسير مهزوزاً.
السؤال: ما نصيحتك لمن يتخصص في علوم القرآن؟
الجواب: نصيحتي لمن تخصص في علوم القرآن ولنا جميعاً أنه يجب أن نتقوى، وأن نتواصى بطرائق في تقويتنا، من دلائل ضعفنا أننا ما نعرف تاريخ التفسير، ولا نعرف تاريخ القراءات، ولا نعرف تاريخ علوم القرآن المعرفة الدقيقة الصحيحة، ولا نعرف مناهج المفسرين، ولذا لم أجد إلى الآن كتاباً يشرح منهج المفسرين شرحاً صحيحاً، وإنما كلها أوصاف، وصف لمنهج فلان، ووصف لمنهج فلان، لكن تحليل منهج فلان، هذا لا أرى أنه يوجد في كتاب إلى الآن فلا يوجد مثلاً كتاب تحليل لمنهج ابن كثير ، أو تحليل لمنهج ابن جرير وهكذا، قد تجد نقداً من هنا ومن هناك، وهذا النقد مبني على عدم فهم المنهج، وأضرب لك مثالاً في هذا: ألم يوجد الدخيل في تفسير ابن كثير ؟ توجد رسائل في هذا.
والمقصود بالدخيل: الأحاديث الضعيفة والموضوعة، مع أن ابن كثير علم من أعلام الحديث ويعرف ما يدخل في كتابه وأحياناً ينص على أن الحديث فيه كلام، وليس من باب أسلوب الخطأ الإنشائي، لكن السؤال الآن: هل الأحسن أننا ننتقد ابن كثير ونقول: إنه أدخل أحاديث ضعيفة وأدخل كذا، أو أننا نقول: كيف نفهم لماذا أدخل؟ ما هو منهج ابن كثير في كتابه؟ لماذا أدخل هذه الروايات؟ هذا السؤال هو المفترض أن يوجه.
الشيء الثاني يسأل: هل ابن كثير لما أدخل هذه الروايات أدخلها اعتماداً عليها مباشرةً، أو يأتي بهذه الروايات بعد أن يقرر معنى الآية من خلال الآثار؟ راجع هذه، ومن وجهة نظري أقول لكي لا أكون مبالغاً: إن المنهج العام لـابن كثير في هذه الأحاديث الضعيفة أنه يذكرها بعد تقرير التفسير، فما دام يذكرها بعد تقرير التفسير فمعنى ذلك أنها صارت في مرتبة دون أن يكون معتمداً عليها، وإنما يستأنس بها، وأن هذا المعنى الذي ذكره السلف في التفسير ورد به أيضاً هذا الحديث الضعيف، فهذا قصارى الأمر، ولا يوجد أنه اعتمد على حديث ضعيف ضعفاً شديداً في فهم معنى آية.
مثال آخر ابن أبي حاتم لا يوجد شك في علمه بالرجال والأحاديث ولو أردنا أن نطبق دراسة الأسانيد على كتاب ابن أبي حاتم لأسقطنا شيئاً كثيراً، فهل كان ابن أبي حاتم غافلاً وجاهلاً لا يعلم؟ وهل نقارن ابن أبي حاتم بـالثعلبي مثلاً؟ بينهما فرق، فهناك مناهج ينبغي التنبه لها.
ارجع إلى مقدمة ابن أبي حاتم قال: إنه سيجمع أصح ما عنده في الباب، إن وجد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجد فعن الصحابة، فإن لم يجد فعن التابعين، مثل ما يقول الترمذي أصح ما في الباب كذا، وأصح ما في الباب أحياناً يكون أحاديث فيها ضعف.
فيجب أن نرجع إلى تراثنا، وأن نتعرف على مناهج علمائنا السابقين، وإذا تعرفنا على مناهجهم وطرائقهم فسيسهل علينا شيء كثير جداً من العلم وطرائق النقد التي وجهت إليهم، حتى صرنا نرى الدخيل في تفسير فلان، الدخيل في تفسير فلان، الدخيل في تفسير فلان، مع أن عندي اعتراضاً على هذه الكلمة، ولا أحبها، دخيل تفسير ابن كثير يعني وكأن ابن كثير لا يفهم هذا، أدخل هذه الأشياء وهو لا يدرك معناها، ولا يدري عنها، وهذا ليس بصحيح، ينبغي أن نراجع تراثنا بطريقة النقد والتحليل، وليس النقض؛ لأن طريقة النقض هذه ستذهب علينا أشياء كثيرة جداً من علم التفسير، ومن علوم القرآن ومن غيرها، لكن النقد والتحليل ومعرفة مناهج هؤلاء العلماء هي التي ستجعلنا نقتنع بما عندنا من المعلومات.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر