والثانية: (لا يُنكِح) بضم الياء وكسر الكاف، يعني: لا يزوج، فلا يجوز أن يكون المحرم زوجاً, يعني: ذكراً أو أنثى؛ لأن الزوج يطلق على الذكر والأنثى، لا يجوز للرجل أن يتزوج وهو محرم, ولا للمرأة أن تتزوج وهي محرمة، ولا يجوز له أن ينكح، يعني: أن يزوج غيره, كالولي الذي ينكح موليته أو بنته.
وقوله: ( يخطب ) المقصود هنا خطبة النكاح، وهي تقال بكسر الخاء: خِطبة, كما في قوله سبحانه: وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:235]. أما التي بضم الخاء الخُطبة فهذه على المنبر، وأيضاً هناك خُطبة النكاح التي هي الخُطبة التي تقال عند العقد (إن الحمد لله، نحمده ونستعينه).
إذاً: هناك خِطبة وهناك خُطبة، وبينهما هذا الفرق.
القول الأول: أن ذلك لا يجوز، وأنه من محظورات الإحرام، أن يتزوج الإنسان أو يزوج غيره، وهذا قول الجمهور, فهو قول مالك والشافعي وأحمد من الأئمة الأربعة، وهو قول جمع من الصحابة كـعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وغيرهم.
واستدلوا بحديث الباب, قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب ). وقالوا: إن هذا نهي، والنهي يدل على التحريم، وبناء عليه فهو محظور، ولأن النكاح في القرآن الكريم غالباً يطلق على العقد، أغلب ما يطلق النكاح في القرآن الكريم على العقد, وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ [البقرة:235]. وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ [الممتحنة:10], يعني: تتزوجوهن.
وجاء في موضع واحد في القرآن الكريم النكاح بمعنى الجماع، وهو قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230]. فهنا ليس المقصود أن يعقد عليها، وإنما المقصود الجماع, بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتريدين أن ترجعي إلى
فبالنسبة لكون الجماع من محظورات الإحرام فهذا متفق عليه، ومعروف، وبإجماع العلماء وبإجماع الأئمة إجماعاً قطعياً لا خلاف فيه، بل فيه فدية مغلظة ويفسد به الحج إذا وقع قبل عرفة بالإجماع، وإذا كان بعد عرفة فعند الأحناف خلاف في المسألة, والجمهور يرون أنه يفسد أيضاً.
هذا ما يتعلق بالجماع، فالجماع من محظورات الإحرام بلا إشكال، وإنما الخلاف في العقد، وهو الذي يدور حوله الحديث، فالجمهور وهم كما ذكرت مالك والشافعي وأحمد يرون أن العقد أيضاً من محظورات الإحرام بدليل هذا الحديث، حديث عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وقالوا: إن المقصود بالنكاح هو العقد، ولهم في ذلك أيضاً أحاديث وآثار تشهد لحديث عثمان .
القول الثاني: أن ذلك جائز, وهذا قول أبي حنيفة وسائر أصحابه، ونقل هذا القول أيضاً عن بعض الصحابة، فهو مذهب ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وأنس، وكذلك يدل عليه صنيع البخاري رحمه الله، مع أن البخاري كثيراً ما يخالف الأحناف, إلا أنه في مسائل يوافقهم بمقتضى ما يظهر له من الترجيح أو الدليل.
ودليل هؤلاء على جواز العقد للمحرم: حديث ابن عباس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج
فقالوا: إن هذا الحديث من ابن عباس في الإخبار عن زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة وهو محرم دليل على جواز العقد حال الإحرام، وفي رواية أخرى: ( تزوجها وهو محرم, وبنى بها وهو حلال ). وهذا في البخاري، ومعنى (بنى بها): دخل بها، دخل عليها، خلا بها, هذا معنى البناء (وهو حلال).
فهذا الدليل على جواز نكاح المحرم، ولكن هذا الدليل مع أنه صحيح من حيث الثبوت فهو في البخاري ومسلم إلا أن في متنه إشكالاً, وقد عورض هذا النقل عن زواج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم بأنه تزوجها وهو حلال أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال. وهذه رواية يزيد بن الأصم عن ميمونة، ويزيد بن الأصم هو ابن أختها، أنه قال: ( تزوج النبي صلى الله عليه وسلم
ولهذا نقول: إن الراجح هو مذهب الجمهور في أن المحرم لا يتزوج ولا يزوج.
أولاً: تحريم عقد النكاح للمحرم، وتحريم عقده لغيره، أن يكون ولياً لغيره.
ومن فوائد الحديث: منع الخطبة، والأقرب أن نقول: إن الخطبة محرمة مثل النكاح؛ لأنها سبيل إليه، وصرح بعض الفقهاء بالكراهية؛ لأن الخطبة لا يقال: إنها تفسد، النكاح يقال: فاسد، وينبغي أن يعاد عقده، أما بالنسبة للخطبة فلا يجري فيها صحة أو فساد، وإنما هي أيضاً ذريعة إلى عقد النكاح، فهي محرمة من هذا الوجه.
وفيه: أن العقد لا يصح؛ لأنه وقع عليه النهي، والشارع لما ينهى عن شيء يريد ألا يحدث وألا يقع.
أما حكم المراجعة. واحد عنده زوجة، طلقها طلقة واحدة رجعية، هل يحق له أن يراجعها أثناء الإحرام أو لا يحق؟ يحق له، يجوز له أن يراجعها.
ما هو الفرق بين جواز الرجعة وبين منع العقد؟
الاستمرار، إذاً: نقول: يجوز له أن يراجع زوجته وهو محرم أو وهي محرمة، وقالوا: إن هذا يدخل تحت قاعدة فقهية وهي: أن الاستدامة أسهل من الابتداء، فبالنسبة للرجعة هي استمرار واستدامة لعقد ماض، ولذلك الزوج لا يزال زوجاً لها حتى في حال الطلاق قبل الرجعة ما دامت في العدة، وكذلك هي زوجة؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى قال: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [البقرة:228] فسماه بعلاً.
فلذلك نقول: إن الاستدامة التي هي الرجعة أمرها سهل، ولذلك تجوز حال العدة، أما الابتداء الذي هو عقد جديد، فهو أمر صعب، ولذلك نقول بالفرق بينهما.
ومن فوائد الحديث: تحريم الجماع ودواعيه للمحرم، وهذا إجماع من حيث الأصل، وقد ذكرت قبل قليل أن الجماع محرم, وهو من محظورات الإحرام, وهو مفسد للحج عند كافة أهل العلم إن وقع قبل عرفة، وعليه أن يمضي في فاسد هذا الحج, وعليه حجة من قابل هو وزوجه, وعليه بدنة أيضاً، وهذه هي أشد وأغلظ الكفارات والعقوبات في حال الحج، فإن كان بعد الوقوف بـعرفة فكذلك الحال عند جمهور العلماء, وخالف في ذلك الأحناف, فرأوا أن الحج صحيح، وإن كان بعد التحلل الأول فالحج صحيح عند الجماهير، وعليه فدية.
والحجة في ذلك: أنه لم يرد فيه حديث مرفوع, وهذا شيء عجيب، لم يرد فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء بخصوص هذه المسألة، ولكنه ثبت عن جمع من الصحابة كـعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس وغيرهم، وحكاه بعضهم إجماعاً، وخالف في ذلك الظاهرية وقوم، ولكن هذا مذهب الجماهير من أهل العلم.
وفيه أيضاً: أن النهي عن العقد للمحرم هو قبل التحلل الأول، وبناء عليه نقول: بعد التحلل الأول، إذا رمى جمرة العقبة, أو رماها وحلق ثم تحلل التحلل الأول وحل له كل شيء إلا النساء، هل يجوز له في هذه الحالة أن يعقد، أن ينكح أو يُنكح؟ نقول: نعم يجوز؛ لأنه حلال آنذاك، ولا يسمى محرماً, وإنما هو حلال، وقد صرح بهذا الفقهاء, واختاره ابن تيمية وغيره من فقهاء المذهب.
أولاً: الحديث رواه البخاري في الجهاد والسير, ورواه أيضاً في الذبائح, ورواه في كتاب الحج لمناسباته المتعددة، وكذلك رواه مسلم في الحج, باب: تحريم الصيد على المحرم، ورواه أبو عوانة في مستخرجه وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وابن خزيمة ومالك , ورواه أحمد، وله قصة لعله يأتي الإشارة إلى طرف منها.
الحديث الذي بعده -وهو مثله أيضاً في الباب- (735): حديث الصعب بن جثامة الليثي : ( أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حماراً وحشياً وهو بـالأبواء أو بـودان، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ).
حديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه، أخرجه البخاري في كتاب الحج, تحريم الصيد على المحرم، وأخرجه أيضاً في كتاب الهبة، وأخرجه مسلم في الحج, باب: تحريم الصيد على المحرم، ورواه أهل السنن النسائي والترمذي وابن ماجه, ورواه ابن حبان في صحيحه ومالك في موطئه والدارمي وغيرهم. ورووه غالبهم أو كلهم في كتاب المناسك، وكذلك أخرجه أحمد في مسنده.
( وهو بـالأبواء أو بـودان ) الأبواء جبل من أعمال الفرع، وودان هو أيضاً موضع قرب الجحفة على مسافة مائتين وأربعين كيلو تقريباً عن مكة المكرمة، وهي مواضع معروفة.
وهكذا الصعب بن جثامة فإنه صاد هذا الحمار من أجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، صاده لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محرم، أما الصعب فكان حلالاً لم يكن محرماً.
ولذلك نقول في الحديث: مسألة: حكم قتل الصيد للمحرم.
والصيد للمحرم ثلاثة أقسام أو ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ما هو حرام بالإجماع، وذلك مثل الغزال والظبي, فإن هذه الأشياء من الأمور الوحشية، فتسمى صيداً، وكذلك هي حلال بمعنى أنها تؤكل مما يؤكل، فيحرم على المحرم صيدها، والأدلة على ذلك كثيرة، وسوف تأتي، هذا النوع الأول.
النوع الثاني: ما ليس بصيد, ويجوز للمحرم وغير المحرم قتله، وذلك مثل الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور, وسوف يأتي عنها حديث، فهذه يقتلها المحرم وغير المحرم.
القسم الثالث: مختلف فيه، وذلك كالأسد والنمر والفهد والذئب, ونحوها، فمنهم من ألحقها بالفواسق العادية التي تقتل، ومنهم من لم يلحقها، فوقع الاختلاف فيها.
أما ما هو صيد وهو القسم الأول: صيد المحرم، مثل الغزال وحمار الوحش، وأيضاً سائر الصيد، الطيور وغيرها فهي محرمة، والمقصود صيد البر، وأما صيد البحر فوقع النص على حله, كما في قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96]. ووقع الإجماع على هذا المعنى كما نقله ابن المنذر وابن حزم وابن قدامة وابن رشد , واستدلوا بالآية الكريمة، وهي قوله سبحانه: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96].
هذا ما وقع فيه الاختلاف لهم على ثلاثة أقوال أيضاً:
القول الأول: أن ذلك لا يجوز مطلقاً، لا يجوز للمحرم أن يأكل ما صاده الحلال، وهذا مذهب ابن عباس وعلي وابن عمر وعائشة وإسحاق والليث والثوري .
واستدلوا بقول الله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96]. فقالوا: الآية مطلقة، تدل على أن صيد البر حرام عليهم إذا كانوا محرمين، وكأنهم قالوا: إن صيد البر هنا معناه أن يصيدوه أو يأكلوه أيضاً. وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ [المائدة:96], يعني: حرم عليكم صيده وحرم عليكم أكله، هذا مذهب هؤلاء.
كذلك استدلوا بحديث الباب, وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رد على الصعب بن جثامة حمار الوحش, وقال: ( إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ). فدل على أنه يحرم على المحرم أن يأكل من الصيد الذي صاده الحلال. هذا هو القول الأول.
القول الثاني: أن ذلك يجوز مطلقاً، يعني: يجوز للمحرم أن يأكل من صيد البر الذي صاده غيره.
طبعاً اتفقنا أنه لا يجوز أن يصيده، لكن يجوز له أن يأكل منه مطلقاً، وهذا مذهب الحنفية.
واستدلوا لذلك بحديث طلحة أنه كان محرماً في أصحابه، وكان نائماً، فأهدي لهم صيد، فمنهم من أكل ومنهم من لم يأكل، فلما استيقظ طلحة رضي الله عنه سألوه, فصوب الذين أكلوا. والحديث رواه مسلم، فقال الحنفية: إن هذا دليل على أن المحرم يأكل من الصيد إذا صاده الحلال.
وكذلك حديث زيد بن كعب أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن حماراً وحشياً عقيراً بـالروحاء يعني: أخبر النبي عليه الصلاة والسلام, أنه عقر، أي: صاد حماراً وحشياً بـالروحاء, فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام
قالت الحنفية: هذا دليل على أنه يجوز للمحرم أن يأكل من الصيد الذي صاده الحلال.
القول الثالث في المسألة: هو التفريق، فقالوا: يفرق بين من ساهم أو شارك المحرم في صيده بإشارة، أو بمساعدة وإعانة، أو بأنه شد له الرحل، أو ناوله القوس, أو أشار عليه حتى بالكلام، فهذا يحرم أن يأكل منه.
وأيضاً الشيء الثاني: المحرم إذا صيد من أجله, لو عرفت أن هذا الرجل إنما صاد هذا الصيد من أجلك وأنت محرم، فحينئذٍ يحرم عليك أن تأكل منه.
إذاً: القول الثالث: يفصلون, فيقولون: يجوز ولا يجوز، أما إنه لا يجوز إذا صيد من أجله أو كان شارك فيه أو أعان عليه بقول أو فعل فلا يجوز أن يأكل منه، وما سوى ذلك جاز؛ وذلك جمعاً بين الأدلة.
ومن الواضح أن هذا القول أرجح؛ لأنه يجمع بين حديث الصعب بن جثامة وحديث أبي قتادة وحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وحديث زيد بن كعب، فيجمع بين هذه الأحاديث التي في بعض منها أن النبي صلى الله عليه وسلم رده، وحتى رد النبي عليه السلام له لو كان لا يجوز ما رده عليه، وقال: إنه لا يجوز ولا يؤكل، فكونه رده النبي عليه السلام؛ لأنه علم أنه صيد من أجله، فيكون حراماً عليه ويكون حلالاً لغيره.
فهذا القول الثالث هو الذي تجتمع عليه الأدلة، وقد جاء في معناه حديث مرفوع عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم ). والحديث رواه أهل السنن وابن حبان والحاكم , وصححه الشافعي، والواقع أنه حديث مرسل، وهذا القول هو القول الراجح, وهو قول الأكثرين المالكية والشافعية والحنابلة.
هناك مسألة أخرى أيضاً في الحديث, وهي: الجزاء على قتل الصيد.
إذاً: المسألة الثانية: أن قتل الصيد للمحرم حرام، وأما أكله ففيه ثلاثة أقوال, أرجحها أنه جائز له ما لم يكن صيد من أجله أو يكون شارك في صيده بقول أو فعل أو إعانة.
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة:95]. هذا النهي عن قتل الصيد، قال سبحانه: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95]. فذكر الله سبحانه وتعالى أن من قتل الصيد: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95] فذكر الدم، والإطعام، والصيام, ثلاث كفارات، وكل شيء على حسب ما قال ابن عباس وغيره أكثر أهل العلم: أن كل شيء في القرآن الكريم فيه (أو) فهو على التخيير، إلا إذا ورد في السنة ما يدل على تقييد ذلك، فهذا دليل على وجود الكفارة في قتل الصيد أو الجزاء على قتل الصيد، وقد حكم فيه الصحابة رضي الله عنهم عمر وغيره.
المقصود هنا الآن: الجزاء على قتل الصيد، الله سبحانه وتعالى قال: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا [المائدة:95].
الجزاء على قتل الصيد إذا كان غير متعمد مثل الناسي الذي نسي أنه محرم، أو المخطئ أيضاً الذي لم يقصد ذلك، أو الجاهل الذي لم يعلم بالتحريم، فما حكمه؟
هذه المسألة فيها قولان:
القول الأول: أنه يجب عليه الجزاء، ولو كان ناسياً أو مخطئاً، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك والشافعي , وهو أيضاً رواية عن الإمام أحمد، فهو مذهب الجمهور، وكأنهم قالوا: إن قوله تعالى: مُتَعَمِّدًا [المائدة:95] أن هذا وصف طردي لا مفهوم له ولا يؤثر في الحكم.
القول الثاني: أنه لا جزاء عليهما، يعني: لا جزاء على الناسي, ولا جزاء على المخطئ, يرتفع عنه الجزاء، وهذه رواية عن الإمام أحمد , وهو مذهب الإمام محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير, وهو إمام له مذهب خاص معروف, ولكن مذهبه يكاد أن يكون انقرض, وله كتاب تهذيب الآثار , ذكر فيه رواياته واختياراته الفقهية، وأيضاً هو مذهب سعيد بن جبير وأبي ثور وداود الظاهري وغيرهم، وروي هذا القول بأنه ليس على الناسي ولا على المخطئ كفارة عن ابن عباس وابن عمر وطاوس وغيرهم.
واستدلوا بقوله تعالى: مُتَعَمِّدًا [المائدة:95]. وكأن هذا القول أقوى؛ لأنه أخذ بظاهر النص القرآني، وإعمال لهذا اللفظ الكريم في الآية في قوله تعالى: مُتَعَمِّدًا [المائدة:95] بالتفريق بين المتعمد وبين غيره.
أما الأولون وهم جمهور الأئمة الأربعة الذين هم الشافعي ومالك وأبو حنيفة ورواية عن أحمد، فهم هنا قالوا: إن المتعمد وغيره سواء في الكفارة، ولكن يختلف المتعمد عن غيره في الإثم، فإنه ليس على الناسي والمخطئ إثم, كما قال الله سبحانه: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]. فقالوا: ترفع عنه المؤاخذة ولكن عليه الكفارة.
وفيها: بيان ما يحل للمحرم وما لا يحل.
وفيها: تحريم الصيد على المحرم.
وفيها: تحريم الإعانة والدلالة على الصيد من المحرم.
وفي الحديث قبول الهداية.
وفيه أيضاً: رد الهدية إذا وجد ما يدعو إلى ردها؛ فإن النبي عليه السلام ردها على الصعب بن جثامة، وفي بعض الأحاديث أنه لما رأى ما في وجهه قال له: ( إنا لم نردها عليك إلا أنا حرم ).
وفي هذا أيضاً فائدة وهي: رعاية خواطر الناس وضمائرهم، واليقظة تجاه ما يخدش أحاسيسهم، فهكذا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ مشاعره في وجهه، لما رأى ما في وجهه قال له, يعني: أعطاه التعليل، فهكذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق, أنه يعرف من سيماء الناس ووجوههم إن كانوا راضين أو محزونين من موقف معين, فيعالج الأمر حتى بدون كلام, لا يحوجهم إلى أن يقولوا: ما هي الدعوى؟ ولماذا؟ لا، إنما النبي عليه الصلاة والسلام بمجرد ما لحظ في وجه الرجل الحزن علل بقوله: ( إنا لم نرده إليك إلا أنا حرم ), يعني: ليس الأمر راجعاً إليك، إنما هو لا يجوز لما يتعلق بنا.
وكذلك فيه بيان ما صاده الحلال للمحرم.
وفيه: أن ذلك لا يحرم على المحل، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم رده إلى الصعب ؛ حتى يستفيد منه أو يأكله أو يطعمه.
منها: ما يحرم إجماعاً، وهو قتل الصيد الحلال, مثل: الظباء، وحمار الوحش وغيرها.
ومنها: ما يجوز إجماعاً, مثل: قتل الحية والعقرب والحدأة والكلب العقور والفأرة.
ومنها: ما هو محل شك وتردد واختلاف, مثل: الكلب والفهد والنمر والأسد ونحوها.
فالآن هذا الحديث في بيان واحد من هذه الأقسام, وهو حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحل والحرم ). ثم ذكر صلى الله عليه وسلم ( الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور ). والحديث متفق عليه.
قوله صلى الله عليه وسلم: (خمس) هذه نكرة، والذي سوغ الابتداء بها هو التخصيص بوصفها بالجار والمجرور, ( خمس من الدواب ) فأصبحت معروفة, أو كأنها مضافة: خمس دواب, ( يقتلن في الحل والحرم ). وهل قوله صلى الله عليه وسلم: (خمس) يعني: الحصر، يعني: ما هناك إلا خمس أو أن هناك أكثر منها؟
هناك أكثر منها، الحية مثلاً لم تذكر في هذا الحديث, وهي أولى من العقرب، ولذلك نقول: إن الخمس هنا ليس على سبيل الحصر, وإنما هناك غيرها.
وقوله: ( من الدواب ) هذا جمع دابة, وكأنه من قوله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام:38], يعني: كل ما يدب على الأرض يسمى دابة بهذا المعنى.
وقوله: ( فواسق ) جمع، والمفرد فاسقة أو فاسق والفسق هو الخروج والتعدي، وهذه الأشياء هي فواسق فعلاً، فإن الغراب فاسق ويؤذي, وقد يخطف عين الحيوان، وكذلك الحدأة فهي مؤذية, وهي تأخذ اللحم من بين أيدي الناس, كما في القصة التي في صحيح البخاري , والعقرب معروف أذاها، والفأرة أيضاً, فإنها قد تحرق وتؤذي وتفسد، والكلب العقور أيضاً, فإنه قد يعض وقد يقتل، والمقصود العقور فقط وليس أي كلب، الكلب الذي يعتدي.
هذه الأشياء إذاً فواسق.
ولكن الجماهير على ذلك, واستدلوا بحديث الباب، ومثله حديث ابن عمر رضي الله عنه في مسلم بنحو لفظ حديث الباب، وحديث حفصة بنت عمر في المتفق عليه بنحو حديث الباب، وهذه الأشياء معروفة.
لكن فيما يتعلق بالكلب العقور، فإن معنى العقور كما ذكرت هو المعتدي أو الجارح أو المفترس، وقد اختلف فيه، فقال بعضهم: إنه لا يقصد به الكلب المعروف, وإنما الكلب العقور هو الأسد, ولذلك جاء في الحديث: ( اللهم سلط عليه كلباً من كلابك ). وإن كان في إسناد الحديث ضعف.
وقيل: إن المقصود: الكلب خاصة حينما يكون عقوراً، وقيل: إن كل ما عقر الناس فهو داخل في ذلك، فيدخل فيه مثلاً الذئب؛ لأنه يعتدي ويقتل، ويدخل فيه الأسد والنمر والفهد، وهذا هو قول الجمهور, وهو الأصح, أن المقصود بالكلب العقور ليس خصوص الكلب المعروف، بل يدخل فيه كل حيوان يعتدي فيعض أو يقتل أو يفترس, فإنه يقتل في الحل والحرم.
وفيه أيضاً من مسائل الحديث: قتل هذه الأشياء المذكورة؛ لأنه يحرم أكلها، يعني العلة هنا أنها مؤذية أولاً، وثانياً: لأنها مما لا يحل أكله.
ولذلك نقول: إن الحيوانات أربعة أقسام وهذا طبعاً في الحل وغير الحل:
القسم الأول: ما طبعه الأذى فيقتل، وذلك مثل ما ذكرنا، هذه الأشياء الخمسة وما كان مثلها، مثل الحيات أيضاً والوحوش المفترسة، فهذه طبعها الأذى فتقتل, إلا إذا أمن الناس أذاها، مثل إذا وضعت في شباك أو وضعت في أماكن معزولة، أو أزيل ما به تعدو؛ لأنه أحياناً قد يتم إزالة السم مثلاً من الحيوان، أو إزالة القدرة على الافتراس, وقد ينتفع بها في حالات معينة.
فإذاً: هذه الأشياء القسم الأول منها ما طبعه الأذى فيقتل ما دام مؤذياً.
القسم الثاني: ما لا يؤكل ولا يؤذي، فهذا يكره قتله، مثل ماذا الذي لا يؤكل ولا يؤذي؟ مثل القط، ومثل النمل والنحل وغيره مما ليس فيه أذى في الغالب، ولذلك نقول: لو آذى يمكن أن يدفع, مثلاً إذا وجد النمل في البيوت وأصبح يحفر ويفسد البيوت ويستخرج الرمل هنا يمكن أن يزال بالمبيدات أو غيرها إذا لم يندفع أذاه إلا بهذا، لكن الأصل فيه إذا كان لا يؤذي وهو لا يؤكل أيضاً فإنه لا يقتل، بل يكره, بل قد يحرم إذا كان قتله لمجرد القتل والتلذذ بذلك.
القسم الثالث: هو الحيوان المستأنس، مثل ماذا الحيوان المستأنس؟ مثل بهيمة الأنعام, الغنم .. البقر .. الإبل.. فهذه تذبح بكل حال في الحل والحرم ويستفاد منها؛ لأنها تؤكل، وهي خلقت لهذه الحكمة وهذا المقصد.
القسم الرابع: هو الحيوان البري المأكول، وهذا ما نسميه الآن بالصيد. وقد بينا حكمه.
والمسألة فيها قولان مشهوران:
القول الأول: الجواز مطلقاً، أنه يجوز للمحرم أن يحتجم ما لم يقطع شعراً، احتاج إلى أن يقطع أو يحلق شعراً، فالكلام في ذات الحجامة وليس في قطع الشعر أو حلقه. فيقولون: يجوز الحجامة للمحرم ما لم يقطع شعراً, وهذا مذهب الأئمة الثلاثة: أحمد وأبي حنيفة والشافعي، فهو مذهب الجمهور بالجواز.
واستدلوا بحديث الباب: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم وهو محرم ). كما في حديث ابن عباس .
ومن شواهده أيضاً وهي كثيرة عن النبي عليه الصلاة والسلام، منها: حديث ابن بحينة في حجامة النبي عليه الصلاة والسلام, وهو متفق عليه.
والقول الثاني: أنه لا يحتجم, يعني: لا يجوز الحجامة إلا لضرورة، وهذا قول الإمام مالك . وقالوا: بأن الأحاديث الواردة في الحجامة فيها بيان أنه كان محتاجاً إلى ذلك، فبعض الأحاديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم من وثء كان به ). وفي بعض الأحاديث: ( أنه احتجم من وجع ). فقالوا: إن حجامة النبي صلى الله عليه وسلم كانت لحاجة أو لضرورة، ولهذا قال الإمام مالك : لا يحتجم إلا من ضرورة.
والأصح أن إسالة الدم من المحرم سواء بالحجامة أو بشفط الدم أو سحبه أو بالتبرع بالدم أيضاً أن ذلك لا يؤثر في الإحرام, وليس من محظورات الإحرام، ولا دليل على ذلك حتى نقول: إن الأمر كان لضرورة، لم يكن هناك ضرورة، وكان يمكن تأجيل هذا الأمر إلى ما بعد الإحرام، ولذلك نقول: الأصح هو قول الجمهور في جواز الحجامة للمحرم.
من فوائد الحديث: جواز الحجامة للمحرم.
وفيه أيضاً: جواز الحجامة للصائم؛ لأن في بعض ألفاظه: ( واحتجم وهو صائم ). والمسألة فيها خلاف بسطناه في غير هذا الموضع في دروس العام الماضي دروس البلوغ، وبينا خلاف العلماء والفقهاء فيه، وأن القول الأرجح هو جواز الحجامة للصائم والرخصة فيها.
أيضاً من فوائد الحديث: العلاج، والتداوي، وأن ذلك لا بأس به، بل قد يكون مستحباً بل قد يجب، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا احتجم للعلاج.
وفيها أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالفدية على ما هو معروف.
فالحديث فيه مسألة الفدية لحلق الرأس, وهي قوله سبحانه: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]. وهذه (أو) فيها التخيير, كما هو معروف عند عامة أهل العلم.
إذاً: الفدية هنا على التخيير، وليس الأمر أنه هذا، فإن لم يجد انتقل إلى الذي بعده، الفدية في حلق الرأس ونحوه على التخيير، يختار فدية من صيام، أو يطعم ستة مساكين، يصوم ثلاثة أيام، أو يطعم ستة مساكين، يعني: كل يوم عنه نصف صاع، أو ينسك شاة, قال: ( هل تجد شاة؟ قال: لا ).
القول الأول: أن يكون مكانها هو مكان فعل المحظور حتى لو كان خارج الحرم؛ لأن هذا يمكن أن يكون في الحل, يعني: بعد المواقيت وقبل أن يدخل الحرم.
فالقول الأول: أن ذلك في مكان فعل المحظور أياً كان هذا المكان، وهذا قول مالك وأحمد وابن حزم وابن تيمية ورجحه الشيخ ابن عثيمين رحمهم الله جميعاً.
واستدلوا بحديث الباب, واستدلوا أيضاً بالنظر، فإنهم قالوا: هذا انتهاك للنسك, فيكون في ذات المكان الذي وقع فيه انتهاك النسك.
القول الثاني: قالوا: لا، بالنسبة للفدية تكون في الحرم؛ لقوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33]. وكذلك قوله سبحانه: هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة:95]. فقالوا: يكون محلها في الحرم. والقول الأول أرجح.
قوله: (لما فتح الله على رسوله مكة) المقصود هنا عام الفتح, عام فتح مكة, وهو المذكور في قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]. وعام فتح مكة سنة ثمان للهجرة، وبفتح مكة دانت جزيرة العرب كلها للإسلام، وكان الفتح في شهر رمضان، وقصته في السيرة معروفة.
وكأن في الحديث أيضاً قصة خزاعة وكانوا حلفاء للرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما هو معروف، وبينهم وبين قريش منافرات بسبب حلفهم مع النبي عليه الصلاة والسلام، فمن ذلك: أن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث بقتيل منهم، فكان هذا مما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يعلن ذلك ويقول: ( ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ). وقوله: ( فهو بخير النظرين ), يعني: إما يأخذ الدية أو القصاص من القاتل، وليس من حقه أن يعدو على غيره، وهذا من كمال العدل، أنه حتى حلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يسمح لهم بأن يتجاوزوا حدودهم مهما كان بلاؤهم معه فيما قبل.
وقوله: ( إن الله حبس عن مكة الفيل ) وهي قصة الفيل المعروفة والتي ذكرها الله تعالى في كتابه.
( وإنما أحلت لي ساعة من نهار ). المقصود هنا ليس الساعة الزمنية التي هي ستون دقيقة, أو أن اليوم أربعة وعشرون ساعة، اليوم والليلة، وإنما المقصود بالساعة القدر، والصحيح أن الساعة من نهار هنا من طلوع الصبح أو من طلوع الشمس إلى صلاة العصر، وهذا هو الوقت الذي استغرقه المسلمون في فتح مكة ودينونتها لهم، بضع ساعات ميقاتية من طلوع الشمس إلى العصر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا ينفر صيدها ) يعني: لا تنفر الصيد أو تزعجه؛ ليطير وتقعد مكانه.
( ولا يختلى خلاها ). يعني: لا يقطع شجرها، أو عظاهها أو شوكها، والتعبير بالشوك لأن غالب شجر مكة هو من الشوك.
( ولا تلتقط ساقطتها ). والساقطة هي: اللقطة الضائعة التي تضيع أو تضل من صاحبها، فلا يلتقطها إلا منشد، والمنشد اختلف في من هو اختلافاً كثيراً، وأصح الأقوال في هذا السياق أن المنشد هنا هو المعرف، هو الذي التقطها من أجل أن يعلن عنها, ويقول في المجامع وفي أحوال الناس: إن هذه وجدتها من هي له؟ فيأخذها لا ليتملكها كما هي لقطة البلاد الأخرى والمدن الأخرى، وإنما يأخذها ليعرفها ويوصلها إلى صاحبها، وهكذا تلاحظ مجموعة تشريعات كثيرة لو طبقت ونفذت وكان هناك وعي أن تجعل مكة بلداً عالمياً له ميزة وخصيصة يعرفها الخاص والعام، وكل من دخل يشعر بالهيبة ويشعر بالقداسة ويشعر بمعالم الحرمة أمامه، لكن هذا يحتاج إلى توعية وإلى جهد تتضافر فيه الجهات الرسمية والمؤسسات المدنية، ووعي الناس أيضاً بهذا الجانب؛ بحيث تكون مكة فعلاً محمية عالمية من كل الجوانب، حتى واحد يرى فلوساً قدامه ساقطة لا يأخذها إلا ليعرفها، بينما نحن نجد اليوم أن هناك ناساً يمكن يتقصدون أن يأتوا إلى مكة في المناسبات وخاصة في المواسم من أجل ماذا؟ من أجل أن يسرقوا جيوب الناس، وإذا دخل الواحد في الحرم حط يدك على جيبك, انتبه!
وأنا صار لي قصص وعجائب في الحرم، بس ما نضيع فيها الوقت, وإلا بعضها لا تخلو من طرافة.
فالمقصود هنا: التنبيه على هذا المعنى.
قول العباس رضي الله عنه: ( إلا الإذخر ) هذا استثناء من قوله: ( لا يختلى خلاها ). والإذخر هو نبت طيب الريح معروف بـمكة، وأهل مكة يستخدمون الإذخر كثيراً, ويضعونه في بيوتهم، كأنهم يخلطونه مع الطين ويضعونه في السقوف, وكذلك في قبورهم، يضعونه لطيب رائحته ولتوفره, وهم يحتاجون إليه حاجة شديدة، ولهذا سأل العباس النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأذن لهم في الإذخر, فأذن لهم فيه وقال: ( إلا الإذخر ).
في المسألة قولان:
القول الأول: أن اللقطة كغيرها، يعني: لقطة الحرم كغيرها، يأخذها الإنسان ويعرفها سنة، فإذا لم يأت صاحبها فهي له، وبناء عليه لا توجد خصيصة, وكأن هذا اللفظ ليس إلا على سبيل التأكيد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، هذا مذهب الحنفية والمالكية وهو أيضاً رواية عن الإمام أحمد، فقالوا: إن قوله: ( لا تحل إلا لمنشد ) هو على سبيل التأكيد, وليس على سبيل التخصيص أن لـمكة حكماً ليس لغيرها.
القول الثاني: أن اللقطة لا تلتقط في مكة إلا للتعريف بها، وهذا قول الشافعية, وهو أيضاً رواية عن الإمام أحمد , واختاره ابن حزم وابن تيمية والشيخ ابن باز وابن عثيمين رحمهما الله وهو الراجح؛ لحديث ابن عباس وحديث أبي هريرة في الباب.
وشجر الحرم ثلاثة أقسام كما ذكر الشيخ الشنقيطي , قسمه من حيث حكمه أو من حيث اختلاف العلماء فيه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول من شجر الحرم: ما لا يقطع إجماعاً، وهذا ما أنبته الله تعالى، الشجر الذي نبت من الله عز وجل. فشجر البراري هذا ثلاثة أقسام, شجر الحرم ثلاثة أقسام كما ذكر ذلك جمع منهم الشيخ الشنقيطي رحمه الله.
القسم الأول: ما لا يقطع بالإجماع، وهو النابت من الله سبحانه وتعالى، الأشجار البرية التي نبتت من ذاتها، فهذا لا يقطع بالإجماع.
القسم الثاني: ما يقطع إجماعاً، وهو ما زرعه الإنسان من البقول والنباتات، مثل إنسان زرع نعناعاً، أو زرع ألواناً من الجرجير أو نباتات أو غيرها، فهذا يقطعها؛ لأنه زرعها للقطع، فهي مما زرعه الإنسان, فهذه لا خلاف في جوازها أيضاً، إذا كانت مأكولة أو مشمومة, سواء كانت تؤخذ للأكل أو للشم.
القسم الثالث: هو مختلف فيه، وهو ما زرعه الناس مما لا يؤكل، مثل الأثل وغيره، ومثلما نجده الآن في بعض المواضع مثلاً في عرفة، وإن كانت عرفة من الحل، ولكنها داخلة في المواقيت والزرع موجود فيها، هناك أشجار كثيرة توضع من أجل تلطيف الجو أو للاستظلال, والناس هم الذين زرعوها، فهذه فيها خلاف في جواز قطعها أو غيره، ومثل الأثل أو العوسج أو سواه، والأصوب أن ذلك جائز خاصة للحاجة، وإلا فإن قطع الشجر لغير حاجة ورد فيه بعض النهي.
وهذا أيضاً فيه دليل على توجه الإسلام إلى الحفاظ على البيئة، الآن من أكثر ما يعانيه العالم ما يسبب الاحتباس الحراري وتغير المناخ وما يترتب على تغير المناخ من الأضرار في فيضانات البحار وفي انتشار الأمراض والأوبئة كما هو معروف ومقرر، وهذه الأشياء مترابطة، قضية إعدام الغابات وإحراق الغابات والقضاء عليها؛ فإن هذا يؤثر على الجو وعلى الهواء وعلى المناخ، فهكذا يتأكد أن مكة فعلاً عبارة عن محمية بأوامر ونصوص ربانية إلهية، وهذا يتطلب أن يكون ثمة توجه لهذا الجانب.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له بـمكة، فهذه خصوصية للنبي عليه الصلاة والسلام.
وفيه: حرمة مكة، وأن من حرمتها أنه لا يجوز القتال فيها.
وفيه: مراجعة العالم فيما أشكل, كما راجع العباس النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ( يا رسول الله! إلا الإذخر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر ). وقد يأخذ منه بعض علماء الأصول أن النبي صلى الله عليه وسلم مفوض أن يشرع في بعض المسائل, والله تعالى يقره على ذلك؛ لقوله عليه السلام فوراً: ( إلا الإذخر ).
وفيه: منزلة العباس رضي الله عنه وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه: عناية العباس بـمكة, وهو كان مسئولاً عن السقاية وعن غيرها، وهو من زعماء مكة، ولهذا كان خبيراً بأحوال أهلها وحاجاتهم.
وفيه: تحريم قطع الشجر بـمكة, وقد بينا تفصيله.
وفيه: الحفاظ على البيئة.
وفيه: تحريم تنفير الصيد.
وفيه: عدم التقاط اللقطة بـمكة إلا لمن أراد تعريفها.
وفيه: حرمة المدينة وأن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها.
وفيه: البركة في مكة بدعوة إبراهيم.
وفيه: البركة بـالمدينة في صاعها ومدها, يعني: في أقواتها، فهذا هو المقصود, ( في صاعها ومدها ) يعني: بقوتها بضعفي ما في أهل مكة.
بالإجماع أن مكة والمدينة هما أفضل بقاع الأرض, وبعدهما المسجد الأقصى, القدس, بيت المقدس، وقد جمعت هذه الأشياء في بعض الأحاديث، فهذه هي البقاع الثلاث المفضلة من رب السماوات والأرض لهذه, ولا يوجد بقعة لها فضيلة أو مزية سوى ذلك، إلا أن تكون البقعة بأهلها وصلاح أهلها، أما الادعاء بأن ثمة مكاناً فاضلاً؛ لأنه دفن فيه أحد أو شهد أحداً، فهذا مما لا أصل له.
لكن يبقى السؤال في المفاضلة بين مكة وبين المدينة: أيهما أفضل؟
القول الأول: أن مكة أفضل، وهذا قول الجمهور, فهو مذهب الشافعي وأحمد في الأصح من قوليه، وجمهور أهل العلم والصحابة.
واستدلوا بالآيات الكريمة, وربما سقنا عدداً من هذه الآيات, كما في قوله: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25].
وفي قوله: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96]. إلى غير ذلك من النصوص القرآنية الكثيرة.
وكذلك خطبة الوداع التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيها مكة, وقال: ( أي بلد هذا؟ أي شهر هذا؟ أليس البلد الحرام؟ إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم, كحرمة يومكم هذا, في بلدكم هذا, في شهركم هذا ). فهذا دليل على حرمة مكة, وأنها الأشد حرمة والأشد تفضيلاً.
وهناك حديث أيضاً مما يدل على فضل مكة حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في الهجرة، فلما كان بـالحزورة التفت إلى مكة وهو يبكي، وقال: ( والله إنك لخير البلاد وأحب البلاد إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت ) والحديث رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه، وإسناده جيد، فهو دليل على فضل مكة.
ومما يدل أيضاً على فضل مكة: أن الصلاة فيها بمائة ألف صلاة، بينما الصلاة في المدينة بألف صلاة. فهذا دليل على فضل مكة, وهو قول الجمهور.
القول الثاني: أن المدينة أفضل.
من هو الذي يقول: المدينة أفضل؟ مالك عالم علماء المدينة رضي الله عنه وأرضاه، هذا الرجل العظيم, ( يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدوا عالماً أعلم من عالم المدينة ). فهو يرى أن المدينة أفضل، وهي أيضاً رواية عن الإمام أحمد .
واستدلوا بأحاديث, مثل حديث عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة, ومنبري على حوضي ). فقالوا: إنه قال: ( روضة من رياض الجنة ). والحديث متفق عليه. وهذا دليل أو فضيلة لم تثبت لغير المدينة.
ومن فضائل المدينة أيضاً: تحريم النبي صلى الله عليه وسلم لها، والدعاء لها بضعفي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة، ومع ذلك نقول: إن الراجح هو القول الأول، فـمكة تأتي أولاً, والمدينة تأتي ثانياً.
وفيه: دعاؤه لها بالبركة, وحرمة المدينة.
وفيه: حدود حرم المدينة، وهي الحرتان الشرقية والغربية, وهي أيضاً ما بين عير إلى ثور, وهما جبلان صغيران معروفان عند الخاصة من أهل المدينة، وبعضهم لا يعرفهما؛ وذلك لأن جبل ثور معروف بمكة، وكذلك عير جبل معروف بجهة مكة، فقالوا: إن هذا نقل للاسم، بينما ذكر عدد من المحققين وعلماء البقاع والمواضع أنه يوجد خلف أحد جبل صغير يسمى ثور، وهو المقصود في هذا الحديث.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر