قال: [وهو عقلي كحياة لعلم].
يعني: أنه من شرط العلم أن يكون العالم حياً، فلا يوصف بالعلم إلا من هو حي، فالجدار لا تقول: إنه عالم، وهذا على كلام المتكلمين؛ ولهذا استدلوا على ثبوت حياة الله بثبوت العلم، يعني: بنوا الأصل على الفرع، قالوا: نحن لا نعرف أن الله حي إلا لأننا نعلم أنه عليم، ولا نعلم أنه عليم إلا بإحكام المخلوقات، فإحكام المخلوقات يدل على علم، وثبوت العلم يدل على الحياة.
فانظر كيف قلبوا الأصل، أو قلبوا الحقيقة؛ لأن الأصل الحياة، ثم يأتي بعدها العلم.
على كل حال لا يمكن أن يوصف أحد بعلم إلا بشرط أن يكون حياً، هذا ما ذهبوا إليه، والصحيح: أنه قد يوصف بالعلم من ليس بحي، فإن أحداً لما صعد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان اهتز بهم؛ لأنه علم من صعد عليه؛ ولهذا قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق، وشهيدان).
ثم نقول: قال الله تعالى:
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ
[الإسراء:44]، والمسبح عالم بالتسبيح، وعالم بمن يسبح.
فقولهم: إن العلم يستلزم الحياة استلزاماً عقلياً نقول لهم: هذا مردود عليكم، وما أكثر أصول المتكلمين التي هي مردودة عليهم ويبدؤونها عقلاً، ولكن كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن الأدلة العقلية أكثرها شبهات وهمية، ولهذا تجدها منتقضة عليهم، لكن لنأخذ ونسلم بما قالوا، إن من شرط العلم الحياة، فهذا شرط عقلي.
ثم قال: [وشرعي كطهارة لصلاة].
وهذا واضح، من شرط الصلاة الطهارة، والذي جعل الطهارة شرطاً في الصلاة ليس هو العقل، فالعقل يجيز أن يصلي الإنسان بلا طهارة، لكن الذي جعل الطهارة شرطاً الشرع، إذاً فالطهارة للصلاة شرط شرعي.
قال: [ولغوي] أي: شرط لغوي، وهو ما اقترن بـ(إن) الشرطية أو إحدى أخواتها، مثل: [كأنت طالق إن قمت] هذا شرط، حيث شرطنا للطلاق القيام، واشتراط القيام للطلاق هنا ليس عقلياً، وليس شرعياً، بل هو لغوي، أي بمقتضى اللغة صار القيام شرطاً للطلاق؛ لأنه علق الطلاق على القيام بـ(إن) أو إحدى أخواتها.
وليت المؤلف مثل بغير هذا، مثل أن نقول للعبد: أنت حر إن حفظت القرآن، هذا شرط لغوي لا شرعي؛ لأنه ما قال الشرع: إذا حفظ العبد القرآن عتق، لكنه شرط لغوي.
أما أنت طالق إن قمت، ما تقولون في رجل قال لزوجته: أنت طالق إن قمت، فقامت، تطلق أم فيه تفصيل؟
الجواب: أما على المشهور من المذهب ومن مذاهب العلماء عامة، والمذاهب الأربعة كلها على أنها إذا قامت طلقت، ولكن ذهب شيخ الإسلام رحمه الله إلى أنه إذا كان مراد القائل المنع من القيام دون وقوع الطلاق، فإن هذا حكمه حكم يمين، فلو قامت لم تطلق، ولكن عليه كفارة يمين، وإن أراد الشرط -أي وقوع الطلاق عند وجود القيام- فإنها تطلق.
واستدل لذلك بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، وبأنه وردت قضايا عن الصحابة فيمن نذر نذراً يقصد به المنع أنه يكفيه كفارة اليمين، قال: فإذا حكم الصحابة على النذر الذي يراد به المنع بحكم اليمين مع أن الوفاء بالنذر محبوب إلى الله، كان الحكم بذلك في الطلاق من باب أولى.
قال: ومسألة الطلاق لم ترد عن الصحابة؛ لأن ذلك لم يكن معروفاً في عهدهم، فلذلك ما وجد عن الصحابة أثر في أن الإنسان إذا قال لزوجته: أنت طالق إن قمت وأراد به المنع أنه يجزئ فيه كفارة اليمين، لكن ورد نظيره في النذر؛ لأن النذر موجود في عهدهم، أما هذا فليس موجوداً في عهدهم.
والراجح ما اختاره شيخ الإسلام لا شك؛ لأن الحديث واضح فيه، والقياس على ما وضعه الصحابة ظاهر.
لكن لو قال: أنت طالق إذا دخل شهر رمضان، فهل يتصور فيه إرادة المنع؟
الجواب: لا؛ لأنه لا يمكن أن يمنع دخول رمضان، هل يمكن إذا صادف يوم تسعة وعشرين من شعبان قال: يا رمضان لا تدخل؟ ما يمكن، إذاً فما علق على يوم أو شهر فإنه قطعاً لا يراد به اليمين، بل هو شرط محض.
وهذه المسألة لما دخلنا فيها لا بد أن نكملها، إذا علق الطلاق على فعل غير الزوجة، فالذي يترجح أنه أراد اليمين، لا أنه أراد اليمين؛ لأنه ليس للزوجة دخل في الموضوع، مثل أن قال لشخص: إن كلمت زيداً فزوجتي طالق، إرادة التعليق هنا بعيدة؛ لأن الزوجة ليس منها ذنب حتى يقال: إنه أراد طلاقها، وإنما أراد بذلك المنع، يعني: منع المخاطب من كلام زيد.
أما إذا قال لزوجته: إن كلمت فلاناً فأنت طالق، فهنا يحتمل أنه أراد الطلاق أو أراد اليمين، لماذا؟ لأنه يقول: إن كلمت زيداً فأنا نفسي تعبت منها لا أريدها، ولذلك قلت: إن كلمت زيداً فأنت طالق، هنا يكون الشرط شرطاً محضاً شرطاً محضاً؛ لأنه يقول في نفسه: إنها إذا كلمت زيداً طابت نفسي منها ولا أريدها، فحينئذ نقول: يقع الطلاق.
وتارة يريد أن يهددها ويمنعها، ولو كلمت زيداً لا يريد أن يطلقها، هو يريد زوجته بكل حال، فهنا يكون يميناً، والله أعلم.