ولذلك مثل هذا الحديث المصنف رحمه الله يقول: متفق عليه، حقه أن يقال: رواه الستة، بل حقه أن يقال: رواه السبعة؛ لأن الإمام أحمد خرجه في مسنده، ورواه ابن خزيمة وأبو عوانة والبيهقي والدارقطني وابن أبي شيبة وغيرهم.
وفيه: (الجمرة)، والجمرة كأنها مأخوذة من الحصى الصغار، فإن العرب يسمونها: الجمرة ويجمعونها على الجمار، فسميت الجمرة باسم الحصاة التي ترمى بها.
وقوله: (هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة)، هذا دليل على جواز تسمية سور القرآن بمثل ذلك، وإنما خص ابن مسعود رضي الله عنه سورة البقرة؛ لأن كثيراً من المناسك جاءت في هذه السورة، وقال بعضهم: لأن سورة البقرة هي السورة التي ذكر فيها الرمي.
ولا أعلم أن الرمي ذكر في هذه السورة، وإلا أن يكون المقصود الذكر، فإن عائشة رضي الله عنها تقول -كما عند الدارمي وغيره بسند صحيح موقوفاً على عائشة، ولا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم-: ( إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله عز وجل )، وفي سورة البقرة ربنا سبحانه يقول: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203].
ويحتمل أن يكون ابن مسعود ذكر سورة البقرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل الدعاء عند رمي الجمار، حتى قال بعضهم: ( أنه كان يطيل بقدر ما يقرأ القارئ سورة البقرة )، في غير هذا الموضع، يعني: ليس عند جمرة العقبة.
فيه أولاً: بيان موضع الرمي، وخاصة رمي جمرة العقبة أنه يرميها من بطن الوادي كما قال جابر رضي الله عنه، وكذلك ابن مسعود هنا كان حديثه أكثر تصريحاً وتوضيحاً: ( أنه جعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ثم رماها )، ومن أي موضع رمى الجمرة أجزأه ذلك، وإنما هذا هو الموضع الفاضل.
من فوائد الحديث: التكبير، وحكمة الرمي أنها لإقامة ذكر الله عز وجل، كما ذكرت عائشة رضي الله عنها.
من فوائد الحديث: بيان خصوصية جمرة العقبة، فجمرة العقبة وهي الجمرة الكبرى، وهي الأبعد من منى، والأقرب إلى مكة، وهي تقع على الحد ما بين منى ومكة، هذه الجمرة لها خصوصية عن بقية الجمرات، ممكن نستذكر خصوصية جمرة العقبة.
أول خصوصية أنها ترمى يوم النحر، وترمى قبل طلوع الفجر كما رجحناه واخترناه من أقوال أهل العلم، وهو الذي دل عليه الدليل، فهذه من خصوصيات جمرة العقبة.
أيضاً من خصوصياتها: أن التلبية تنتهي عندها كما دل عليه لفظ مسلم : ( حتى بلغ الجمرة ).
ويوجد خصوصية للجمرة أنها ترمى واحدة يوم النحر.
ومن خصوصياتها أيضاً: أنها ترمى من أسفلها، من بطن الوادي كما قال جابر رضي الله عنه، وكما وصف ابن مسعود بخلاف بقية الجمرات.
رواه مسلم في الحج، باب وقت استحباب الرمي، ورواه أبو عوانة وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وهو من حديث جابر الطويل الذي شرحناه أمس.
والآن نشير إلى مسألة الرمي، هل يكون بعد الزوال، أو يكون قبل الزوال.
ومن الأدلة: أن هذا هو ما كان عليه فعل الصحابة رضي الله عنهم، حتى قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة الله تعالى عليه: "أني بعد البحث والتحري، وطول الدراسة لم أجد عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم رموا قبل الزوال، وهذا دليل على أنه لا يجوز عندهم". هذا هو القول الأول.
أولاً: قول الله سبحانه وتعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203]، فقالوا: إن الأيام المعدودات التي ذكرها الله تعالى هي أيام التشريق، واليوم يبدأ بعد الفجر، وقد يقال: بعد طلوع الشمس، فهو محلٌ للذكر، فظاهر القرآن الكريم يدل على أن هذه الأيام هي محل لذكر الله، والرمي من ذكر الله، ومعه ذكر الله عز وجل، وهو إنما شرع لإقامة ذكر الله، فمثله في ذلك مثل بقية المناسك التي تفعل في هذا اليوم. هذا من أدلتهم، وقد ذكره الشيخ السعدي في رسالته.
كذلك استدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت في الجمار توقيتاً محدداً مثل المواقيت في الصلوات وغيرها التي لا يمكن العدول عنها؛ بدليل أن هذه الأشياء ليس فيها نصوص صريحة، وغاية ما فيها فعل النبي صلى الله عليه وسلم، والفعل يدل على الاستحباب، يدل على السنية، لكن ليس فيه القطع بأن الوقت يبتدئ قبل الزوال، وقد يقال: إنه مثل عرفة عند الإمام أحمد، الإمام أحمد يرى أن يوم عرفة من الفجر، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما وقف بـعرفة إلا بعد زوال الشمس، والجمهور على خلاف قول الإمام أحمد، لكن ظاهر الدليل ذكرنا أنه يدل على أن لقوله حظاً من النظر، ومما يعزز هذا الاحتمال أن ابن عمر رضي الله عنه لما سأله السائل وقال: (متى أرمي؟) في أول الأمر لم يبين له ذلك، حتى أعاد عليه، فقال له: [ إذا رمى إمامك فارم ]، مما يدل على السعة، فلما ألح عليه في السؤال قال: [ كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا ]، ولم يذكر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً صريحاً.
و العادة في الشريعة أن المواقيت في العبادات من أهم وأخطر الأشياء، حتى إن المواقيت منضبطة، مثل مواقيت الصلوات، صلاة الظهر مثلاً بالزوال، بحيث لو صلى قبل الزوال لم تصح صلاته باتفاق العلماء قولاً واحداً، وكذلك صلاة المغرب مثلاً بغروب الشمس، صلاة الفجر بطلوع الفجر، ولابد أن تكون قبل طلوع الشمس، فالمواقيت تتوفر الدواعي في الشريعة على ضبطها وإتقانها، وروايتها ونقلها نقلاً مستفيضاً واضحاً، بينما فيما يتعلق برمي الجمرات الأمر فيه عموم، ومجرد فعل من النبي صلى الله عليه وسلم.
بل يستدلون -ثالثاً- بأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة بالرمي ليلاً، وقال عليه الصلاة والسلام -كما عند ابن خزيمة وغيره-: ( الراعي يرعى بالنهار ويرمي بالليل )، فقالوا: إذا كان الرمي بالليل رخصة، فالرمي بالنهار قبل الزوال يكون رخصة مثله أو نحوه أو قريباً منه.
واستدلوا أيضاً بحديث عاصم بن عدي، وسوف يأتي هذا الحديث؛ لأنه من أحاديث البلوغ، وفيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعاة أن يؤخروا رمي الجمرات إلى اليوم الأخير، ثم يرمون الذي فاتهم، ثم الذي بعده ) وهو حديث صحيح، فقالوا: تأخير رمي الجمرات إلى اليوم الأخير يدل على أن ما قبل الزوال يعتبر رخصةً مثله.
وكذلك استدلوا بما رواه الفاكهي بسند صحيح: أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه -وهو صحابي جليل- كان يرمي الجمرات أيام التشريق قبل الزوال، وهذا الحديث حجة أنه وجد من الصحابة رضي الله عنهم من رمى قبل الزوال.
فهذه أدلة على ما ذكرنا.
أولاً: اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وموافقة ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
وفيه ثانياً: الخروج من خلاف العلماء، ولا شك أن الخروج من الخلاف في هذه المسألة التعبدية مطلب، ويبقى أن القول الثاني هو قول لبعض أهل العلم، كما ذكرناه عن ابن الزبير أو عن عطاء، أو عن طاوس، أو عمن ذكرنا من الحنفية، رواية عن الإمام أحمد في يوم النفر، بعض الفقهاء المتأخرين الذين نصروا هذا القول كالشيخ ابن سعدي، والشيخ البليهي والشيخ ابن جبرين، وأيضاً بعض المشايخ أظن الشيخ عبد الله المطلق، ونحوهم أيضاً الشيخ عبد الله المنيع، وكثير من فقهاء الأمصار، فهذا قول وإن لم يكن هو القول المشهور، وليس المطلوب أن يتحول هذا القول أن يكون هو القول السائد، وإنما الذي في نظري أنه مناسب أن يكون في المناسك نوع من التوسعة على الناس أن يفعلوا ما اقتنعوا به، بمعنى أن نصرة هذا القول ليس المقصود فيها أن يذهب القول الأول ويحل هذا القول محله، لا، وإنما المقصود فيها أن هناك من اقتنع بهذا ورأى له وجاهة، أو هناك من عنده ظروف تستدعي أن يأخذ بهذا القول، أو ظروف الحاج أيضاً، يعني: في وقت من الأوقات كان الناس يقتلون عند الجمرة، وهذا أمر شنيع عند الله سبحانه وتعالى أن يقتل الناس في منسك من المناسك.
والآن لا شك أن التوسعة التي حصلت في الجمرات، وسعت جداً وأزالت كثيراً من الحرج على الناس، لكن أيضا لا يمنع أن نعتقد أن هذا القول سيكون له حاجة يوماً من الأيام، بمعنى أنه لو فكرنا بعدد المسلمين الذين يصلون إلى مليار وخمسمائة مليون، من أجل أن يؤدوا فريضة الحج فقط يحتاج إلى أن يستوعب الحرم عشرات الملايين سنوياً، يعني عشرة ملايين أو أكثر، عشرين مليوناً .. يمكن من خلال سبعين ثمانين سنة أن يحج مليار ونصف مليار إنسان، معناه قطعاً أنه سيموت أناس دون أن يتمكنوا من الحج، طبعاً من الأسباب ضيق المكان، فنكون متعبدين بأن ننظر ليس فقط إلى خصوص المسألة بقدر ما ننظر إلى عموم الحاجة، وأن هذه شريعة عظيمة، شريعة الحج، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران:97]، وهي على كل مسلم قادر مستطيع.
فأن تكون المشاريع والمساكن والأبنية مناسبة لذلك، وأن نفكر بعقلية لهذا العدد الكبير من الناس، أن يستوعبهم السعي، أن يستوعبهم المطاف، المسعى طبعاً بأدواره وبتوسعته الجديدة، وهي التي أقرها كثير من أهل العلم، وهو الذي أرى أنه هو الموافق لما كان عليه الأمر من قبل، فإن المسعى لم يكن محدداً بالطريقة التي وجدناها فيما مضى، وإنما كان في سعة من قبل، وكان الناس يسعون في أرض جرداء فضاء ليس عليها حدود ومعالم واضحة، وهكذا في عهود بني أمية وبني العباس حصل لها توسعة في ذلك كما هو معروف.
فأقول: المسعى وكذلك المطاف أن يكون هناك تفكير في طريقة استيعاب الحجاج وتفويجهم، وكذلك ما يتعلق بالجمرات، وما يتعلق بمنى والبناء فيها، وما يتعلق بـعرفة، وما يتعلق بـمزدلفة، وما يتعلق بما يعتبر عربات القطارات التي يقال: إنها سوف تنطلق هذا العام، كل هذه الأشياء هي جزء من مشروع ينبغي أن يكون مستكملاً، وضمن ذلك قضية الأخذ بالأقوال الفقهية التي ليست أقوالاً شاذة، وليست كما قد يبدو نوعاً من تتبع الرخص لمجردها، وإنما هي اجتهادات، وليس المطلوب أن تفرض هذه الاجتهادات على الناس، لا، ليكن غالب الناس وعامتهم يأخذون بالسنة؛ لأنها سنة، فضلاً عن كونهم يعتقدون أن هذا قول راجح، لكن أيضاً أن يسمح -وهذا هو الذي يحدث الآن- لمن أخذ بهذا القول، أو اجتهد فيه، أو رآه أن يفعل ذلك، دون أن تتحول مثل هذه المسائل إلى مهاترات بين طلبة العلم أو ردود.
الرد العلمي طبيعي ومطلوب ولا بأس به، لكن إذا تحول الرد إلى نوع من التشنيع أحياناً أو التحقير أو الازدراء فلا شك أن هذا لا ينبغي أن يحدث بين طلبة العلم، وأن يؤثر العلماء وطلبة العلم فيما بينهم حسن الظن، وحمل الإنسان على الاجتهاد والنصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، وحتى لما يخطئ نقول: إن شاء الله أخطأ بحسن نية، ونقول: إن شاء الله مجتهد، وإذا رأينا أننا نستكثر عليه كلمة مجتهد، نقول: لعله معذور بنيته الطيبة، أو بأنه قلد أحداً من المجتهدين كـعطاء أو طاوس، أو غيرهم من الأئمة والعلماء!
فمثل هذه المسائل إذا أخذت بهذه الطريقة بدلاً من أن تتحول إلى مسائل للجدل بين طلبة العلم، والاختلاف الذي ربما يجعل الناس يتعجبون، أنه كيف طلبة العلم يتعاملون بهذه الروح فيما بينهم، ونحن نرى أنه ما من مسألة عرضت في هذه الدروس إلا وجدنا أنه حتى المسائل الغريبة، مثل من يقول: إن الوقوف أو المبيت بـمزدلفة ليس سنة، وإنما هو منزل نزله، وجدنا من يقول به مثل: عطاء أو ينسب إليه، أو ينسب إلى ابن عباس أو لغيرهم.
وبناءً عليه نقول: إنه لا تأخذ هذا القول لمجرد أنه قال به إمام جليل فتقلده، لا تعرف الحق بالرجال، وإنما اعرف الرجال بالحق، ومع ذلك احفظ أقدار هؤلاء الأئمة والعلماء، وكذلك قدر إخوانك، وإن كان الله فضلك عليهم بمزيد علم أو معرفة أو إدراك أو بصيرة، أو حتى غيرة، ومع ذلك لعل من كمال علمك وإدراكك وبصيرتك وغيرتك أن ترحم إخوانك الذين خالفوك، وأن تحسن الظن بهم، وأن تختلف معهم وترد عليهم بالدليل وما يترجح عندك، دون أن يفضي هذا إلى الازدراء والتحقير والاتهام، وغير ذلك من الأقوال، وحتى لو وجدت في كلام بعض العلماء والأئمة الكبار أنهم قد يشتدون على بعضهم، لا تقلدهم في ذلك، وإنما اختر أفضل ما عندهم، وقد يكون هؤلاء العلماء معذورين؛ لسعة علمهم، وخطؤهم هذا إن شاء الله مغفور لهم، وينغمر في بحر حسناتهم، لكن أنا وأنت مع إخواننا ومع زملاء لنا ربما الواحد يجور أو يعتدي؛ هذا ليس بلائق.
يعني هذا أنا أقوله بمناسبة موضوع الرمي قبل الزوال، ولا أقصد فيه ذات المسألة بقدر ما أعني عموم المسائل، في الحج أو في غير الحج، مما يختلف فيه طلبة العلم، فإن هذا الاختلاف باق وإلى قيام الساعة، إلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى، لن نستطيع أن نزيله، لكن نستطيع أن نحاول تربية أنفسنا وتربية طلابنا وإخواننا على حسن الظن بالآخرين، وعلى الرد بالأسلوب العلمي البعيد عن التهجم أو التجريح، وعلى حفظ مقامات المسلمين عامتهم وخاصتهم.
الحديث فيه ذكر الجمرة الدنيا، أي: الجمرة الصغرى، وهي الأولى، إذاً: لها ثلاثة أسماء: الجمرة الأولى، والجمرة الصغرى والجمرة الدنيا؛ لأنها هي الأدنى إلى منى .
وقوله: (ثم يسهل فيقوم مستقبل القبلة)، (يسهل) يعني: يذهب إلى المكان السهل البعيد عن ازدحام الناس.
منها: مسألة استقبال القبلة في الدعاء عند الجمرات.
وفيه: مسألة استحباب الدعاء بعد الجمرة الأولى، فيدعو دعاءً طويلاً، جاء في بعض الأحاديث أنه بقدر سورة البقرة، وهكذا كان يقف ابن عمر رضي الله عنه وغيره، كان ابن عمر يقوم قدر قراءة سورة البقرة في الدعاء، وكذلك الجمرة الثانية يدعو بعدها مستقبل القبلة، ويذهب إلى أي مكان شاء ذات اليمين في الأولى، وذات الشمال في الثانية، المهم أن يذهب ليبتعد عن ازدحام الناس.
أما الجمرة الأخيرة وهي جمرة العقبة فإنه لا يدعو عندها، وذلك لأن الدعاء يكون في صلب العبادة في الغالب، وليس بعدها، فهو بعد رمي الجمرة الأولى لا يزال في عبادة، وبعد رمي الجمرة الثانية لا يزال في عبادة، أما بعد رمي الجمرة الثالثة فقد انتهت العبادة، ولهذا لا يدعى عندها، وإنما يذكر الله سبحانه وتعالى.
وكذلك في الصلاة نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو -مثلاً- في قيامه، في ركوعه، بعد القيام من الركوع، في السجود، في الجلسة بين السجدتين، في التشهد يدعو.. أما إذا سلم فكان الغالب من فعله الذكر، وليس الدعاء، وإن كان يستغفر كما في حديث ثوبان وعائشة : ( إذا سلم استغفر الله ثلاثاً )، وكذلك وردت آثار في الدعاء مثل: ( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )، لكن نقول: الغالب عليه كان الذكر وليس الدعاء.
قال ابن عبد البر : إن هذا كان يوم الحديبية، لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالحلق فلم يحلقوا، ولذلك لما سألوا: ( يا رسول الله! لماذا دعوت للمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين واحدة؟ قال: إنهم لم يشكوا )، يعني: سارعوا في تنفيذ الأمر، بينما تلوّم آخرون -كما هو معروف- وتباطئوا وتأخروا؛ لأنهم أحرموا وكانوا يظنون أنهم يطوفون بالبيت، فلما أمروا بالحل قبل دخول البيت ورجعوا وقع في نفوسهم ما وقع، فدعا للمحلقين وعلل بقوله: ( إنهم لم يشكوا )، ولذلك قال ابن عبد البر : إن هذا الحديث كان في الحديبية. بينما قال النووي رحمه الله: إن هذا الحديث كان في حجة الوداع. والأقرب -والله تعالى أعلم- أن هذا وقع مرتين، وقع في الحديبية ووقع في حجة الوداع، كما قاله القاضي عياض رحمه الله، والعيني وغيرهم من الشراح.
وكأن الذي يظهر لي -والله أعلم- أنه عليه الصلاة والسلام ما قال: (اللهم ارحم المقصرين)، فدعا لهم يعني دعاءً مستقلاً وإنما عطفهم، وهذا دليل على ارتفاع وتقدم رتبة المحلقين على المقصرين، وأنا أذكر أن أحد الشيوخ رحمه الله وهو حاج يتكلم على الحلق، ويقول: من هو الحاج الذي يبذل مهجته في سبيل الله، ثم يبخل على ربه عز وجل بأن يحلق شعر رأسه، فهذا مما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم.
فيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يستحب له أن يمر الموسى على رأسه، وهذا قول مالك والشافعي وأحمد، قالوا: يستحب أن يمر الموسى على رأسه.
والقول الثاني: أنه يجب أن يمره، وهذا قول أبي حنيفة .
والقول الثالث: أن ذلك لا يستحب، وهو مذهب الظاهرية.
والأقرب عندي هو الثالث؛ لأنه لا معنى للإمرار ما لم يكن ثَم شعر يؤخذ ويزال، وهذا معذور فمثله مثل الإنسان مقطوع اليد، لا نقول: يجب عليه أن يغسل يده المقطوعة في الوضوء؛ لأن محل الفرض غير موجود، فكذلك فيما يتعلق بمن ليس له شعر ألبتة، أما لو كان له شعر ولو قليل فإنه يزيله.
فيه مسألة استحباب التحليق وفضله.
وفيه جواز التقصير.
وفيه حجة لمن قال: بأن التقصير ينبغي أن يعم جميع الرأس، أو أكثر الرأس، وكثير من الفقهاء يقولون: يكفي شعرات، أو ربع الرأس، أو ما أشبه ذلك، لكن ظاهر الحديث يدل على أن السنة أن يستوعب الإنسان أكثر الرأس وليس كل شعرة؛ بدليل أن التقصير هنا صار بإزاء التحليق، وهو بديل عنه، ولهذا اختلف العلماء: هل الحلق أو التقصير هو نسك أو هو استباحة محظور؟ وإن كانت هذه المسألة ليس من ورائها ثمرة كبيرة.
هل الحلق والتقصير نسك أو استباحة محظور؟
فالجمهور قالوا: إنه نسك مأمور به، متعبد به، وهذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة، وهو ظاهر قول الإمام أحمد لحديث الباب؛ لأن النبي عليه السلام دعا لهم وأمرهم به.
القول الثاني: أن الحلق أو التقصير ليس نسكاً، وإنما هو استباحة محظور، وهذا قولٌ للشافعي، ورواية لـأحمد ومنقول عن عطاء إمام المناسك، والقول الأول أرجح أن الحلق أو التقصير نسك.
متى يفضل أن يقصر، يعني هل في حالة نقول: إن الإنسان يفضل فيها أن يعدل عن الحلق إلى التقصير؟
إذا كان متمتعاً والعهد قريب.
يعني: إنسان الآن جاء للتمتع اليوم وهو سيحرم بالحج غداً بحيث أنه لا ينبت رأسه، يحتاج الرأس إلى وقت حتى ينبت، فلو حلق لم يجد شيئاً يحلقه في الحج، فهنا يقصه في العمرة، ويجعل الحلاقة للحج، فهذا مما نص كثير من الفقهاء على أنه مما يكون التقصير فيه سائغاً، وإلا يكون الحلق أفضل؛ لأنه -كما قلنا- الذين حلقوا لم يشكوا كما في الحديبية، ولأن الحلق أبلغ من التقصير، ولأن الحلق يعم الرأس كله أيضاً، فإذا حلق لم يبق شيء، بخلاف التقصير فإنه يبقى بعض الشعر.
وهنا سؤال: الحلق يتعين أن يكون بالموسى؟ يعني لو واحد وضع مواداً مزيلة للشعر، مثل بعض المواد التي إذا وضعت على الشعر أزالته، يجزئه هذا عن الحلق، أو نقول: لابد أن يحلق بالموسى؟
نقول: المقصود إزالة الشعر، سواء أزاله بالموسى أو بغيره، فإن المقصود إزالة الشعر بأي وسيلة كانت.
ومن فوائد الحديث: استحباب طلب الدعاء من الأولياء والأفاضل، فالصحابة رضي الله عنهم التمسوا الدعاء من الرسول عليه الصلاة والسلام.
الحلق أو التقصير هي من خصائص الرجال أو النساء؟
الحلق من خصائص الرجال، ولهذا نقول: لو حلقت المرأة فقد أساءت، وبعضهم ينص على المنع والتحريم من ذلك، والجمهور على أن ذلك إساءة، وأما التقصير فهو للرجال وللنساء، ولذلك نقول: مما يستثنى في التقصير أيضاً كما يستثنى في حال المتمتع النساء، فإن السنة في حق النساء التقصير وليس الحلق، ولم يرد في تقصير النساء حد محدود، لكن يقول الفقهاء: تقصر بقدر أنملة.
إذاً: الحديث رواه الستة.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (افعل) هذا أذن له فيما مضى، وهو يدل بظاهره على أنه أذن له أيضاً فيما يستقبل.
الشافعي
وأحمد
وغيرهم؛ لحديث الباب، حديثعبد الله بن عمرو بن العاص
، وجاء عندالبخاري
ومسلم
أيضاً عنعبد الله بن عمر
رضي الله عنه مثل هذا الحديث، وقال بعض الحنابلة والحنفية والمالكية -فقهاء منهم- أن من قدم شيئاً على شيء فهو صحيح ومجزئ ولكن عليه دم. مثلاً: الحنفية يقولون: من قدم الحلق على الذبح فعليه دم، ويستدلون بقول الله تعالى: (( وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ))[البقرة:196]، فكيف نقول بهذه الآية الكريمة؟ ما هو الجواب عليها؟ نقول: هذا في شأن المحصر؛ لأن الآية وردت في المحصر، فإن المحصر ينتظر حتى يبلغ الهدي محله، وبلوغ الهدي محله وصول الهدي إلى مكانه، إلى البيت العتيق كما قال سبحانه: (( ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ))[الحج:33]، ويحتمل أن يضع الإنسان المحصر علامة بينه وبين من يذهبون للهدي أنه في الوقت الفلاني اذبحوا ويتحللوا بعد ذلك، وكذلك المالكية عندهم دم على من قدم الحلق على الرمي. النقطة الرابعة من فوائد الحديث في أعمال يوم النحر كما ذكرنا: فيه أن من قدم شيئاً منها أو أخر جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه، وكذلك العامد عند الجمهور. فيه عدم الإثم وعدم الفدية وعدم الإعادة. فيه جواز القعود على الراحلة. فيه الفتيا على الراحلة أيضاً كما بوب عليه الإمامالبخاري
رحمه الله. فيه سماحة الشريعة؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عبد الله بن عمرو
: (ابن عباس
، والعلماء أحصوا مثل هذه المسائل أنها تصل إلى أكثر من أربعة وعشرين مسألة التي يتصور أنه وقع السؤال عنها، كما ذكر ذلك الحافظابن حجر
وغيره، فقوله عليه الصلاة والسلام: (ولذلك الحديث رواه أكثر الأئمة في غير كتاب الحج، أبو داود رواه في الجهاد، والنسائي رواه في السير، وابن حبان أيضاً رواه في السير، وآخرون رووه في المناسك أو الحج كـابن خزيمة والبيهقي والبخاري كما ذكر المصنف.
ومن الطريف أظن أن قتله كان بسبب شظية أصابته، الرجل ممن تجنب الفتنة، وهذا الحقيقة دليل على خطر الدخول في الفتنة، فالرجل تجنب الفتنة وترك القتال فيها، ومع ذلك لما حوصرت مكة في زمن ابن الزبير أصابته شظية وقتلته رضي الله عنه وأرضاه، هو شهيد بفضل الله تعالى، لكن هذا يدل على حفظ الإنسان لنفسه من الوقوع في الفتن التي فيها القتل والقتال، وما يؤدي إلى ذلك أنها من الحكمة التي ينبغي على الإنسان أن يحتقبها لنفسه.
وفي الحديث: تقديم النحر على الحلق، وهذا يكون في الإحصار، ويكون في الحج أيضاً.
وفي الحديث: الإشارة إلى الهدي، وهي الفائدة التي نختم بها الباب.
فأقول: الهدي نوعان: هدي واجب وهدي تطوع.
نريد أن نعرف الهدي الواجب ما هو؟
أولاً: المتمتع الأفقي، المتمتع عليه هدي كما هو معروف. هذا هدي واجب.
القارن عليه هدي أيضاً وهو هدي واجب.
هدي التطوع ما هو؟
هدي المفرد، هدي المعتمر، المعتمر يمكن أن يسوق معه هدياً؟
وهذا لا بأس به، فهذا الهدي هدي التطوع.
لا، هذا غير، الفدية غير الهدي، نحن نتكلم عن الهدي.
الجواب: هذا ليس لأنها نجسة، ولكن لما يلحق المصلي فيها من الإزعاج؛ لأن الإبل يكون فيها حركة، ويكون في ذلك ما يحدث.
الجواب: والله إذا لم يكن عنده في منى مكان يأوي إليه فلا حرج عليه، ليس مطلوباً منه أن يبيت في الشارع ويتعرض للأخطار الصحية والعظيمة، والعبودية لله لا تكون بمثل هذا العمل، فمن كان له خيمة أو له أصدقاء يمكن أن يبيت عندهم أو في مسجد، أو في مكان يليق بمثله، وإلا النبي عليه السلام قال: ( إياكم والجلوس في الطرقات ).
الجواب: لا، دعا للمقصرين مرةً واحدة، كما هو واضح.
الجواب: التكبير للحاج وغيره: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، هذا طبعاً ثابت في السنة النبوية في حديث أنس وجابر وغيرهم، أما التكبير العام فمن الفقهاء .. ونقل عن جمع من الصحابة أنهم كانوا يقولون: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، وبعضهم يقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وهذا وإن لم يرد إلا أنه في معنى الوارد.
الجواب: لا شك أن هذا مما لا ينبغي، مزاحمة النساء.. دخول النساء في المزاحمة غلط، ودخول الرجال في مزاحمة النساء غلط، وكيف يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بمثل هذا الأمر الذي تلتصق فيه الأجساد بعضها ببعض، بل حتى الإفراط في المزاحمة إذا تعدت حدها فليست محمودة؛ لأن العبادة فيها تربية الإنسان على السكون، وعلى الخضوع، وعلى التوقير والتعظيم، وكيف يحصل على هذا إما ضارب أو مضروب، أو دافع أو مدفوع.
الجواب: بالعكس، هذه فكرة ممتازة إذا تيسرت.
الجواب: ليس ببدعة.
والفرق بين التقبيل إذا كان في طواف أو في غيره؟ إن كان في طواف فإنه يكبر، وإن كان في غير طواف فلا يكبر.
الجواب: نعم، الحجة صحيحة.
الجواب: لا، وإنما خالف السنة.
الجواب: الظاهر أنه دعا للمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين واحدة.
الجواب: الجمهور على أنه لا يشير، ولا يكبر عند الركن اليماني، والقول الآخر: أنه يشير، والسنة ألا يشير، ولكن لو أنك رأيت أحداً يشير لا تمسك برقبته وتتله تلاً شديداً وتعنفه، إما تعلمه برفق، وإما تمضي وتتركه.
الجواب: أبداً، عليك بالمواصلة، ويمكن أنك من النبع على ضربة معول، واصل وتعلم كيف تتعرف على الناس، وعليك بالابتسامة فإنها سحر العلاقة، جرب ودرب نفسك على أن تبتسم، وتذكر أن الأسنان ليست من العورة، ولا ينافي الوقار أن يبتسم الإنسان للناس، ويتعرف عليهم بطريقة لبقة، ويصافحهم بحرارة، ولا تنتظر منهم أن يبادلوك الشعور نفسه من أول مرة، فإن هناك من الناس من عنده صعوبة في التواصل مع الآخرين، هو الآخر يحتاج إلى تدريب.
الجواب: أرى أن ذلك جائز، وعندي فيه بُحيث لطيف وجميل يمكن أن تراجعه في موقعنا.
الجواب: هذا الأمر فيه سعة بالنسبة لهم، والمسافر من غير أهل مكة ليس عليه جمعة مستقلة إلا أن يصلي مع الإمام، أما المكي إن كان هناك جمعة أقيمت صلى، وإن صلى مع الإمام صلاها ظهراً، فالأمر في ذلك واسع، وأرى أنه بالنسبة لصلاة الجمعة أمرها أوسع من قضية الجمع والقصر، بل إن القصر غير الجمع، وهذه فائدة نسيت أن أنبه عليها بالأمس، يعني حتى المكي يمكن أن يجمع، يجمع بـعرفة، ويجمع بـمزدلفة ؛ لأن الجمع ليس للسفر خاصة، فالجمع يكون للحاجة، يكون للمريض، يكون في المطر، يكون في البرد الشديد، يكون في الريح الشديدة، وابن عباس رضي الله عنه يقول: ( جمع النبي صلى الله عليه وسلم بـالمدينة من غير خوف ولا سفر )، قالوا: وما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يحرّج أمته، الجمع أمره أوسع، لكن القصر أن تصلى الرباعية ركعتين، هذا أمر فيه خطورة، ومع ذلك المسألة فيها اجتهاد، وفيها أقوال.
وأنا أتعجب أنه أحياناً نحن ننفعل ونغضب من مسائل في الحج فيها أقوال وفيها خلافات، هذه صلاة أربع تتحول إلى ثنتين، مع أن هذا من قطعيات الدين، ومع ذلك يظل فيها اجتهاد وفيها أقوال لبعض طلبة العلم.
فهذا يدل على أنه فعلاً لا مناص لنا من أن الإنسان يأخذ باجتهاده، وما أدى إليه رأيه وقوله، لكن لا يعنف على من خالفه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر