الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
يقول المصنف رحمه الله: [ولا يضارب بمال لآخر إن أضر الأول ولم يرض]
فقد شرع المصنف رحمه الله في هذه الجملة في بيان ما يجب على العامل في عقد المضاربة.
فإذا اتفق شخصان على عقد مضاربة، فقال أحدهما لآخر: هذه مائة ألف اضرب بها في الأرض، والربح بيني وبينك مناصفةً، وقال الآخر: قبلتُ، فالواجب على العامل ألَّا يلتزم بمضاربة أخرى لشخص آخر.
والسبب في هذا أنه يضر بمصالح الأول في أغلب الأحوال؛ لأنك إذا أعطيت المال إلى مضارب وعامل؛ فإنه إذا تمحض لك بالعمل كان ذلك أدعى للإتقان، وكان ذلك أغلب للربح، وأكثر نماءً، وحينئذ إذا تدخل مضارب آخر أو صاحب مال آخر، فإنه يضر بمصالحه، فإن العامل إذا تفرغ لك أمكنه أن ينصح ويقوم بأعباء العمل بقوة أكثر مما إذا كان بين شخصين أو أكثر من شخصين، ولذلك من حيث الأصل لا يضارب غيرك؛ لكن بعض العلماء يقول: يُشترط أن يوجد الضرر، فإذا وُجد ضرر على صاحب المال الأول، فإنه لا يجوز له أن يضارب، وأما إذا لم يوجد الضرر فيجوز له أن يضارب.
تفصيل ذلك: قالوا: إنه ربما أخذ مبلغاً يسيراً في المضاربة الأولى، فضارب -مثلاً- بألفين، وهذان الألفان أخذ بهما تجارة أو أخذ بهما عروضاً كثياب -مثلاً-، وهذه الثياب يقوم ببيعها في ساعتين في أول النهار، فهذا الذي يتيسر في عرضها، فإنه يبقى بقية اليوم بدون عمل، فإذا ضارب شخصاً آخر ولم يضر بمصالح الأول، جاز له أن يضاربهما معاً، فيضارب بمال الأول، ويضارب بمال الثاني، والربح يأخذه من الأول، ويأخذه من الثاني.
قالوا: وإذا لم يكن هناك ضرر، جاز له أن يضارب شخصين أو أكثر من شخصين.
فأصبح فقه المسألة يدور على القاعدة المعروفة: (الضرر يُزال).
وتوضيح ذلك: أن عقد المضاربة بينك وبين العامل يستلزم أن ينصح لك وألَّا يضر بمصالحك، فكل عقد يدخله على العقد الذي بينك وبينه يضر بالمصالح المترتبة على العقد بينكما من حقك أن تعترض عليه، فلا يجوز له أن يعقد بين ربي المال أو ثلاثة أو أربعة مضاربة من هذا الوجه، فأصول الشريعة تقتضي دفع الضرر.
قالوا: فإذا وقع العقد بينه وبين شخص فمعناه أنه يبذل جميع الأسباب لما يعين على الربح والخير للمضارب الأول، فدخول المضارب الثاني والثالث يؤثر على المضاربة؛ لكن ذكرنا أنه لو ضارب بمبلغ يسير، كألفين أو ثلاثة آلاف، في شيء يمكنه أن يتفرغ بعده، كأن يكون -مثلاً- اشترى سيارة بألفين، وصار يضارب بها يريد أن يبيعها، فلربما يجلس أكثر النهار بدون عمل، فضارب شخصاً آخر بألفين أخرى بسيارة ثانية دون أن يستضر الأول، صح ذلك وجاز.
إذاً: فمدار المسألة على الضرر، والقاعدة في الشريعة: أن (الضرر يُزال)، فالعقد بينكما على أن ينصح كل منكما للآخر، فلا يدخل عقد على عقد على وجه يوجب الضرر على العقد الأول؛ لكن لو كانت المضاربة -مثلاً-: أعطيتَه مائة ألف ريال، وقلت له: اضرب بها في الأرض، فاشتر بها قماشاً أو اشتر بها سيارات، وهذا القماش أو هذه السيارات أو أي عرض اشتراه يستلزم منه أن يكون أكثر اليوم معه، وأن يكون محافظاً عليه، مراقباً لسوقه، ويستلزم العمل أن يكون فيه أغلب اليوم، أو أكثر اليوم بحيث لا يتفرغ لعمل آخر، ففي هذه الصورة لو أعطيته مالاً كثيراً أو كان المضارب الأول قد ضاربه بمال كبير يستلزم الفراغ الأكثر، ودخل المضارب الثاني، فإن دخول المضارب الثاني لا يُشك أنه ضرر على الأول، وسيؤثر على الربح، وسيؤثر أيضاً على المصالح، فقد تكون بعض التجارات إذا تفرغ لها العامل أتقنها وحصَّل الربح الأكثر؛ لكن لو أدخل مضارباً ثانياً وزاحم الأول فانقسم العامل في عمله بين عملين، فأصبح في هذه الحالة لا يستطيع أن يقوم في المضاربة الأولى على الوجه الأتم الأكمل فحصل الضرر، فإما أن يحصل الضرر في نقص الربح، وإما أن يحصل الضرر في حصول الخسارة.
مثال نقص الربح: مثلاً: هذا العامل إذا جلس في المحل أمكنه أن يصرف البضاعة بين ثلاثة أنواع من الربح:
- ربح (100 %).
- و(75 %).
- و(50 %).
فيأتي ويقول: هذه السلعة بمائة، فإن كاسره المشتري إلى خمس وسبعين أو إلى ثمانين باعَ؛ لكن لو وكَّل عاملاً لا يستطيع أن يقول له -مثلاً- قد يحدد له إلى ثمانين، فالمكاسر والمشتري ربما يريد بخمس وسبعين مع أن مصلحة المضاربة بخمس وسبعين، فحينئذ يتضرر غيابه عن العمل؛ لأنه سيترك العمل ويذهب إلى العمل الآخر.
فشتات العامل بين مضاربَين فأكثر يضر بمصلحة المضارب الأول.
ومن هنا قالوا: إذا رضي المضارب الأول وقال له: أسمحُ لك أن تعمل مع غيري، أذنتُ لك أن تجمع بين مضاربتي ومضاربة فلان، فلا بأس، فهو حين يأذن فمعنى ذلك أنه رضي بسقوط حقه، والحق مشترك بينهما، فجاز للعامل ولرب المال أن يتفقا على هذا الوجه المعروف.
لكن لو أنه ضارب من ورائه، فحينئذ ننظر إن اشتملت المضاربة الثانية على الضرر على المضاربة الأولى كرجل أعطى عاملاً مائة ألف، واستلزمت البضائع والعروض وجود العامل أكثر الوقت وأغلب الوقت، فتشتت وأصبح وقته مشتتاً بين المضاربتين، فنقص ربحُ المضاربة الأولى واستضرت أو خسرت أو انكسرت، وربح في الثانية، ألزم بوضع الربح الذي كسبه في الثانية للمضاربة الأولى.
فمثلاً: أخذ مائة ألف وضارب بها، ولو أنه تفرغ لربح خمسين ألفاً؛ ولكنه ربح أربعين ألفاً -مثلاً-، والضرر في هذا الربح العشرة آلاف، وكان سببها أنه اشتغل ساعات في آخر النهار ثم ضارب في الثانية، وفي المضاربة الثانية ضارب زيداً بعشرين ألفاً وربح مع العشرين عشرة، وأصبحت الثلاثين ألفاً خمسة آلاف له، وخمسة آلاف لصاحب المال، فتؤخذ الخمسة آلاف التي حازها العامل من المضاربة الثانية، وتضم في مال المضاربة الأولى، ليُجبر بها الخسران، ويرتفع بها الربح، وحينئذٍ تقسم بينهما؛ لأن هذا الوقت وهذا الجهد في الأصل مستحق للمضاربة الأولى وليس للمضاربة الثانية، فغُرِّم على هذا الوجه الذي اختاره غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم.
وحاصل الأمر: أنه لا يجوز للعامل أن يضارب إلا بإذن صاحب المال.
فتتفرع على هذا مسائل:
منها: الإجارة:
فلو أن شخصاً استأجر أجيراً يعمل عنده بالشهر، فالواجب على الأجير ألَّا يعمل مع الغير، وهذا مثل ما يقع الآن، ربما تأتي إلى عامل يعمل أثناء عمله، وتقول له: احمل لي هذا المتاع، أو ضع لي هذا الشيء، فتلزمه بعمل آخر وتعطيه المال، فليس من حقه ذلك، ولا من حقك أن تتفق معه حتى ولو كان يكنس القمامة في الشارع، ليس من حقك؛ لأن هذا الوقت مستحق لغيرك، وقد أخذ عليه المال من غيرك، فإذا جئت تستغله في عمل وجب أن تستأذن رب العمل الأصلي في هذا الوقت؛ لأنك لن ترضى أن يكون عاملاً عندك، فيأتي شخص آخر ويكلفه بعمل في مدة عمله عندك، ولو لم يكن عنده عمل في هذه الساعة.
مثال: لو وضعت عاملاً في مزرعة على أن يحرسها ويقوم على مصالحها، ففاضت له ثلاث ساعات بدون عمل، فجاء جارك وقال له: الثلاث ساعات التي تكون فيها بدون عمل تعال واعمل عندي فيها بثلاثين ريالاً أو بمائة ريال أو نحوها، فليس من حق الجار أن يفعل ذلك؛ لأن هذا الوقت كله مستحق لرب العمل الأول، سواءً كان كفيلاً له أو كان بينه وبينه عقد، فلا يجوز له ذلك، ومن هنا تخرَّج إذا التزم بعمل في المصلحة العامة، فإذا كان عاملاً في مصلحة عامة من بيت مال المسلمين، فإن أوقات فراغه بعد دوامه وعمله لراحته، فإذا التزم فيها بأعمال خاصة أو أعمال للغير جاء إلى عمله الأصلي منهكاً مرهقاً وأضر ذلك بمصلحته الأصلية.
فإذاً: أي عمل يلتزم به شخص مع شخص آخر، وارتباطه بعمل ثانٍ مع هذا العمل يضر بمصلحة الأول، لا يجوز أن يعقد العقد الثاني إلا بإذن الأول؛ لأن أصول الشريعة دالة على أنه لا يجوز للمسلم أن يتعاطى أسباب الضرر، والعقود الشرعية شرطاها: ألَّا تتضمن الإضرار، فإذا تضمنت الإضرار مُنع منها؛ لأن العقد حينئذ يكون من باب التعاون على الإثم والعدوان، فالعاقد الثاني في العقد الثاني حينما تعاقد مع العامل اعتدى على العقد الأول، واعتدى على مصالحه، واعتدى على حقوق أخيه المسلم، فوجب ألَّا يفعل ذلك.
ومن هنا لا يجوز للعامل أن يضارب شخصاً آخر.
وإذا تقرر هذا فيَرِدُ الإشكال في مسألةٍ معاصِرة:
منها: إذا دفع ماله في المصرف على أن المصرف يضارب بالمال.
المشكلة أن المصرف يلتزم مع مئات الأشخاص، وحينئذ يرد السؤال، وتبقى المسألة قائمة وداخلة تحت هذا الأصل: إذا دفعت مائة ألف لمصرف إسلامي على أن يضارب بها، فهل من حقه أن يأخذ من غيرك؛ لأن هذا قد يضر بمصالحك؟
ولا شك أنه عند معاملته لشخص أو أشخاص معينين يكون أقدر على الربح مما لو كان عنده أكثر من شخص، ولذلك تحتاج هذه المسألة إلى بحث واجتهاد معاصر؛ لأنها مفرعة على الأصل الذي ذكرناه، فلا يجوز إذا عامل طرفاً من مصرف أو غيره أن يتعامل هذا المصرف مع الغير حتى يثبت هل من المصلحة أن يتعامل مع الشخص الثاني، أو ليس من المصلحة؟ ثم بعد ذلك تُقَرَّر المسألة وتُخَرَّج على الأصل الذي قرره العلماء رحمهم الله.
قال رحمه الله: [فإن فعل رد حصته في الشركة]:
قوله: (فإن فعل): أي تضارب مع الثاني.
قال: (رد حصته في الشركة): وعلى هذا يتخرج أن العامل لو عمل عند شخص آخر غير كافله في وقت عمله عند كافله، وجب أن يرد المال إلى مَن كَفَلَه، ووجه ذلك: أن هذا الوقت -جهد العامل- قد اشتُري فيه، فأنت إذا أخذت عاملاً وتعاقدت معه شهراً كاملاً فمعناه أن ساعات الشهر كلها التي هي وقت العمل ووقت القيام بالمهمة تستحقها لمصالحك، فإذا قام وعاوض على هذا الوقت عند شخص آخر فأنت الذي تستحق هذا المال.
وقد يقول قائل: العمل عمل العامل، فكيف آخذ المال منه؟
يتخرج هذا على أن الوقت والجهد مستحَق لرب العمل الأول، فأنت إذا استأجرت العامل شهراً في المزرعة، فمعناه أن ساعات الشهر بالمعروف التي يقوم فيها العامل كساعات النهار -مثلاً- لسقي المزرعة والقيام على مصالحها، فهذه الساعات قد اشتريتها من العامل، وجُهد العامل فيها مستحق لك، فإذا بذل الجهد وصرفه لجهة أخرى فقد صرف ما لا يملك، وصرف ما رضي ببذله بعوضه للعاقد الأول وصاحب العمل الأول.
قوله: (ولا يُقْسَم): المال في المضاربة.
(مع بقاء العقد): عقد المضاربة.
(إلَّا باتفاقهما): أي: باتفاق الطرفين.
صورة هذه المسألة: لو أعطاه عشرين ألفاً، وقال له: خذها، اضرب بها في الأرض وتاجر بها، فأخذها ووضعها في تجارة العطور -مثلاً-، وبعد شهور ربحت هذه العشرون ضعفها، وفي هذه الحالة لو أصبح المال -مثلاً- أربعين ألفاً: عشرون رأس المال، وعشرون ربحاً، فهذه العشرون التي هي ربح موجودة في أعيان، عشرةٌ منها نقدٌ وسيولةٌ، وعشرةٌ منها في المحل، فأصبح رأسُ مال المحل ثلاثين ألفاً، وعشرة آلاف سيولةً، فقال العامل لرب المال: يا فلان! لو أن هذه العشرة قسمناها بيننا بما اتفقنا عليه؟!
الأصل الشرعي يقتضي أن المضاربة لا يُقْسَم فيها المال إلا بعد أن تصفى الحقوق، ويُرد رأس المال إلى رب المال، ثم يُجبر ما في المال من حقوق، وتُفك الرهونات وغير ذلك من الاستحقاقات من الديون وغيرها، ثم يُقْسَم بعد ذلك الربحُ؛ لكن لو أن الطرفين اتفقا على هذه العشرة آلاف أن يقسماها بينهما فحينئذ قال بعض العلماء: من حقهما ذلك؛ لأنه لو حصل انكسار فسيكون على الطرفين. وقال بعض العلماء: ليس من حقهما ذلك؛ لأن المضاربة لا زالت قائمة، فلربما حصل انكسار إلى درجة دخول الانكسار على رأس المال، صحيحٌ أنهما الاثنان أخذا العشرة آلاف مقاسمةً، فقد يكون هناك خسارة حتى تدخل على رأس المال، والخسارة التي تدخل على رأس المال لا حظ فيها على العامل، ولا يغرم فيها العامل، فقالوا: وفي هذه الحالة إذا حصلت القسمة قبل تصفية الحقوق ولم يجرِ على سنن المضاربة ففيه مخاطرة.
وهذا القول لا شك أنه أورع وأحوط وأليق وألزم للأصل؛ أنه لا يقتسم ولو رضي الطرفان؛ لكن إذا أرادا أن يقتسما فيفسخان عقد المضاربة الأولى ويصفيانها ثم ينشئان مضاربة جديدة، أما والمضاربة الأولى قائمة، ففيه تغرير ومخاطرة على الوجه الذي ذكرناه.
إذا أعطى رجلٌ إلى آخر مالَه ليضارب به، فحصلت خسارة أو انكسار فهذا يكون على صور:
مثال ذلك: أعطاه -مثلاً- مليون ريال وقال له: اذهب وضارب بها.
فقال: من المصلحة أن نضارب في السيارات.
فاشترى عشر سيارات، كل سيارة بمائة ألف، فبمجرد ما اشترى العشر سيارات من هذا النوع كسد سوقُها، وأصبحت بنصف قيمتها، فحينئذ العين موجودة وهي السيارات، والخسارة محكوم بها قبل البيع والتصريف والتنضيض، والتنضيض: أن تباع السيارات ويُقصد النقد، فنَضَّ المالَ بمعنى: أن العروض تصفَّى بالنقدين إما الذهب وإما الفضة.
ففي هذه الحالة: إذا حصلت الخسارة وقعت قبل الدخول في التجارة.
وإذا كانت بعد الدخول في التجارة:
فتارةً تكون الخسارة مباشرة: يعني: بمجرد دخوله وبيعه وشرائه تنكسر البضائع ويكسد السوق وتحصل الخسارة إما بانكسار بعض البضائع دون بعض، أو بانكسار كل البضائع.
مثال الأول: أن يشتري طعاماً وقماشاً، فالطعام يربح، والقماش ينكسر على وجه يأخذ ربح الطعام وزيادة، فحينئذٍ تكون الخسارة في الأمرين.
فإن كانت الخسارة والعروض قائمة والعقد على عرض معين، فحينئذٍ لا إشكال، ويكون الواجب كالآتي: يبيع هذه الأعيان ويجب على العامل أن يبيع، فلا يقول العامل: أنا ليس لي مصلحة في هذه المضاربة، بل إنها خسارة، وهو واثق أنه سيخسر؛ لأن العامل لا يأخذ شيئاً إلَّا إذا ربح، فإذا علم أن السيارات خسرت قد يعترض ويقول: لا أريد أن أبيعها؛ لأنه لا مصلحة لي في البيع، فيُلزم شرعاً بتصريف البضائع وبيعها وتنضيض المال، أي: رده بالنقدين، فلو قال له رب المال: بع السيارات، وامتنَع، أجبره القاضي على البيع، وألزمه بالجلوس في المحل وتصريف البضائع تصريفاً على الوجه المعروف ولا يضر برب المال من هذا الوجه؛ لأنه دخل على أساس أن يتحمل مسئولية المتاجرة، فيبيع ويشتري رابحاً وخاسراً.
إذاً: في حالة شراء الأعيان إذا كان العامل امتنع عن بيعها بعد كسادها وخسارة سوقها، يُلزم شرعاً بذلك، فلو امتنع العامل امتناعاً كلياً، وقال: لا أبيع مهما كان الأمر، ومهما كلفني الأمر، فزجره القاضي ووعظه وخوفه بالله أن الأصل في العقد بينهما يحتم عليه ذلك، فإن قال: لا أبيع، وامتنع امتناعاً كلياً، في هذه الحالة يقيم القاضي شخصاً يبيع السلع ويبيع البضائع ويلزمه بدفع أجرة ذلك الشخص.
إذاً: في حال الكساد والخسارة لو امتنع العامل وقال: لا مصلحة لي، ولا أبيع شيئاً فيه خسارة لا حظ لي فيه، وهذا سيأخذ مني شهوراً أو يأخذ مني وقتاً.
نقول: ليس من حقك ذلك، بل إن أصل الاتفاق بينك وبين رب المال يحتم عليك أن تقوم بتصريف البضاعة كما اشتريتها، هذا بالنسبة لحال الأعيان.
قد تحصل الخسارة بعد الدخول في البيع والشراء:
وهذه تأتي على صورة، كأن يقوم صاحب المال ويعطي للمضارب مالاً كأن يعطيه مائة ألف ويتنوع في البضائع، وتحصل الخسارة كما ذكرنا، في بعض البضائع دون بعض، فتُجبر البضائع بعضُها ببعض، مثال ذلك: لو أعطاه مليوناً، فجعل نصف المليون في السيارات، ونصفها في الأراضي، فالنصف الذي في السيارات خسر النصف، فأصبحت السيارات تباع بمائتين وخمسين، والنصف الذي في الأراضي والعمائر والدور ربح مائتين وخمسين ألفاً فيُضم ربح هذا إلى خسارة ذاك، ونوجب على العامل رد المليون كاملةً إلى صاحب المال. ولا يقول: إنني ربحت في هذا فآخذ، أو خسرت في هذا ولا أتحمل، بل نقول: المال واحد، والمضاربة واحدة.
لكن لو أنه قال له: هذه خمسمائة ألف ضارب بها، فدخل بها في الأراضي، ثم جاءه بخمسين ألفاً ثانية، فدخل بها في الطعام، فالتي في الأراضي خسرت، والتي في الطعام ربحت، على أنهما منفصلين كالشخصين، كان للعامل ربح الثانية، ورد المال الخاسر في العقار إلى رب المال، مثال ذلك: أعطاه مليوناً وقال له: هذه -مثلاً- خمسمائة ألف اضرب بها في الأرض، فذهب واشترى بها قطعتين من الأرض كل قطعة بمائتين وخمسين، فخسر في هاتين القطعتين، وأصبحتا تباعان بنصف القيمة، وأصبح المبلغ الذي تبقى من التجارة ومن المضاربة في الأراضي هو مائتان وخمسون، يعني: على نصف القيمة ورأس المال، فلو أنه وهو يتاجر في الأراضي أعطاه المائتين والخمسين الثانية، وقال: اضرب بها في تجارة أخرى، يعني: هذه عقدها منفصل عن عقد الأولى، فأخذ الخمسمائة ألف الثانية وضرب بها في الطعام -كما ذكرنا- فربح في الطعام ما يعادل مائتين وخمسين، فتصبح تجارة الطعام صفت على سبعمائة وخمسين ألفاً، خمسمائة رأس المال، ومائتان وخمسون الربح، فنقول: هذه المائتان والخمسون لا يُجبر بها كسر الأرض؛ لأن المضاربة الثانية خلاف المضاربة الأولى، كالمضاربة بين شخصين، ويكون حينئذٍ الربح في الثانية مستحقاً على ما اتفقا عليه، وللعامل حظه ونصيبه، ويرجع في مضاربة الأرض فيرد رأس المال ناقصاً نصفه، ويكون الغرم على رب المال وحده، هذا في حالة ما إذا انفصل عقدا المضاربة في حال الخسارة وحال الربح.
إذاً: نقول: إذا أعطاه مال المضاربة مالاً واحداً بعقد واحد فلا إشكال، فلو ربح بعض هذا العقد وخسر البعض يوفق بين الكل وننظر النتيجة، هل فيها ربح أو خسارة؟ فإن كان فيها ربح قسم بينهما على ما اتفقا، وإن كان فيه خسارة فإنه يرد لرب المال ماله، وأما إذا أعطاه المال فجزَّأ، أي: أعطاه جزءاً مضاربةً ثم أنشأ مضاربة ثانية فحصل ربح في الأولى دون الثانية، أو العكس، لم يُجبر خسران هذه بربح تلك، فتكون كل مضاربة على ما اتفقا عليه.
وعلى هذا يكون هناك عقدان للمضاربة، فما حصل فيه النماء والربح قسم الربح على ما اتفقا، وما حصل فيه الخسران رد فيه العامل المال إلى ربه، ولا يقسم الربح إلا بعد رد رأس المال.
وبناءً على هذه المسألة تترتب مسائل، فنقول:
أولاً: الأصل الشرعي يقتضي أن العامل لا يطالب بربح إلا بعد أن يصفى مال المضاربة، فتباع جميع الأعيان وهو تنضيض المال، فلا يأتِ عامل -مثلاً- أعطيتَه مليوناً فاشترى خمس عمائر، فأصبحت بخمسة ملايين، فيقول لك: أعطني ربحي الآن.
فتقول له: لا. حتى تبيعها، وتحضر لي الخمسة ملايين، وبعد ذلك تأخذ حقك وآخذ حقي.
فلا تحصل القسمة، ولا يطالب لا رب المال ولا العامل بشيء من الربح إلا بعد تنضيض المال، فنقول له: بِعِ المال، حتى ولو كان الآن رابحاً، فإنه يجب عليك البيع، ثم بعد البيع والتصفية، يكون الحكم كالآتي: فلو أنه أعطاه مليوناً على أن يضرب بها في تجارة الأطعمة، فدخل في هذه التجارة، وربح (100 %) وأصبح المليون مليونين، فلما جئنا ننظر إلى الأراضي التي هي للشريكين، وإلى السيارات، وإلى الطعام الموجود، وجدناه يعادل المليونين، فمعناه أن المضاربة ربحت مثلها، فلا نقول مباشرة: العامل له خمسمائة ألف، بل نبدأ ونقول: بِعْ هذه الأعيان. فتُباع الأراضي؛ لأنه لو أعطاه مليوناً يحتاج -مثلاً- إلى أرض يبني عليها لتجارةٍ ما، أو اشترى عمارةً، أو اشترى دكاكين يبيع فيها، أو استأجر، فنقول أول ما نقول: يجب تصفية المال برد الحقوق، فتُباع العقارات، وتباع وتصرف العروض من الأطعمة والأقمشة أو غيرها، وبعد تنضيض المال ووجود السيولة ننظر إلى الديون المستحقة على المضاربة، فتُسدد الديون، وتُفَك الرهون إذا كان هناك أعيان مرهونة، كسيارات ونحوها، وبعد فك الرهون ورد الحقوق وإعطاء الأجرة للعمال، وتصفية الحقوق كاملة، بعد هذا كله نقول: اقسم.
فلا نقول -مثلاً-: لو أنه باع أعيان أو عروض الشركة -شركة المضاربة- بمليون والشركة في الأصل كانت بخمسائة ألف، فالخمسمائة ألف الزيادة لا تقسم إلا بعد معرفة الحقوق الواجبة، هل هناك حقوق وديون أو لا؟ فلو فرضنا -مثلاً- أن عندنا عشرة من العمال استغلهم هذا المضارب والعامل أثناء التجارة والعمل، وكل عامل له عشرة آلاف، فهذه خمسون ألفاً دَين على المضاربة، ولا يمكن أن نحكم بالقسمة حتى تسدد ديون العمال وتسدد فواتير وأجرة المحلات، وحينما يُسدد جميع الحقوق المستحقة على شركة المضاربة، بعد ذلك تكون الخطوة الثانية، وهي: رد رأس المال إلى ربه وصاحبه.
فيُبدأ أول شيء برد رأس المال إلى صاحبه، فإذا كان دفع له مليوناً وربح مليوناً، نقول: ادفع أولاً المليون الأولى التي هي رأس المال إلى صاحبها، وبعد رد المليون إلى صاحبها يُقسم ما بقي وفَضَل عن رأس المال على الوجه الذي اتفقا عليه، إن كان مناصفةً فمناصفةً، وإن كان أثلاثاً فأثلاثاً، إلى آخره.
النوع الثالث من أنواع الشركات: شركة الوجوه.
والوجه والجاه معناهما واحد، فإن الإنسان إذا كان له مكانة عند الناس فإن تلك المكانة جاهٌ له من الله عزَّ وجلَّ وضعه له بين عباده، فالشخص يكون له الجاه بما جبله الله عزَّ وجلَّ عليه من الأخلاق الفاضلة، كالأمانة، والصدق والنصيحة ونحو ذلك من الأمور التي يضع الله بها القبول للعبد، فمن كان صادق اللسان، معروفاً بالأمانة والنزاهة فإن الله عزَّ وجلَّ يضع له هذا الجاه والقبول بين العباد.
ولذلك يقول العلماء: إن هذه الشركة تقوم على الجاه وعلى الوجه، وتسمى هذه الشركة بـ(شركة الذمم)، والسبب في هذا أنها تقوم على الدَّين، والدَّين متعلق بذمة الشريكين، والذمة وصف اعتباري في الشخص قابل للالتزام والإلزام، فالشريكان يتفقان فيما بينهما على أن يأخذا من الناس سيولةً وأموالاً، ويعملا بهذه الأموال بمعرفتهما وخبرتهما، فما كان من المال المأخوذ فهو بينهما على ما اتفقا، وما بيع وحصل من الربح فهو بينهما على ما اتفقا.
وبناءً على ذلك: فهذه الشركة يمكن تصنيفها في الصنف الذي ذكرناه، أن يكون المال من غير الشريكين، والعمل من الشريكين؛ لأن الشركة تنقسم إلى أنواع:
النوع الأول: أن يكون المال والعمل من الشريكين، وهذا يشمل شركة العنان وشركة المفاوضة، فالمال من الطرفين، والعمل من الطرفين.
النوع الثاني: أن يكون المال من أحدهما والعمل من الآخر، وهذا مثل شركة المضاربة والقراض.
النوع الثالث: شركة الجاه، يكون المال من غيرهما والعمل منهما.
فهما ليس عندهما سيولة ونقد، فيتفقان على ذهابهما للتجار، فهذا يأخذ خمسين ألفاً، وهذا يأخذ خمسين ألفاً، فأصبحت مائة ألف، أو يأخذان بضاعة بخمسين ألفاً بينهما مناصفةً، ثم هذه البضاعة يصرِّف هذا ما يستطيع، ويصرِّف هذا ما يستطيع، فيردان الخمسين ألفاً، ثم يقسمان الربح الناتج بعد ذلك، وهذا النوع من الشركة قد يتفق الطرفان فيه على نسبة متساوية، فتقول لشخص: أتفق أنا وأنت على أن نشتري العروض أو نأخذ العروض بجاهينا مناصفةً، فإذا قلتَ له: بجاهينا مناصفةً، معناه: أن أي شيء يشتريه تضمن نصف قيمته ويضمن هو النصف الآخر، وأي شيء تشتريه أنت فإنك تأخذ نصفه ويأخذ هو نصفه.
مثال ذلك: لو اتفقتما على شركة الوجوه، وقلتَ له: أي شيء نشتريه فإنه بيننا مناصفةً، أو الربح بيننا مناصفة، فذهب واشترى سيارةًً، وهذه السيارة قيمتها مائة ألف، على أنها شركة فخمسون منها واجبة عليك تضمنها في ذمتك، وخمسون ألفاً واجبة عليه يضمنها في ذمته، فإذا اشترى هو بجاهه، وإذا اشتريت أنت بجاهك، فتتفقان وتقول له: أنا أتحمل نصف ما تشتري ونصف ما تأخذ والربح أيضاً بيننا مناصفةً، فحينئذٍ لا إشكال، وفي بعض الأحيان تقول له: أنا أتحمل ثلاثة أرباع، وأنت تتحمل الربع، فكل شيء تشتريه أو أشتريه ثلاثة أرباع قيمته ألتزم بها وربع قيمته تلتزم به أنت، والربح بيننا ثلاثة أرباعه لي وربعه لك، أو أي شيء تشتريه فأتحمل قيمة الثلثين، وتتحمل أنت قيمة الثلث، فلو أنك قلت له: أي شيء تشتريه بيني وبينك أثلاثاً ألتزم أنا بثلثيه، وتلتزم بثلثه، والربح بيننا أثلاثاً على حساب رأس المال، فذهب واشترى عوداً بثلاثمائة ألف ريال، فإنك تضمن مائتي ألف، ويضمن هو مائة ألف، فلما اشترى العود وتاجر به انكسرتما في التجارة، فأصبحت قيمة العود مائة وخمسين ألفاً، أي: بعتم العود بمائة وخمسين، فحينئذٍ بقي الدين عليكما الاثنان، أنت تغرم مائة ألف، وهو يغرم خمسين ألفاً؛ لأنك ضمنت الثلثين، وضمن هو الثلث، والمائة والخمسون المستحقة على الشركة تقسم أثلاثاً، فكل ثلث بخمسين ألفاً، فتضمن المائة ألف وهي الثلثان، ويضمن هو الخمسون ألفاً وهي الثلث.
إذاً: فشركة الوجوه قائمة على الذمة، وهي وجوه من جهة أن الناس لا تعطي لك أموالها دَيناً إلا بالجاه،، والجاه سمعة الإنسان.
فلا يمكن أن شخصاً يعطي شخصاً دَيناً إلا وهو يعرف منه الصدق والوفاء، وإذا عرف منه الصدق والوفاء حينئذٍ يعطيه مالاً؛ لأنه ليس هناك عاقل يعطي ماله لشخص يُعرَف بالكذب أو يُعرَف بالخيانة أو نحو ذلك من الأخلاق الرديئة والعياذ بالله.
فإذا جئت تقول: هي شركة وجوه، تنظر إلى أنها لا يمكن أن تقع إلا إذا دفع الناس أموالهم، والناس لن تدفع المال إلا بناءً على الثقة، والثقة لم تكن إلا بالسمعة.
إذاً: كأن الجاه والسمعة أساس في هذه الشركة، فرأس المال وهو العَرَض الذي عليه قامت الشركة افتقر إلى جاه وسمعة، فصارت شركة جاه وسمعة.
وإذا جئتَ تنظر إلى كون الشريكين التزما بالدَّين الذي يترتب على كون أحدهما أخذه، تقول: هي شركة ذمة؛ لأن كلاً منهما التزم في ذمته أن يدفع قدر حصته، فصارت شركة وجوه، وصارت شركة جاهٍ، وصارت شركة ذمة، فيسميها بعض العلماء بـ(شركة الوجوه)، وهذا أشهر أسمائها، ويسميها بعضهم بـ(شركة الذمم)، والمعنى -كما ذكرنا- واحد. كأن يشتركا في الأقمشة أو الأراضي، فلو كان الاثنان معروفين بالخبرة في تجارة الأراضي والعقار، فقالا: نشتري الأراضي ونبيع فيهما، فما كان من ربح فبيننا مناصفة، وما كان من غُرم لرأس المال لأخذ الأراضي من الناس فبيننا مناصفة، فأي عمارة أو أي مزرعة أو أي أرض أو مخطط يُشترى فبينهما على ما اتفقا عليه غُرْماً وغُنْماً.
(أن يشتريا في ذمتيهما بجاهيهما): إذاً: الشرط الأول: أن يشتريا في ذمتيهما. الذمة -كما قلنا- وصف اعتباري؛ لأنه ليس من قبيل المحسوسات، إنما هو من المعنويات، فهو لا يُرى ولا يُلمس، وإنما هو من المعنويات، فتقول: في ذمتي لك ألف ريال، والذمة لا نراها، وليست بشيء محسوس، وإنما هو وصف اعتباري مقدرٌ قيامُه بالإنسان قيامَ الأوصاف المحسوسة في موصوفاتها، فتقول: في ذمتي ألف، عليك ألف في ذمتك، هذا كله وصف اعتباري.
إذا قلنا: في ذمتنا، أي: ذمة الشريكين، فخرج من الشركة ما لو اتفقت مع شخص على أن تشتري على ذمة الشركة، فلو أنك اتفقت معي على أن نشتري بذمتنا والربح بيننا مناصفةً فذهبت أثناء الشركة واشتريت ثلاجة لبيتك؛ لكن على ذمتك، فلا تدخل في الشركة.
إذاً: لابد في الشركة أن يشترى الشيء على ذمة الشريكين، أما لو اشتُرِي على ذمة أحدهما لم يدخل في الشركة، ولا تقع الشراكة إلا إذا وقع الشيء أو اشتُرِي على ذمة الشركة وقلنا: (في ذمتيهما)، الظرفية هنا: قد تكون الذمم متساوية، كأن تقول: أي شيء تشتريه فإني ألتزم بنصف قيمته، وأي شيء أشتريه تلتزم بنصف قيمته، فذمته لك وذمتك له مناصفةً، أو -كما ذكرنا- تكون مختلفة، أحدهما يلتزم بالثلثين والآخر يلتزم بالثلث.. أحدهما يلتزم بثلاثة أرباع، والآخر يلتزم بالربع، تقول له: أنا طاقتي في حدود الربع، فإذا خسرت الشركة أستطيع أن ألتزم بالربع، ولا أستطيع أن أتحمل أكثر من الربع، لعدم وجود المال والسيولة عندي، أو أنت تنظر إلى حاله، فترى أنه فقير فتقول: لا أريد أن أغرر بك، وأحملك المسئولية؛ ولكن يمكن أن تتحمل معي الربع، ونحو ذلك من الأمور التي يتفق فيها الطرفان على اختلاف الذمة.
إذاً: (في ذمتيهما): ذمة الشريكين، إما متساوية إن اتفقا على المساواة، وإما متفاوتة على حسب الاتفاق.
(بجاهيهما): الجاه -كما ذكرنا- السمعة، ويقع هذا على صورتين:
الصورة الأولى: أن يؤخذ من الشخص المال أو العَرَض بجاه أحدهما، على أنه في ذمة الشريكين.
والصورة الثانية: أن يؤخذ بجاه الشريكين على ذمتيهما.
مثال الأول: تقول: نتفق الآن على أن ما يُشْتَرى على ذمتينا، فقلتَ له: نريد أن نشتري سيارات، ووجدنا السيارات الطيبة التي لها سوق عند زيد من الناس يعرفك ولا يعرفني.
إذاً: حينئذٍ الجاه الذي سيُعطى لقاءه المال، إنما هو جاه أحد الشريكين دون الآخر.
فقوله: (بجاهيهما): يشمل ما إذا كانا معاً في تقبُّل السلع، أو كان أحدهما دون الآخر، فلو أن صاحب المعرض يعرفك ولا يعرفني فاشتريتَ السيارة على ذمتي وذمتك، فجاهك في السيارة كلها من ناحية البذل؛ لكن ذمتك في السيارة على الأصل في نصفها.
مثلاً إذا كانت قيمة السيارة مائة ألف، وصاحب المعرض لا يعرف إلا أحد الشريكين، فإذا كان لا يعرف إلا أحد الشريكين، فلا يمكن أن ندخل جاهين، وإنما سندخل جاهاً واحداً، فاشترى السيارة بمائة ألف، فنقول: هذه السيارة اشتُريت بجاه أحدهما؛ ولكنها بذمة الطرفين، فتكون الذمة الأولى -وهي التي لصاحب الجاه الذي أعطيت السيارة له- في الخمسين ألفاً التي هي نصف قيمة السيارة أصلاً، فيتحملها الخمسين بالأصل، ويتحمل الخمسين الثانية كفالةً، فهو أصيل عن نفسه بجاهه، وكفيل عن صاحبه؛ لكن صاحب المعرض من حيث الأصل سيطالب من يعرفه، ولا يطالب من لا يعرفه، إلا إذا اتفقا في العقد عليهما معاً ويكون حينئذٍ كافلاً له، فهو مديون من وجه، وكفيل من وجه آخر.
إذاً: (بجاهيهما): تشمل الصورة الأولى: أن يكون المال المدفوع والعَرَض المدفوع بجاه أحدهما مثلاً: جاءا يشتريان عمارة، فقال له: يا فلان! جاهي وجاهك على أن نشتري في الأراضي، وأي شيء تشتريه أو أشتريه فبيننا مناصفةً والربح بيننا مناصفةً، فجاءا إلى عمارة، ووجدا أن هذه العمارة تباع بمليون، ومن المصلحة أن يشتريا هذه العمارة ثم يبيعانها بأكثر، فأخذا هذه العمارة دَيناً على الطرفين، فإذا أخذها أحدهما وهو معروف من صاحب العمارة دون الآخر، فإن قال له في العقد: أنا وفلان شركاء، سنأخذ منك هذه العمارة بمليون، فحينئذٍ معناه أن صاحب العمارة اتفق مع الطرفين؛ لكن يقول له صاحب العمارة: أنا لا أعرف صاحبك، هل تكفله؟
فيقول: أكفله؛ لأننا شركاء، فحينئذٍ يكون أصيلاً عن نفسه كفيلاً عن صاحبه.
ففي أي عقد من عقود شركة الوجوه أحدهما أصيل عن نفسه كفيل عن الآخر، وإذا كان يعرفهما معاً فقد اشتُري المال بجاهيهما.
وكلاهما في هذه الحالة المال بينهما كفالةً وغُرْماً، وحينئذٍ يبتاعان ويكون بينهما الربح على حسب الاتفاق.
(بجاهيهما): يمكن أن تقول: بجاهيهما، الباء للسببية، أي: بسبب جاهيهما؛ لأن الباء من معانيها: السببية، كقوله تعالى: فَكُلَّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ [العنكبوت:40]، أي: بسبب ذنبه، وقد تكون للتعليل، والمراد بها التعليل، وهو قريب من المعنى الأول.
(فما ربحا): أي: إذا أخذت العين بالجاه وعلى الذمة، وبيعت بفضل وربح، فإنها بينهما على ما اتفقا عليه، إن كانت مناصفةً فمناصفة، وإن كانت أثلاثاً فأثلاثاً.
لكن مثل ما ذكرنا في شركة المضاربة نذكر في شركة الوجوه، أنك لا تقسم ربح شركة الوجوه إلا بعد رد الدين لصاحبه، فإذا بيعت العمارة بمليونين، وقد اشتريت بمليون، لا تقسم المليون الثانية إلا بعد رد الدين كاملاً لصاحبه، لاحتمال -مثلاً- أن يحصل مماطلة أو يحصل ضرر على أحد الشريكين.
فلذلك يرد المال، والربح الزائد وهو المليون يقسم بينهما.
وهكذا بالنسبة لتصفية رأس المال، لو أنهما -مثلاً- اشتريا العمارة بمليون، وهذه العمارة حينما اشترياها بمليون أجراها سنةً كاملة، فالمعلوم أنهما اشتريا العمارة نسيئةً وديناً، وخُذْها قاعدة: في شركة الوجوه لا يباع بالنقد غالباً، إنما يباع بالدين؛ ولذلك دخلت الذمة؛ لأن عقدها قائم على الدين، فإذا اشتريا أرضاً أو عمارةً أو سيارةً غالباً يشتريان إلى أجل، بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات على حسب ما يريانه من المصلحة للشركة، فإذا اتفقا على شراء العمارة بمليونين، وتسدد بعد سنتين، فخلال السنتين اشتريا العمارة وقاما بتأجير العمارة خلال السنتين، ثم بيعت بعد السنتين، فأجرت خلال السنتين بمليون، وبيعت بعد السنتين برأس مالها المليون، فتُرَد المليون إلى صاحب العمارة، ثم تقسم المليون الفاضلة على ما اتفقا عليه؛ لكن لا تقسم إلا بعد دفع الحقوق، فلو كان على العمارة حقوق من فواتير كهرباء وماء كلفت قرابة مائتي ألف، فإنها تكون من الربح، ويُخصم من المليون مائتي ألف للفواتير، ولو أن هذه العمارة أجر أشخاص لتنظيفها ورعايتها ونحو ذلك، فإننا ندفع قيمة أجرتهم من الربح، فإذا تم تصفية الحقوق الواجبة على الشريكين ورد رأس المال إلى أصحابه فبعد ذلك يقسم الربح، مثل ما ذكرنا في المضاربة، وعلى هذا فيمكن جعل المناسبة بين شركة الوجوه والمضاربة من ناحية التنضيض، يعني: لا يكون القسم ولا يكون تمييز الربح وإعطاء كل ذي حق حقه من الربح إلا بعد رد رأس المال وأيضاً معرفة الحقوق الواجبة على الشركة وسدادها والوفاء بها.
قال رحمه الله: [وكل واحد منهما وكيلُ صاحبه وكفيل عنه بالثمن]:
كل واحد منهما وكيل عن صاحبه وكفيل عنه بالثمن، بأي شيء يشترى؟
فكل منهما يشتري أصالةً عن نفسه، ووكالةً عن صاحبه، وهو كفيل يغرم عن صاحبه.
كفيل في حالة ما إذا أعطاه صاحب المال الذي لا يعرف صاحبه، فإن الشريك يكون كافلاً لصاحبه، وكذلك لو أخذ الآخر مالاً بجاهه، فهو وكيل في الأخذ عن صاحبه، وكفيل له إذا لم يسدد.
قال: [والملك: بينهما على ما شرطاه]: أي: يكون أرباعاً أو أثلاثاً أو مناصفة،ًً على ما اتفقا عليه.
مثال ذلك: لو أنهما اشتريا سيارةً وقيمةُ السيارة ثلاثون ألفاً واتفقا على أن عشرين ألفاً وهي الثلثان على دَين، وعشرة آلاف على عمل، فتلفت هذه السيارة، بحيث لا تباع بأي شيء، فحينئذٍ تكون خسارة، وصاحب السيارة يطالبهما معاً بثلاثين ألفاً، فالوضيعة والخسارة تكون حينئذٍ أثلاثاً، يغرم صاحب الثلثين ثلثي القيمة، ويغرم الآخر الثلث، وهكذا لو كانت الوضيعة في نفس رأس المال، تنقصه عن التمام والكمال.
قال: [والربح: على ما اشترطاه]:
بعض العلماء يقول: الربح يُرَد إلى رأس المال، كما ذكرناه في شركة العنان، وبعضهم يقول: الربح بينهما على ما اشترطاه؛ لأنه ربما كان أحدهما أقوى جاهاً من الآخر، وربما كان أحدهما أكثر عملاً من الآخر، وفي هذا القول نظر؛ لأن من ناحية الأقوى والأشبه -كما ذكرنا-: ارتباط الوضيعة والربح برأس المال.
الجواب: باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
أما بعد:
فإذا جاء طالب العلم يستشكل شيئاً فينبغي أن يحسن فهم النصوص والأحاديث ثم يطبقها على الإشكال الذي عنده، يعني: لا تستشكل شيئاً إلا بعد معرفة الضوابط والأصول.
الحديث يقول: (لا تبِع ما ليس عندك)، وهو حديث صحيح من حديث حكيم بن حزام حينما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتيه الرجل وليس عنده المتاع، فيتفق معه، ثم يذهب ويشتريه ويبيعه، فقال له: (لا تبِع ما ليس عندك)، وهو حديث صحيح صححه غير واحد من العلماء.
لكن شركة الوجوه من حيث الأصل: الطرفان لم يبيعا ولم يتفقا مع أي شخص آخر، ثم أنت تقول: إنه قد يقع الإشكال بين الحديث وبين الشركة؛ لكن الذي ذكرتَه في السؤال: (أذهب وآخذ وأبيع).
أي: طُلِبت مني سلعة ليست عندي فأذهب إلى التاجر فآخذها بوجهي فوراً وأبيعها على الشخص.
فهذا لا يقع في شركة الوجوه فقط، بل يقع في كل شيء.
لكن شركة الوجوه قلنا: إن الشخص يتفق مع الطرف الثاني على أن يشتري شيئاً لم يبِعه لأحد، وعقد الشركة يقع بين الطرفين على شراء الأعيان على ذمتهما، ومسألة البيع على الطرف الثاني لم تأتِ، وليس لها علاقة، والآن نتكلم عن طرفين يتفقان على عقدٍ معين لشراء الأشياء على ذمتهما، وأنت تقول: الحديث يعارض عقد الشركة؛ لأن قولك: يعارض شركة الوجوه، أو يُشكل في شركة الوجوه غير مُحَرَّر، وينبغي أن يكون الاعتراض بالحديث على العقد نفسه.
وجود السؤال هذا خير وبركة؛ لأن طالب العلم دائماً لا يرتقي إلى الكمالات والضبط إلا بالتنبيه.
وأقول وأكرر: ينبغي على طالب العلم أن يتنبه للأحاديث والنصوص، وبخاصة الآيات والأحاديث، فلا تحمِّل النص أكثر مما يحتمل، ولا تصرفه عن وجهه، النص يقول: (لا تبِع ما ليس عندك) نص واضح، وهو فيمن يتفق مع شخص على بيعه ما لم يملكه بعد، كأن تتفق مع شخص على أن يبيعك سيارته بتسعة آلاف، فيأتيك شخص آخر ويقول لك: اشترِ لي سيارة من نوع كذا بعشرة آلاف وقيمتها تسعة آلاف، فتأخذ ربح الألف وأنت لم تقبض السيارة ولم تضمنها، فهذا بيعٌ لما لم تملك، وربح لما لم يضمن، هذا واضح ليس فيه أي إشكال.
والخطأ أنك إذا جئت تقول: يُشكل الحديث على شركة كذا، معناه: تأخذ معنى الحديث وتأخذ عقد شركة الوجوه.
فما علاقة عقد شركة الوجوه مع قوله: (لا تبِع ما ليس عندك)؟
ليست هناك علاقة، فعقد شركة الوجوه: يتفق الطرفان على شراء الأعيان بذمتهما، على أن الربح بينهما على ما اتفقا عليه. ما علاقة هذا بقوله: (لا تبِع ما ليس عندك)؟ ليست هناك أي علاقة.
ولو أن الطرفين أثناء الشركة اتفقا مع الناس على السلع وتبايعا، ثم ذهبا واشتريا، فهذا أمر يرجع إلى عقد البيع، أما تصرف الشريكين فقد تصرفا ببيع ما لم يملكا، يعني: لا يظن السائل أن عقد شركة الوجوه يسلتزم بيع ما ليس عنده؛ لأن عقد شركة الوجوه لا يحصل إلا بعد الملكية والقبض، وهذا قررناه وبيَّناه، بل حتى قلنا: لا يقسم الشريكان إلا بعد تصفية رأس المال.
إذاً: عقد الشركة ليس فيه إشكال؛ لكن لو أن الشريكين تبايعا مع الناس قبل أن يملكا السلعة، فهذا لا يختص بشركة الوجوه، ويمكن أن يقع في شركة العنان، ويقع في شركة المفاوضة، ويقع حتى في المضاربة.
وحينئذٍ لا تقول: يشكل عليَّ (بيع ما ليس عنده) مع شركة الوجوه؛ لأنه من الممكن أن يقول قائل: يُشكل عليَّ أن شركة الوجوه قد تفضي إلى الربا؛ لأنه من الممكن أن يتفق الطرفان، ويصرفا المال صرفاً ربوياً، فلا نقول: إن هذا الربا يُشكل على عقد الشركة.
إذاً: من ناحية الاعتراض، فليس هناك تعارض بين عقد شركة الوجوه وبين بيع الإنسان ما لا يملك؛ لكن قد تقع بعض صور البيع من الشركة؛ سواء من أحد الشريكين أو من الشريكين معاً على صورة بيع ما لا يملك، بل ربما وقع عقد الشريكين مع طرف آخر على وجه محظور، كالبيع بطريقة الربا، أو أن يتبايعا بيع غرر، أو أن يبيعا بيع غش وتدليس، فهذا لا يؤثر في عقد الشركة، بل هو عارض بتصرف أحد الشريكين على غير الوجه المعروف؛ لكنه لا يؤثر في أصل عقد الشركة، ويؤثر في نفس الصفقة، لكن إذا جئت تعترض، فشرط الاعتراض أن يكون مؤثراً في نفس عقد الشركة.
يعني: لو اتفق الطرفان على شركة الوجوه وذهبا واتفقا مع الناس -مثلاً- على بيع سيارة، وقالا للمشتري: نؤمِّن لك هذه السيارة بمائة ألف، والسيارة قيمتها ثمانون ألفاً، ثم ذهبا واشتريا بجاهيهما سيارةً بثمانين ألفاً وباعاها بمائة ألف.
نقول حينئذٍ: عقد البيع باطل وليس عقدَ الشركة.
وحينئذٍ من ناحية أصولية منطقية: إذا ورد الاعتراض على آحاد الصور التي هي ليست مركبة من صورة العقد، ولا يستلزمها أصلُ العقد، ولا من مقتضياته ولوازمه التي لا يمكن أن تنفك عنه، فحينئذٍ يكون الاعتراض على التصرف وليس على أصل العقد. وهذا أمر ينبغي لطالب العلم أن يتنبه له، وهو أن الاعتراض على التصرف وليس على أصل العقد، ومن الممكن أن أي شركة تقع بين الطرفين يتصرف أحد الطرفين تصرفاً خاطئاً فنقول: الخطأ في التصرف وليس في عقد الشركة؛ لأنها ليست من لوازم الشركة، ولا من حقيقة عقد الشركة، فليس من حقيقة عقد الشركة أنه قائم على بيع الإنسان ما لا يملك، وليس من لوازمه أن يبيع أحد الشريكين ما لا يملكه ويأخذ ربح ما لا يضمن.
وأكدتُ في هذه القضية بأن الاعتراضات والإشكالات يستفيد منها طلاب العلم كثيراً، بل إن علم الأصول من حيث هو إذا جئت تنظر إلى كلام العلماء ومطولاتهم فيه تجد أن الغرض منها تمرين الذهن، ورياضة الفَهم على كيفية فَهم الاعتراضات ورد الإشكالات، والجواب عنها.
ولذلك نقول: ينبغي على طالب العلم إذا اعترض أن يحرر الاعتراض، خاصة إذا كان الاعتراض فيه مصادمة نص أو آية أو حديث أو إجماع؛ لأنهم يقولون: إن الشخص إذا كان نصف عالم ربما هلك، والهلاك بنصف العلم يعني: يكون عنده نصف تصوُّر، فيستعجل الفَهم، فيُحدث الاعتراضات والإشكالات على نفسه؛ لكن لو حرر الأمور وثبت على رسوخ في العلم، لم يبقَ له إشكال.
ونسأل الله العظيم أن يلهمنا السداد والرشاد. والله تعالى أعلم.
الجواب: هذه المسألة مفرَّعة على مسألة القَسم قبل نهاية المضاربة، وذكرنا هذه المسألة وبينا أن الأشبه والأقوى عدم جواز ذلك، وأنه لا يكون للعامل مطالبة إلا بعد الانتهاء من المضاربة تماماً، وبينا وجه ذلك.
وبناءً على هذا فعند من يقول بالجواز: يشترط أن يرضى رب المال، فإذا قال له: اخصم هذا من المال، أو من الربح، واعترض رب المال، فمن حقه أن يعترض، وليس من حق العامل أن يأخذ؛ لأن مقتضى العقد بينهما على ذلك، والله تعالى أعلم.
الجواب: هذا الفعل رخص فيه غير واحد من العلماء رحمهم الله، وقالوا: لو أن شخصاً قام بتوزيع تركته قبل موته، وأعطى ورثتَه حقوقهم، قالوا: لا بأس بذلك، خاصةً إذا كان قريباً من الموت.
وقال بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: إن هذا الأمر فيه شيء من التغرير؛ لأنه ربما طرأ الوارث الذي يكون مستحقاً ويتعذر للميت أو للشخص أن يوفي له حقه؛ كما في حال القسمة لو قسم في أول محرم من العام الماضي، وأعطى كل ذي حق حقه، على أن يرى أنه يعدل بينهم، فأعطاهم على مقتضى قسمته، ثم طرأ وارث في هذه السنة، لا يمكن أن يسترد المال؛ لأن المال قُبض وأُخذ، فإن قلنا: إنه يأخذ حكم الهبات؛ لأنهم يفرعونها ويقولون: كما لو وهبهم وأعطاهم في حال حياته، أليس من حق الوالد أن يعطي ابنه هذا عشرة وهذا عشرة ويعطي أبناءه بالقسمة وبالعدل؟
نقول: بلى، من حقه ذلك.
قالوا: إذا كان من حقه أن يهب فمن حقه أن يقسم، وتكون القسمة أشبه بالهبة.
قالوا في هذه الحالة: لو أنه أعطاهم ثم طرأ وارث بعد ذلك لم يملك أن يأخذ؛ لأن الهبة تُملك بالقبض، وهؤلاء قد قبضوا ما وُهبوا، وبناءً على ذلك: تستقر ملكيتهم للموهوب.
وإذا قال لهم: ردوه. فقد رجع في هبته، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم الرجوع في الهبة، وقال: (ليس لنا مَثَل السَّوء: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) كما في الصحيح.
فقالوا: في هذه الحالة لا يمكن، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، فعلى المسلم أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الناس بذلك، صحيحٌ أنه عليه الصلاة والسلام لا يُوْرَث ولا يُوَرِّث: (نحن معاشرُ الأنبياء لا نُوْرَث، ما تركناه صدقةً)؛ لكنه لم يأمر الناس ولم يدلهم على هذا، ولو كان هذا من سنته لدل عليه، فليس من هديه وسنته عليه الصلاة والسلام القسمة في حال الحياة.
وأيضاً لما كانت المواريث قد تولى الله قسمتها من فوق سبع سماوات، ولم يَكِلْها إلى مَلَك مقرب ولا إلى نبي مرسل؛ فالواجب الوقوف عند الشرع.
وأنبه على مسألة وهي: أن بعض الناس يتكلف بعض الأمور ويستعجلها قبل أوانها، وليس هناك احتياط، ولا صيانة للحقوق، ولا أداء لها أتم ولا أكمل مما بينه الله في كتابه وعلى لسان وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تحاول أن تفعل هذا الشيء وتقول: هذا أفضل أو هذا أكمل حتى لا يختلفوا من بعدي وحتى لا يتنازعوا، فاترك الأمر لله، واترك الأمر لقسمة الله عزَّ وجلَّ، فإنك لو فعلت هذا لربما حصل أمر لا تُحمد عقباه، ومن أوجه ما يُعترض به على هذا أنه لربما قسم ماله في أول السنة، وكان له ابن ذكر، فأعطى ابنه الذكر -مثلاً- خمسين ألفاً، ثم شاء الله عزَّ وجلَّ أن هذا الابن الذكر توفي قبل أبيه، فهو يعطيه على أنه سيرثه، والواقع أنه جاء وقت الإرث وليس بمستحِق من الإرث شيئاً، فحينئذٍ أعطى من لا يستحق في الإرث من حيث الأصل، والخمسون ألفاً لربما أخذها الابن وأضاعها في أموره، ولا يمكن تداركها.
وقد يقول قائل: إنها ستئول ميراثاً للبقية.
نقول: لكن الإرث من الابن ليس كالإرث من الأب، والنصيب يختلف، فنصيب الأخت مع أخيها ليس كنصيبها كبنت، فالأمر يحتاج إلى شيء من التأني والروية، واتباع هدي السلف الصالح رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين، ولا نجاوز هذه الحدود، فلا يقسم الرجل تركته قبل موته بل يوقف على الشرع، فإذا توفي ترك ورثته لحكم الله عزَّ وجلَّ.
وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس.
وكان بعض مشايخنا رحمة الله عليه يعترض ويقول: ربما أعطى أحد أبنائه أرضاً على أنها بمائة ألف، وبعد يوم أصبحت قيمتها عشرة آلاف ريال؛ لأنكم تعرفون قسمة المواريث قد يكون فيها نوع من الغرر، فيقدر العمارة بمائة ألف، ويقول: أنت نصيبك من التركة مائة ألف، إذاً: تستحق العمارة الفلانية فيأخذها، ثم مباشرة ينزل ويكسد سوقها، أو عند قسمة الإرث تكون إحدى الأعيان قيمتها أكثر من الأخرى، فكل هذا فيه غرر ومخاطرة.
فينبغي ترك القسمة -كما ذكرنا- لقسمة الله عزَّ وجلَّ، وهذا هو الأفضل والأكمل، والله تعالى أعلم.
الجواب: اشتمل هذا السؤال على جانبين:
الجانب الأول: اعتداء حدود الله، وغشيان محارمه، بأكل المال الذي حرمه على المسلم.
وأما الجانب الثاني: فهو الدَّين الذي لا شك ولا مرية في عظيم بلائه إذا ابتُلي به العبد، فهو هم الليل وذل النهار، نسأل الله العظيم أن يعيذنا منه.
فأما بالنسبة للمسلم فعليه أن يعلم أن الحلال أكثر من الحرام، وأنه ما من عبد يستغني بحلال الله إلا أغناه، وما من عبد يستغني بالله إلا كفاه، فانْعَم وطِبْ نفساً بما أحل الله لك، وإياك إياك والحرام! فإن الحرام كثيره قليل، وعظيمه حقير، وجليله يسير.
فعليك أن تعلم أن الحرام عواقبه وخيمة، فإن أضحك يوماً أبكى أياماً، والحرام يقود إلى الآثام، فكم من لقمة حرام قذفها العبد في جوفه، سلط الله شؤمَها وبلاءها على لسانه وجوارحه وأركانه!
فمن أكل مال اليتامى فلربما ختم الله على قلبه، فأصبح قاسي القلب يتهاوى في الدركات والسيئات حتى يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، ومن استغنى بالحرام وأصبح يطلبه آناء الليل وآناء النهار استزله الشيطان وأخذه إلى ما هو أعظم وأشد حتى لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك.
واعتبر! فإن السعيد من وُعِظ بغيره.
فكم من أقوام جمعوا أموالهم من الحرام فتمتعوا وضحكوا ولَهُوا وأصابوا لذة عاجلة، فساءت خواتمهم وساءت عواقبهم وما ماتوا إلا وقد رأوا بأم أعينهم ما تتقرح العيون برؤيته!
وكم من رجل جمع الحرام وجمع المال من حله ومن حرمته، ولم يبالِ بما يُدخِله على أهله وولده، فأصبحت آثار الآثام وطُعمة الحرام تظهر في أهله وولده يوماً فيوماً وشيئاً فشيئاً حتى تمرد عليه أبناؤه، وتمردت عليه أزواجه، وأصبحوا أعداءً له، حتى آذَوه في المال الذي جمعه من أجلهم!
وكم تسمع من القصص ومن الأحداث ما فيه عبرة لكل معتبر!
فإن الله تعالى يقول: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]، فالله سبحانه وتعالى ليس بغافل، وإنما يملي للظالم.
فالواجب على المسلم أن يستغني بالله، وثِقْ ثقةً تامة أنك إن استغنيت بالله جلَّ جلالُه فإن الله يسد فقرك، ويقضي دينك.
فما من عبد نزلت به حاجة، فأنزلها بالله عزَّ وجلَّ، ووجه وجهه للحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ووجه قلبه للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً يدعوه ويرجوه، إلا فتح الله له أبواب الفرج من حيث لا يحتسب: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4]، ومن يتقِ الله يجعل له من كل هم فرجاً ويجعل له من كل ضيق مخرجاً.
فإياك إياك! أن تسوء ظنونُك بالله إلى درجة تعتدي فيها على حدود الله ومحارمه، ولكن استغنِ بالله يغنك، وقل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك، قد وعدك الله إن دعوته صادقاً من قلبك، أن يفتح لك أبواب الفرج وأن ييسر لك.
وأما الأمر الثاني: وهو أمر الدَّين، فالواجب على المسلم ألَّا يحمل نفسه فوق طاقته، وألَّا يريق ماء وجهه فيحملها من الديون ما لا تحتمل، ولا ينبغي له أن يغرر بأموال الناس، ومن أخذ الديون من الناس والله يعلم من قلبه أنه يريد سدادها وأنه مهتم بقضائها، يسر الله له السداد، ولو دهمه الأجل ونزل به الموت قبل أن يسددها قال بعض العلماء: فإن الله يتحمل عنه الحقوق في الآخرة، وفسروا ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله).
فالواجب على المسلم أن يتقي الدين ما أمكنه، ولذلك استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من غلبة الدين، ومن قهر الرجال، وإذا أراد المسلم أن يجتنب الدين، فعليه أن يتدبر في أمره، وأن ينظر في حاله، وأن يرضى بالقليل، فمن رضي بالقليل جعل الله قليله كثيراً، فلا قليل مع البركة، ولا كثير إذا نزعت منه البركة.
اللهم بارك لنا في أموالنا، وبارك لنا في أمورنا وأحوالنا، وزدنا من بركاتك ورحماتك وخيراتك يا أرحم الراحمين!
اللهم لا تحجب عنا عظيم فضلك وإحسانك بسوء ما يكون منا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر