المقدم: تقدم لنا أركان الإيمان الخمسة الأولى منها بالتفصيل، وبقي علينا الركن السادس وهو الإيمان بالقدر خيره وشره. نريد أن تحدثنا عنه، أثابكم الله.
الإيمان بالقدر
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل حين سأله عن الإيمان، والإيمان بالقدر أمرٌ هامٌ جداً، وقد تنازع الناس في القدر من زمنٍ بعيد، حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان الناس يتنازعون فيه، ويتمارون فيه، وإلى يومنا هذا والناس كذلك يتنازعون فيه، ولكن الحق فيه -ولله الحمد- واضح بينَّ، لا يحتاج إلى نزاع ومراء.
فالإيمان بالقدر: أن تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد قدّر كل شيء، كما قال الله تعالى:
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا
[الفرقان:2] ، وهذا التقدير الذي قدره الله عز وجل تابعٌ لحكمته، وما تقتضيه هذه الحكمة من غاياتٍ حميدة، وعواقب نافعة للعباد في معاشهم ومعادهم.
مراتب القدر
القدر لا ينافي فعل الأسباب
ثم اعلم أن الإيمان بالقدر لا ينافيه فعل الأسباب، بل إن فعل الأسباب مما أمر به الشرع وهو حاصل بالقدر؛ لأن الأسباب تنتج عنها مسبباتها، ولهذا لما توجه أمير المؤمنين
عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام ذكر له في أثناء الطريق أنه قد وقع فيها الطاعون، فاستشار الصحابة رضي الله عنهم: هل يستمر ويمضي في سيره أو يرجع إلى المدينة؟ فاختلف الناس عليه، ثم استقر رأيهم على أن يرجعوا إلى المدينة، ولما عزم على ذلك جاءه
أبو عبيدة عامر بن الجراح وكان
عمر رضي الله عنه يجله ويقدره، فقال: يا أمير المؤمنين! كيف ترجع إلى المدينة، أفرارٌ من قدر الله؟ قال رضي الله عنه: نفر من قدر الله إلى قدر الله، وبعد ذلك جاء
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وكان غائباً في حاجةٍ له، فحدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الطاعون: (
إذا سمعتم به في أرضٍ فلا تقدموا عليه) ، الحاصل قول
عمر رضي الله عنه: نفر من قدر الله إلى قدر الله، فهذا يدل على أن اتخاذ الأسباب من قدر الله عز وجل، ونحن نعلم أن الرجل لو قال: أنا سأؤمن بقدر الله، وسيرزقني الله ولداً بدون زوجة، لو قال هذا لعدّ من المجانين، كما أنه لو قال: أنا أؤمن بقدر الله ولن أسع في طلب الرزق، ولم يتخذ أي سببٍ للرزق لعدّ ذلك من السّفه.
إذاً: الإيمان بالقدر لا ينافي الأسباب الشرعية أو الحسية الصحيحة، أما الأسباب الوهمية التي يدعي أصحابها أنها أسباب وليست كذلك فهذه لا عبرة بها ولا يلتفت إليها.
الاحتجاج بالقدر على المعصية
ثم اعلم أنه يرد على الإيمان بالقدر إشكالٌ وليس بإشكال في الواقع، وهو أن يقول قائل: إذا كان الفعل من قدر الله عز وجل فكيف أعاقب على المعصية وهي من تقدير الله عز وجل؟
والجواب على ذلك أن يقال: لا حجة لك على المعصية بقدر الله؛ لأن الله عز وجل لم يجبرك على هذه المعصية، وأنت حين تقدم عليها لم يكن لديك العلم بأنها مقدرةٌ عليك؛ لأن الإنسان لا يعلم ما هو مقدور إلا بعد وقوع الشيء، فلماذا لم تقدر قبل أن تفعل المعصية؟ لماذا لم تقدر أن الله قدّر لك الطاعة فتقوم بطاعته؟
وكما أنك في أمورك الدنيوية تسعى لما ترى أنه خير، وتهرب مما ترى أنه شر، فلماذا لا تعامل نفسك هذه المعاملة في عمل الآخرة؟
أنا لا أعتقد أن أحداً يقال له: إن لمكة طريقين: أحدهما: طريقٌ مأمونٌ ميسر، والثانية: طريقٌ مخوف صعب، لا أعتقد أن أحداً يسلك الطريق المخوف الصعب، ويقول: إن هذا قد قدر لي، بل سوف يسلك الطريق المأمون الميسر، ولا فرق بين هذا وبين أن يقال لك: إن للجنة طريقاً وللنار طريقاً، فإنك إذا سلكت طريق النار فأنت كالذي سلك طريق مكة المخوف الوعر، وأنت بنفسك تنتقد هذا الرجل الذي سلك الطريق المخوف الوعر، فلماذا ترضى لنفسك أن تسلك طريق الجحيم وتدع طريق النعيم، ولو كان للإنسان حجة بالقدر على فعل المعصية لم تنتف هذه الحجة في إرسال الرسل، وقد قال الله تعالى:
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ
[النساء:165].