عندنا أولاً حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ( جاءت
قوله: (جاءت زينب ) هي امرأة عبد الله بن مسعود، ويقال لها: زينب الثقفية، وكانت امرأةً صناعاً، يعني: تعمل بيدها، لها عمل ولها حرفة، وعندها قدرة على تصنيع بعض الأشياء في البيت والمنزل.
وهذا فيه إشارة إلى أن المرأة لا بأس -بل ينبغي لها- أن يكون عندها شيء من هذا، فإن المرأة كالرجل لها حق الملكية، ولها أجر الصدقة, وعندها قدرات أقدرها الله تعالى عليها من ألوان الصناعة والزراعة والخياطة والنسج، وربما تتفوق في أمور كثيرة جداً حتى على الرجل خصوصاً الأمور التي فيها جانب ذوقي وجانب جمالي وتحتاج إلى صبر، فإن المرأة ربما تكون فيها أقدر وأنجح من الرجل.
هذه المسألة فيها قولان مشهوران لأهل العلم:
القول الأول: أن لها ذلك، أن المرأة إذا كان عندها زكاة حلي أو زكاة مال، تدفع الزكاة لزوجها إن كان من أحد الأصناف الثمانية، كأن يكون فقيراً أو مسكيناً أو ما شابه ذلك، وهذا مذهب الشافعية والظاهرية، وهو رواية أيضاً عند الإمام أبي حنيفة، ورواية عند الحنابلة، وهو مذهب صاحبي أبي حنيفة أبي يوسف ومحمد بن الحسن .
ومن أقوى أدلتهم: حديث الباب، فإن زينب رضي الله عنها سمعت من ابن مسعود قوله: ( إن زوجها وولدها أفضل من تصدقت عليهم ).
وهذا دليل على أن هذا هو رأي ابن مسعود رضي الله عنه أيضاً، فذهبت وسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء في الحديث أنها قالت لـبلال : أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا بالباب ولا تخبره من نحن، فدخل بلال، فقال له: ( يا رسول الله!
ووجه الشاهد من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الصدقة على الولد والزوج أفضل من غيرهم، ولم يفصل صدقة واجبة من صدقة مستحبة، فدل على أن الصدقة على الزوج مجزئة ولو كانت صدقة زوجته كما في قصة زينب هذه.
القول الثاني: أن صدقة المرأة على زوجها لا تجوز، قالوا: لأن الرجل إذا أخذ الصدقة من امرأته ردها إليها بالإنفاق عليها؛ لأن نفقتها واجبة، فتكون كأنها تصدقت على نفسها أو جلبت لنفسها خيراً بتخصيص زوجها بالصدقة دون سواه، وهذا مذهب الحنفية ومالك، وهو رواية عند الحنابلة.
واستدلوا أيضاً بحديث الباب، قالوا: لأن الحديث ذكر الولد: ( زوجك وولدك )، والأولاد نفقتهم واجبة، فلا تحل الصدقة عليهم، الأب يجب أن ينفق على ولده، فصدقته لا تمكن عليهم، وكذلك أن تدفع الأم صدقتها لولدها، فقالوا: هذا دليل على أن الصدقة هنا ليست صدقة واجبة، وإنما هي صدقة مستحبة، تطوع، والتطوع بابه واسع، هذا ما استدلوا به في الحديث.
ويجاب عن ذلك بأجوبة، منها: أن يقال: إن القول بالتفريق بين صدقة التطوع والفرض هنا يحتاج إلى دليل، والأصل أن ما ثبت في الفرض ثبت في النفل إلا بدليل يصرفه، هذا أولاً.
وثانياً يقال: إن قوله: ( زوجك وولدك )، لا يقصد به الولد مباشرة، وإنما يقصد به أن تعطي الزكاة لزوجها، وزوجها بطبيعة الحال سوف يصرف هذه الزكاة على الولد، فتكون كأنها تصدقت على ولدها وإن لم تكن تصدقت على ولدها مباشرة، ولكن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة بريرة : ( هي لها صدقة، وهي لنا هدية )، فهي للأب زكاة وهي للأولاد نفقة، وليست زكاة عليهم.
الجواب الثالث: أن يقال: إن هؤلاء الأولاد ليسوا أولاداً لـابن مسعود، ليسوا أولاداً للمرأة نفسها، قد يكونون أولاداً عند ابن مسعود، يعني: مثل قصة أم سلمة وهي مشابهة لحديث الباب، ويصلح أن نسوقها دليلاً على جواز صرف المرأة زكاتها لزوجها، وهي في الصحيح، أم سلمة جاء لها قصة مثل قصة زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، هذا أهم ما في المسألة.
و القول الراجح في هذه المسألة هو الأول: أنه يجوز للمرأة أن تجعل زكاتها المفروضة لزوجها إذا كان محتاجاً، ولو ترتب على ذلك أن هذه الزكاة تعود إلى المرأة نفقة، فليس في ذلك حرج، مثل الدائن لو أعطى المدين زكاته ثم هذا المدين ردها له سداداً لدينه، فلا حرج عليه في ذلك، من دون أن يكون هناك مشارطة، فهي دفعت زكاتها لزوجها، سواءٌ صرفها عليها أو على نفسه أو على ولده أو لغير ذلك من المصارف، فالأمر في ذلك واسع.
فالراجح هو القول الأول؛ لحديث ابن مسعود، ولحديث أم سلمة أيضاً التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أولاد أبي سلمة والنفقة عليهم، فذكر لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الصدقة على القريب صدقة وصلة )، بل ربما تكون الصدقة عليهم أفضل من الصدقة على غيرهم.
أبي سعيد
رضي الله عنه فوائد، منها: معرفة أسماء النساء، وأن ذلك ليس به عيب ولا بأس به؛ خلافاً لما يظنه كثير من جهلة الأعراب، فالله سبحانه وتعالى ذكر لنا في القرآن الكريم أسماء: كـمريم
، وسمى باسمها سورة، وفي السنة النبوية نجد أسماء أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأسماء أزواج الصحابة، وأسماء بنات النبي عليه الصلاة والسلام وأمهات المؤمنين، ولا بأس في ذلك، وها هوبلال
يقول له: أي الزيانب؟ فيقول:زينب
امرأةابن مسعود
إلى غير ذلك. وهذا من الأشياء التي جاء بها الإسلام، فالناس في الجاهلية كانوا يستعيبون كل ما يتعلق بالمرأة ويزدرون المرأة ولا يرون لها شأناً، فجاء الإسلام يحفظ للمرأة مكانتها وقيمتها ويربي الناس على الأخلاق الربانية وليس الأخلاق الجاهلية. وأيضاً من ذلك: جواز سماع صوت المرأة، وأن صوت المرأة ليس بعورة، ولا نقول: جواز أن تسأل المرأة الرجل أو المفتي، بل جواز سماع صوت المرأة، سواء كان لسؤال فتوى، أو كان لمعاملة في تجارة، والله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم لم يأمر النساء بالصمت وإنما أمرهن بالقول المعروف، فقال: (( وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا ))[الأحزاب:32]، والقول المعروف هو القول المفيد، القول الذي يكون له سبب، يكون له حاجة، قول ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم، ولا خضوع بالقول، هذا هو المأمور به. ومن فوائد الحديث: الأمر بالصدقة وفضلها، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام. ومنها: أن المرأة لها أن تتصدق بدون إذن زوجها، وأيضاً مما جاء به الإسلام أن المرأة لها ذمة مستقلة يمكن أن تتصدق من ذهبها، من ملابسها، من مالها بدون إذن زوجها، وكما في قصة العيد، لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بلال
ابن مسعود
، فإنه أفتى زوجته مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها: التثبت في الفتيا، فإن المرأة شكت في زوجها؛ لأن له منفعة بهذه الفتيا، وشكت أن يكون هذا اجتهاداً له وأرادت أن تتثبت وتتحرى، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فليس في ذلك من حرج، دون أن يكون هذا معناه مشاغلة الأئمة والعلماء بكثرة السؤال، فإن من الناس من لا هم له إلا أن ينظر في مسألة، قد لا تكون من المسائل الحيوية المهمة ويسأل عنها هذا وهذا، ويضرب أقوال الناس بعضهم ببعض، فهذا لا شك أنه من الأمر المذموم. وفي الحديث: عمل المرأة، وأن المرأة من حقها أن تعمل فيما يناسبها مع الحشمة، أن تعمل في الحقل كما عملتأسماء
زوجالزبير
رضي الله عنه، وأخت الصديقةعائشة
، وفي الصحيحين خبرها، ونساء الأنصار كن يعملن، وقصة امرأةعبد الله بن مسعود
هنا، والإسلام جاء بإقرار عمل المرأة وأنه حق لها، حق على المجتمع وحق على الأسرة، ولكن ضمن الضوابط والشروط الشرعية.قوله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال الرجل)، من المقصود بالرجل هنا؟
جنس الرجل. هل معناه أن المرأة مأذون لها بأن تتسول؟ لا.
إذاً: ليس المقصود الرجل المذكر، وإنما هو خرج مخرج الغالب، وأن المقصود الإنسان، ذكراً كان أو أنثى.
ويحمل هذا الحديث على من يسأل تكثراً، فيوضع هذا القيد وهو: التكثر، يسأل من باب حب المال والطمع وليس للحاجة، كما سوف يأتي في النصوص الأخرى.
( حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم )، (مزعة) هي بضم الميم وبعضهم ينطقها بفتحها، لكن الصحيح الضم، (مزعة لحم) وهي: القطعة.
والحديث يؤخذ على ظاهره، يعني: أن كثرة السؤال تكون كما جاء في الحديث الآخر: ( خدوشاً أو خموشاً في وجهه )، فإذا زاد أصبحت سبباً في أن يذهب اللحم عن وجهه يوم القيامة، فيكون عظماً بلا لحم، ويكون هذا علامة على من يسأل الناس، وهذا مناسب؛ لأنه يريق ماء وجهه، ويذل نفسه، ويهدر إنسانيته بالتسول والتعرض للناس بغير حاجة، ففي ذلك وعيد شديد وزجر أكيد عن مثل هذه الطرائق والأساليب.
وبعضهم حملوها على ضرب من المجاز، يعني: أن يكون في وجهه خدوش أو خموش أو غير ذلك بسبب السؤال.
منها: التحذير من السؤال لغير حاجة.
ومنها: أن الجزاء من جنس العمل، وهذه قاعدة شرعية لها شواهد كثيرة جداً.
ومنها: حرص الإسلام على حماية كرامة الإنسان من الابتذال والإذلال؛ ولهذا جاء بالوعيد الشديد على السؤال؛ لما في السؤال من الذل، وأثنى الله تعالى على المتعففين: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273]، فأثنى الله تعالى عليهم.
هنا سؤال، باب كراهة المسألة، الباب هذا من الذي وضعه؟
النووي وأما مسلم فإنه يضع الكتب كما أسلفنا، وقد رواه ابن ماجه أيضاً في سننه وابن حبان في صحيحه، وابن أبي شيبة كلهم في الزكاة، ورواه البيهقي في الجنائز.
أي: من غير حاجة، نعم (تكثراً) يعني: من غير حاجة، هذا ضابط التكثر، يعني: لزيادة المال عنده، لزيادة الرصيد، طمعاً في كثرة المال أو كثرة الأشياء، أي: سأل لغير حاجة.
( فإنما يسأل جمراً )، الجمر جمع جمرة، وهي القطعة من النار.
وأيضاً نقول: هذا الحديث على ظاهره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( فإنما يسأل جمراً )، أي: أنه يكوى بهذا الجمر عقاباً له على سؤاله يوم القيامة، مثلما قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].
فقال هنا: ( يسأل جمراً )، يعني: بقدر ما يفرح بما يعطى، عليه أن يتذكر أنه يأخذ جمراً يبتلعه يأكله أو يضعه فيحرق ثيابه أو يضعه في منزله، فيأتي عليه بالبوار.
والمسألة ذكر فيها أهل العلم كما ذكر الإمام العراقي كما في طرح التثريب وغيره من أهل العلم، أن المسألة تجري فيها الأحكام التكليفية الخمسة، يعني: تكون أحياناً محرمة، وهذا كما نطق به الحديث: ( من يسأل تكثراً ) دون حاجة، فهذا لا يجوز له السؤال.
وقد تكون مكروهة، مثل من يسأل لحاجة، ولكن عنده ما يكفيه لو اقتصد واقتصر.
وقد تكون مباحة، مثل إنسان يسأل عن حاجة وهو يستطيع أن يصبر.
وقد تكون مستحبة، مثل من هو محتاج وفي عدم السؤال إضرار عليه.
بل قد تجب كما إذا ترتب على تركها مفسدة ظاهرة على الإنسان، أو على من يمونه بنقص شديد في ضروريات الحياة ولا يوجد من يلتفت إليه، فليس له غنىً يغنيه، ولا يجد من يتفطن له، فيتصدق عليه.
فتجري فيها كما يقول العلماء الأحكام الخمسة.
من فوائد الحديث النهي عن السؤال تكثراً.
ومنها: أن من سأل تكثراً فإن ذلك حرام؛ لأن فيه الوعيد، ولا وعيد إلا على فعل محرم ؛ لقوله: ( فإنما يسأل جمراً ).
ومنها: استخدام التهديد والوعيد في الأمر والنهي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فليستقل أو ليستكثر )، لأن هذا ليس المقصود فيه الإذن والإباحة له، وإنما المقصود الوعيد، هو يقول: عنده جمر أقل أو أكثر، فهو كقوله سبحانه: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40]، هو على سبيل الوعيد، وليس على سبيل الإذن والإباحة.
وكذلك ما يتعلق بالقرض، فإن القرض أشد من العارية، العارية يستعير متاعاً أو آلة ويردها أو ماعوناً ويرده أو ثوباً ويرده، لكن القرض يأخذ المال ويصرفه بنية أنه سوف يعيده، وقد يعجز، ولذلك أحدهم لما طلب من صديقه قرضاً، قال له صديقه: لا أريد أن أقرضك لأنني سأخسرك وسوف أخسر المال، يعني: تأخذ القرض ثم بعد ذلك تنصرف لئلا تراني، فتكون محرجاً معي، فلا أخسرك ولا أخسر المال أو أخسرك ولا أخسر المال أيضاً.
وجاء أحدهم إلى شخص يريد أن يستقرض منه، وقبل يده حتى يعطيه القرض، فقال له: دعني لن أقرضك وإن شئت أن أقبل رجلك، قال: لماذا؟ قال: لأنه إذا أخذت هذا القرض سوف آتيك يوماً من الأيام أطلب منك سداده وقد أجد نفسي مضطراً إلى مثل هذا أو لا أراك أصلاً؛ ولذلك كثير من الناس يأخذ القرض بنية ولكنه لا يستطيع، أو يأخذه وليس في نيته أن يعيده إلى صاحبه؛ ولهذا على الإنسان ألا يتساهل في القرض فلا يستقرض إلا للضرورة أيضاً، وصاحب المال عليه أن ينفق وإذا لم ينفق عليه أن يقرض، والله سبحانه وتعالى يقول: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245].
وقد ورد في فضيلة القرض أحاديث، منها: أن إقراض المال مرتين كالصدقة به مرة.
وهناك أشياء زهيدة في موضوع السؤال، مثل سؤال الإنسان الأشياء التافهة فهذه لا بأس بها، يعني: الشيء العادي مثلما نقل عن الإمام أحمد رحمه الله إنسان يقول: إنه لا يطلب الماء، يعني: يحتاج الماء ولا يقول مثلاً لأهل البيت اسقوني، فقال الإمام أحمد : إن هذا من الحمق، لم يعتبر هذا ورعاً، إنه إذا احتاج إلى طلب الماء أو ما أشبه ذلك من الأشياء العادية.
قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فيأتي بحزمة الحطب على ظهره )، هذا القيد في قوله: (على ظهره)، هل هو مقصود؟
ليس مقصوداً، يعني: يأتي بحزمة حطب إن كان عنده بعير أو دابة فيأتي بالحطب عليها، فهذا خير وأفضل، لكن هذا على افتراض أسوأ الأحوال، هب أن الإنسان لا يملك حتى دابة يحمل عليها الحطب فيأتي بالحطب على ظهره، فهذا خير له من أن يسأل الناس.
وقوله: ( فيكف الله بها وجهه )، يعني: يحفظ، الكف هنا هو الحفظ، يحفظ الله بها وجهه من ذل المسألة في الدنيا، ويحفظ الله تعالى بها وجهه من الخدوش والخموش والكدود والمزع يوم القيامة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( خيرٌ له من أن يسأل الناس )، هذه (خيرٌ) والله أعلم ليست على بابها، يعني: أن الأمرين فيهما خير وهذا أحسن، وإنما هذا إشارة إلى أن هذا هو الفاضل في حق الإنسان، وإلا فإن المسألة ليس فيها خيرية أصلاً، ولا مقارنة بينها وبين ذلك.
وكما قال سبحانه: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].
وكما قال سبحانه: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20].
وقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198].
وهذا الحديث دليل على أن الشرع جاء بحث الناس على المكاسب، وعلى التجارة، وعلى التحصيل، والمكاسب كثيرة:
منها: مكاسب الزراعة، ومنها مكاسب التجارة، ومنها مكاسب الصناعة، ومنها الحرفة على اليد، يعني عمل الإنسان بيده، أن يؤاجر نفسه، وقد آجر النبي نفسه لـخديجة رضي الله عنها في التجارة، وآجر الصحابة أنفسهم في الزرع وغيره، حتى ورد عن علي رضي الله عنه أنه آجر نفسه عند يهودي يزعب له الماء كل دلو بتمرة.
وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يجدون في ذلك من حرج ولا بأس، فإن فيه تحصيل المال، وفيه إعفاف النفس، وفيه قوة البدن، وفيه العزة والحفاظ على الكرامة والمصلحة والحصول على الخبرة وعلى التدريب إلى غير ذلك من المصالح العظيمة.
وقد اختلف العلماء: أي المكاسب أفضل؟ وأكثر الفقهاء يقولون: إن أفضل المكاسب هو عمل اليد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده )، فقالوا: إن أفضل المكاسب هو عمل اليد، وعمل اليد قد يكون بالزراعة، وقد يكون بالتجارة، وقد يكون بالصناعة؛ ولذلك اختلفوا في هذه الثلاث.
فقال بعضهم مثلاً: الزراعة أفضل؛ لماذا؟ لأنه لا يزرع مؤمن زرعاً فيأكل منه إنسان ولا حيوان ولا طير إلا كان له به أجر؛ ولأن الزراعة أكثر مدعاة للتوكل على الله سبحانه وتعالى، بالاعتماد عليه.. بنزول المطر والغيث والسقي، وأيضاً بملاحظة صنع الله سبحانه وتعالى في الزرع ونباته ونموه واخضراره وحمايته من الآفة.. إلى غير ذلك.
وقال قوم: التجارة أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اشتغل بها في مكة، وكان من الأنبياء من هو تاجر.
وقيل: الصناعة؛ لأن داود عليه السلام كان يعمل بالنجارة، وكان يعمل بالصناعة: أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [سبأ:11] إلى غير ذلك من الأقوال.
والواقع: أن هذه الصناعات كلها فاضلة، والأفضل منها هو ما هو أليق وأنسب للإنسان مما يناسبه ويكون أفضل لحاله ولقدرته ولطبيعته وما يلائمه وما يناسبه، فنقول: من الناس من تكون الزراعة أفضل له، لأنه ابن فلاح وعنده مزرعة، وبيئته بيئة زراعية.
ومن الناس من تكون الصناعة أفضل له؛ لأن عنده خبرة وعنده قدرات تصنيعية وفيه قوة بدنية.
ومن الناس من تكون التجارة أفضل؛ لأن عنده خبرة بالتجارة وهو ابن تجار، وكما يقال في المثل العامي: (ابن الوز عوام) يعني: الذي ورث التجارة أباً عن جد وكابراً عن كابر, في الغالب أنه يكون عنده خبرات ولا يدخل في مغامرات ولا يلقي بنفسه للتهلكة, ولا يخدع أو يورى عليه ببعض الأشياء الوهمية، فتكون التجارة أفضل له.
وكل أحد قد يكون غير ذلك، فمن الناس من يكون الأفضل له العمل باليد مباشرة, ومن الناس من يكون الأفضل له أن يتولى إدارة فريق من الناس يعملون بأيديهم، ومن الناس من يكون الأفضل له أن يعمل بعقله، فعنده قدرة على الابتكار والاختراع والإبداع، ويبيع منتجاً لا يستطيع أحد أن يصل إليه، ولذلك أقول: مثل هذه المسائل الفقهية وإن بحث فيها أهل العلم كما ذكر الحافظ ابن حجر والنووي وغيره من أهل العلم، إلا أن كلام المتقدمين لا ينبغي أن يؤخذ على إطلاقه، والمسألة ليس فيها أفضلية، وواقع الناس اليوم قد جدت فيه أمور كثيرة جداً فيما يتعلق بالتجارة والبيع والشراء وألوان المضاربات والمكاسب المختلفة.
قوله: (كد) بالدال المشددة، ومعناها: كدح، وهي بمعنى الخدوش أو الخموش، كما جاء في صحيح البخاري، يعني: خطوط في وجهه.
وقوله: (إلا أن يسأل الرجل سلطانا) أي: صاحب سلطان، وهو الأمير أو الحاكم.
وقوله: (في أمر لابد له منه)، يعني: في حاجة وليس للتكثر.
منها: النهي عن المسألة وتحريمها عند عدم الحاجة.
ومنها: جواز سؤال السلطان إما لأنه محتاج فيسأل السلطان حاجته، وبيت المسلمين هو للمحتاجين وغير المحتاجين، أو قد يسأل السلطان فوق حاجته، فهذا لا بأس به إذا كان حقه، يعني: ممكن يسأل حاجته، واحد يقول: أنا أريد طعاماً آكل، هذا من حقه أن يقول للسلطان وللأمة، والأمة عليها أن توفر لأفرادها ذلك، ولكن ممكن إنسان يسأل السلطان أكثر من حاجته، بمعنى أنه يسأل حقه: راتباً أو وظيفة أو عطاء أو جعلاً.
مع الأسف الآن في بلاد الغرب إذا وجد مسلمون مهاجرون في بريطانيا , أو في أوروبا أو أستراليا الجهات المسئولة عن الهجرة تلتزم بأنها توفر لهم رواتب حتى يجدوا عملاً يومياً وسكناً، وإذا ولد لهم مولود جعلوا له عطاءً منذ طفولته، بينما مثل هذا لا تجده في بلاد المسلمين، في بعض البلاد الإسلامية يلتزمون لكل مواطن ببيت، ألا يكون ساكناً بالإيجار، وإنما يكون له بيت يتملكه، والأمر هنا ليس فقط خاصاً بالمواطن، يعني: في بريطانيا يأتيهم مسلمون من بلاد شتى ومع الأسف أن بعض هؤلاء المسلمين لا يحسنون حتى الضيافة، ربما أنتم تعرفون الذي يجري الآن في بريطانيا من المآسي والمصائب، أن شباباً وقد رأيت بعضهم في بريطانيا تجدهم مقيمين هناك لم يقوموا بدعوة وليسوا أهل دنيا ولا زرع ولا حرث ولا صناعة ولا ابتكار ولا اختراع ولا علم ولا معرفة ولا تأثير، ولكنهم منكمشون على أنفسهم ويتعاطون كلام التكفير والتفجير، وربما يخططون لأعمال مثلما جرى أمس واليوم دون أن يفكروا أن هذه الأعمال أعمال خائبة ولا تنفع ولا تدفع ولا تضر إلا أهلها وإلا المسلمين عامة، فهذه من المآسي والمصائب الجارية.
فسؤال السلطان قد يكون -كما قلنا- بحاجة أو ما فوق الحاجة مما هو حق.
(أو في أمر لابد منه)، وقد وجدت دراسة في الإنترنت حول التسول لبعض الأغبياء، وساءني أنه يسخر من جمع التبرعات للأعمال الخيرية، وهذه ليست من باب السؤال! فالسؤال المقصود سؤال للنفس، أما كون الإنسان يجمع، النبي صلى الله عليه وسلم تولى هذا بنفسه، كما في حديث جرير وقام على المنبر وقال: ( تصدق رجل من ديناره من درهمه )، وقال: ( من سن في الإسلام سنة حسنة ).
فهنا الجمع للأعمال الخيرية وللمحاويج والمساكين وغيرهم هذا أمر خارج نطاق السؤال، والأمر المحزن والمدهش أن في الدراسة يقول صاحبها بعد ذلك: إنه ينصح أهل السنة -كذا يقول- بالصبر على الفقر، وبدأ يسرد أدلة تدل على الصبر على الفقر، ولعمر الله إن الصبر على كل شيء مطلب! الصبر على المرض، الصبر على التكذيب، والصبر على القريب والبعيد، وعلى النفس، وعلى الغير، وعلى الفقر إذا ابتلي به الإنسان.
لكن الإنسان لا يؤمر أولاً بالصبر على الفقر وإنما يؤمر بفعل الأسباب ويؤمر بما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم: ( لأن يأخذ الرجل حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره )، أن يكون الإنسان إيجابياً، أن يكون فعالاً، أن يعمل ولو أعطي مالاً، ربما يقول: أنا لا أريد مالاً هكذا، وإنما أريد أن أعمل وأحصل على مقابل لهذا الشيء، بحيث يتربى المسلم السني الصادق يتربى على العمل وعلى الإنجاز وعلى الاعتزاز بنفسه وعلى إدراك أن لديه ما يقدمه للمجتمع في مقابل ما يأخذه.
وذكرني هذا الذي قرأته بأمر مؤلم رأيته في بريطانيا أيضاً في إحدى زياراتي، دخلت على بعض الطلبة وهم يدرسون هناك حيث التوهج الحضاري والتفوق المادي، ووجدت مكتوباً على السبورة: (باب فضيلة الفقر)، فقلت لأخي الذي يعلمهم: غفر الله لك أما وجدت ما تدرسهم إلا هذا؟! أي فضيلة للفقر؟ نعم، إن ما ابتلي به الإنسان فصبر فهذا شيء، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من الفقر، وليس الفقر فضيلة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يترك الطيبات لأنها طيبات، ولكن كان لا يتكلف مفقوداً ولا يرد موجوداً، وقد أعطاه الله تعالى المال فأنفقه في سبيله، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وربى أصحابه على أن يكونوا عاملين منجزين.
وما قصة المهاجرين والأنصار في المدينة لما جاءوا وعملوا في حقلهم وزرعهم وفي تجارتهم وشاركوهم وخالطوهم، وبنوا ذلك المجتمع القوي المتكافل عنا ببعيد.
الجواب: ذلك منهي عنه، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ( لا تقربوا أو لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين )، فهذا منهي عنه إلا للمعتبر.
الجواب: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رعى الغنم، وقال: ( ما من نبي إلا رعى الغنم )، وهذا جزء من العمل الذي ذكرنا فضله.
الجواب: فيه اختلاف كبير، من أهل العلم من صححه، كـابن حبان والحاكم والمنذري وغيرهم، ومنهم من أعله وضعفه وفي اضطرابه، ولكن في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان يصلي في صلاة الفجر ثم يجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حسناً أو حسناء ) فهذا حديث صحيح يدل على أن ذلك سنة.
وكذلك في مسلم حديث عمرو بن عبسة أنه قال: ( إذا طلع الشمس فأمسك عن الصلاة حتى ترتفع ثم صل فإن الصلاة مشهودة حينئذ )، يعني إذا ارتفعت الشمس بعد طلوعها بنحو عشر دقائق، فالصلاة حينئذ مشهودة، وهذا دليل على أنها فاضلة ومستحبة، فمن جلس بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، يعني: بعد طلوع الشمس بعشر دقائق أو قريباً من ذلك ثم صلى ركعتين، له هذه الفضيلة وتلك الفضيلة.
أما الحديث الذي فيه: ( له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة )، فهذا فيه الكلام الذي ذكرناه وإن كان هو في فضائل الأعمال عموماً.
الجواب: عمل اليد، وأفضل عمل اليد قيل: الزراعة أفضل، وقيل: التجارة أفضل، وقيل: الصناعة أفضل، ونقول: إن الأفضل هو ما يناسب الإنسان.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر