إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله سيدنا وإمامنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
هذه هي الجلسة الختامية من أمالي شرح بلوغ المرام، هذا هو الدرس التاسع والعاشر في هذه الليلة؛ ليلة الخميس التاسع والعشرين من شهر رجب لسنة 1430هـ.
وبنهاية هذا الدرس نكون قد استكملنا -بفضل ربنا وحمده وشكره- أحاديث شرح بلوغ المرام -كتاب الحج- ضمن هذه الدورة المكية المكثفة الثالثة، وبعدها سوف أقوم بعرض سريع ومختصر لكتاب الحج كله من أوله إلى آخره، ثم نجيب على الأسئلة التي ترد هذا اليوم، ثم أعطيكم كلمة الختام بإذن الله تعالى، ولن يأخذ هذا منا أكثر من الوقت المعتاد.
الحديث رقم (768):
حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب وكل شيء إلا النساء ) رواه أحمد وأبو داود وفي إسناده ضعف.
وهذا الحديث ضعيف كما أشار إليه المصنف، فإنه من رواية الحجاج بن أرطأة، وهو مع ضعفه يروي هنا عن الزهري وهو لم ير الزهري ولم يسمع منه، وبهذا أعله الأئمة كالإمام أحمد والبيهقي والدارقطني وأبي داود والنووي وابن حجر وغيرهم.
ومع ضعف إسناده وانقطاعه إلا أن متنه فيه اضطراب أيضاً، ففي بعض ألفاظه يقول: ( إذا رميتم فقد حل لكم كل شيء )، وفي بعضها: ( إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء )، وهذان قولان مختلفان كما هو معروف.
وقوله: (فقد حل لكم الطيب) يعني: وضع الطيب في الرأس وفي البدن وفي الثياب، وهو من محظورات الإحرام.
وقوله: (إلا النساء) هذا استثناء، والمقصود الجماع؛ فإن الجماع لا يحصل إلا بالتحلل التام، أو التحلل الثاني، أو التحلل الأكبر كما سوف يأتي بسطه إن شاء الله تعالى.
مما يكاد أن يكون اتفاقاً بين أهل العلم أن للحج تحللين: تحللاً أصغر وهو يسمى التحلل الأول، ويسمى التحلل الأصغر.
وتحللاً ثانياً يسمى التحلل الأكبر أو التحلل التام. فهما تحللان.
السؤال: التحلل الأول بماذا يحدث؟ فيه قولان:
القول الأول: أن التحلل الأول يحصل بعمل واحد من أعمال يوم النحر وهو رمي جمرة العقبة، فمن رمى جمرة العقبة فقد حل، وهذا ثبت بإسناد صحيح عن جمع من الصحابة كـعمر رضي الله عنه، وجاء عن عائشة وابن الزبير وعطاء، وهو قول المالكية ورواية في مذهب الإمام أحمد اختارها ابن قدامة في المغني ورجحها شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمهم الله جميعاً، أن التحلل الأول يحصل برمي جمرة العقبة.
واستدلوا أولاً بحديث الباب على رواية: (إذا رميتم فقد حل لكم كل شيء)، وفي هذا الاستدلال:
أولاً: ضعف الإسناد.
ثانياً: اضطراب المتن. فلا يتم الاستدلال.
لكن استدلوا أيضاً بحديث أم سلمة رضي الله عنها، وهو حديث طويل فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ضمن حديث: ( إنه رخص لكم إذا رميتم جمرة العقبة أن تحلوا )، أو قال: ( هذا يوم رخص لكم إذا رميتم جمرة العقبة فيه أن تحلوا )، والحديث عند أبي داود وغيره، وهو حديث صحيح الإسناد، وأعله بعضهم، والواقع أن هذا القدر من الحديث صحيح، وفيه زيادة منكرة وهي: أن ( من لم يطف بالبيت حتى أمسى فإنه يعود حراماً كهيئته )، فهذه الزيادة منكرة، ولكن لا يمنع أن يكون أصل الحديث صحيحاً محفوظاً كما رجحه غير واحد.
وكذلك قول عمر رضي الله عنه أنه قال: (من رمى جمرة العقبة فقد حل له ما حرم الله عليه)، وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
وجاء نحو هذا عن جمع من الصحابة كـابن عمر رضي الله عنه وابن الزبير وسواهم، وهذه الآثار عن الصحابة هي أقوى مستند لمن قال بأن من رمى جمرة العقبة فقد حل، هذا هو القول الأول.
القول الثاني: أن التحلل الأول يحدث بفعل اثنين من ثلاثة:
أولاً: رمي جمرة العقبة.
ثانياً: الحلق.
ثالثاً: الطواف.
والنحر لا مدخل له في التحلل، وإنما التحلل مربوط باثنين من هذه الثلاثة، يعني: لا يكفي فيه رمي جمرة العقبة حتى يطوف بالبيت أو يحلق، فإذا رمى وطاف، أو رمى وحلق، أو حلق وطاف فقد تحلل التحلل الأول بفعل اثنين من ثلاثة، وهي: الرمي والحلق والطواف بالبيت الذي هو طواف الإفاضة، فالفقهاء يقولون: التحلل الأول لا يكفي فيه جمرة العقبة حتى يكون بفعل اثنين من هذه الثلاثة، وأعيد بأن النحر ليس له مدخل في التحلل.
هذا القول هو رواية عن الإمام أحمد أيضاً؛ بل هو رواية مشهورة، وهو قول الشافعية والحنفية، واستدلوا بحديث الباب على رواية: ( إذا رميتم وحلقتم )، وأيضاً مما استدلوا به حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( طيبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت ).
فقالوا: إن حديث عائشة رضي الله عنها يدل على أنه رمى ثم حلق ثم تطيب قبل أن يدفع إلى البيت ويفيض منه، وقد حل له الحلق عليه الصلاة والسلام فبان أنه غير محرم، وكذلك كل محرم، يقولون: إذا رمى جمرة العقبة حل له الحلق.
القول الثالث: هو أن الإنسان إذا دخل عليه وقت رمي جمرة العقبة فقد حل حتى لو لم يرم، وهذا قول ابن حزم، كما نصره في المحلى فقال: إن مجرد دخول وقت الرمي كافٍ في التحلل، ووقت الرمي سبق أن بينا أن الرمي يكون إما بمنتصف الليل أو يكون بطلوع الفجر على الروايتين المشهورتين، فهذا قول الإمام ابن حزم رحمه الله.
ولعل القول بأن الإنسان إذا رمى جمرة العقبة حل؛ هذا هو قول قوي من جهة الإسناد ومن جهة الدليل، ولا يوجد أدلة أخرى تنصر القول الآخر أكثر منه، يعني: حديث أم سلمة -وإن كان بعضهم أعله- إلا أنه فيه قوة ووجاهة، وأيضاً الآثار الصحيحة عن ابن عمر وعن عمر رضي الله عنهما فيها قوة، وإن كان مما يخدش الاستدلال بقول عمر وابن عمر أنه جاء عن كلٍ منهما رواية أخرى أنه إذا رمى جمرة العقبة وحلق فقد حل له ما حرم الله عليه، فيصبح الاستدلال بها للقول الأول وللقول الثاني.
فنقول: من رمى جمرة العقبة فله أن يتحلل، والأولى والأحوط أن لا يتحلل إلا بعدما يفعل شيئاً آخر، مثل أن يرمي جمرة العقبة ثم يحلق رأسه، أو يرمي جمرة العقبة ثم يطوف بالبيت فيتحلل بذلك التحلل الأول.
فيه بيان ما يحصل به التحلل الأول، وهو رمي جمرة العقبة أو فعل اثنين من ثلاثة على ما ذكرنا.
وفيه وجود تحللين، هذا الحديث مما يستدل به على وجود تحللين أصغر وأكبر.
وفيه الفرق بين التحلل الأكبر والتحلل الأصغر، وأن التحلل الأصغر يحل له كل شيء إلا النساء، إلا الجماع، يعني: يحل له أن يلبس ثيابه، وأن يحلق شعره، فهذا نسك يحصل به التحلل، وأن يتطيب، طبيعي، ويقلم أظافره، وأيضاً يحل له أن يعقد النكاح بعد التحلل الأول، وأن ينكح وأن يُنكح بمعنى العقد، إلى غير ذلك، ولكن يحرم عليه النساء، يحرم عليه الجماع.
إذاً: هذا هو الفرق بين التحللين.
ومن فوائد الحديث: أنه لا مدخل للنحر في التحلل كما ذكرنا.
حديث ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( ليس على النساء حلق إنما يقصرن )، أو: ( إنما عليهن التقصير ) والحديث رواه أبو داود بإسناد حسن.
ولو أن المرأة حلقت شعرها هل يجزئها ذلك؟
نعم يجزئها وقد أساءت، وللعلماء تفصيل في جواز حلق المرأة رأسها أو كراهته أو تحريمه، على ثلاثة أقوال.
عن ابن عمر رضي الله عنهما: ( أن
وقوله: (استأذن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم) أي: طلب الإذن من الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يترك المبيت بـمنى ليالي منى وقت نزول الحاج بـمنى، وأن ينزل إلى مكة من أجل السقاية.
والسقاية: هي سقاية الحاج ماء زمزم، وكان العباس هو الذي يتولى الإشراف عليه بحكم شرفه ونسبه ومنزلته، فكان هو المشرف على أمر السقاية، وكانوا يسقون الحاج ماء زمزم، وعادة ما يضعون مع الماء شيئاً من الزبيب وهو ما يسمى بالنبيذ، يعني: يرمون الزبيب مع الماء من أجل أن يحلو الماء، فكانوا يكرمون الحجيج بهذا، وحتى في الجاهلية يفتخرون به؛ ولهذا قال الله عز وجل: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [التوبة:19].
القول الأول: أن المبيت بـمنى واجب من واجبات الحج، وهذه رواية للإمام أحمد وقول لـمالك والشافعي، وهو قول عطاء بن أبي رباح، واختاره ورجحه الشيخان ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله تعالى.
والإمام أحمد مع أنه يقول -في رواية عنه- بوجوب المبيت بمنى؛ إلا أنه لا يقول بالفدية على من ترك المبيت، لا يقول: إن من ترك المبيت عليه دم، وهذا دليل أنه قد يقول إمام بوجوب الشيء ولا يقول بوجوب الدم أو الفدية على من تركه؛ فإن بعض المفتين يأخذون بالأحوط في الفتوى في الإيجاب، ثم يطردون من وراء ذلك أن من ترك هذا الواجب فعليه دم، ويفعلون ذلك احتياطاً للنسك، وينسون أحياناً الاحتياط للمكلف والاحتياط لمال المكلف، وأنه لا يؤخذ منه إلا بحق أو بدليل شرعي.
فالإمام أحمد رحمه الله مع أن عنده قولاً مشهوراً في أن المبيت بمنى واجب، إلا أنه لا يقول بأن من ترك المبيت عليه دم، ولما (نقل له أحدهم أن إبراهيم النخعي كان يقول: إن من ترك المبيت فعليه دم ضحك الإمام أحمد مستنكراً، وقال: الدم شديد)، يعني: لا يوجب على الناس الدم هكذا جزافاً، (وإنما يتصدق بشيء)، مما يدل على أنه ليس في الأمر توقيف وإنما يحث الحاج على أن يتصدق أو يطعم.
القائلون بوجوب المبيت بـمنى من أقوى أدلتهم قول الله سبحانه وتعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203]، فهذه الأيام هي أيام التشريق، ومن ذكر الله تعالى المبيت بـمنى ؛ ولذلك هذا الأمر في قوله عز وجل: وَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:203]، والليلة تتبع اليوم بطبيعة الحال، فقالوا: هذا دليل على وجوب المبيت.
وكذلك يستدل بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه بات بـمنى وقال: ( خذوا عني مناسككم ).
كذلك استدلوا بالرخصة، أن النبي عليه السلام رخص للعباس ورخص للرعاة أن يتركوا المبيت، فقالوا: إن الرخصة لا تكون إلا مقابل عزيمة، فدل على أن هذه الرخصة في حقهم هي عزيمة في حق غيرهم.
القول الثاني: أن المبيت بمنى سنة.
وهذا القول أيضاً له قوة وله وجاهة، فهو رواية عن الإمام أحمد، وهو قول الحنفية والظاهرية ورواية عند الشافعية، ومنقول عن ابن عباس رضي الله عنه من الصحابة وجمع، ومنقول عن الحسن البصري، ولذلك الإمام أحمد [سئل -في رواية- عمن ترك المبيت بمنى؟ فقال: قد أساء ولا شيء عليه].
وهذا أغلب ما يكون أنه يعبر به عن أمر سنة أو متأكد السنية وليس صريحاً في الوجوب.
وقال هؤلاء: إن مجرد الرخصة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعباس، أو مجرد الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم للرعاة أن يتركوا المبيت ليس صريحاً في الوجوب، قالوا: مجرد الرخصة ليس صريحاً في الوجوب، وإلا فلو كان واجباً لجعل على من يتركه شيئاً كما في حال طواف الوداع؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ترك طواف الوداع، وأمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، ولم يرخص إلا للحائض بترك الوداع، ولذلك الأئمة جعلوا على من ترك الوداع شيئاً، ولم يجعلوا على من ترك المبيت بـمنى شيئاً كالإمام أحمد، فقالوا: هذا دليل على السنية.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول: [إذا رميت الجمرات فبت حيث شئت]، وهذا الأثر رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه ابن حزم واحتج به على عدم الوجوب.
ولكن أوله بعضهم بأن قوله: [بت حيث شئت] يعني: من منى . ليس بلازم أن يبيت الإنسان قريباً من الجمرة أو ما أشبه ذلك، وإنما ظاهره أن يبيت حيث شاء من منى كما أوله قوم.
والأقرب أن ذلك واسع بالنسبة لـابن عباس، وأنه يقصد: [ بت حيث شئت ] يعني: في منى أو في غيرها.
فهذان قولان مشهوران، والأقرب منهما: أن المبيت واجب؛ بدليل الآية الكريمة، وبدليل الرخصة للعباس وأنه استأذن، والرخصة للرعاة أن يتركوا المبيت من أجل غنمهم.
ولكن نقول: هذا المبيت مع وجوبه فإن من تركه فقد أساء ولا شيء عليه، ويحسن أن يتصدق بشيء كما قال الإمام أحمد، يتصدق أو يطعم.
وكذلك نقول: المبيت هو لمن وجد مكاناً يبيت فيه أو خيمة يبيت فيها، أما أن يبيت في الشارع أو على قارعة الطريق فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وأيضاً بعض الناس يركب بسيارته ويدور في شوارع منى، وهذا يترتب عليه أضرار صحية في وجود عادم السيارات وإزعاج للناس وازدحام، هذا أيضاً ليس بمشروع، ولا يتعبد الله سبحانه وتعالى بمثل ذلك.
وأيضاً أن يدفع الإنسان المبالغ الطائلة غير المعقولة من أجل أن يأخذ خيمة يتبارى بعض ضعاف النفوس في رفع قيمتها وثمنها، فهذا أيضاً ليس بسائغ ولا حسن، لكن من وجد مبيتاً مناسباً لائقاً بمثله فإنه يجب عليه المبيت، ومن لم يجد لهذه الأسباب التي ذكرناها أو للازدحام؛ فإنه يبيت حيث شاء، كما قال ابن عباس رضي الله عنه: (إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت)، وليس عليه في ذلك شيء.
وكذلك الرخصة للسقاة، في رخصة النبي صلى الله عليه وسلم للعباس، وتحمل رخصة النبي عليه الصلاة والسلام للعباس على الرخصة للمحتاجين للمصالح العامة، مثل رجال المرور، ومثل رجال الشرطة، ونحوهم ممن هم مشغولون بأمور الحج وأمور الحجيج، أنهم يرخص لهم في ترك المبيت.
وكذلك من لم يجد مكاناً في منى فحكمه حكم هؤلاء.
عن عاصم بن عدي رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرخص لرعاة الإبل في البيتوتة عن منى، يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر )، رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان.
إذاً: الحديث صححه -كما قلنا- ابن خزيمة وصححه الحاكم في مستدركه وصححه الترمذي قال: حديث حسن صحيح، وصححه ابن حبان، وسنده جيد.
وقد توفي سنة خمس وأربعين للهجرة، وقيل: إن عمره كان مائة وعشرين سنة يوم توفي، ولهذا يعتبر من المعمرين من الصحابة، ومن المعمرين أيضاً سلمان الفارسي، فقد ورد أنه عاش أكثر من ثلاثمائة سنة، ولكن هذا منكر، وقد أنكره الذهبي وغيره، وقيل: عاش مائة وستين، وهذا يظهر أنه كثير، وربما يكون عاش نحواً من مائة وعشرين سنة رضي الله عنه، أعني سلمان الفارسي.
فأرخص لهم في تأخير رمي الجمار إلى يوم النفر الأول أو حتى يوم النفر الثاني، هذا معنى الحديث.
فقال الحنابلة وقال الشافعية وقال أبو ثور: إن أيام التشريق هي كاليوم الواحد في أداء الرمي.
ونص الفقهاء الحنابلة وغيرهم على أن الرمي فيها يكون أداءً لا قضاءً، ولو أخرها لليوم الثاني أو أخرها لليوم الثالث لا يكون قضاءً وإنما يكون أداءً، وهو يشبه حينئذٍ الجمع بين صلاة الظهر والعصر في وقت إحداهما، أو الجمع بين صلاة المغرب والعشاء في وقت إحداهما.
وهذا يؤكد الرأي الذي ذكرته لكم أمس أن موضوع توقيت رمي الجمار في السنة النبوية ليس فيه توقيت دقيق واضح مثلما هو الحال في الصلوات، ولذلك أيام التشريق هي كاليوم الواحد، والرمي فيها يكون أداءً وليس قضاءً عند الحنابلة والشافعية -كما ذكرت- وأبي ثور، فهو أداء في جميعها، ومن رمى عنها في آخرها فقد أجزأه ذلك.
هذا هو القول الأول وهو الراجح كما دل عليه الحديث.
في المسألة قول آخر وهو للمالكية والحنفية، القول الأول قلنا: للشافعي وأحمد . القول الثاني لـمالك وأبي حنيفة أنهم يرون أن الأمر قضاء وليس أداء، ولذلك يقولون: عليه دم، والأول -كما قلت- هو الأصح، أن أيام التشريق في الرمي هي كاليوم الواحد.
سقوط المبيت عن الرعاة كما سقط المبيت عن السقاة أيضاً.
وفيه دليل على سقوط المبيت للحاجة؛ لأن الراعي محتاج، فكذلك كل من له حاجة فإن المبيت بـمنى يسقط عنه، ومن ذلك أصحاب المصالح كما ذكرت.
من فوائد الحديث جواز جمع رمي اليوم الثاني والثالث مع بعضهما، ثم يرمي يوم النفر الأخير لوحده، ولو احتاج إلى أن يجمع رمي الأيام الثلاثة أجزأه ذلك أيضاً.
ومن فوائد الحديث: السعة في توقيت الرمي.
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: ( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم النحر ) متفق عليه.
إذاً: (الخطبة) بالضم، (باب: الخُطبة أيام منى)، وكذلك رواه مسلم في القسامة، (باب: تحريم الدماء)، وذلك لأن الحديث فيه القصة الطويلة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطبهم يوم النحر -وهذا في المتفق عليه البخاري ومسلم - قال لهم: ( أي يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: فسكت حتى ظننا أن سيسميه عليه الصلاة والسلام بغير اسمه. فقال: أليس يوم النحر؟ قالوا: بلى. قال: أي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! ) وهذا من الأدب، ظنوا أن هناك تغييراً في التسميات ( قال: أليس ذا الحجة؟ قالوا: بلى. قال عليه الصلاة والسلام: أي بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! فسكت حتى ظننا أن سيسميه بغير اسمه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: أليس البلد الحرام؟ قالوا: بلى. ) انظر إلى التأكيد، ما قال هذا عليه الصلاة والسلام في أي منسك من المناسك إلا في هذه المسألة العظيمة.
( قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام )، يعني: من الناس من قد يحج، وقد يتشدد في أداء المناسك، ولكنه يبخس حقوق الناس في أداء النسك، فيؤذي المسلمين في المطاف، ويؤذي المسلمين في الرمي، ويؤذي المسلمين في استلام الحجر، ويؤذي المسلمين بـعرفة وبـمزدلفة وبسيارته وبالإزعاج، ويعتدي على حقوق الناس وكأنه يطلب الأجر، بينما النبي عليه الصلاة والسلام في موضع الحج ما تعهد هذا التعهد وشدد هذا التشديد في موعظة إلا في قضية: ( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا )؛ ليؤكد بأن المناسك والعبادات -بما فيها الصلاة والصوم والحج والزكاة- إنما شرعت للتقوى ولحفظ حقوق العباد، وأن لا يعتدي بعض الناس على بعض: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37].
فهذا معنى ينبغي أن يحييه الإنسان في نفسه وفي غيره، وأن لا يشغله عن الولع بالمسائل الفقهية والجدل حولها عن هذا المقصد العظيم من مقاصد الحج ومن مقاصد العبادة ومن مقاصد الإسلام، فهنا مسلم روى الحديث في كتاب القسامة لهذا السبب، وقد روى الحديث النسائي وابن ماجه وأبو عوانة وابن حبان وأحمد في مسنده كما ذكرته مطولاً.
عن سراء بنت نبهان قالت: ( خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرءوس، فقال: أليس هذا أوسط أيام التشريق؟ ) رواه أبو داود بإسناد حسن.
من فوائد الحديث: أن العيد لا يسمى من أيام التشريق.
حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: ( طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك ) رواه مسلم .
هذا الحديث لفظه الذي ساقه المصنف هو لفظ أبي داود وهو مختصر، وإلا فإن الحديث أطول من هذا، وهو ( أن عائشة
القارن الذي قرن؛ لأنه ذكرنا أن الحج له ثلاثة وجوه:
الصفة الأولى: أن يكون مفرداً للحج، يعني: يحرم بالحج وحده، وهذا واضح.
الثاني: أن يكون متمتعاً، يعني: يحرم بالعمرة ثم يقضي منها ويحل ثم يحرم بالحج.
الصفة الثالثة: هي أن يحرم بالحج والعمرة معاً. لبيك عمرة وحجاً، وهكذا يقول من أحرم بهما معاً.
ومن أحرم بالتمتع، يقول: لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج؟
يقول بعض الفقهاء ذلك، وهذا لم يثبت، وإنما يقول: لبيك عمرة فقط، ثم يحل منها ويقول: لبيك حجاً إذا أحرم بالحج.
إذاً: السؤال: كم على القارن الذي جمع الحج والعمرة في نسك واحد، كم عليه من طواف وكم عليه من سعي؟
القول الأول: بأن عليه طوافاً واحداً وسعياً واحداً لحجه وعمرته، يعني: طواف الإفاضة، ويكفيه سعي واحد لحجه وعمرته أيضاً، وهذا قول مالك والشافعي وأحمد، وهو أيضاً قول عطاء وطاوس من السلف، وروي عن جمع من الصحابة كـابن عمر وجابر رضي الله عنه وعائشة وغيرهم.
إذاً: هذا هو القول الأول: أنه يكفيه طواف واحد وسعي واحد.
واستدلوا على ذلك بأدلة، منها حديث الباب، وهو حديث رواه مسلم وله شواهد؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يكفيك طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة لحجك وعمرتك ) هو نص في المسألة، حديث الباب.
وأيضاً: استدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إنما طافوا طوافاً واحداً) فقالوا: هذا دليل على أن النبي عليه الصلاة والسلام -وهو قارن- وكذلك أصحابه الذين ساقوا الهدي وكانوا قارنين إنما طافوا طوافاً واحداً لحجهم وعمرتهم.
واستدلوا بحديث جابر الطويل وفيه مثل ذلك، أنهم طافوا طوافاً واحداً وسعوا سعياً واحداً.
واستدلوا أيضاً بالنظر وقالوا: إن العمرة تدخل في الحج، عبادتان متماثلتان فتدخل إحداهما في الأخرى، هذا هو القول الأول.
القول الثاني بأنه لابد من طوافين وسعيين للقارن، طواف للعمرة وطواف للحج، وسعي للعمرة وسعي للحج، وهذا قول أبي حنيفة وجماعة من السلف، واستدلوا بقوله سبحانه: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فقالوا: إن من تمام الحج وتمام العمرة أن يسعى له سعياً منفرداً ويطوف له كذلك، ويسعى للعمرة سعياً منفرداً ويطوف لها كذلك، وهذا ليس ظاهراً، وإنما الإتمام -كما ذكرنا- هو أن من شرع فيها أتمها ولا يجوز له رفضها أو قطعها.
واستدلوا أيضاً بأحاديث ضعيفة لا تثبت؛ ولذلك فإن الراجح هو القول الأول وهو قول الجمهور: أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد، ولكن أريد أن أذكِّر بأن الطواف هنا لابد أن يكون بعد الوقوف بـعرفة ؛ لأنه طواف للحج، فلو طاف للقدوم فإن هذا لا يجزئه عن طواف الركن.
تعرفون أن المتمتع يحرم بالعمرة ويطوف ويسعى ثم يحل الحل كله ويأتي أهله، ثم يحرم بالحج في عامه، ومن هنا اختلف العلماء في المتمتع: هل يكفيه سعي واحد أو لابد من سعيين؟ أما بالنسبة للطواف فأكيد أنه لابد له من طوافين بالبيت؛ لأنه طاف الطواف الأول قبل عرفة، ويطوف للحج طواف الركن يوم النحر أو بعده، إنما الكلام في السعي؛ لأن السعي لا يشترط أن يكون قبل عرفة، ولذلك هل يكفيه سعيه الأول الذي هو سعي العمرة عن سعي الحج؟ أو لابد أن يسعى للحج سعياً منفرداً؟
هذه المسألة أيضاً فيها قولان:
القول الأول: أنه لابد له من سعيين: سعي العمرة الأول هذا انتهى ومضى، ويسعى للحج مرة أخرى، وهذا قول مالك والشافعي وأحمد وابن حزم، أنه لابد من سعيين، واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( ثم طافوا طوافاً آخر بين الصفا والمروة بعد أن رجعوا من منى لحجهم )، فقالت: (طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم)، وقالوا: إن قولها: (طافوا طوافاً آخر) المقصود به الطواف بين الصفا والمروة؛ لأن الطواف بالبيت هذا واجب في حق الجميع ولا يذكر فيه أحد عن أحد.
فهذا مما استدلوا به.
القول الثاني: أنه يكفي المتمتع سعي واحد لحجه وعمرته، وهذا قول الإمام أحمد في رواية عنه اختارها ابن تيمية رحمه الله وجمع من المحققين، وهو منقول عن ابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم.
واستدلوا بحديث جابر رضي الله عنه أنه قال: ( لم يطف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً )، فقالوا: إن قول جابر : إنهم لم يطوفوا بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً ليس مقصوده القارنين فقط؛ لأن القارنين عددهم قليل جداً من أهل اليسار والغنى من الصحابة، وإنما هو أخبر عن جملة الصحابة، أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فدل على أن المتمتعين -وهم أكثر الصحابة- هم كذلك لم يطوفوا إلا طوافاً واحداً، ومقصوده الطواف بين الصفا والمروة، بل هو نص على أنه الطواف بين الصفا والمروة.
وهذا القول الثاني هو الأرجح، ولكن لا شك أن الأحوط هو أن يطوف طوافين إلا أن يشق عليه ذلك، أو يكون فيه حرج على الناس، أو يكون طاف طوافاً واحداً ثم مضى فيجزئه ذلك.
ومن فوائد الحديث: أن الطواف لا يسقط عن الحائض؛ لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة .
ومن فوائد الحديث: أن الطواف بالبيت ركن.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمل في السِبْع الذي أفاض فيه ) والحديث رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه الحاكم.
وبالمناسبة: يقول بعض اللغويين: إن الصواب أن تقول: هذا وَهَمٌ بفتح الهاء، وهذا أفصح من أن تقول: وهذا وهْم، والأمران واسعان.
والحديث -كما أشرت- صححه ابن خزيمة في صحيحه والحاكم أيضاً، ومن المعاصرين الشيخ الألباني، وقد أعله الدارقطني بالإرسال.
(السِبْع) مأخوذ من السبع، من العدد سبعة، وهو يطلق على الطواف إذا طاف سبعة أشواط يسمى سِبعاً، وكذلك يصلح أن يطلق على السعي؛ لأنه سبعة أشواط أيضاً.
وقوله: (في السبع الذي أفاض فيه)، مقصوده طواف الإفاضة الذي هو طواف الحج، طواف الركن.
عن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به ) رواه البخاري في كتاب الحج، باب من صلى العصر يوم النفر بالأبطح، ورواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبيهقي والدارمي وغيرهم.
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه المتفق عليه: ( إنا نازلون غداً بخيف بني كنانة ) يقول ذلك قبل أن ينفر بيوم: ( إنا نازلون غداً بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر )، كأنهم كانوا في الجاهلية اجتمعوا في هذا الخيف وعقدوا بينهم العقد والميثاق على مسألة المقاطعة، مقاطعة النبي صلى الله عليه وسلم ومن يؤمن به، فكان هذا محل عقدهم، فكان من الشكر لله وتذكر النعمة أن ينزل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان الذي كانوا قد تقاسموا فيه على الكفر، تحدثاً بنعمة الله عز وجل، وإظهاراً لفضله، وسوف يأتي ما يتعلق بالحكم بعده في الحديث رقم سبعمائة وسبع وسبعين.
قيل: إنها سنة. والشيء العجيب أن هذا مذهب الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ومذهب الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد .
وأيضاً فيه حديث صحيح، بل فيه وعد: ( إنا نازلون غداً بخيف بني كنانة ) ونزل النبي صلى الله عليه وسلم بالأبطح.
والقول الثاني: أن ذلك لا يُسن، يعني: وجد من خالف في هذا، مما يدل -كما قلت سابقاً- على أنه ينبغي أن نأخذ الاختلاف ليس بالتشهي، أو أن كل شيء فيه اختلاف معناه أن الناس يأخذون ما أرادوا وما شاءوا، لا، ولكن يأخذونها بالحلم والصبر والروية وحسن الظن بالمختلفين.
إذاً: القول الثاني: أن ذلك لا يسن، وهو قول عائشة رضي الله عنها؛ لأنها قالت: ( ليس الأبطح سنة، وإنما نزله النبي عليه الصلاة والسلام لأنه أسمح لخروجه )، وكذلك هو مذهب ابن عباس، وهو قول طاوس وعطاء ومجاهد من التابعين وعروة وسعيد بن جبير وجمع، واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ليس سنة، وإنما نزله لأنه منزل أسمح لخروجه، يعني: هو في طريقه، كأنها تقول: هو في طريقه أصلاً، وكذلك استدلوا بأن ابن عباس قال كما في الصحيحين: (ليس التحصيب بشيء)، يعني: ليس له أصل أو ليس من النسك.
وعليه فإننا نستطيع أن نقول: إن النزول بالأبطح أو التحصيب هو سنة على القول المختار، فعل النبي عليه السلام وسنة الخلفاء الراشدين، وإجماع الأئمة الأربعة، ولكن هذه السنة كانت مهجورة في وقت من الأوقات، وأما اليوم فلم يعد لها مجال للتطبيق؛ لأن الأبطح أصبح ليس أبطح، وإنما أصبح عمارات ومبانٍ وأبراجاً وطرقاً وجسوراً، وما أشبه ذلك؛ ولذلك لما بدأت السفلتة في شارع المحصب كتب الأستاذ حسين سرحان -رحمه الله- مقالاً في جريدة الندوة عنوانه: (لا بطحاء بعد اليوم) إشارة إلى أن هذا المكان لم يعد مهيئاً أو معداً لاستقبال الناس في الجلوس فيه.
من فوائد الحديث: التواضع وكظم الغيظ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ذكر هذا الأمر وقال: ( نازلون غداً بخيف بني كنانة حيث تقاسموا ) ومعنى (تقاسموا): أقسموا، يعني: أقسم بعضهم لبعض: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النمل:49]، يعني: أقسم بعضهم لبعض، تعاهدوا على ذلك، على الكفر، ومع ذلك النبي عليه الصلاة والسلام لم ينكل بهم أو ينتقم منهم، وإنما قال هذه الكلمة تحدثاً بنعمة الله تعالى.
من فوائد الحديث: التحصيب كما ذكرت.
من فوائد الحديث: احتمال الاختلاف حتى في المسائل التي ظهرت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله، وأن يحصل الخلاف بين الصحابة، كما وقع من عائشة وابن عباس رضي الله عنهما.
حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: ( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض ) والحديث متفق عليه.
فيه قولان:
القول الأول: أن طواف الوداع واجب، وهذا مذهب الحنفية وهو الصحيح عند الشافعية وهو الصحيح أيضاً عند الحنابلة.
واستدلوا بحديث الباب حديث ابن عباس رضي الله عنه؛ فإن فيه (أمر)، والأمر يقتضي الوجوب إلا لقرينة تصرفه عن ذلك، وحتى استثناء الحائض قالوا: هو تأكيد للوجوب؛ لأنهم يقولون: إن الاستثناء هو معيار أو علامة أو أمارة العموم، يعني: استثناء الحائض دليل على أن الوداع واجب على من سواها، فهذا هو الدليل.
واستدلوا بلفظ آخر عن ابن عباس رواه مسلم أنه قال: ( كان الناس ينفرون من كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينفر أحد حتى يطوف بالبيت )، فقالوا: هذا نهي عن أن ينفر الإنسان حتى يطوف، والنهي يدل على التحريم أيضاً، فدل ذلك على وجوب طواف الوداع.
الدليل الثالث: استدلوا على ذلك بفعل النبي عليه الصلاة والسلام، كما ذكرت عائشة وكما ذكر أنس رضي الله عنه وأرضاه.
القول الثاني: أن طواف الوداع سنة، وهذا مذهب مالك وهو قول للشافعية وقول للحنابلة ومذهب داود الظاهري .
واستدلوا على سنيته بسقوطه عن الحائض إلى غير بدل، واستدلوا على عدم الوجوب أيضاً بسقوط طواف الوداع عن المكي، أنه لا وداع عليه، واستدلوا على سنيته بحل الوطء والجماع قبل طواف الوداع، فقالوا: لو كان نسكاً ما حل الوطء قبله.
والجواب على ذلك أن نقول: ما يتعلق بسقوطه عن الحائض فهذه رخصة؛ لأن الإنسان يريد أن يسافر ولو أمرت الحائض بالانتظار لشق ذلك عليها.
وأما سقوطه عن المكي فإن الوداع هنا وإن لم يكن نسكاً من مناسك الحج إلا أنه أدب واجب من آداب البيت، فلا يخرج أحد حتى يطوف طواف الوداع، أما المكي فالأصل أنه باق.
وأما جواز الجماع قبله فنقول: كذلك المبيت بـمنى وكذلك رمي الجمار هي مناسك، وفيها قول بالوجوب، بل الراجح فيها هو الوجوب، ومع ذلك فإن الإنسان يجوز له أن يطأ ويجامع قبل تمامها.
استدلوا رابعاً بأن طواف الوداع كطواف القدوم، فقالوا: طواف القدوم سنة وهو تحية للبيت، والوداع سنة؛ لأنه تحية الوداع.
وأيضاً نقول: لا قياس في العبادات، وهذا القياس بالذات هو قياس مع الفارق؛ لأن طواف الوداع فيه النص الصريح.
الفائدة الأولى: حكم طواف الوداع وأنه واجب، طبعاً نحن نرجح القول بالوجوب.
سقوط الوداع عن الحائض، وأقول: مع ترجيح الوجوب إلا أنه لا يلزم أن نقول: إن من ترك الوداع فعليه دم، نقول: إن استطاع أن يعود فهو أفضل ويعود، وإن لم يستطع ومضى وكان موسراً غنياً فالأفضل أن يذبح دماً أو يفدي، وإن لم يكن موسراً فلا شيء عليه، وهنا نكون أخذنا بالقول بالوجوب وإلزام الناس به، وأخذنا من القائلين بالسنية -وهو قول مالك والشافعية وقول للحنابلة وقول للظاهرية- عدم إيجاب الدم على من تركه، فيكون في ذلك اعتدال في التعاطي مع أقوال الفقهاء.
ونقول: إن طواف الوداع يسقط عن الحائض بلا بدل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأمرها بشيء.
ومن فوائد الحديث: سقوط طواف الوداع عن المكي؛ فإن المكي لا وداع عليه.
من فوائد الحديث: أنه لا وداع على المعتمر، وهذا هو الصحيح وهو مذهب الجمهور، بل حكاه بعضهم إجماعاً، والحديث الوارد في الحج والعمرة ذكر العمرة فيه شاذة، فلا يصح.
النقطة الرابعة: مسألة الطهارة للطواف، بمناسبة ذكر الحائض، وهذه المسألة فيها قولان أو ثلاثة، وفيها بحث طويل جداً.
القول الأول: أن الطهارة شرط للطواف مثل الشرط للصلاة، فلو طاف من غير طهارة كمن صلى على غير طهارة، وهذا قول المالكية والشافعية والحنابلة، أن الطهارة شرط.
واستدلوا بقصة عائشة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لها: ( افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وهو حديث في الصحيحين، والدلالة عندهم واضحة.
واستدلوا بقول الله تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج:26]، فأمر بطهارة البيت، دل على اشتراط الطهارة.
استدلوا بحديث ابن عباس : ( الطواف بالبيت صلاة )، وقد بينت لكم سابقاً أن الصحيح في هذا الحديث أنه موقوف، يعني: لا يصح مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هو موقوف.
والاستدلال بهذه المعاني ليس كافياً، أما قصة عائشة فإنها ليست نصاً في الاشتراط، وكذلك الآية الكريمة، وأن الطواف بالبيت صلاة، هذا مع كونه موقوفاً -وهو قول لـابن عباس - إلا أن الطواف ليس كالصلاة، فالطواف ليس فيه استقبال القبلة، وليس فيه القيام، وليس فيه قراءة الفاتحة، ويجوز فيه الكلام، ويجوز فيه الالتفات، ويجوز فيه القهقهة والضحك، فلا يشبه الصلاة من كثير من الوجوه.
واستدلوا أيضاً بقول عائشة رضي الله عنها -وهو في الصحيح-: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثم طاف )، وهذا أيضاً لا دلالة فيه على الاشتراط، بل ولا على الوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة حتى وهو طاهر، فعلى سبيل السنية، حديث عائشة أنه توضأ ثم طاف كما قلت: إنه حديث متفق عليه.
إذاً: هذا القول الأول أنه شرط.
القول الثاني: أنه واجب من الحيض ومن الحدث الأصغر، أن الطهارة للطواف واجبة من الحيض، فلا تطوف الحائض، ومن الحدث الأصغر فلا بد أن يكون متوضئاً، ولو أنه طاف وهو غير متوضئ فإن ذلك يجبر بدم، وهذا قول الحنفية الراجح عندهم، وهو رواية عند الإمام أحمد رحمه الله، واستدلوا بقول الله تعالى: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، فقالوا: إنه لم يأمر لهذا الطواف بشيء، والقول باشتراط الطهارة هو زيادة على النص.
وقالوا أيضاً بقياسه على السعي، يعني: كما أنه لا تشترط الطهارة للسعي؛ فكذلك لا تشترط الطهارة للطواف، أو قياسه أيضاً على الوقوف بـعرفة ؛ فإنه لا يشترط له طهارة، وحتى الحائض فإنها تقف بـعرفة.
القول الثالث: أن الطهارة للطواف سنة من الحدث الأصغر، وهذا كأنه رواية في المذهب رجحها ابن تيمية رحمه الله وابن القيم وشيخنا الشيخ ابن عثيمين في شرحه على زاد المستقنع، وأطالوا في بحثها، ومما استدلوا به أنه لم يرد نص قط في اشتراط الطهارة أو حتى في الأمر بها على كثرة من طافوا وحجوا واعتمروا مع النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذه الأقوال نقول: الأصل أن يتطهر الإنسان للطواف بالبيت، خاصة أنه سيصلي بعد الطواف ركعتين أيضاً، ولكن لو أن الإنسان أحدث أثناء الطواف وخاصة في آخر الطواف والزحام شديد ويشق عليه أن يذهب ويتوضأ ويعود؛ فلا بأس أن يترخص بهذا القول؛ لعدم وجود نص يدل على اشتراط الطهارة، وأما ما يتعلق بالحائض فسوف نذكرها في الفقرة الآتية وهي الفقرة رقم (5).
حكم طواف الحائض فيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا يصح بحال من الأحوال، وهذا قول المالكية والشافعية والمشهور من مذهب الحنابلة أن طواف الحائض لا يصح بحال من الأحوال، مثل صلاة المحدث لا تصح بحال.
واستدلوا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن تطوف بالبيت حتى تطهر، وكذلك ( لما قيل له: إن
هذا هو القول الأول أنه لا يصح بحال.
القول الثاني: أنه يصح منها عند الضرورة ويجبر بدم، وهذا قول الحنفية وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها ابن تيمية رحمه الله.
القول الثالث: أن ذلك يجوز للضرورة ولا فدية، وهذا أيضاً قول لـابن تيمية رحمه الله وابن القيم والشيخ ابن عثيمين رحمهم الله جميعاً، أن ذلك يجوز للضرورة ولا فدية.
ولذلك نقول فيما يتعلق بطواف الحائض: لا يجوز للحائض أن تطوف بالبيت لصريح حديث عائشة وحديث صفية أيضاً.
لكن إن اضطرت إلى ذلك، مثل امرأة لم تطف بالبيت طواف الحج ورفقتها لا ينتظرونها وسفرها بعيد جداً، ستسافر إلى أمريكا أو إلى أوروبا أو إلى أستراليا أو إلى إندونيسيا أو إلى جزر المالديف أو غيرها، يعني: مسافات بعيدة جداً؛ فمثل هذه لا نقول بأن عليها أن تذهب وتعود؛ لأن العود بالنسبة لها قد يكون محالاً أو صعباً، ولا نقول: تذهب ويبقى الأمر في ذمتها، فيكون طوافها أن تتحفظ ثم تطوف، هذا من باب ارتكاب أخف الضررين ورفع الحرج، وهناك أقوال في هذه المسألة لفقهاء الحنابلة المتقدمين وفقهاء المالكية وغيرهم، وهناك نصوص ذكرنا طرفاً منها، وذكرها سماحة الشيخ عبد الله بن بيه في مقدمته لكتابه افعل ولا حرج.
عن ابن الزبير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة ) رواه أحمد وصححه ابن حبان .
ورواه البيهقي وابن حبان وأبو عوانة والطحاوي والطيالسي، وسند الحديث لا بأس به.
أم هانئ
على خلاف في المسألة، وكذلك: (( فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ))[التوبة:28].. إلى غير ذلك من النصوص.من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر