وقوله: (خب ثلاثاً)، وفي رواية: (ثلاثة أشواط)، والأشواط جمع شوط، وهو: الدورة الكاملة على البيت أو السعية الكاملة، وأصله من شوط الفرس، فإن الفرس إذا وضع له علامة يسعى إليها، فإذا وصلها سمي هذا شوطاً، كما نجد اليوم هذا اللفظ استولى عليه الرياضيون كثيراً، فاعتبروا اللعبة إلى نهاية قسمها تسمى شوطاً، وهذا أصل الاستعمال اللغوي, أن الإنسان إذا حدد لنفسه وقتاً أو مسافة، فإذا بلغه سمي شوطاً.
وهكذا ما يتعلق بالطواف, فإن الدوران حول الكعبة من الحجر إلى الحجر يسمى شوطاً، وكذلك السعي من الصفا إلى المروة يسمى شوطاً، ومن المروة إلى الصفا يسمى شوطاً، ولهذا نقول: يطوف سبعة أشواط, ويسعى سبعة أشواط أيضاً.
حكم الرمل هذا سنة عند الأئمة الأربعة.
واستدلوا لذلك بأحاديث كثيرة, مثل أحاديث الباب التي ذكرناها، حديث ابن عمر رضي الله عنه وحديث ابن عباس وحديث جابر .. وغيرهم من الصحابة الذين نقلوا: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بالرمل في عمرة القضاء, وأمرهم بالرمل وفعله في حجة الوداع ). فهذا دليل لما ذهب إليه الأئمة.
ومما استدلوا به أيضاً، قالوا: إن الحكمة من الرمل في عمرة القضاء كانت واضحة, أن المشركين كانوا موجودين بـمكة , وكانوا يشاهدون المسلمين، فيستدعي المقام إظهار القوة، لكن في حجة الوداع كان الأمر قد استتب للمسلمين، وأسلم الناس, ولم يكن في مكة مشرك يومئذ، ومع ذلك أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالرمل، بل أكثر من هذا أنه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع جعل الرمل يستوعب الأشواط كلها, ولم يلغه أو ينسخه، فقالوا: هذا يدل على أنه وإن كان الأصل في بدء الرمل ومشروعيته إظهار القوة للمشركين في مكة، إلا أن فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدل على أنه مستحب باستمرار, حتى ولو زال سببه، ولذلك عمر رضي الله عنه مرة كأنه يفكر كما يقال بصوت مسموع، وقال: (كنا نرمل يوم أن كان المشركون وقد ذهبوا, ثم قال: شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنفعله). فهذا يرجح ويؤكد ما ذهب إليه الأئمة الأربعة من أن الرمل مستحب حتى بعد زوال سببه الذي كان أول الأمر.
القول الثاني: أن الرمل ليس بسنة؛ لزوال سببه؛ لأنه مربوط عندهم بعلة, وهي: وجود المشركين وقولهم: وهنتهم حمى يثرب. وقد زالت هذه العلة. وهذا مذهب عطاء فقيه مكة وإمام المناسك، ومذهب طاوس والحسن والقاسم، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.
ولا شك أن القول الأول باستحباب الرمل أقوى وأرجح.
ونقول: إن بقاء الرمل في حجة الوداع دليل على استحبابه ومشروعيته، وكذلك نقول: إن العلة الأولى كانت هي العلة في مشروعيته، لكن لا يعني أنها انفردت به. فهناك علل أخرى.
ويقال ثانياً: إن إظهار القوة مطلب, والرمل يذكر المسلم بأن عليه أن لا يكون ضعيفاً, وأن يظهر القوة، فينبهه إلى ما ينبغي أن يكون في حال المسايفة والمقاتلة والحرب مع الكافرين من إظهار العزة وإظهار القوة.
وبإزاء ذلك نذكر بالمعنى الآخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم، بل القرآن الكريم يدعو المسلمين إلى إظهار اللين, وإلى إظهار البر مع من لم يقاتلنا، فهذه شريعة وهذه شريعة. ومن العجب أن أظهر آية في القرآن الكريم فيها الأمر بالبر والقسط والإنصاف مع غير المسلمين من غير المحاربين هي نزلت في سورة الممتحنة، حيث نزلت هذه السورة لتعاتب حاطب بن أبي بلتعة على الكتاب الذي كتبه للمشركين، فانظر كيف تضمنت هذه السورة التي نزلت بهذه المناسبة العظيمة الصعبة, وفيها التحذير الشديد, لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]. وفيها قوله سبحانه: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1]. ومع ذلك تضمنت قوله سبحانه: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]. فهذه شريعة وهذه شريعة، والمسلم يستوعب هذا وهذا, في حال القوة والحرب له حكم وله أخلاق، وفي حال الدعوة والسلم والمعاملة له حكم وله أخلاق، ولا يقضي واحد منهما على الآخر.
من فوائد الحديث: المعاريض بالفعل، المعاريض في القول معروفة، و( في المعاريض مندوحة عن الكذب )، يعني: أن الإنسان يمكن أن يعرض أحياناً فيما لا يريد. ولكن هنا التعريض بالفعل، فإن إظهار المسلمين القوة من خلال الرمل ومن خلال الاضطباع، ومن خلال السعي في موضع السعي - والله أعلم- إظهار هذه القوة فيه نوع من المعاريض، يعني: ما نسميه بالاستعراض، الآن يسمونه الاستعراض, الاستعراض العسكري أو غيره، فأحياناً الحرب تستدعي نوعاً من إضفاء صبغة من القوة والانضباط.
ومن المعاريض أحياناً: عدم إظهار الضعف، ومن الضعف على سبيل المثال: الاختلاف، فإذا كان الناس مختلفين فيكون من المعاريض الجميلة أن لا يظهروا ضعفهم لخصمهم وعدوهم، فيظهروا أنفسهم وهم يد واحدة ومتضامنون، يحترم صغيرهم كبيرهم، ويرحم كبيرهم صغيرهم، ولو لم يكن هذا هو الواقع في حقيقة الأمر، فهذا من المعاريض بالفعل، فالحديث يدل على أن المعاريض تكون بالقول وتكون بالفعل.
ومن فوائد الحديث: أن الرمل أو الخبب لا يتدارك، بمعنى: أن محله الأشواط الثلاثة الأولى، فلو أن الإنسان نسيه هل نقول: يقضيه في الأشواط الباقية؟ لا، نقول: فات محله, فلا يمكن تداركه.
وفيه أيضاً من الفوائد: أن الرمل خاص بالقادم، لكن بأي جنس؟ خاص بالرجال، ولا مدخل للنساء في الرمل، وهذا يكاد أن يكون اتفاقاً.
وفيه: أن الرمل في الأشواط الثلاثة كلها حتى ما بين الركنين, وأنه خاص بطواف القدوم.
الحديث أيضاً رواه البخاري، ولهذا لا وجه لاقتصار المصنف رحمه الله على مسلم، إلا أن يكون على سبيل عدم المراجعة لتخريج الحديث، فالحديث متفق عليه، فقد أخرجه البخاري في الحج، باب: من لم يسلم غير الركنين، وأخرجه مسلم أيضاً كما أشار المصنف رحمه الله في الحج، باب: استحباب استلام الركنين، وقد أخرجه أبو عوانة وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة والبيهقي وأحمد في مسنده .
والركنان اليمانيان تثنية يماني، وهو منسوب إلى اليمن، والركنان اليمانيان هما: الحجر الأسود والركن اليماني. وتسميتهما بالركنين اليمانيين هذا ما يسميه أهل اللغة على سبيل التغليب، مثل: القمرين للشمس والقمر، والعمرين لـأبي بكر وعمر، والأبوين للأب والأم، وهكذا اليمانيان.
فهذه أربع مسائل, ولها نظائر، يطلق فيها على سبيل التغليب.
وهي منسوبة إلى اليمن؛ لأنها في جهة اليمن من الكعبة، ويقابلهما الركنان من الجهة الأخرى, ويسميان الركنيين الشاميين؛ لأنهما من جهة الشام، أو من جهة الشمال أيضاً؛ لأن العرب يسمون الشمال شاماً، فجهة الشمال قد تسمى شاماً، فهي من جهة الشام، أو من جهة الشمال. وسوف نبين الفرق بين هذه الأركان.
أولاً: القول الأول: أنه يستلم الركنين فحسب، الركن اليماني والحجر الأسود، وهذا مذهب الجمهور، فهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وجمهور الفقهاء وأكثر العلماء، يعني: الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو منقول أيضاً عن الصحابة رضي الله عنهم, أنه لا يستلم إلا الركن اليماني والحجر الأسود.
وقد بينا أن الاستلام مثل السلام، بس فيه زيادة التاء، فهو معناه أنه يمسح الركن بيده, أو يلمس الركن بيده. هذا معنى الاستلام. وسأوضح الفرق بينهما بعد قليل.
القول الثاني: أنه يستلم الأركان كلها، وبناء عليه فإنه يستلم الأركان الشامية أيضاً، وهذا جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، فهو قول منسوب لـأنس بن مالك وجابر بن عبد الله , وصح عن معاوية رضي الله عنه كما في صحيح البخاري، وكذلك عبد الله بن الزبير وعروة بن الزبير أيضاً، والحسن والحسين رضي الله عنهما وعنهم أجمعين، وكذلك أبو الشعثاء جابر بن زيد كان ذلك من مذهبه، يرون استلام الأركان الأربعة، وأنه لا فرق بين أركان الكعبة.
وفي هذا قصة ذكر أصلها البخاري وأهل السنن: ( أن
فهذا يدل على مذهب معاوية رضي الله عنه ومن وافقه، وهذا الحديث بتفصيله ذكره الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ورواه البخاري في صحيحه معلقاً. فهذا هو القول الثاني.
ولا شك أن الراجح أن السنة استلام الركنين فحسب؛ وذلك لسبب:
أولاً: فعل النبي صلى الله عليه وسلم وكفى به حجة، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يستلم إلا هذين الركنين, كما نقله عنه الكافة من أصحابه.
ثانياً: نقول: إن الركنين لهما فضيلة، أولاً: فضيلة وجودهما, وكونهما على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإن الركنين هما على قواعد إبراهيم، بخلاف الركنين الشاميين فليسا على قواعد إبراهيم، فإن قريشاً لما أرادت بناء الكعبة قصرت بهم النفقة، فقصروا بناء الكعبة, وجعلوا الحجر أو ما يسمى بالحطيم خارجها، وإلا فإن معظم ما يسمى اليوم بالحجر أو الحطيم هو من الكعبة، حوالي ستة أذرع أو سبعة أذرع يعتبر من الكعبة، ومن دخله فكأنما دخل الكعبة، ومن صلى فيه فكأنما صلى في الكعبة، ولعل من حكمة الله أن يبقى كذلك؛ ليتمكن الناس من الدخول والصلاة فيه من غير إشكال، بينما لا يستطيع الكثير من الناس دخول الكعبة، ويمكن أن أكثرنا أو كلنا ما رأينا الكعبة من داخلها.
وفي إحدى الأيام وأنا هنا جاءتني رسالة تقول: إذا أحببت أن ترى صورة الكعبة من الداخل ما عليك إلا أن ترسل رقماً وذكروا رقماً للاتصالات, يعني: من شأنه أنك تستطيع رؤية الكعبة من الداخل، فإذاً: وجود الحجر نعمة ورحمة من الله سبحانه وتعالى بالعباد، ولكن القصة والمدار على أن الركنين الشاميين ليسا على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولهذا لا يستلمان.
إذاً: السنة بالنسبة للركن اليماني هو أن يستلم باليد فقط، أما بالنسبة للحجر الأسود فالأمر مختلف، فإن السنة ماذا؟ أولاً نقول: ممكن حتى السجود أن يسجد عليه، وهذا ثبت معنا أمس من فعل ابن عباس، فإذا استطاع أن يسجد عليه سجد, هذا جيد، ولا يقال: إنه منكر أو بدعة, فقد ثبت عن صحابي.
الشيء الثاني: أن يقبله، وهذا أيضاً بالاتفاق، يستحب أن يقبله مرة واحدة تكفي؛ حتى يدع الفرصة للناس؛ لأن هذا مكان لا يخلو من تضييق على الناس، ولهذا يقبله مرة واحدة وينصرف.
الشيء الثالث: إذا لم يستطع تقبيله فإنه يستلمه بيده, أو يستلمه بشيء، مثلما استلمه النبي صلى الله عليه وسلم بمحجن وقبل المحجن، فإذا لم يستطع كل هذه الأشياء يشير إليه بيده, ولا يقبل, أكيد لا يقبل ما أشار إليه به.
إذاً: الحجر الأسود له أربعة أشياء، ومع ذلك هناك أمر خامس, وهو: إذا كان في طواف فإنه يستحب له أن يكبر، إذا حاذاه قال: الله أكبر، وعند بداية الطواف ثبت عن بعض الصحابة والسلف أنه يقول: بسم الله أيضاً في بداية الطواف.
بالمناسبة الآن هذه أشياء تكون في بداية كل طوف أو شوط، بالنسبة للشوط السابع إذا انتهى من الطواف: هل يشير ويكبر أو لا؟ لا يشير ولا يكبر، لأن المسألة تحتمل، إما أن نقول: لا يشير ولا يكبر؛ لأن الإشارة والتكبير تكون في بداية الشوط, وهو قد انتهى الآن. هذا وجه.
الوجه الثاني: أن بعضهم يقول: الإشارة والتكبير مرتبطة بمحاذاة الحجر، سواء قبل أو بعد. وبناء عليه لو كبر أو أشار فالأمر واسع، وهذه أيضاً من المسائل التي لا داعٍ أن الإنسان يحرج الناس فيها, لا تكبر بعد السابع، يصنع الإنسان زحمة, والمسألة ما فيها إشكال، ذكر لله سبحانه وتعالى ونية طيبة واحتساب وقول فقهي معتبر، بعضهم يقول: يشير؛ لأن الإشارة ليست مرتبطة بالشوط، وإنما هي مرتبطة بمحاذاة الحجر، فالأمر في ذلك واسع، ولم يرد فيه شيء مرفوع.
من فوائد الحديث: فضيلة الحجر الأسود وما يختص به.
ومن فضائله أيضاً: فضيلة الركن اليماني وما يختص به.
ومن فوائد الحديث: التفريق بين الركنين اليمانيين والركنين الشاميين, وسر هذا التفريق.
ومن فوائد الحديث: حماية جناب التوحيد من قبل عمر رضي الله عنه وأرضاه، في نفي اللبس في تقبيل الحجر أو استلامه، ولذلك يصرح بأنه حجر لا يضر ولا ينفع، وإنما النافع الضار هو الله عز وجل.
وفيه أيضاً: أن الأصل في العبادات التوقيف، بمعنى أنه لا يجوز للإنسان أن يخترع عبادة من قبل نفسه، إلا أن يكون الشارع أذن فيها، وهذا من السعة في الدين ومن رحمة الله تعالى بالعباد, أن الله تعالى جعل العبادات الأصل فيها التوقيف، فلا يحل لأحد أن يبتكر أو يخترع عبادة جديدة، أو يجعل هناك عبادة بمناسبة جديدة، مثلاً إحياء الليلة بمناسبة الإسراء والمعراج، أو بمناسبة الهجرة, أو بمناسبة بدر، أو ما أشبه ذلك؛ لأن من شأن هذا أن تتضخم العبادات حتى تملأ حياة الناس، بينما الشارع أراد أن تكون هذه العبادات محصورة، القرب يعني، يعني: العبادات المحضة, أن تكون محصورة في أوقات معينة.
ويقابل هذا: أن الله سبحانه وتعالى جعل الأصل في العادات والمعاملات الإذن, وليس التوقيف، بمعنى أن الناس يتسلطون بعقولهم وإبداعهم على الابتكار في مجال الحياة الدنيا, وفي مجال التجارة, وفي مجال الاقتصاد, وفي مجال العلوم المادية الدنيوية , هذا مطلب, فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك:15]. وفكروا وتأملوا وتدبروا، لكن فيما يتعلق بالعبادات تكون محصورة، فيكون هناك فصل ما بين هذا وذاك، وهذا يؤخذ من قول عمر رضي الله عنه: ( ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبلك ما قبلتك ). فهذا دليل على أن الأصل في العبادات هو التوقيف كما ذكرنا.
ومن فوائد الحديث وغيره: أنه لا حرج ولا بأس أن يسمى الحجر الأسود بالحجر الأسود، وبعضهم يحرف هذا الاسم, فيقول: الحجر الأسعد، وفي الواقع أقول: ليس في السواد ما يعاب, هذا أولاً. فليس هناك عنصرية من اللون الأسود, فالشعر الأسود والليل الأسود والعيون السود, وهناك ميزات كثيرة جداً يكون السواد مطلوباً فيها، والكعبة ذاتها لونها: لا يجادل أحد في أن لونها هو الأسود، ولا ينبغي أن يؤخذ اللون الأسود على أنه لون التشاؤم، أو الإحداد كما يظن البعض، أو حتى لو لبست المرأة اللون الأسود قيل: إن هذا اللون سيء أو ما أشبه ذلك. فهذا أولاً.
ثانياً: الصحابة رضي الله عنهم سموه بذلك، وجاء في السنة النبوية تسميته، فينبغي أن يوصف بما يوصف به. هذه هي السنة.
وفي الحقيقة من الفوائد التي لم أر من أشار إليها ولا أدري كيف أسوقها، هي: مخاطبة عمر رضي الله عنه للحجر الأسود، وهذا شيء عجيب! عمر رضي الله عنه يكلم الحجر، فيقول: إني أقبلك وأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، فهذه المخاطبة من عمر رضي الله عنه يحتمل أن تكون مخاطبة افتراضية، بمعنى أن عمر وإن كان يخاطب الحجر إلا أن قصده أن يسمع البشر، وكأنه يريد أن يوصل إليهم هذه الرسالة، وهذا المعنى هو الأقرب والله أعلم. لكن لا مانع أن يكون أيضاً من معاني مخاطبة عمر رضي الله عنه أن المؤمن الحق الذي تشبع بالإيمان يكون عنده إحساس خاص حتى تجاه الجمادات؛ لأنه يشعر أنها تسبح الله سبحانه وتعالى, وأنها تعبد الله، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما وقف على جبل أحد، فاهتز الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اثبت أحد ؛ فإنما عليك نبي أو صديق أو شهيد ). وقد أخذت من هذا الحديث, حديث: (اثبت أحد ) أنها حصلت الزلزلة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلافاً لمن نفى ذلك، ولكنها كانت زلزلة خفيفة، وإلا فالحديث ثابت في صحيح مسلم .
فسبحان الله! بتمام مائة سنة من تلك الليلة، يقال: مات آخر الصحابة رضي الله عنه، وكأنه هو أبو الطفيل، وهذا مصداق ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام.
وأيضاً في قصة المحجن الرجل الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنه رآه في النار متكئاً على محجنه ). فكان هذا الرجل عنده محجن عصا محنية يسرق بها الحجيج، فإذا لم يفطنوا له ذهب، وإذا فطنوا له قالوا: تعال أخذت الشيء، قال: لا, هذا تعلق بمحجني, أنا ما قصدت, بس تعلق من غير قصد، فهذا ما يتعلق بالمحجن.
وإنما استلم النبي صلى الله عليه وسلم الركن بالمحجن لماذا؟ لماذا ما استلم بيده؟ لأنه كان راكباً على بعير.
والسؤال الثاني: لماذا كان راكباً على بعير عليه الصلاة والسلام؟ ليراه الناس، وليشرف فيسألوه؛ لأن الناس غشوه، يعني: أحاطوا به وأثقلوا عليه، فارتفع حتى يطوف ويراه الناس ويسألوه.
فيه جواز الركوب في الطواف، ومثله والله أعلم السعي من باب أولى؛ أنه يجوز للإنسان أن يركب وهو في الطواف أو في السعي.
ثانياً: نقول: جوازه من غير كراهية للعذر، إن كان من غير عذر فالسنة المشي، لكن إن كان لعذر كما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم ومثله الكبير أو الصغير أو من لا يطيق، فإن الجواز هنا يكون من غير كراهة. وقد جاء في حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها تريد أن تطوف وهي مريضة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( طوفي وراء الناس وأنت راكبة ). والحديث رواه البخاري ومسلم، فركبت وطافت رضي الله عنها وأرضاها، وقال مالك وأبو حنيفة : لا يطوف راكباً إلا لعذر؛ رأوا أنه لا يجوز أن يطوف راكباً إلا لعذر، لكن ما ذهب إليه الجمهور من الجواز هو الأصح.
واستدل القائلون بأنه لا يجوز بـ حديث: ( الطواف بالبيت صلاة, إلا أن الله أباح فيه الكلام, فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير ). والحديث رواه أحمد وأهل السنن عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والصواب والراجح أن الحديث موقوف على ابن عباس من قوله, وليس مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد رواه الترمذي والنسائي كما ذكرت وصححه ابن خزيمة وغيره .
من فوائد الحديث: طهارة بول ما يؤكل لحمه، وطهارة روثه أيضاً، ونأخذ هذا من دخول البعير إلى الحرم، ولا يؤمن أن يحدث منه البول أو الروث داخل المسجد، فأخذ من هذا من أهل العلم من أخذوا طهارة بول ما يؤكل لحمه، وطهارة روثه أيضاً.
والأدلة على ذلك كثيرة ومبسوطة في موضعها, وسبق أن ذكرناها في باب الطهارة.
منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر العرنيين أن يلتحقوا بإبل الصدقة, وأن يشربوا من أبوالها وألبانها.
ومنها: جواز الصلاة في معاطن الإبل. إلى غير ذلك من الأدلة.
وإسناد الحديث جيد، إسناده رجاله ثقات، ولكن الحديث منقطع بحسب إسناد هؤلاء الأئمة, فالحديث منقطع؛ لأنه من رواية ابن جريج عن ابن يعلى، وكأنه صفوان بن يعلى بن أمية، لم يذكر اسمه، ولكن اسمه صفوان بن يعلى بن أمية، وابن جريج لم يرو عن صفوان، ولذلك نقول دائماً: إن القول بأن الحديث إسناده صحيح أو رجاله ثقات أو على شرط مسلم لا يعني صحة الحديث؛ لأنه قد يكون رجاله ثقات، ولكن إسناده منقطع، فلا يكون صحيحاً، فنقول: هذا الحديث إسناده منقطع ؛ لأن ابن جريج لم يسمع من صفوان بن يعلى بن أمية، ولكن تبين من بعض الأسانيد الأخرى أن ابن جريج روى هذا الحديث عن عبد الحميد بن جبير عن صفوان، فعرف الواسطة، يعني: مرة ابن جريج مدلس، مرة دلس هذا الحديث، والتدليس معناه: أن يطوي شيخه ويذكر من فوقه، فمرة ابن جريج قال: عن صفوان، ونحن نعرف أنه لم يرو عن صفوان ولم يلقه، إذاً نقول: منقطع.
من هو الواسطة بينك وبينه؟ وجدنا أن في إسناد الحديث في مواضع أخرى أنه قال: حدثني عبد الحميد عن صفوان، فعرفنا إذاً أن الواسطة هو عبد الحميد بن جبير وهو ثقة، وبناء على ذلك نقول: إن إسناد الحديث بهذه الطريقة متصل، وهو إسناد صحيح أيضاً, فيصح الحديث.
قوله: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعاً)، بينا أن الاضطباع هو إظهار الكتف الأيمن، وهو مأخوذ من الضبع، والضبع هو الكتف، فنقول: ضبعي أو ضبعا الرجل هما كتفاه.
وقوله: (ببرد)، البرد هو: الكساء المعلم، يعني: المخطط، البرد: هو الكساء الذي له أعلام, أو له خطوط.
فالاضطباع سنة عند الجمهور، وهو مذهب الحنفية والحنابلة والشافعية, أن الاضطباع سنة.
واستدلوا بحديث الباب وشواهده, وهي عديدة. وهذا هو القول الصحيح.
القول الثاني للإمام مالك : أنه لا يرى الاضطباع، ما هي حجة الإمام مالك في أنه لا يرى الاضطباع؟ قال: لم أسمع أحداً من أهل العلم يذكره، ورحم الله من انتهى إلى ما سمع. فالإمام مالك إمام عظيم .. جليل القدر .. كبير المكانة .. واسع العلم، وله فضل جليل، ولكن جرت سنة الله أن الإمام العالم حتى من الصحابة قد تخفى عليه سنة من السنن، حتى عمر رضي الله عنه في شأن الاستئذان، لما قال لـأبي سعيد : [ لتأتيني ببينة على ما ذكرت ]. ثم علم بعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الاستئذان ثلاث, فإن أذن لك وإلا فارجع ). رجع عمر إلى نفسه وقال: [خفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ألهاني عنه الصفق في الأسواق]. يقول هذا كالمعاتب لنفسه، فقد تخفى السنة على العالم ويعرفها غيره، وهذا ما يعتذر به لكل عالم يكون ترك سنة من سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعني: ترك القول بها.
نقول: إنه تركها لأنه لم يطلع عليها، أو لأن غيرها ترجح عنده عليها. فهكذا ما يتعلق بالإمام مالك رحمه الله تعالى.
ومن فوائد الحديث: جواز الإحرام بالملون، يعني: لا يلزم أن يكون الإحرام هو خرقة أو إزار أبيض، بل يجوز الإحرام بغيره, كما أحرم النبي صلى الله عليه وسلم هنا بالبرد الأخضر, مما جرت العادة أن يلبسه الرجال، أما المرأة فتحرم فيما شاءت من الثياب, مما لا يكون زينة أو فتنة في نفسه.
والحديث أيضاً هنا ذكره المؤلف رحمه الله الإمام الحافظ، ولم يذكر تفصيلاً له، وفي الواقع أن هذا يحتاج إلى أن يعرف متى يهل المهل فلا ينكر عليه، ومتى يكبر المكبر فلا ينكر عليه، فكان في لفظ الحديث شيء من الاختصار المخل.
وتبدأ من حين أحدث النسك أو أنشأ النسك، وتنتهي التلبية -كما سوف أشير- للمعتمر إذا شرع في الطواف، وللحاج متى تنتهي؟ إذا شرع في رمي جمرة العقبة. وهذا سوف يأتي.
القول الأول: إذاً قلنا: إنها تستمر بالنسبة للحاج حتى يبدأ في رمي جمرة العقبة، فإذا بدأ بالرمي توقف عن التلبية.
ومما يدل على هذا القول أن المشروع للرامي إذا أراد أن يرمي أن يقول: الله أكبر، إذاً: هنا انتهت التلبية وبدأ التكبير، فهذا يشهد لما ذهب إليه الجمهور كـأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وهو مذهب أكثر الصحابة وأكثر السلف: أن الحاج يلبي حتى يبدأ في رمي جمرة العقبة فيتوقف عند ذلك. ويستدلون بما ذكرنا.
وهناك قول آخر: بأنه يلبي حتى يرمي الجمرة، يعني: حتى ينتهي من رمي جمرة العقبة، وكأنهم يرون أن الجمرة مشمولة بقول أنس: (يلبي الملبي فلا ينكر عليه, ويهل المهل فلا ينكر عليه). والقول الأول هو الراجح, أنه يلبي حتى يبدأ في الرمي، فإذا بدأ في الرمي ترك التلبية وانتقل إلى التكبير.
النوع الثاني: هو ما يسمى بالتكبير المقيد، والتكبير المقيد هو: التكبير في أدبار الصلوات المكتوبات، أنه بعدما يستغفر -كما ورد- ويهلل يخلط ذلك بالتكبير في أدبار الصلوات المكتوبات, ويرفع صوته بذلك أيضاً.
والتكبير المقيد ليس فيه نص صريح صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه ثبت أيضاً عن جمع من الصحابة, واشتهر عن السلف والأئمة رضي الله عنهم وأرضاهم .
وأفضل ما يكون في صفته أن يقول: الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر, لا إله إلا الله, والله أكبر .. الله أكبر, ولله الحمد، فيرفع صوته بهذا التكبير في أدبار الصلوات المكتوبات.
وأيضاً في تحديد وقت التكبير المقيد اختلاف، والمشهور أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق.
ومن فوائد الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينكرون ما خالف السنة، ولذلك احتج أنس رضي الله عنه بعدم إنكارهم على المشروعية، أو نقول: إن ما فعله الصحابة من غير إنكار فهو سنة، ولهذا أنس رضي الله عنه قال: (كان يكبر المكبر فلا ينكر عليه, ويهل المهل فلا ينكر عليه). دليل على أن الإهلال -يعني: التلبية- سنة، وأن التكبير سنة، وخلط ذلك سنة أيضاً.
ومن فوائد الحديث: التنوع في أعمال الخير، وأن كثيراً من الخلاف الذي يحدث بين الناس هو بسبب ضيق العقل، وأن الإنسان يضيق فهمه أو عقله أو علمه عما عند الآخرين، فيظن أنه لا خير إلا ما يوجد عنده، فينكر عليهم، ويقع بسبب ذلك كثير من الشر والغلط والعدوان, عدوان الناس بعضهم على بعض، بينما الناس ربما هذا مشغول بخير, هذا مشغول بعلم، وهذا مشغول بدعوة، وهذا مشغول بالإنفاق في سبل الخير، وهذا مشغول باحتساب, هذه كلها أبواب من الخير، ولا يلزم أن أجبرك لتكون مثلي, أو تجبرني لأكون مثلك، فالناس كلهم على أبواب من الخير، هذه الأشياء مادام لها أصول من الشريعة، ولا يمكن لأحد أن يستوعب ذلك كله، فيكون عالماً، وتاجراً، وداعياً، ومربياً، ومعلماً، ومحتسباً, نعم هو قد يحتسب على نفسه وعلى ولده وعلى من حوله، لكن لو أنه تجرد لهذا المعنى ربما قصر في العلم الذي توجه له، وكذلك المحتسب، ربما لو أنه انشغل بالعلم ربما ترك الاحتساب، فهكذا ينبغي أن يكون عند الناس سعة في مثل هذه المعاني، كما قال أنس رضي الله عنه أقول: لنجعل شعارنا قول أنس رضي الله عنه: ( كان يهل المهل فلا ينكر عليه، ويكبر المكبر فلا ينكر عليه ). كل منا على خير، عليه أن لا ينكر على الغير.
وقالوا صخيرات اليمـام وقدموا ركائبهم من آخر الليل للثقل
وردن على ماء العشيرة والضحى على ملل يا لهف نفسي على ملل
فهذا هو الثقل، وهو فسره هنا بمعنى الضعفة، والضعفة هم الضعفاء الذين يحتاجون إلى رعاية مثل كبار السن، والنساء والصبيان ونحوهم.
وفي الحديث الآخر - عائشة رضي الله عنها كما سوف يأتي- وصفت سودة بأنها امرأة ثبطة، فهذا يبين معنى الضعفة، أو معنى الثقل، (امرأة ثبطة) يعني: ثقيلة كبيرة، وكأنها أخذها اللحم فيشق عليها القيام والقعود والركوب والمشي والمزاحمة.
قال: (من جمع بليل)، جمع معروف أنها مزدلفة، وقوله: (بليل)، طبعاً الليل يبدأ من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فماذا يكون مراد ابن عباس رضي الله عنه هنا بليل؟ هذا مجمل. قالت: بمغيب القمر، تم تحديده في اللفظ الثاني كما في حديث أسماء، وهو في صحيح البخاري قالت: بمغيب القمر, [ أذن لها بالانصراف إذا غاب القمر ]. وكأن كثيراً من الفقهاء حددوا هذا بأنه بعد منتصف الليل؛ لأنه إذا ذهب أكثر من نصف الليل يكون قد حصل على المبيت بمزدلفة، والذي هو شعيرة من شعائر الحج.
الفائدة الثانية: أنه يبدأ وقت الطواف طواف الحج، طواف الركن يبدأ بعد منتصف الليل، وهذا مذهب الشافعية والرواية المشهورة عند الحنابلة, وهو الراجح، وكذلك أن وقت رمي جمرة العقبة يبدأ بعد منتصف الليل؛ بسبب الإذن لهم بالدفع؛ لأنه إنما أذن لهم أن يدفعوا حتى يطوفوا قبل الناس أو يرموا قبل الناس.
ومن فوائد الحديث أيضاً: أن المرافقين لهؤلاء الضعفة يأخذون حكمهم, فمن يقود السيارة مثلاً أو الباص، وكذلك الذين يقومون عليهم بالخدمة أو المحارم الذين يكونون معهم يأخذون حكمهم في الترخص بالدفع من جمع بليل.
وورد في قصة سودة عدد من الأخبار, منها: أنها نزلت عن ليلتها لـعائشة، وهذا مشهور، يعني: أنها تنازلت عن ليلتها لـعائشة ؛ لما علمت من محبة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك, وأنه يهواه.
وأيضاً لها خبر وذكر في قصة التحريم, يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ [التحريم:1]. فكانت سودة تعتبر في حزب عائشة رضي الله عنها، يعني: بينها وبين عائشة رفقة وصداقة ومحبة وصفاء.
المبيت بـمزدلفة فيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه واجب من واجبات الحج، وهذا مذهب أكثر أهل العلم، فهو مذهب مالك وأحمد والشافعي في المشهور عنه وأبي حنيفة .
واستدلوا على الوجوب بفعل النبي صلى الله عليه وسلم أنه بات بـالمزدلفة، وقال: ( خذوا عني مناسككم ).
واستدلوا أيضاً بالرخصة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام حينما رخص لـسودة , ورخص لـابن عباس أيضاً كما سوف يأتي, وللضعفة والصبيان قالوا: إن الرخصة يكون مقابلها عزيمة.
فهذا دليل على أن المبيت بـمزدلفة واجب.
القول الثاني: أن المبيت بـالمزدلفة ركن, لا يصح الحج إلا به، وهذا نقل عن اثنين من الصحابة، ونقل عن خمسة من التابعين, بل صح عنهم، وهو مذهب ابن جرير الطبري ومذهب الظاهرية.
واستدلوا لذلك بالآية الكريمة، وهي قوله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]. وقالوا: الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ هو المزدلفة .
وهذا أمر يدل على أن حكمه مثل حكم عرفات، فكما أن عرفات ركن لا يتم الحج إلا به، فالمبيت بمزدلفة ركن لا يتم الحج إلا به.
كما استدلوا ثانياً بحديث عروة بن مضرس - وسوف تأتي الإشارة إليه- وهو أنه قال: جاء للنبي صلى الله عليه وسلم بـالمزدلفة وسأله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( من شهد معنا صلاتنا هذه، وكان قد وقف قبل ذلك بـعرفة أية ساعة شاء من ليل أو نهار فقد تم حجه, وقضى تفثه ).
فقالوا: هذا دليل على أن الوقوف بـمزدلفة أو المبيت فيها أو شهود الصلاة فيها على الأقل مع النبي صلى الله عليه وسلم ركن لا يتم الحج إلا به.
والواقع أن الاستشهاد بهذا الحديث أو بالآية الكريمة ليس ظاهراً في الركنية، وغاية ما يدل عليه الوجوب، فهي أدلة للأولين, يمكن أن تضاف إلى أدلة الجمهور في وجوب المبيت بمزدلفة.
القول الثالث: هو أن المبيت بـمزدلفة سنة, وليس بواجب، وهذا هو قول مشهور عند الشافعية, وشاع وذاع عند المتأخرين منهم، واختاره بعض المحققين.
والأقرب والله أعلم: أن المبيت بـمزدلفة واجب؛ لقوة الأدلة التي ذكرناها, أن المبيت بـمزدلفة واجب. ولكن من لم يستطع أن يبيت لغلبة الطريق عليه, تأخره في الطريق أو ما أشبه ذلك، فلو أنه وقف بـمزدلفة أو أدركها آخر الليل أو أدرك صلاة الفجر يكون قد أدرك الركن، و لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286].
القول الرابع -وهذا من غرائب الأقوال- في المبيت بمزدلفة: أنه منزل، كأنهم يقولون: حتى السنية مشكوك فيها, أنه ليس بسنة، والأغرب أكثر أن هذا قول عطاء، وهو إمام المناسك وإمام أهل مكة، وهو قول الأوزاعي أيضاً إمام أهل الشام، وروي عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً, ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا من غرائب الأقوال؛ لأن النصوص في المبيت بـمزدلفة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية ومن فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته المغرب والعشاء فيها جمعاً وقصراً بأصحابه هي مستفيضة، وحقيقة سرد هذه الأقوال -يعني- قد يقول قائل: هذا قول غريب وقول مهجور، فلماذا نسوقه؟
أنا أسوقه حتى يتعلم طالب العلم احترام أهل العلم ومعرفة أقدارهم، وأن العلم بحر ليس له ساحل كما يقال، وأن يتعلم الإنسان هذه الأقوال ويختار أرجحها بالدليل، ويلتمس العذر لمن اجتهد في بعض هذه المسائل وخالف الدليل، فإنما خالفه باجتهاد, أو بعدم بلوغ الدليل له, أو ما أشبه ذلك.
فيه جواز تقديم الضعفة من جمع بليل.
وفيها: المبيت بـمزدلفة، وأنه واجب من واجبات الحج.
وفيها: الوقوف بـمزدلفة أيضاً، وهو ما يكون بعد صلاة الفجر، حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة يدعو حتى أسفر جداً.
والخلاف في السعي، هل هو واجب أو سنة أو ركن؟ هذه كلها أقوال.
والذي ينبغي أن يحرص طالب العلم عليه هو تحري الدليل باعتدال, بعيداً عن أن يكون عليه تأثير، والتأثير أحياناً قد يكون تأثيراً نحو التسهيل، وأحياناً يكون تأثيراً نحو التشديد، بحسب البيئة العلمية، فأحياناً كون الإنسان يريد أن يختار الأسهل، هذا ليس منهجاً علمياً ولا شرعياً، فيقول: مادام فيه خلاف مثلاً في المبيت بـمزدلفة، إذاً: أنا أختار أنه منزل, وليس سنة, أو على أحسن الأحوال يقول: أنا أتوسط فأقول: هو سنة، ثم يأتي إلى المبيت بـمنى، ويقول: هو سنة, ولا دليل على وجوبه، إذاً: أختار السنية.
يأتي لرمي الجمرات يقول: أختار السنية أو يكفي عنه التكبير.
يأتي للسعي فيقول: أختار السنية فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:158].
ثم هنا تلاحظ فعلاً أن يكون الإنسان تخلى وتجرد عن كثير من العبادات والأعمال، ولمثل هذا نقول: فعلاً من يقول: بأن السعي سنة يقول: بأن المبيت بـمزدلفة واجب، ومن يقول: بأن المبيت بـمزدلفة سنة يقول: إن رمي الجمرات واجب، والمبيت بـمنى واجب، فلم يوجد عالم أو مذهب جمع كل هذه الرخص في سياق واحد وأخذ بها.
هذا منهج في نظري أنه معتدل. لكن أيضاً ينبغي أن نراعي الوجهة الأخرى، وهو أن بعض البيئات العلمية قد تحفز الطالب على الأخذ بالأحوط، فكلما اختلف العلماء في مسألة رجح هو وبقناعة طبعاً، لكن هو لا يحس بتأثير الجو المحيط عليه على نفسه، فإذا اختلفوا في مسألة الدفع من عرفة يجوز الدفع قبل المغرب أو لا يجوز الدفع؟ قال: لا يجوز الدفع إلا بعد الغروب، وأيضاً أخذ زيادة على ذلك أنه من دفع قبل الغروب فعليه دم، وهذه رواية عن بعض الفقهاء، الإمام مالك يرى أنه لا يجزئه إلا أن يؤخر الدفع إلى الغروب، فإذا اختلفوا في مزدلفة مثل ذلك، إذا اختلفوا في الرمي مثل ذلك، إذا اختلفوا في السعي مثل ذلك, أخذ بالأقوال التي فيها شدة، وأن يأخذ بهذا لنفسه فهذا حسن، أن يحتاط الإنسان لنفسه، لكن بالنسبة للفتوى على الإنسان أن يراعي أن لا يأخذ بالأسهل لمجرد أنه أسهل، هذا ليس مرجحاً على الصحيح من أقوال الأصوليين، ولا يأخذ أيضاً بالأشد لأنه أشد، وإنما عليه أن يراعي في ذلك عموم الأدلة الواردة، ويراعي التوسط والاعتدال في ذلك، فأحياناً تجد الفقيه ربما قال: بأن هذا الفعل واجب، ولكن لم يقل بوجوب الدم على من تركه، خاصة أنها لا توجد أدلة صريحة على مفردات هذه المسائل، مثل: إيجاب الدماء على الحجاج في أشياء كثيرة جداً، فأنت تقول بالوجوب في كل هذه الأشياء، ثم تقول بالدماء في كل هذه الأشياء، بعضهم مثلاً يقول: من ترك المبيت بـمنى هذا واجب، وعليه دم، وبعضهم يوجب عليه دم في كل ليلة ترك فيها المبيت، بينما لا تجد أحداً من الفقهاء والمذاهب يقول بوجوب كل هذه الأشياء من التأخر إلى الغروب بـعرفة، والرمي في الأيام الثلاثة كلها، والمبيت بـمنى كله، وأن من ترك شيئاً من ذلك فعليه دم، بل الإمام أحمد مثلاً يوجب المبيت، ولكنه لا يوجب الدم بتركه، وأحياناً يقول بعضهم: يتصدق بشيء، فأحياناً بعض المفتين يجتهدون بدون شك، ولكن يراعى في ذلك التوسط والاعتدال، لا تأخذ بالأقوال الميسرة لمجرد أنها ميسرة، وأيضاً لا تأخذ بالأقوال الشديدة لمجرد أنها شديدة، وإنما يحرص الإنسان على متابعة الدليل, كما أشرنا إليه أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ).
فإن تأثير العادة والمألوف على الإنسان كبير، وأنا رأيت كثيراً من طلبة العلم قد يحاكمون أقوال الأئمة الكبار، كأقوال الإمام طاوس وعطاء، بل حتى الصحابة، إلى بعض ما تلقوه في الجلسات العلمية، فيقول مثلاً: نقل عن ابن عباس كذا، والصحيح كذا, دون أن يواجه قول ابن عباس بأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابة آخرين، وهذه من الأشياء التي هي تعليم.
ينبغي على طالب العلم أن يراعي في اختيار القول الراجح احترام المخالف له في ذلك، وأيضاً أن يراقب نفسه، لا ينتقد الآخرين فقط أنهم متشددون أو أنهم متساهلون، وإنما عليه أن يراقب نفسه, بمعنى أنه ليس هو معياراً للناس, يحاكم الناس إليه, أو يكون هو الميزان في حجم الشدة أو حجم التراخي، فكل طلبة العلم إن شاء الله مجتهدون:
وكلهم من رسول الله ملتمس رشفاً من البحر أو غرفاً من الديم
والحديث رواه النسائي وغيره من طريق الحسن العرني عن ابن عباس رضي الله عنه، وهو منقطع، الحسن العرني لم يأخذ عن ابن عباس، ولذلك الإمام أحمد قال عن هذا الحديث: إنه منقطع؛ لأن الحسن لم يأخذ عن ابن عباس، وكذلك ابن معين وأبو حاتم أعلوا هذا الإسناد بالانقطاع.
وللحديث طرق أخرى، لكن كلها لا تخلو من مقال، فالحديث وإن صححه بعض أهل العلم كالشيخ الألباني رحمه الله وغيره إلا أن الراجح أن الحديث ضعيف معل، وسوف نأتي على ما يتضمنه.
وفي بعض ألفاظ الحديث أن ابن عباس رضي الله عنه قال: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثنا في الثقل جعل يلطخ أفخذنا - يعني: يضرب أفخاذنا- ويقول: أي بني! لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس ).
فالقول: بأنه واعد أم سلمة أن تلقاه صلاة الفجر بالحرم هذا يدل على نكارة الحديث، وأن متنه لا يصح.
القول الأول: أنها ترمى بعد نصف الليل، بعدما يؤذن للناس بالدفع من مزدلفة، بعد منتصف الليل، وهذا قول للشافعي، وهو أيضاً الصحيح من مذهب الإمام أحمد .
ويستدل لهم بأدلة, منها حديث الباب لو صح.
ومنها: ما رواه البخاري في صحيحه في قصة عبد الله مولى أسماء رضي الله عنها: [ أنها دفعت بليل، وكانت تصلي وتسأله قبل ذلك: هل غاب القمر؟ فيقول لها: لا، حتى أخبرها فدفعت ورمت, ثم ذهبت بعد ذلك وصلت الفجر ].
فدل ذلك على أنها رمت الجمرة بليل؛ لأنها صلت الصبح في منزلها. فهذا مما يستدل به على رمي جمرة العقبة ليلاً، حتى قبل أن يطلع الفجر.
والدليل الثاني: هو الإذن بالدفع، إذن النبي صلى الله عليه وسلم للضعفة بالدفع كما أذن لـسودة , وكما أذن لـابن عباس وغيرهم من الضعفة، وكذلك أسماء هنا أذن لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فالإذن دليل على أنهم مترخصون في الطواف إذا وصلوا، ورمي الجمرة إذا وصلوا، وإنما الإذن لتجنب الازدحام، وإلا لو أنهم دفعوا ثم جلسوا ينتظرون طلوع الفجر أو طلوع الشمس لوقع من جراء ذلك ازدحام آخر شديد يشق على هؤلاء الضعفة.
القول الثاني: أنها لا ترمى جمرة العقبة إلا بعد الفجر، حتى الضعفة عليهم أن ينتظروا, وهذا قول أبي حنيفة ومالك .
واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ( لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس ).
والقول الأول أرجح، أنه متى وصل الجمرة رمى، لما ذكرناه من الأدلة.
وأما حديث ابن عباس فقد ذكرنا ما فيه من العلة، وهو أنه منقطع في بعض الأسانيد, ومرسل في غيرها، وحتى على فرض صحته فإنه يمكن الجمع بينه وبين حديث أسماء وغيره من الأحاديث بما قاله بعض أهل العلم: أن السنة أن يؤخروا إلى الفجر، ولو رموا قبل الفجر أجزأهم.
وهذا قول فيه اعتدال وتوسط, أن نقول: من كان لا يشق عليه أن ينتظر إلى ما بعد الفجر أخر الرمي إلى بعد طلوع الفجر، ومن شق عليه رمى من الليل وذهب.
هذا حديث مشهور جداً يكثر الاستدلال به في المناسك.
فنقول: إذاً يتوفر عندنا فيمن صحح هذا الحديث لكثرة دورانه على ألسنة المفتين وطلبة العلم: صححه ابن خزيمة وابن حبان والترمذي , كما ذكرنا هؤلاء في تخريجهم له، والحاكم أيضاً قال: صحيح الإسناد، وكذلك الدارقطني صحح الحديث، والنووي وغيرهم. وسند الحديث صحيح.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ( فقد تم حجه ), ما معنى تم حجه؟
هل المقصود تم حجه يعني انتهى حجه؟ ماذا بقي من الأركان؟ بقي طواف الإفاضة.
المقصود: (تم حجه) يعني: فيما مضى، ما مضى من حجه؛ لأنه وقف بـعرفة، أحرم ووقف بعرفة ووقف بمزدلفة، تم له ما مضى من الحج، وما يأتي عليه له حكم. فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ( تم حجه).
( وقضى تفثه ). التفث هنا مذكور في القرآن الكريم, ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج:29]. والأقرب والأكثر على أن المقصود بالتفث هي الأوساخ، مثل: قص الأظفار وإزالة الشعر والتنظف؛ لأن المحرم يكون ممنوعاً من إزالة الشعر ومن قص الأظفار، فإذا حج وتحلل بعد ذلك قام بهذه الأشياء.
منها الوقوف بعرفة، وأنه ركن.
ومنها: أن الوقوف بـعرفة يكون أية ساعة شاء من ليل أو نهار, كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد يؤخذ من الحديث حجة للإمام أحمد رحمه الله في أنه يرى أن الوقوف بـعرفة يكون من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة الفجر يوم النحر، يعني: أربعة وعشرين ساعة، خلافاً للجمهور، فإن الجمهور يرون أن الوقوف بعرفة يبدأ بعد الزوال، هذا مذهب الثلاثة وغيرهم، واستدلوا له بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة، لكن الإمام أحمد له رأي في هذه المسألة، وهو أن الوقوف بـعرفة يبدأ من صلاة الفجر، يعني: من طلوع الفجر، فلو أنه صلى الفجر بـعرفة على مذهب الإمام أحمد يكون حجه صحيحاً، وعلى مذهب الجمهور لا يصح حجه. فالإمام أحمد رحمه الله احتج بهذا الحديث, أنه وقف بـعرفة يوم عرفة ولو للحظة من ليل أو نهار، ولأن الحديث صحيح، فإن قول الإمام أحمد له وجاهة في الواقع، ولكن لا ينبغي الأخذ به بالفعل، بمعنى: أنه لا يصلح للحاج أبداً أن يذهب إلى عرفة قبل الناس ثم يدفع منها قبل الزوال؛ لما في ذلك من المخاطرة وتعريض حجه للفساد، إنما نأخذ بهذا القول أو بهذه الفتوى للإمام أحمد في حق من حدث هذا منه ثم سأل عنه بعد فوات الأوان، يعني: إنسان ذهب إلى عرفة ووقف بها قبل الزوال، ثم ذهب منها، ولم يسأل إلا بعد فوات الوقت ومضي يوم عرفة وليلة مزدلفة، فهذا الأرجح أن لا نقول: إن حجك فاسد, ونمضي عليه أحكام الحج الفاسد والفوات، وإنما نأخذ له بهذه الرخصة؛ لوجود الدليل الصحيح لها. ولعل هذا من الفقه في التفريق بين من فعل الشيء وبين من لم يفعل.
كذلك من فوائد الحديث:
جواز الدفع قبل غروب الشمس، وهذا القول قوي, وحجته ظاهرة، فمن دفع من عرفة قبل غروب الشمس فحجه صحيح ولا شيء عليه، وقال الأكثر من الفقهاء: إن حجه صحيح وعليه الفدية، وقال الإمام مالك : إن حجه فاسد, وخالف في ذلك الفقهاء، ولذلك خالفه كثير من فقهاء المذهب كـابن عبد البر وغيرهم.
وفيه: أن الوقوف بـعرفة ليلاً مجزئ، وهذا على قول الكافة والأكثر من الفقهاء، وإذا كان الوقوف بالليل مجزئاً، فالأقرب أن يكون الوقوف بالنهار مجزئاً؛ لأنه لا دليل على التفريق بين الليل وبين النهار، إلا أن يقال بالقياس على الصلاة، فإن الإنسان صلاة الظهر مثلاً يمكن أن يؤخرها إلى صلاة العصر, فيجمعها معها، لكن لا يمكن أن يقدمها قبل وقتها، وهذا فيه نظر. والله أعلم.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر