بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ... وبعد:
قبل أن ندخل في مقدمة تفسير الطبري أذكر طرفاً قليلاً جداً مما يتعلق بهذا الكتاب، وهو كتاب جامع البيان عن تأويل آي القرآن لإمام المفسرين محمد بن جرير الطبري ، المولود سنة مائتين وأربع وعشرين، والمتوفى سنة ثلاثمائة وعشر.
يقول الإمام أبو جعفر رحمه الله تعالى: [ استخرت الله في عملي كتاب التفسير، وسألته العون على ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله فأعانني ].
وأيضاً روى أبو عمر عبيد الله بن أحمد السمسار و أبو القاسم ابن عقيل الوراق : أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة. فقالوا: هذا تفنى الأعمار قبل تمامه. فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ثم ذكر نحواً من ذلك فيما يتعلق بتاريخ العالم، فاختصره أيضاً بنحو ما اختصر التفسير.
وهذا الكتاب اشتهر وذاع صيته قبل وفاة الإمام، اشتهر وارتفع ذكره و أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب ، و أبو العباس محمد بن يزيد المبرد يحييان، ولأهل الإعراب والمعاني معقلان، وكان أيضاً في الوقت غيرهما مثل: أبي جعفر الرستمي ، و أبي الحسن بن كيسان ، و المفضل بن سلمة ، و أبي إسحاق الزجاج وغيرهم من النحويين من فرسان هذا اللسان، وحمل هذا الكتاب مشرقاً ومغرباً، وقرأه كل من كان في وقته من العلماء، وكل فضله وقدمه.
يقول أبو حامد الإسفراييني عن هذا الكتاب: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيراً، أو كلاماً هذا معناه.
وقال أبو بكر أحمد بن مجاهد: سمعت أبا جعفر يقول: إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته.
فهذه بعض النقول ذكرتها لكم من كتاب معجم الأدباء وهو أنفس كتاب موجود فيه ترجمة للإمام ابن جرير الطبري ، وهناك ترجمات موجودة لكن أوسع ترجمة هي في كتاب معجم الأدباء لـياقوت الحموي ، وترجمة محمد بن جرير الطبري أوسع ترجمة في هذا الكتاب، فهذا الكتاب ومؤلفه معروفان ولا نحتاج إلى أن نطيل في ذكره أو ذكر ما يتعلق بحال الإمام، ومن أراد أن يتوسع فليرجع إلى ترجمته في معجم الآباء.. لكن من باب الفائدة أحب أن أنوه إلى أن بعض المعاصرين الذين خصصوا كتباً في ترجمة ابن جرير الطبري قصروا فيما يتعلق بمنهجه في التفسير، بل قد أخطأ بعضهم خطأً بيناً يظهر منه أنه لم يطلع على صفحة من كتاب أبي جعفر ، إذ لو اطلع عليه لما قال بعض ما قال.
وقراءة هذه المقدمة ستبين لنا منهج هذا الإمام، وماذا أراد بكتابه؟ ولماذا ألفه؟ فلا نحتاج إلى أن نستقرئ كتابه لكي نستبصر منهجه العام، وإن كنا قد نحتاج إلى منهجه التفصيلي في أن نستقرئ الكتاب، ولذا سترون أن من أعجب ما قيل: إن الإمام ابن جرير الطبري قد ذكر الأسانيد وهو يعلم ضعفها بناءً على أن من أسند فقد أحال، وهذا ليس بصحيح مطلقاً، فالإمام رحمه الله تعالى لم يعتمد هذه القاعدة في التفسير، وإن كان أشار إليها في مقدمة كتابه التاريخ، أما في التفسير فلم يعتمد عليها إطلاقاً، وإنما كان له منهج سيتبين لنا إن شاء الله من خلال المقدمة، وسنقرأ بعض الأمثلة التي نطبقها أو نطبق مقدمة بناءً عليها بإذن الله، ففي ذهني مثال أو مثالان إن استطعنا أن نقرأهما جميعاً ونحاول أن نتدارس منهجية ابن جرير الطبري من خلال هذا المثال وذاك، وهذا سيزيد إن شاء الله بياناً لبعض الأفكار التي طرحها الإمام في المقدمة.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
[ قرئ على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في سنة ست وثلاثمائة قال ].
قوله: [ قرئ على أبي جعفر ]، هذا ظاهر أن الذي يكتب هذا هو أحد تلاميذ أبي جعفر الطبري ، وقوله: [ قرئ على أبي جعفر محمد بن جرير الطبري في سنة ست وثلاثمائة ] والإمام توفي سنة ثلاثمائة وعشر، فهذا يبين أنه قرئ عليه كتابه قبل وفاته بقرابة أربع سنين، ويقول: أبو بكر بن كامل وهو من تلاميذ الإمام ابن جرير: أملى علينا من كتاب التفسير مائةً وخمسين آية، ثم خرج بعد ذلك إلى آخر القرآن، فقرأه علينا وذلك في سنة سبعين ومائتين. فهذا يبين أنه في سنة مائتين وسبعين بدأ الإمام الإملاء ثم قرأه على طلابه.
رواية أخرى عن أبي بكر بن بالويه قال: قال لي أبو بكر بن محمد بن إسحاق -يعني: ابن خزيمة- وهو من معاصري الإمام: بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير قلت: نعم، كتبنا التفسير عنه إملاءً. فقال: كله؟ قلت: نعم. قال: في أي سنة؟ قلت: من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين. ففيه أن بقي يمليه عليهم سبع سنوات.
فهذا يبين لنا المراحل التي مر به هذا التفسير مع الإمام: المرحلة الأولى مرحلة الإملاء الأولى التي كانت سنة سبعين ومائتين.
والمرحلة الثانية مرحلة الإملاء التي كانت سنة ثلاث وثمانين ومائتين.
ثم بعد ذلك بعد أن انتهى منه سنة ست وثلاثمائة، يعني سنة ثلاثمائة وست قرئ عليه التفسير، لكن لا نعلم هل قرئ كاملاً أم لا؟ ويظهر لنا جودة التحرير والتصنيف في كتاب تكرر علينا الإملاء مرة بعد مرة، ثم قرئ على الإمام، وهذه فائدة نفيسة وعزيزة لا تستنبط إلا من خلال قراءة ترجمة هذا الإمام.
الخلاصة أن المراحل التي مر بهذا التفسير ثلاث:
الأولى: التي ذكرها أبو بكر بن كامل مرحلة الإملاء: سنة سبعين ومائتين.
والمرحلة الثانية مرحلة الإملاء الثانية: التي ذكرها ابن بالويه وكانت من سنة مائتين وثلاث وثمانين إلى سنة مائتين وتسعين، والمرحلة الثالثة: مرحلة قراءة الكتاب على الإمام أبي جعفر سنة ثلاثمائة وست.
[ قال: الحمد لله الذي حجت الألباب بدائع حكمه، وخصمت العقول لطائف حججه، وقطعت عذر الملحدين عجائب صنعه، وهتف في أسماع العالمين ألسن أدلته، شاهدةً أنه الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا عدل له معادل، ولا مثل له مماثل، ولا شريك له مظاهر، ولا ولد له ولا والد، ولم يكن له صاحبة، ولا كفواً أحد، وأنه الجبار الذي خضعت لجبروته الجبابرة، والعزيز الذي ذلت لعزته الملوك الأعزة، وخشعت لمهابة سطوته ذوو المهابة، وأذعن له جميع الخلق بالطاعة طوعاً وكرهاً، كما قال جل ثناؤه وتقدست أسماؤه: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [الرعد:15].
فكل موجود إلى وحدانيته داع، وكل محسوس إلى ربوبيته هاد، بما وسمهم به من آثار الصنعة من نقص وزيادة، وعجز وحاجة، وتصرف في عاهات عارضة، ومقارنة أحداث لازمة؛ لتكون له الحجة البالغة.
ثم أردف ما شهدت به من ذلك أدلته، وأكد ما استنارت في القلوب منه بهجته، برسل ابتعثهم إلى عباده، دعاةً إلى ما اتضحت لديهم صحته، وثبتت في العقول حجته؛ لئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]؛ وليذكر أولو النهى والحلم، فأمدهم بعونه، وأبانهم من سائر خلقه، بما دل به على صدقهم من الأدلة، وأيدهم به من الحجج البالغة، والآي المعجزة؛ لئلا يقول القائل منهم: مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ [المؤمنون:33-34].
فجعلهم سفراءه بينه وبين خلقه، وأمناءه على وحيه، واختصهم بفضله، واصطفاهم برسالته، ثم جعلهم فيما خصهم به من مواهبه، ومن به عليهم من كراماته مراتب مختلفة، ومنازل مفترقة، ورفع بعضهم فوق بعض درجات متفاضلات متباينات، فكرم بعضهم بالتكليم والنجوى، وأيد بعضهم بروح القدس، وخصه بإحياء الموتى، وإبراء أولي العاهة والعمى، وفضل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم من الدرجات بالعليا، ومن المراتب بالعظمى، فحباه من أقسام كرامته بالقسم الأفضل، وخصه من درجات النبوة بالحظ الأجزل، ومن الأتباع والأصحاب بالنصيب الأوفر، وابتعثه بالدعوة التامة، والرسالة العامة، وحاطه وحيداً، وعصمه فريداً من كل جبار عاند، وكل شيطان مارد، حتى أظهر به الدين، وأوضح به السبيل، وأنهج به معالم الحق، ومحق به منار الشرك، وزهق به الباطل، واضمحل به الضلال، وخدع الشيطان، وعبادة الأصنام والأوثان، مؤيداً بدلالة على الأيام باقية، وعلى الدهور والأزمان ثابتة، وعلى مر الشهور والسنين دائمة، يزداد ضياؤها على كر الدهور إشراقاً، وعلى مر الليالي والأيام ائتلاقاً، خصيصة من الله له بها دون سائر رسله الذين قهرتهم الجبابرة، واستذلتهم الأمم الفاجرة، فتعفت بعدهم منهم الآثار، وأخملت ذكرهم الليالي والأيام، ودون من كان منهم مرسلاً إلى أمة دون أمة، وخاصة دون عامة، وجماعة دون كافة.
فالحمد لله الذي كرمنا بتصديقه، وشرفنا باتباعه، وجعلنا من أهل الإقرار والإيمان به، وبما دعا إليه وجاء به، صلى الله عليه وعلى آله وسلم أزكى صلواته، وأفضل سلامه، وأتم تحياته. ثم أما بعد:
فإن من جسيم ما خص الله به أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الفضيلة، وشرفهم به على سائر الأمم من المنازل الرفيعة، وحباهم به من الكرامة السنية، حفظه ما حفظ جل ذكره وتقدست أسماؤه من وحيه وتنزيله، الذي جعله على حقيقة نبوة نبيهم صلى الله عليه وسلم دلالة، وعلى ما خصه به من الكرامة علامةً واضحة، وحجةً بالغة، أبانه به من كل كاذب ومفتر، وفصل به بينهم وبين كل جاحد وملحد، وفرق به بينهم وبين كل كافر ومشرك، الذي لو اجتمع جميع من بين أقطارها، من جنها وانسها، وصغيرها وكبيرها، على أن يأتوا بسورة من مثله لم يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. فجعله لهم في دجى الظلم نوراً ساطعاً، وفي سدف الشبه شهاباً لامعاً، وفي مضلة المسالك دليلاً هادياً، وإلى سبل النجاة والحق حادياً، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:16].
حرسه بعين منه لا تنام، وحاطه بركن منه لا يضام، لا تهي على الأيام دعائمه، ولا تبيد على طول الأزمان معالمه، ولا يجور عن قصد المحجة تابعه، ولا يضل عن سبل الهدى مصاحبه. من اتبعه فاز وهدى، ومن حاد عنه ضل وغوى. فهو موئلهم الذي إليه عند الاختلاف يئلون، ومعقلهم الذي إليه في النوازل يعتقلون، وحصنهم الذي به من وساوس الشيطان يتحصنون، وحكمة ربهم التي إليها يحتكمون، وفصل قضائه بينهم الذي إليه ينتهون، وعن الرضا به يصدرون، وحبله الذي بالتمسك به من الهلكة يعتصمون.
اللهم فوفقنا لإصابة صواب القول في محكمه ومتشابهه، وحلاله وحرامه، وعامه وخاصه، ومجمله ومفسره، وناسخه ومنسوخه، وظاهره وباطنه، وتأويل آيه، وتفسير مشكله، وألهمنا التمسك به، والاعتصام بمحكمه، والثبات على التسليم لمتشابهه، وأوزعنا الشكر على ما أنعمت به علينا من حفظه، والعلم بحدوده، إنك سميع الدعاء، قريب الإجابة. وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً ].
(اللهم وفقنا لإصابة صواب القول) ثم ذكر مجموعة من العلوم، مثل المحكم ويقابله المتشابه، والحلال ويقابله الحرام، والعام ويقابله الخاص، والمجمل ويقابله المفسر، والناسخ ويقابله المنسوخ، والظاهر ويقابله الباطن، ثم قال: (تأويل آيه، وتفسير مشكله).
ولو أردنا أن نسلط الضوء على مثل هذه المفردات أو المصطلحات التي ذكرها لصارت جزءاً من علوم الكتاب، ومن علوم القرآن، فالحلال والحرام هو آيات الأحكام، والمحكم والمتشابه هو نوع من أنواع علوم القرآن وكذا العام والخاص، والمجمل والمفسر، والناسخ والمنسوخ، والظاهر والباطن، ثم ذكر تأويل آيه وتفسير مشكله، ومثل هذه العبارة توحي أن الطبري رحمه الله تعالى يفرق بين التأويل والتفسير؛ لأنه قال: (تأويل آيه وتفسير مشكله) ويمكن أن تكون من باب التنويع في العبارة، فإذا كانت من باب التنويع في العبارة فمعنى ذلك أنها أشبه ما تكون من باب عطف الصفات، فيكون تفسير المشكل هو تأويله، وتأويل الآية هو تفسيرها.
والظاهر من عمل الإمام أنه لم يفرق بين التأويل والتفسير، فكأنه لما أراد أن يبين أن في الآيات ما هو ظاهر، وفيها ما هو مشكل، قال: تأويل آيه مقابل تفسير مشكله، يعني: أن منه قسماً ظاهراً معروفاً، ومنه قسماً مشكلاً يحتاج إلى بيان، فهذه ممكن نقول عنها، إما: علوم القرآن، أو علوم التفسير التي سيشير إليها الإمام في تفسيره.
ثم قال رحمه الله: [ اعلموا عباد الله، رحمكم اللهَ! أن أحق ما صرفت إلى علمه العناية، وبلغت في معرفته الغاية، ما كان لله في العلم به رضاً، وللعالم به إلى سبيل الرشاد هدىً، وأن أجمع ذلك لباغيه كتاب الله الذي لا ريب فيه، وتنزيله الذي لا مرية فيه، الفائز بجزيل الذخر وسني الأجر تاليه، الذي لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]. ونحن في شرح تأويله، وبيان ما فيه من معانيه منشئون إن شاء الله ذلك كتاباً مستوعباً لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه جامعاً، ومن سائر الكتب غيره في ذلك كافياً، ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه منه، واختلافها فيما اختلفت فيه منه، ومبينو علل كل مذهب من مذاهبهم، وموضحو الصحيح لدينا من ذلك، بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأخصر ما أمكن من الاختصار فيه، والله نسأل عونه وتوفيقه لما يقرب من محابه، ويبعد من مساخطه. وصلى الله على صفوته من خلقه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً ].
قوله: (ونحن في شرح تأويله، وبيان ما فيه من المعاني)، يعني: سيذكر التأويل ويشرحه، ويبين ما فيه من المعاني، ثم قال: (منشئون إن شاء الله ذلك كتاباً)، يعني: منشئون كتاباً مستوعباً لكل ما بالناس إليه الحاجة من علمه، وهنا مسألة تتكرر عند العلماء وهي أنه لما يؤلف العالم يقول: لما رأيت حاجة الناس إلى كتاب في كذا ألفت هذا، فكأنه أنشأه من أجل أن يستوعب حاجة الناس، ويبين لهم ما في هذا الكتاب من المعاني والتأويل.
ثم قال: (كتاباً مستوعباً جامعاً، ومن سائر الكتب غيره بذلك كافياً) وهذه أيضاً يذكرها بعض العلماء، وكأنه يقول: وهذا الكتاب غنية لمن أراد أن يقرأه عن غيره، فكل واحد من العلماء يظن هذا في كتابه فيقولون، وليس هذا كما يفهمه بعضهم من باب تزكية النفس المذمومة، وإنما يشير إلى ما يراه في كتابه، فهذه إشارة إلى أنه يرى أنه قد بالغ في النصح في وضع هذا الكتاب بحيث إنه قال: من خلال علمي أن ما وضعته لا يحتاج الناس بعد قراءته إلى كتاب آخر يقرءونه.
ثم قال: (ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا) وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الإمام ابن جرير الطبري استوعب جميع الروايات التي كانت بين يديه؛ لقوله: (ومخبرون في كل ذلك بما انتهى إلينا من اتفاق الحجة فيما اتفقت عليه منه، واختلافها فيما اختلفت فيه منه)، فهو سيذكر جميع الروايات التي بلغته عن هؤلاء الحجة من الصحابة والتابعين وأتباعهم، سواء كانت متفقة عندهم إجماع على معنى، أو كانت مختلفة، فلهذا لو قال قائل: إن من منهج الطبري استيعاب جميع الروايات التي عنده لقلنا: إن هذا صحيح، لما تدل عليه هذه العبارة التي ذكرها.
قال بعد ذلك: (ومبينو علل كل مذهب من مذاهبهم)، وهذا ممكن أن نسميه توجيه الأقوال، يعني أن يشير إلى علل الأقوال.
ثم قال بعد ذلك: (وموضحو الصحيح لدينا من ذلك)، فبعد أن يذكر الأقوال وعللها يرجح بين هذه الأقوال المختلفة إذا كانت مختلفة، وكما قال: (موضحو الصحيح لدينا من ذلك بأوجز ما أمكن من الإيجاز في ذلك، وأخصر ما كان من الاختصار فيه)، فهذا هو منهج الطبري ، حكاية جميع ما ورد من روايات الحجة من علماء التفسير، ثم إن كانت أقوالهم متفقة أبان عن ذلك، وإن كانت أقوالهم مختلفة فإنه يذكر علة كل قول، ثم يختار منها ما صح عنده.
وأما منهجيته في التصحيح والتضعيف فالأصل عند الإمام ابن جرير الطبري الاعتماد على المعاني دون النظر إلى الأسانيد إلا إذا احتاج الأمر إلى النظر إلى الإسناد. وهذه قاعدة عند كل علماء التفسير، وهي قاعدة المحدثين في هذا، والدليل على ذلك أن عندنا من أئمة المحدثين مثل ابن أبي حاتم في كتابه التفسير، أو عبد بن حميد ، أو غيرهم من علماء الحديث الذين كتبوا في التفسير لم يتعرضوا لقضية التصحيح والتضعيف في التفسير من جهة الإسناد، وهذه الفائدة ينبغي التركيز عليها؛ لأن الآن العمل العلمي عندنا عكس هذا، العمل العلمي عندنا الآن هو تحرير أسانيد التفسير ما يروى عن الصحابة والتابعين وأتباعهم، وليس ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس محل نزاع، فمحل النزاع هو ما يروى عن الصحابة والتابعين وأتباعهم، والمنهج الذي سار عليه العلماء جيلاً بعد جيل منذ أن بدأت الرواية إلى قريب من عصرنا، هي اعتماد هذه المرويات على ما هو معروف فيها من الضعف، والنظر إلى المعاني، ولا يناقش الإسناد إلا إذا كان فيه إشكال من جهة المعنى فيتحرى في الإسناد، هذه القاعدة الأغلبية، وهذه منهجية الطبري التي سار عليها، ومن قرأ سورة الفاتحة تبين له هذا المنهج، وهذا المنهج هو منهج عامة من كتب في التفسير ممن شارك من علماء الحديث، أو ممن لم يكن له عناية أيضاً بالحديث.
قد يقول قائل: إن تفسير القرآن يبنى على اللغة، فلا يحتاج فيه النظر إلى الأسانيد، فيقال: هذه الفكرة أو قريبة منها أشار إليها البيهقي في مقدمة دلائل النبوة سبب قبول روايات التفسير عند المحدثين فلتراجع هناك، ولكن نقول: ليس كل القرآن يعتمد على اللغة فقط، بل هناك ما يعتمد على الآثار مثل: أسباب النزول، وبعض الأحكام الفقهية التي لا بد فيها من الإسناد، فهذه لا شك أنه يرجع فيها إلى الإسناد، لكن كلامنا الآن عن جمهور أو جملة التفسير، وإلا لو جئنا للتفصيل لوجد أن هناك في التفسير أشياء لا بد فيها من تحرير الإسناد، وهناك ما يتساهل في تحريره، وهناك ما لا علاقة له أصلاً بالإسناد، ولا يدخله الإسناد بل لو دخله الإسناد لهدمه مثل الإسرائيليات، فالإسرائيليات ما نحتاج فيها إلى الإسناد، وهذه المعلومة مهمة، خصوصاً لمن لم يفهم منهج ابن جرير الطبري ، وكذلك غيره من المفسرين في قضية التعامل مع الروايات.
ثم قال رحمه الله: [ وأول ما نبدأ به من القيل في ذلك: الإبانة عن الأسباب التي البداية بها أولى، وتقديمها قبل ما عداها أحرى، وذلك البيان عما في آي القرآن من المعاني التي من قبلها يدخل اللبس على من لم يعان رياضة العلوم العربية، ولم تستحكم معرفته بتصاريف وجوه منطق الألسن السليقية الطبيعية ].
يشير إلى أهمية اللغة العربية في التفسير، وسيبتدئ ببعض العلوم المرتبطة بالعربية، في الفصول القادمة.
ثم قال: [ القول في البيان عن اتفاق معاني آي القرآن، ومعاني منطق من نزل بلسانه من وجه البيان والدلالة على أن ذلك من الله عز وجل هو الحكمة البالغة، مع الإبانة عن فضل المعنى الذي به باين القرآن سائر الكلام، قال أبو جعفر : إن من عظيم نعم الله على عباده، وجسيم منته على خلقه، ما منحهم من فضل البيان، الذي به عن ضمائر صدورهم يبينون، وبه على عزائم نفوسهم يدلون، فذلل به منهم الألسن، وسهل به عليهم المستصعب، فبه إياه يوحدون، وإياه به يسبحون ويقدسون، وإلى حاجاتهم به يتوصلون، وبه بينهم يتحاورون، فيتعارفون ويتعاملون ].
كل هذا إشارة إلى نعمة اللسان، ولهذا ذكر الله في قوله سبحانه وتعالى في سورة الرحمن: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:4] فتعليم البيان نعمة من الله، ولو كان الناس لا يستطيعون أن يبينوا عن حاجاتهم عن أنفسهم لما قامت حياتهم، فمن نعمة الله هذا اللسان كما قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ [البلد:8-9]، فهذا اللسان التي يبين بها الإنسان عن مكنون صدره من نعم الله سبحانه وتعالى على عباده.
قال: [ ثم جعلهم جل ذكره فيما منحهم من ذلك طبقات، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، فبين خطيب مسهب، وذلق اللسان مهذب، ومفحم عن نفسه لا يبين، وعيي عن ضمير قلبه لا يعبر، وجعل أعلاهم فيه رتبة، وأرفعهم فيه درجة، أبلغهم فيما أراد به بلاغاً، وأبينهم عن نفسه به بياناً، ثم عرفهم في تنزيله، ومحكم آي كتابه، فضل ما حباهم به من البيان، على من فضلهم به عليه من ذي البكم والمستعجم اللسان، فقال تعالى ذكره: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، فقد وضح إذاً لذوي الأفهام، وتبين لأولي الألباب، أن فضل أهل البيان، على أهل البكم والمستعجم اللسان، بفضل اقتدار هذا من نفسه على إبانة ما أراد إبانته عن نفسه ببيانه، واستعجام لسان هذا عما حاول إبانته بلسانه، فإن كان ذلك كذلك، وكان المعنى الذي به باين الفاضل المفضول في ذلك، فصار به فاضلاً والآخر مفضولاً، هو ما وصفنا من فضل إبانة ذي البيان عما قصر عنه المستعجم اللسان، وكان ذلك مختلف الأقدار، متفاوت الغايات والنهايات، فلا شك أن أعلى منازل البيان درجة، وأسنى مراتبه مرتبة، أبلغه في حاجة المبين عن نفسه، وأبينه عن مراد قائله، وأقربه من فهم سامعه، فإن تجاوز ذلك المقدار وارتفع عن وسع الأنام، وعجز عن أن يأتي بمثله جميع العباد، كان حجةً وعلماً لرسل الواحد القهار، كما كان حجةً وعلماً لها إحياء الموتى، وإبراء الأبرص وذوي العمى، بارتفاع ذلك عن مقادير أعلى منازل طب المتطببين، وأرفع مراتب علاج المعالجين، إلى ما يعجز عنه جميع العالمين. وكالذي كان لها حجةً وعلماً قطع مسافة شهرين في الليلة الواحدة، بارتفاع ذلك عن وسع الأنام، وتعذر مثله على جميع العباد، وإن كانوا على قطع القليل من المسافة قادرين، ولليسير منه فاعلين ].
ولو قال قائل: الآن تقطع مسافة الشهرين بأقل من ذلك، فيقال: ليس فيه حجة؛ لأن سليمان لم يكن يعالج هذا الأمر مادياً، وإنما كان تسخيراً من الله أن سخر له الريح، ولا يوجد مثله من تسخر له الريح فيحصل له مثل هذا، فالفرق بين هذا وذاك هو قضية المعالجة، ولا شك أن الإمام حين قال هذا الكلام ما كان يتصور أنه يمكن أن تقطع هذه المسافات بهذه السرعات اللي نراها اليوم.
ثم قال: [ فإن كان ما وصفنا من ذلك كالذي وصفنا، فبين أن لا بيان أبين، ولا حكمة أبلغ، ولا منطق أعلى، ولا كلام أشرف من بيان ومنطق تحدى به امرؤ قوماً في زمان هم فيه رؤساء صناعة الخطب والبلاغة، وقيل: الشعر والفصاحة، والسجع والكهانة، على كل خطيب منهم وبليغ وشاعر منهم وفصيح، وكل ذي سجع وكهانة -فسفه أحلامهم، وقصر بعقولهم، وتبرأ من دينهم، ودعا جميعهم إلى اتباعه، والقبول منه، والتصديق به، والإقرار بأنه رسول إليهم من ربهم، وأخبرهم أن دلالته على صدق مقالته، وحجته على حقيقة نبوته ما أتاهم به من البيان، والحكمة والفرقان، بلسان مثل ألسنتهم، ومنطق موافقة معانيه معاني منطقهم. ثم أنبأ جميعهم أنهم عن أن يأتوا بمثل بعضه عجزة، ومن القدرة عليه نقصة. فأقر جميعهم بالعجز، وأذعنوا له بالتصديق، وشهدوا على أنفسهم بالنقص ].
وهذا الكلام كله عن قضية إعجاز القرآن أو وجه التحدي الذي نزل به القرآن، ومثل هذا المنطق الذي يتكلم به أبو جعفر رحمه الله تعالى مهم جداً التنبه له؛ لأن كثيراً ممن قرأ هذه المقدمة لم ينتبه إلى مراد الإمام من أن وجه التحدي الأول الذي تحدي به العرب هو ما في هذا القرآن من منطق يوافق منطقهم، وأنه تحداهم أن يأتوا بمثل هذا الكلام الذي هو من منطقهم، فهذا هو وجه الإعجاز، وعلمنا أنهم قد أذعنوا جميعاً، وأنهم عجزوا عن ذلك بعدم وجود معارض ينبني لهذا، فموت أهل الكفر الذين عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم أو إسلامهم هو الدليل القاطع على أنهم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله، ولا بسورة أيضاً من مثله، فهذا دليل عقلي مرتبط بالنظر التاريخي، أما ما سيذكره بعد قليل فهو قليل صفيق، وكلام سفيه لم يؤبه له، مثل الروايات التي تروى عن مسيلمة الكذاب وغيره، لكن الذي يعنينا هو أن هذا القرآن نزل في قوم كانوا يمجدون أشياء، فجاء يسفه أحلامهم، ويأمرهم بأن يتبعوه، ويتحداهم أن يأتوا بمثله ومع ذلك لم يستطيعوا، فهذا مقام عجز من العرب، إذ كيف يأتيكم هذا الكلام من هذا الرجل وفيه تسفيه لأحلامكم وبيان بطلان عقائدكم التي تعتقدون، وبيان أخطاء كثيرة تقعون فيها، ثم يقول لكم: اتبعوني، ويقول لكم أيضاً: إن الذي جئت به لا تستطيعون أن تأتوا بسورة من مثله، ولم يستطيعوا أن يفعلوا ذلك، وجالدوه بالسيوف مع أن مجالدة اللسان أسهل فلما تركوا اللسان إلى السنان دل على أنهم قد عجزوا عن الإتيان بمثله، وإلا كيف يقاتلوه وقد طلب منهم شيئاً أقل من أن يقدموا دماءهم لهذا المعتقد الكافر الذي يدينون به، طلب منهم أن يأتوا بسورة من مثله، فهذه دلالة واضحة على عجز هؤلاء العرب عن الإتيان بمثله.
[ إلا من تجاهل منهم وتعامى، واستكبر وتعاشى، فحاول تكلف ما قد علم أنه عنه عاجز، ورام ما قد تيقن أنه عليه غير قادر، فأبدى من ضعف عقله ما كان مستتراً، ومن عي لسانه ما كان مصوناً، فأتى بما لا يعجز عنه الضعيف الأخرق، والجاهل الأحمق، فقال: والطاحنات طحناً، والعاجنات عجناً، فالخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، فاللاقمات لقماً!، ونحو ذلك من الحماقات المشبهة دعواه الكاذبة.
فإذ كان تفاضل مراتب البيان، وتباين منازل درجات الكلام بما وصفنا قبل، وكان الله تعالى ذكره وتقدست أسماؤه أحكم الحكماء، وأحلم الحلماء، كان معلوماً أن أبين البيان بيانه، وأفضل الكلام كلامه، وأن قدر فضل بيانه جل ذكره على بيان جميع خلقه.
كفضله على جميع عباده].
[ فإن كان كذلك، وكان غير مبين منا عن نفسه من خاطب غيره بما لا يفهمه عنه المخاطب، كان معلوماً أنه غير جائز أن يخاطب جل ذكره أحداً من خلقه إلا بما يفهمه المخاطب ].
هو من بداية كلامه تكلم عن كلام الله سبحانه وتعالى، وأن من نعمة الله على الإنسان أن أعطاه البيان، وأنزل هذا الكتاب المعجز بلسان العرب، ثم هو سيبني عليه هذه المعلومة وهي أن المخاطب يبين عما في نفسه للمخاطب، فإذا كان المخاطب يعرف هذا الكلام فإنه يستطيع أن يفهمه ويعرف ما فيه من المعاني، لكن لو خوطب بكلام لا يعرفه فلا يمكن أن يفهم المراد وهذا واضح جداً، فهو يريد أن يبين كيف أن من نعمة الله علينا أن أنزل هذا القرآن بلسان نستطيع أن نفهمه، نستطيع أن نعلم ماذا يريد الله سبحانه وتعالى منا.
[ ولا يرسل إلى أحد منهم رسولاً برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه؛ لأن المخاطب والمرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه فحاله قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة إليه وبعده سواء، إذ لم يفده الخطاب والرسالة شيئاً كان به قبل ذلك جاهلاً.
والله جل ذكره يتعالى عن أن يخاطب خطاباً أو يرسل رسالةً لا توجب فائدة لمن خوطب أو أرسلت إليه؛ لأن ذلك فينا من فعل أهل النقص والعبث، والله تعالى عن ذلك متعال؛ ولذلك قال جل ثناؤه في محكم تنزيله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4]، وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل:64]، فغير جائز أن يكون به مهتدياً من كان بما يهدى إليه جاهلاً.
فقد تبين إذاً بما عليه دللنا من الدلالة أن كل رسول لله جل ثناؤه أرسله إلى قوم، فإنما أرسله بلسان من أرسله إليه، وكل كتاب أنزله على نبي، ورسالة أرسلها إلى أمة، فإنما أنزله بلسان من أنزله أو أرسله إليه، فاتضح بما قلنا ووصفنا أن كتاب الله الذي أنزله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بلسان محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذ كان لسان محمد صلى الله عليه وسلم عربياً، فبين أن القرآن عربي. وبذلك أيضاً نطق محكم تنزيل ربنا، فقال جل ذكره: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [يوسف:2]، وقال: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:192-195]. وإذ كانت واضحةً صحة ما قلنا بما عليه استشهدنا من الشواهد، ودللنا عليه من الدلائل، فالواجب أن تكون معاني كتاب الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لمعاني كلام العرب موافقة، وظاهره لظاهر كلامها ملائماً، وإن باينه كتاب الله بالفضيلة التي فضل بها سائر الكلام والبيان، بما قد تقدم وصفناه ].
كل ما سبق كان استدلالاً عقلياً، ثم ذكر الدليل النقلي في قوله: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً [يوسف:2]، ومعلوم أنه لا أحد يخالف في كونه قرآناً عربياً، لكن هذه المقدمة كلها لأنه سيبني عليها فائدة، ولهذا لما قال: (ودللنا عليه من الدلائل فالواجب أن تكون معاني كتاب الله المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لمعنى كلام الله موافقة)، فهذه ممكن أن نستنبط منها قاعدة وهي: أن كل ما في القرآن فهو عربي، وليس كل ما في لغة العرب في القرآن، والمؤلف يريد أن يقرر هذه الفكرة، ليبين لنا أن ما في كلام الله سبحانه وتعالى وما في تنزيله فإنه عربي، وبناءً على ذلك فلا يجوز صرف هذا الكلام الذي نزل بلغة العرب إلى غير لغة العرب، فكل بيان للقرآن بغير لغة العرب فهو دليل على بطلان هذا القول.
ثم سرد بعض أساليب لغة العرب، فقال:
[ فإذ كان ذلك كذلك، فبين إذ كان موجوداً في كلام العرب الإيجاز والاختصار، والاجتزاء بالإخفاء من الإظهار، وبالقلة من الإكثار في بعض الأحوال، واستعمال الإطالة والإكثار، والترداد والتكرار، وإظهار المعاني بالأسماء دون الكناية عنها، والإسرار في بعض الأوقات، والخبر عن الخاص في المراد بالعام الظاهر، وعن العام في المراد بالخاص الظاهر، وعن الكناية والمراد منه المصرح، وعن الصفة والمراد الموصوف، وعن الموصوف والمراد الصفة، وتقديم ما هو في المعنى مؤخر، وتأخير ما هو في المعنى مقدم، والاكتفاء ببعض من بعض، وبما يظهر عما يحذف، وإظهار ما حظه الحذف، أن يكون ما في كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك، في كل ذلك له نظيراً، وله مثلاً وشبيهاً، ونحن مبينو جميع ذلك في أماكنه إن شاء الله ذلك، وأمد منه بعون وقوة ].
هذه بعض الأساليب العربية التي استعملت في القرآن، وإذا تأملنا هذه الأساليب فيجب علينا أن يكون عندنا نوع من العدل في التعامل مع المفسرين، إذا استخدم بعض المفسرين هذه الأساليب في بيان معاني القرآن، ووقع عنده خطأ ليس في الأسلوب؛ لأننا نتفق على الأسلوب أنه موجود، لكن وقع عنده خطأ بسبب مقدمات عقلية، فإننا لا ننفي وجود الأسلوب في القرآن إذا كان موجوداً واضحاً، بل نقول: إن هذا الموطن الذي ناقشه هذا المفسر ليس صحيحاً، وليس هو المثال على هذا، أو لا يصدق عليه هذا الأسلوب، ولهذا مثلاً قوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، هل المراد بالسيئة الثانية هي نفس السيئة الأولى؟ فهذه يسمونها مشاكلة لفظية، أنا أجيز المشاكلة اللفظية هنا، لكن تطرد في قوله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30]، فهنا يجب علينا أن يكون عندنا نوع من العدل، فإننا نقول: إن من قال بالمشاكلة اللفظية هنا من جهة استخدام العرب لها نقول: المشاكلة موجودة، ولكن لا نقول بها في هذا الموطن لأسباب خارج إطار النص، أسباب مرتبطة بالمقدمات العقلية، وبالقضايا الاعتقادية عند المفسر، فلا ننكر وجود هذا الأسلوب، وإنما نقول: إن هذا الموطن ليس من مواطن هذا الأسلوب، ولهذا ممكن أن نقول: كل أسلوب عربي مستخدم في القرآن لا يلزم أن يكون مطرداً في جميع الأمثلة التي يحكى بها، فلا يقال في مثل قوله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30]، أن هذا على سبيل المشاكلة؛ لأن صفة المكر هنا ثابتة لله لكنها صفة مقابلية، بمعنى: أنها لا تذكر إلا بمقابل مكر الكفار، ولكن الله سبحانه وتعالى قد تنزه عن أن يكون ماكراً ابتداءً كما هو معلوم ومقرر في قضية الاعتقاد.
والمؤلف رحمه الله ذكر أنه سيبين هذه الأساليب في مواطنها، وهو رحمه الله من أكثر المفسرين إشارة إلى أساليب العرب في الكلام، ومع ذلك لم يبحث تفصيلاً أساليب العرب من خلال تفسير الطبري ، وهي كثيرة جداً، فبعض أساليب العرب مرتبطة بتحسين الكلام، وبعضها مرتبطة بفهم الكلام، وبعضها ببلاغة اللفظ، فلو درست هذه الأساليب من خلال هذه الاتجاهات الثلاث فإننا سنظفر بأمثلة كثيرة جداً في كتاب الطبري ويمكن أن يقسم تفسير الطبري إلى عدة أقسام في مشروع يتعلق بقضية أساليب العرب التي تكلم بها القرآن من خلال تفسير الطبري.
وأما المجاز بذاته فلم يتكلم عنه مباشرةً، لذا فلا يمكن أن نقول: إن الطبري يرى المجاز اعتماداً على أنه يقول: يجوز استخدام أساليب العرب، والقاعدة: أن كل ما في القرآن فهو عربي، وليس كل عربي في القرآن، ولذا من أنكر بعض الأساليب مثل التورية أو غيرها أن تكون موجودة في القرآن بني على هذه القاعدة لكن من قال بهذا فهو يقول بشيء يصعب تطبيقه، خصوصاً إذا وجد من يخالفه في بعض الأساليب، مثل القول بالمجاز.
قال: [ القول في البيان عن الأحرف التي اتفقت فيها ألفاظ العرب وألفاظ غيرها من بعض أجناس الأمم.
قال أبو جعفر : إن سألنا سائل فقال: إنك ذكرت أنه غير جائز أن يخاطب الله أحداً من خلقه إلا بما يفهمه، وأن يرسل إليه رسالةً إلا باللسان الذي يفقهه..
فما أنت قائل فيما حدثكم به محمد بن حميد الرازي ، قال: حدثنا حكام بن سلم ، قال: حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن أبي موسى : يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد:28]، قال: الكفلان: ضعفان من الأجر بلسان الحبشة.
وفيما حدثكم به ابن حميد ، قال: حدثنا حكام ، قال: حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ [المزمل:6] قال بلسان الحبشة: إذا قام الرجل من الليل قالوا: نشأ.
وفيما حدثكم به ابن حميد قال: حدثنا حكام ، قال: حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة : يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ:10] قال: سبحي، بلسان الحبشة.
قال أبو جعفر : وكل ما قلنا في هذا الكتاب: (حدثكم) فقد حدثونا به ] بمعنى أنه أخذ مباشرة.
قال: [ وفيما حدثكم به محمد بن خالد بن خداش الأزدي ] بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سأل عن قوله: فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:51]، قال: هو بالعربية الأسد، وبالفارسية شار، وبالنبطية أريا، وبالحبشية قسورة.
وفيما حدثكم به بسنده.. إلى سعيد بن جبير قال: قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجمياً وعربياً؟ فأنزل الله تعالى ذكره: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، فأنزل الله بعد هذه الآية في القرآن بكل لسان، فمنه حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر:74]، قال: فارسية أعربت. سنك وكل وفيما حدثكم به عن أبي ميسرة ، قال: في القرآن من كل لسان.
وفيما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكرها الكتاب، مما يدل على أن فيه من غير لسان العرب ].
لما قرر المؤلف أن القرآن نزل بلسان العرب أشار إلى مسألة ورود الأعجمي في القرآن، وهو ما يسمى بالمعرب،
ثم بدأ يناقش هذه المسألة بناءً على الآثار التي أوردها عن السلف. فقال:
[ قيل له: إن الذي قالوه من ذلك غير خارج من معنى ما قلنا، من أجل أنهم لم يقولوا: هذه الأحرف وما أشبهها لم تكن للعرب كلاماً، ولا كان ذاك لها منطقاً قبل نزول القرآن، ولا كانت بها العرب عارفةً قبل مجيء الفرقان، فيكون ذلك قولاً لقولنا خلافاً. وإنما قال بعضهم: حرف كذا بلسان الحبشة معناه كذا، وحرف كذا بلسان العجم معناه كذا، ولم نستنكر أن يكون من الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة الألسن بمعنىً واحد، فكيف بجنسين منها؟ كما قد وجدنا اتفاق كثير منه فيما قد علمناه من الألسن المختلفة، وذلك كالدرهم والدينار والدواة والقلم والقرطاس وغير ذلك مما يتعب إحصاؤه، ويمل تعداده، كرهنا إطالة الكتاب بذكره، مما اتفقت فيه الفارسية والعربية باللفظ والمعنى، ولعل ذلك كذلك في سائر الألسن التي يجهل منطقها، ولا نعرف كلامها.
فلو أن قائلاً قال فيما ذكرنا من الأشياء التي عددنا وأخبرنا اتفاقه في اللفظ والمعنى بالفارسية والعربية، وما أشبه ذلك مما سكتنا عن ذكره: ذلك كله فارسي لا عربي، أو ذلك كله عربي لا فارسي، أو قال: بعضه عربي وبعضه فارسي، أو قال: كان مخرج أصله من عند العرب فوقع إلى العجم فنطقوا به، أو قال: كان مخرج أصله من عند الفرس فوقع إلى العرب فأعربته، كان مستجهلاً؛ لأن العرب ليست بأولى أن تكون مخرج أصل ذلك منها إلى العجم، ولا العجم بأحق أن تكون مخرج أصل ذلك منها إلى العرب، إذ كان استعمال ذلك بلفظ واحد ومعنىً واحد موجوداً في الجنسين، وإذ كان ذلك موجوداً على ما وصفنا في الجنسين، فليس أحد الجنسين بأولى أن يكون أصل ذلك كان من عنده من الجنس الآخر، والمدعي أن مخرج أصل ذلك إنما كان من أحد الجنسين إلى الآخر، مدع أمراً لا يوصل إلى حقيقة صحته إلا بخبر يوجب العلم، ويزيل الشك، ويقطع العذر مجيئه، بل الصواب في ذلك عندنا أن يسمى عربياً أعجمياً، أو حبشياً عربياً، إذ كانت الأمتان له مستعملتين في بيانها ومنطقها، استعمال سائر منطقها وبيانها، فليس غير ذلك من كلام كل أمة منها بأولى أن يكون إليها منسوباً منه، فكذلك سبيل كل كلمة واسم اتفقت ألفاظ أجناس أمم فيها وفي معناها، ووجد ذلك مستعملاً في كل جنس منها استعمال سائر منطقهم، فسبيل إضافته إلى كل جنس منها سبيل ما وصفنا من الدرهم والدينار والدواة والقلم، التي اتفقت ألسن الفرس والعرب فيها بالألفاظ الواحدة والمعنى الواحد في أنه مستحق إضافته إلى كل جنس من تلك الأجناس اجتماع واقتران ].
كلامه رحمه الله طويل. والخلاصة: أن السلف الذين روي عنهم ما روي لم ينكر أحد منهم أن تكون عربية، وهذه قضية مهمة جداً في هذه المسألة، وقصارى عباراتهم أنها بالفارسية كذا، بالحبشية كذا، وبالنبطية كذا، فـالطبري يقول: قصارى ما في الأمر إشارة إلى من يوافق العرب في المنطق، فتكون عنده هذه الألفاظ التي تسمى أعجمية مما اتفقت فيها اللغات، فقاعدته: أن هذه الألفاظ التي تسمى أعجمية هي مما اتفقت فيها اللغات.
فيقول: لو قال قائل: أهي عربية انتقلت إلى الفارسية، أو إلى أحد الأعاجم، أو هي أعجمية ثم انتقلت إلى العرب، فلا يمكن لأحد أن يثبت هذا بالدليل الذي يقطع العذر، ولهذا قال: (مدع أمراً لا يوصل إلى حقيقة صحته إلا بخبر يوجب العلم، ويزيل الشك، ويقطع العذر مجيئه)، قطعاً لا يوجد عندنا علم يقيني نستطيع أن نجزم به جزماً تاماً؟ أن هذا اللفظ ليس بعربي أصلاً .. وهذه حجة عقلية منطقية مستخلصة من النظر في عبارات القوم.
وأما كلمة (قسورة) فليس فيه نفي أن غير موجود في العربية لكنه غير شائع، هذا مفهوم كلام الطبري .
[ وذلك هو معنى قول من روينا عنه القول في الأحرف التي مضت في صدر هذا الباب، من نسبة بعضهم بعض ذلك إلى لسان الحبشة، ونسبة بعضهم بعض ذلك إلى لسان الفرس، ونسبة بعضهم بعض ذلك إلى لسان الروم؛ لأن من نسب شيئاً من ذلك إلى ما نسبه إليه، لم ينف بنسبته إياه إلى ما نسبه إليه أن يكون عربياً، ولا من قال منهم: هو عربي نفى ذلك أن يكون مستحقاً النسبة إلى من هو من كلامه من سائر أجناس الأمم غيرها.
وإنما يكون الإثبات دليلاً على النفي فيما لا يجوز اجتماعه من المعاني، كقول القائل: فلان قائم، فيكون بذلك من قوله دالاً على أنه غير قاعد، ونحو ذلك مما يمتنع اجتماعه لتنافيهما.
فأما ما جاز اجتماعه فهو خارج من هذا المعنى، وذلك كقول القائل: فلان قائم مكلم فلاناً، فليس في تثبيت القيام له ما دل على نفي كلام آخر، لجواز اجتماع ذلك في حال واحد، من شخص واحد، فقائل ذلك صادق إذا كان صاحبه على ما وصفه به ].
والملاحظ أن الحجة العقلية عنده هنا قاعدة علمية وهذه القاعدة هي: (إنما يكون الإثبات دليلاً على النفي فيما لا يجوز اجتماعه في المعاني)، يعني: المتضادات التي لا يمكن اجتماعها، فإذا قلت: فلان قائم، فضد قائم: قاعد أو جالس، فلا يمكن أن يكون في آن واحد قائماً جالساً، أو قائماً قاعداً لكن أنه يكون قائماً متكلماً معاً، فهذه ليس فيها إشكال ممكن أن تجتمع، وعلى هذا فليس يمتنع أن يكون هذا اللفظ عربياً حبشياً، أو عربياً رومياً، أو عربياً فارسياً؛ لأنه يمكن اجتماعها، لكن لو جاء نفي فهذا هو الذي يتكلم عنه الإمام أنه الدليل في النفي وليس في الإثبات، قال: (إنما يكون الإثبات دليلاً على النفي فيما لا يجوز اجتماعه من المعاني).
[ فكذلك ما قلنا في الأحرف التي ذكرنا وما أشبهها غير مستحيل أن يكون عربياً بعضها أعجمياً، وحبشياً بعضها عربياً، إذ كان موجوداً استعمال ذلك في كلتا الأمتين، فناسب ما نسب من ذلك إلى إحدى الأمتين، أو كلتيهما محق غير مبطل.
فإن ظن ذو غباء أن اجتماع ذلك في الكلام مستحيل، كما هو مستحيل في أنساب بني آدم، فقد ظن جهلاً؛ وذلك أن أنساب بني آدم محصورة على أحد الطرفين دون الآخر؛ لقوله تعالى ذكره: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب:5]، وليس ذلك كذلك في المنطق والبيان؛ لأن المنطق إنما هو منسوب إلى من كان به معروفاً استعماله، فلو عرف استعمال بعض الكلام في أجناس من الأمم جنسين أو أكثر بلفظ واحد ومعنىً واحد، كان ذلك منسوباً إلى كل جنس من تلك الأجناس، لا يستحق جنس منها أن يكون به أولى من سائر الأجناس غيره. كما لو أن أرضاً بين سهل وجبل، لها هواء السهل وهواء الجبل، أو بين بر وبحر، لها هواء البر وهواء البحر، لم يمتنع ذو عقل صحيح أن يصفها بأنها سهلية جبلية، أو بأنها برية بحرية، إذ لم تكن نسبتها إلى إحدى صفتيها نافيةً حقها من النسبة إلى الأخرى، ولو أفرد لها مفرد إحدى صفتيها ولم يسلبها صفتها الأخرى كان صادقاً محقاً، وكذلك القول في الأحرف التي تقدم ذكرناها في أول هذا الباب، وهذا المعنى الذي قلناه في ذلك هو معنى قول من قال في القرآن: من كل لسان عندنا. بمعنى والله أعلم أن فيه من كل لسان، اتفق فيه لفظ العرب ولفظ غيرها من الأمم التي تنطق به، نظير ما وصفنا من القول فيما مضى ].
فمن قال: في القرآن من كل لسان، فإن كان مراده كل لسان من ألسنة الناس فهذا محال، وإن كان مراده الإشارة إلى كثرة ما ورد من الألفاظ التي توافقت اللغات فهذا صحيح. فإذا حمل على المعنى فصحيح.
قال: [ وذلك أنه غير جائز أن يتوهم على ذي فطرة صحيحة، مقر بكتاب الله، ممن قد قرأ القرآن، وعرف حدود الله، أن يعتقد أن بعض القرآن فارسي لا عربي، وبعضه نبطي لا عربي، وبعضه رومي لا عربي، وبعضه حبشي لا عربي، بعدما أخبر الله تعالى ذكره عنه أنه جعله قرآناً عربياً؛ لأن ذلك إن كان كذلك فليس قول القائل: القرآن حبشي أو فارسي، ولا نسبة من نسبه إلى بعض ألسن الأمم التي بعضه بلسانها دون العرب بأولى بالتطويل من قول القائل: هو عربي، ولا قول القائل: هو عربي، بأولى بالصحة والصواب من قول ناسبه إلى بعض الأجناس التي ذكرنا، إذ كان الذي بلسان غير العرب من سائر ألسن أجناس الأمم فيه نظير الذي فيه من لسان العرب ].
وهذه حجة عقلية أخرى، وهي: أنه لو صح هذا لجاز أن يقال: بأن القرآن فارسي، أو نبطي، أو رومي.. إلى آخره، وهذا من باب الاحتجاج وباب الاحتجاج أوسع من باب الإثبات، فلا يأتي أحد ويقول: هذا الاحتجاج فيه ضعف؛ لأن الإمام الطبري لم يجعل هذا الاحتجاج من أوائل احتجاجاته، وإنما أخره، ففيه جانب من الصحة، وإن كان قد يعترض عليه، وهذا من باب الفائدة لطالب العلم إذا كان يتكلم عن مسألة ما في الاحتجاج أن يذكر في بدء احتجاجه الأدلة القوية، ثم بعد ذلك ينزل إلى الأدلة التي هي أقل منها، ولا يعترض على الاستدلالات الضعيفة إلا إذا كانت كلها ضعيفة، أما إذا وردت استدلالات قوية ثم ذكرت الضعيفة من باب تتميم الكلام فهذا لا يعترض عليه، وإن كان يمكن أن يشار إلى ضعفه.
قال: [ وإذ كان ذلك كذلك فبين إذاً خطأ قول من زعم أن القائل من السلف: في القرآن من كل لسان، إنما عنى بقيله ذلك أن فيه من البيان ما ليس بعربي، ولا جائزةً نسبته إلى لسان العرب. ويقال لمن أبى ما قلنا ممن زعم أن الأحرف التي قدمنا ذكرها في أول الباب وما أشبهها إنما هي كلام أجناس من الأمم سوى العرب، وقعت إلى العرب فعربته: ما برهانك على صحة ما قلت في ذلك من الوجه الذي يجب التسليم له؟ فقد علمت من خالفك في ذلك فقال فيه خلاف قولك، وما الفرق بينك وبين من عارضك في ذلك، فقال: هذه الأحرف وما أشبهها من الأحرف غيرها أصلها عربي، غير أنها وقعت إلى سائر أجناس الأمم غيرها، فنطقت كل أمة منها ببعض ذلك بألسنتها من الوجه الذي يجب التسليم له؟ فلن يقول في شيء من ذلك قولاً إلا ألزم في الآخر مثله، فإن اعتل في ذلك بأقوال السلف التي قد ذكرنا بعضها وما أشبهها، طولب مطالبتنا من تأول عليهم في ذلك تأويله بالذي قد تقدم في بياننا، وقيل له: ما أنكرت أن يكون من نسب شيئاً من ذلك منهم إلى من نسبه من أجناس الأمم سوى العرب، إنما نسبه إلى إحدى نسبتيه التي هو لها مستحق، من غير نفي منه عنه النسبة الأخرى، ثم يقال له: أرأيت من قال: لأرض سهلية جبلية، هي سهلية، ولم ينكر أن تكون جبلية، أو قال: هي جبلية، ولم يدفع أن تكون سهلية، أناف عنها أن تكون لها لصفة الأخرى بقيله ذلك؟ فإن قال: نعم، كابر عقله. وإن قال: لا، قيل له: فما أنكرت أن يكون قول من قال في (سجيل) هي فارسية، وفي (القسطاس) هي رومية، نظير ذلك؟ وسئل الفرق بين ذلك، فلن يقول في أحدهما قولاً إلا ألزم في الآخر مثله ].
بعدما انتهى الإمام من تقريره وهو تقرير واضح جداً وعقلي في أنه ليس في القرآن إلا ما هو عربي، خصوصاً هذه الكلمات التي يذكر أنها أعجمية.
وهنا مسألة وهي: أن اللفظ الأعجمي إما أن يدل على معان، أو أعلام، أو أماكن أو أجناس الأعلام؟ لكن قسطاس مثلاً هذه هي التي يقع فيها الخلاف، أما الأعلام والأماكن فهذه -فيما يبدو والله أعلم- أنها خارج محل النزاع فـ(قسطاس) لها دلالة و(سجيل) لها دلالة، فإذاً: الإمام الطبري يناقش ما له دلالة هل هو عربي أو ليس بعربي؟ فمن قال غير عربي قال: إنها أعجمية ولكن العرب عربتها بألسنتها، بمعنى أنها أخذت الدلالة واللفظ من العجم، ومع طول الزمان صارت كلمة عربية، دخلت في قاموسها وتكلمت بها، وهذا لو تأملته في الواقع اليوم ستجد أنه بالفعل يوجد بعض الكلمات أعجمية ولكنها مع كثرة الاستعمال أدخلت في كلام العرب، وأدخل عليها اشتقاق أيضاً الذي هو من أكثر أوصاف لغة العرب.
فالخلاصة: أن محل النزاع هو الألفاظ التي لها دلالة، وكما قال المؤلف: لا يمكن القول بأحدهما إلا اعترض عليه بالقول الآخر، والقول الآخر إذا ذكر اعترض عليه أصحاب القول الأول، بمعنى أن المسألة كأنها عنده متكافئة فيما لو قيل: إنها عربية بحتة، أو قيل: إنها فارسية بحتة مثلاً، لكن الصواب عنده أنها عربية فارسية في آن واحد مما اتفقت فيها اللغات.
والسؤال الذي يرد، هو: إذا كان مما اتفق فيها اللغات، هل هذا الاتفاق مواضعة واصطلاحاً، أو هو راجع إلى أمر توقيفي؟ فيلزمنا في هذا الرجوع إلى البحث في أصل اللغات، وهل أصلها التوقيف أو المواضعة والاصطلاح؟
والأقرب أن أصل اللغة التوقيف، لقوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا [البقرة:31]، ثم بعد ذلك جاءت عليها الزيادات، والتوقيف بمعنى أن الله علم آدم اللغة، ولا يلزم أن كل ما سيتكلم به الناس بعد آدم علمه آدم ذريته بل تعلم أصول الكلام، ثم أولاده بدءوا يتكلمون بهذا الكلام، وتظهر عندهم من المواضعات والاصطلاح الشيء الكثير، مثل ما هو حاصل اليوم، من اختلاف اللهجات، واللغة يتولد فيها ألفاظ، ويموت منها ألفاظ، هذه هي قاعدة اللغة، لكن أصولها الأولى هذه لا شك أنها توقيفية.
إذا اتضحت لنا هذه المسألة والمسألة اللي قبلها فنقول في مسألة المعرب: إن قلنا: إن الأصول توقيفية، فيقال: اللغة الأولى التي تكلم بها آدم ولا شك أنها ما زالت باقية إلى اليوم يتكلم بها أبناؤه، لكن من هم أكثر أبنائه حظاً بها؟ هذه تحتاج إلى خبر قاطع، وليس عندنا خبر قاطع، لكن عندنا دلائل ظنية، ومن أكبر الدلائل الظنية اسمه هو آدم ، إما أن يكون من أديم الأرض، أو يكون من الأدمة.
كذلك لو جمعنا بعض أخبار آدم التي حكيت في القرآن والسنة سنجد إشارة أيضاً إلى مسألة مهمة مثل أنه لما عطس فحمد الله، فقال له الله سبحانه وتعالى: يرحمك الله، ثم قال له: اذهب إلى هؤلاء النفر، وسلم عليهم، فإنها تحيتك وتحية بنيك من بعدك. فالتحية التي أخبرنا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: ( السلام عليكم، قالوا: وعليكم السلام ورحمة الله يا آدم )، والأمة التي بقي فيها لفظة السلام والرحمة والبركة هي لغة العرب، ونلاحظ أن اللغة التي يتكلم بها بنو إسرائيل، لا يزال بعض آثارها موجود عندهم اليوم، فهم ما زالوا يقولون: شلم، ومعنى شلم؟ يعني سلام، يشينون السين، يعني السين تكون عندهم شيناً.
وهذا أحد بقايا تلك التحية التي تكلم بها آدم ، كذلك ما أخبرنا به الله سبحانه وتعالى عن أنبيائه، قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ [هود:69]، وخبر عداس وإن كان فيه ضعف فهو أيضاً مما يشار إليه أنه لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( باسم الله )، استغربه عداس .
وهذه اللغات اللي تكلم بها هؤلاء الأنبياء، لو أردنا أن نذكر لها جامعاً يمكن نقول: إنها مستنبطة من اللغة الأم والموجودة الآن اللغة الاشتقاقية، التي تكلم بها آدم لما نزل وهبط إلى الأرض، فهذه اللغة الاشتقاقية توالت منها الكلمات كما قلنا، وكلما ابتعد قوم عن محيط هذه اللغة الاشتقاقية من جهة المكان جيلاً بعد جيل تبدأ تتغير عندهم اللغة حتى تنفرد بلغة مستقلة جديدة، تحتاج إلى ترجمان؛ لاختلاف الظروف التي يعيشها هؤلاء الناس، ولاختلاف ما حولهم من مواد الأرض فتنشأ عندهم كلمات واصطلاحات جديدة، ثم مع الزمن تبدأ هذه الاصطلاحات تتكون منها لغة، لكن يبقى خيوط من تلك اللغة الموجودة بتلك اللغة الاشتقاقية الأم.
واللغة العربية هي أحظى لغات العالم باللغة الأم، لكن لا يعني ذلك أن كل لفظة عربية تكلم بها آدم عليه السلام، بل نقول: بعض هذه الكلمات تكلم بها آدم ، ولكن أيضاً من تلك اللغة الاشتقاقية أخرج هؤلاء العرب كلامهم، والأدلة على ذلك أنه بعد عشرة قرون من عهد آدم عليه الصلاة والسلام جاء قوم نوح كما ذكر ابن عباس : أنه بين آدم وبين نوح عشرة قرون. مع وجود خلاف في عدد القرون، لكن لنفترض أنها مائة سنة على ما هو السائد، ومع ذلك يقول نوح كما في سورة نوح ؟ وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح:23]، وهذه الأسماء الخمسة أسماء عربية، والأسماء كما نعرف متفقة في جميع اللغات، فالأسماء لا تتغير وإن كانت قد تتحور، يعني: يحصل عليها نوع من التحوير مثل الآن لو تنظر في بعض التراجم: تراجم قصة أو رواية أو شيء فلو ترجمها مثلاً لبناني سيقول مثلاً: توني بالتاء، ولو ترجمها مصري سيقول: طوني بالطاء، فحصل تحور في الاسم، فهذا التحور في الاسم قد يكثر فيه إلى أن يتغير إلى اسم آخر، لكن لو أعدته إلى الاسم الأول لرجع، وهذه اللغة التي بقيت هي اللغة التي تسمى بالعبرية، أو السريانية، أو الآرامية، أو البابلية، أو الكلدانية، أو الفينقية، أو الكنعانية، كل هذه اللغات التي يسمونها لغات هي في الحقيقة لهجات في هذه اللغة الأم اللي هي اللغة الاشتقاقية، ولهذا من لطائف الخليل بن أحمد ، لما تكلم على لغة الكنعانيين وهي لغة قديمة جداً، قال: وهي لغة تصارع العربية، يعني: قريبة منها؛ لأنها في الحقيقة لغة واحدة ولهجات مختلفة، وهذه اللهجات تتصارع فيما بينها في المنطقة الواحدة، وتتصارع فيما بينها إذا صار هناك تداخل مع اللهجات الأخرى، ومع ذلك فهي كلها داخل إطار هذه اللغة الاشتقاقية.
السؤال: ما هي أفضل طبعات هذا الكتاب؟
الجواب: طبعاً أفضل طبعاته ما أخرجه الدكتور عبد الله التركي ؛ لأنه وجد نسخة نفيسة أكمل السقط والنقص الذي كان موجوداً في النسخ الأخرى، ثم يأتي بعدها من جهة عدم كمالها فقط نسخة محمود شاكر رحمه الله تعالى، وإن كانت هذه النسخة نفيسة جداً، لكن الإشكالات فيها أنها ليست كاملة، وكذلك أنها فيها نقص سددته نسخة التركي.
السؤال: [القول بأن العالم كله يرجع إلى نوح]؟
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ [الصافات:77] في نوح هناك غوامض في التاريخ يصعب الجزم بها، هل الطوفان كان على جميع العالم أو لا؟ وهل كان هناك قوم غير قوم نوح أو لا؟ هذا لا نستطيع أن نثبته، لو نحن أثبتنا أن الطوفان كان على جميع العالم، وأثبتنا أنه لم يبق إلا نوح عليه الصلاة والسلام ألم يكن معهم مؤمنون؟ فهل يعني هذا أن نسل هؤلاء المؤمنين انقطع؟ هذه أسئلة فيها إشكالات.
أما قضية كون أولاد نوح هم: سام وحام ويافث فقط، وجميع العالم بعد ذلك من نسلهم فهذا ليس له مصدر إلا بني إسرائيل.
السؤال: [هل تكلم آدم وموسى بالعربية]؟
الجواب: لا ما قلت: إن آدم تكلم بالعربية، ولا أقول: إن موسى تكلم بالعربية، أنا أقول: إن موسى و آدم تكلموا بهذه اللغة الاشتقاقية التي بقيت أكثر ما بقيت في كلام العرب، فاسم آدم نفسه حتى عند العبرانيين عند بني إسرائيل عند اليهود لما يعرفون الاسم يذكرون أنه من أديم الأرض، فاشتقاق اسمه ينبئ عن عربيته، يعني عن أنه بقي مما بقي في لغة العرب من تلك اللغة القديمة التي تكلم بها آدم ، لكن لا أقول: إن آدم يتكلم بالعربية، أنا قلت: إن آدم يتكلم لغة اشتقاقية فيها كلمات بقيت عند العرب، أكثر لغة بقيت فيها كلمات هي لغة العرب.
السؤال: مذهب الإمام الشافعي في وجود ألفاظ في القرآن غير عربية.
الجواب: هذه مسألة أخرى وهي إذا كان يوجد بعض الأسماء الأعجمية في القرآن، لو اتفقنا أنه يوجد أسماء أعجمية في القرآن فلا يخرجه عن كونه عربياً قطعاً مثال ذلك: لو أن إنساناً ذهب إلى أي دولة أعجمية، ذهب إلى الصين، أو إلى اليابان، أو إلى أي مكان، ثم كتب رحلته، وقال: ودخلنا مطعم كذا، وذكر اسمه عندهم، وقابلنا مثلاً فلاناً وذكر اسمه ونحو ذلك، فهذه الرواية تسمى عربية بمعنى أن هذه الأسماء القليلة لا تؤثر ويبدو أن العلماء الذين لم يتشددوا في هذا نظروا إلى مثل هذا، وأن هذه الأسماء حتى لو كانت غير عربية فإنها لا تؤثر على معاني القرآن، وإنما محل نزاع فيما لو أدت معنىً هل هي أعجمية أو لا؟
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر