إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. سلمان العودة
  5. شرح بلوغ المرام
  6. شرح بلوغ المرام - كتاب الزكاة - باب صدقة الفطر - حديث 647-650

شرح بلوغ المرام - كتاب الزكاة - باب صدقة الفطر - حديث 647-650للشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • شرعت صدقة الفطر لمقاصد عظيمة، ومن جملتها تطهير الصائم والتوسعة على المحتاجين يوم العيد، وتتعلق بها مسائل شرعية مهمة: منها حكمها، وأصناف ما تخرج منه، ووقت أدائها، وحكم إخراج القيمة فيها، ونحو ذلك من مسائل هذا الباب المظهر لجانب من جوانب عظمة التشريع الإسلامي والرسالة المحمدية.

    1.   

    صدقة الفطر

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:

    فاليوم عندنا ضمن دروس الزكاة باب: صدقة الفطر، قال المصنف رحمه الله: [ باب: صدقة الفطر ].

    أسماء صدقة الفطر ومعانيها

    فيما يتعلق بصدقة الفطر، فلها أسماء كثيرة جداً، منها: صدقة الفطر، أو زكاة الفطر، أو صدقة رمضان، أو زكاة رمضان، وقد تسمى صدقة الرءوس؛ لأنها لا تتعلق بالأموال، وإنما تتعلق بالأشخاص، والإمام مالك رحمه الله كان يسميها: صدقة الأبدان؛ لأن الصدقة على البدن وليست على المال، ولها أسماء كثيرة جداً.

    ومعناها: الصدقة التي تبذل عند الإفطار من رمضان، فهي زكاة الفطر، أو صدقة الفطر، وقد يسميها بعضهم: الفطرة كما ذكر ذلك الإمام النووي وغيره.

    والمقصود هنا بالفطرة: إما لأنها مأخوذة من الفطر أو لأنها تتعلق بالفطرة، فطرة الإنسان التي فطر الله الناس عليها، وهي كلمة مولدة يعني: ليست موجودة في لسان الشرع بهذه الصيغة، وإنما هذا من استعمال الفقهاء، وبكل حال فالمقصود بصدقة الفطر: الزكاة الواجبة على الإنسان بعد الفطر من رمضان.

    وقت تشريع صدقة الفطر

    ومتى شرعت هذه الصدقة أو الزكاة؟

    الجمهور على أنها شرعت في السنة الثانية من الهجرة، وقد جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنها شرعت بعد تحويل القبلة، ومع فرض الصيام بعد ثمانية عشر شهراً من هجرة النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: تقريباً في آخر السنة الثانية من الهجرة قبل تمام الحولين، فهي إذاً متصلة بالصوم ومشروعة مع الصوم، وهذا الذي عليه جمهور أهل العلم.

    ومما يؤكد على هذا المعنى قول قيس بن سعد الأنصاري رضي الله عنه: (أن صدقة الفطر وجبت عليهم قبل فرض الزكاة، فلما فرضت الزكاة سكت عنهم وتركوا، فهم يزكون).

    فهذا دليل على أن صدقة الفطر كانت شرعيتها متصلة بالصيام، يعني: فرضت مع رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وبعض أهل العلم يرون أنها فرضت مع الزكاة، وقد سبق معنا الكلام عن فرضية الزكاة وأنها كانت متأخرة قبل السنة الخامسة، ولكنها ليست مع الصوم، وبعضهم يقول: إن الزكاة فرضت بعد ذلك بكثير.

    أهم مقاصد وحكم مشروعية صدقة الفطر

    أما الحكمة من هذه الصدقة أو الزكاة، فهي حكم كثيرة من أهمها:

    شكر نعمة الله تبارك وتعالى على ما أنعم به على المسلم من صيام رمضان وقيامه وبلوغ الشهر، فهي فيها معنى الشكر لله عز وجل على الصوم، ولهذا سميت صدقة الفطر.

    ومن حكمها ومقاصدها: أنها شرعت تطهيراً للصائم مما قد يكون خدش به صومه من اللغو والرفث، كما في حديث: ( طهرة للصائم من اللغو والرفث ) وسوف يأتي.

    فهي تطهير ورتق ورقع لما قد يكون في الصوم من نقص، كأن يكون الإنسان مثلاً أخل ببعض الأشياء، أو قال كلمة لا تحسن، أو نظر نظرة لا تحسن، فشرعت صدقة الفطر لتعزز ذلك وتزيله.

    والمقصد الثالث من مقاصدها: هي التوسعة على الفقراء والمحاويج والمساكين في يوم العيد؛ وذلك أن يوم العيد يوم فرح وسرور، فشرع الله تعالى للمسلمين فيه الفطر وحرم عليهم الصيام كما هو معروف، وسماه: (يوم أكل وشكر وذكر لله تعالى) كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فشرعت صدقة الفطر حتى يكون المسلمون شركاء في ذلك كله، ويساعد القوي منهم الضعيف ويرعى الغني منهم على الفقير، فيكون الناس كلهم يذوقون طعم السعادة ويستمتعون بالمأكل والمشرب وضروريات الحياة في مثل هذا اليوم.

    هذه أهم مقاصدها وأسرارها، وإن كان الأمر يتسع لأكثر من ذلك.

    1.   

    شرح حديث ابن عمر في فرضية زكاة الفطر

    الحديث الأول ورقمه: (627)؛ حديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر: صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ). الحديث متفق عليه.

    تخريج الحديث

    فيما يتعلق بـ أولاً: تخريج الحديث:

    فقد رواه الشيخان -كما ذكر المصنف- البخاري ومسلم، بل رواه الستة: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه كلهم في كتاب: الزكاة.

    ورواه أحمد في مسنده، إذاً: فالحديث مما يصح أن يقال: رواه السبعة، والمصنف رحمه الله يقول في صدر كتابه في مقدمة كتاب بلوغ المرام يقول: حررته تحريراً بالغاً ليكون حافظه بين أقرانه نابغاً.

    ولا شك أن الشيخ أحسن الاختيار، ولكن بقي في هذا الكتاب مواضع كثيرة جداً في التخريج تحتاج إلى استدراك وإلى تصحيح، فهذا الحديث إذاً رواه السبعة كما ذكرنا، وأيضاً رواه الدارمي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في المستدرك ومالك في الموطأ وغيرهم.

    معاني ألفاظ الحديث

    أما فيما يتعلق بألفاظ الحديث، فإن فيه:

    قوله: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ) و(فرض): تحتمل أن يكون المعنى: أوجب وألزم، ومنه الفريضة يعني: الواجبة، وتحتمل معنى آخر وهي أن يكون فرض بمعنى قدر، يعني: حدد المقدار، فهذا يسمى فرضاً أيضاً.

    وقوله: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أي: مبلغاً عن الله تعالى، فإن الأمر كما قال سبحانه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

    وقوله: ( زكاة الفطر ) بينت أسماءها وأنها صدقة أو زكاة للفطر من رمضان.

    قال: (صاعاً من تمر) (صاعاً) هنا يجوز أن تكون بدلاً أو عطف بيان على قوله: ( زكاة الفطر ) يعني: زكاة الفطر هي صاع من تمر، ويجوز أن تكون مفعولاً به ثانياً، يكون فرض زكاة الفطر صاعاً، فعلى هذا تكون فرض تنصب مفعولين.

    والصاع هو: مكيال معروف بينته، وسوف نزيده بياناً إن شاء الله تعالى.

    قوله: ( صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير ) (أو) هنا المقصود بها التخيير والله أعلم، يعني: إما هذا أو هذا، أن الإنسان المكلف مخير بينها.

    فوائد الحديث

    في الحديث فوائد:

    من فوائد الحديث: وجوب صدقة الفطر؛ لقوله: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

    ومن فوائده أيضاً: أن صدقة الفطر محددة المقدار؛ لقوله: (فرض)، ولقوله: (صاعاً من تمر).

    وفيه: بيان الأصناف التي تخرج منها صدقة الفطر، وهي: التمر، والشعير هنا.

    وفيه بيان: وجوب هذه الصدقة على الحر والعبد.

    وفيه: بيان وجوبها أيضاً على الذكر والأنثى، فتجب على المرأة ويخرجها عنها زوجها أو أبوها.

    وفيه: وجوبها على الصغير الذي لا يصوم والكبير أيضاً، يعني: الكبير الصائم أو الكبير العاجز عن الصيام أيضاً فإنه يخرجها.

    وفيه: أن هذه الزكاة لا تجب إلا على المسلمين، وهو مذهب الجمهور وأوجبها بعضهم على العبد الكافر.

    وفيه: بيان وقت هذه الفريضة، وأنها تؤدى قبل خروج الناس إلى صلاة العيد.

    1.   

    شرح حديث: (أغنوهم عن طواف هذا اليوم)

    الحديث الذي بعده ورقمه: (628) قال: ولـابن عدي من وجه آخر والدارقطني بإسناد ضعيف: ( أغنوهم عن طواف هذا اليوم ).

    تخريج الحديث

    هذا الحديث خرجه ابن عدي في الكامل، ابن عدي له كتاب اسمه الكامل في ضعفاء الرجال، وهو كتاب مطبوع وغالب الأحاديث التي فيه ضعاف؛ لأنه يسوقها لرواة ضعفاء، ورواه الدارقطني أيضاً، والدارقطني له كتاب اسمه السنن وهو مطبوع أيضاً، ولكن هذا الكتاب -كتاب الدارقطني - كما قال بعضهم: هو كتاب علل وليس كتاب عمل، وإن سماه سنناَ، إلا أن غالب ما فيه من الأحاديث المعلولة التي يسوقها الدارقطني، وهو إمام جليل حاذق؛ يسوقها لتعليلها، يعني: لبيان علتها وبيان ضعفها، وليس يسوقها للاحتجاج بها، فهو كتاب علل كما يقول بعضهم وليس كتاب عمل .

    وأيضاً روى الحديث الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي في السنن في كتاب الجنائز، ورواه أيضاً ابن حزم في المحلى، وقال: إن في إسناده أبا معشر نجيح بن عبد الرحمن السندي ثم حمل عليه ابن حزم حملاً شديداً.

    والواقع أن أبا معشر السندي ضعيف ومضطرب الحديث فحديثه من قبيل الحديث الضعيف، ولكنه ليس بالمتروك.

    معاني ألفاظ الحديث

    في الحديث قوله: (أغنوهم) والمقصود الفقراء والمساكين، وكأن هذا يدل على أن الصدقة -صدقة الفطر- تدفع للفقراء.

    والمقصود هنا: الغنى النسبي، يعني: أغنوهم في ذلك اليوم؛ ولهذا قال: ( أغنوهم عن الطواف )، والطواف هو: الدوران، واستعير هنا للسؤال؛ لأن الذي يسأل الناس محتاجاً في الغالب أنه يطوف، يعني: يدور؛ ولهذا يسمى بالطواف، وهذا اسم وإن كان اسماً شعبياً إلا أنه اسم شرعي أيضاً، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان )، وقال عن الهرة: ( إنها من الطوافين عليكم والطوافات ).

    وقوله: (في ذلك اليوم ) يعني: يوم العيد، يوم عيد الفطر الذي شرعت فيه هذه الصدقة.

    فوائد الحديث

    وفي هذا الحديث فوائد، وهي:

    أن صدقة الفطر تدفع للفقراء والمساكين، وليس لكل أصناف الزكاة كالعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين.. فلا تدفع لهم، وإنما تدفع للفقراء.

    وفيه: بيان حكمة وسر مشروعية هذه العبادة وهو إغناؤهم.

    1.   

    شرح حديث أبي سعيد في الأصناف التي تخرج منها زكاة الفطر

    الحديث الذي بعده رقمه: (629) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ( كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من زبيب ). والحديث متفق عليه كما ذكر المصنف.

    تخريج الحديث

    وقد رواه الستة أيضاً، فهو يقال فيه ما يقال في الحديث الذي قبله، والمصنف اقتصر على الصحيحين، وفي الواقع أنه عند أصحاب السنن الأربعة أيضاً كلهم في كتاب الزكاة، ورواه أحمد في مسنده .

    إذاً: هذا مما يستدرك على المصنف، فقد رواه السبعة كلهم إضافة إلى ابن خزيمة وابن حبان ومالك وغيرهم.

    شواهد وروايات الحديث

    قال: وفي رواية: ( أو صاعاً من أقط ) يعني: عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه أضاف إلى ما سبق قال: ( صاعاً من طعام، أو تمر، أو شعير، أو زبيب أو صاعاً من أقط ).

    وهذه الرواية متفق عليها، فقد أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما، قال أبو سعيد: (أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).

    وهذا القول من قول أبي سعيد رواه مسلم في صحيحه .

    ولـأبي داود يعني عن أبي سعيد أنه قال: (لا أخرج أبداً إلا صاعاً).

    وهذا القول من أبي سعيد رضي الله عنه قاله بعدما جاء معاوية بن أبي سفيان من الشام إلى المدينة في زيارة وخطب الناس، وقال لهم: (إني أرى مداً من سمراء الشام -من حنطة الشام - يعدل مدين من طعامكم)، لذلك رأى معاوية رضي الله عنه أنه يخرج بدل الصاع نصف صاع وأمر الناس بذلك، فهذا الذي حمل أبا سعيد الخدري رضي الله عنه على أن يعترض على هذا الإجراء، ويقول: (أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أخرج أبداً إلا صاعاً)، وهذا منه ذهاب إلى أن المفروض صاع من أي شيء كان، رخص أو غلا بغض النظر عن قيمته.

    معاني ألفاظ الحديث

    وأيضاً قوله في الحديث: ( صاعاً من أقط ) في الرواية، الأقط ما المقصود به؟ العامة عندنا يسمونه البقل، لكن نحتاج إلى تعريف البقل لمن لا يعرف البقل؛ لأن الغالب أن الناس يقصدون بالبقل البقول التي تنبت في الأرض، أما الأقط فكلمة الأقط -بعضهم يسميها المضيرة أيضاً- هو عبارة عن اللبن الجاف أو اليابس، يسمى أقطاً، ويؤكل يابساً هذا هو الأقط، فهو أحد الأصناف التي تخرج منها الزكاة.

    قول أبي سعيد رضي الله عنه أيضاً في الحديث: ( كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ) هذا عند كثير من المحدثين له حكم المرفوع، إذا قال: في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فهو في حكم الرفع؛ لأن قرائن الحال تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقرهم عليه أو أمرهم به وأن هذا هو الأمر الجاري المعمول به عند الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

    1.   

    شرح حديث: (فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم...)

    الحديث الأخير: (630) حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ). رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم.

    تخريج الحديث

    حديث ابن عباس أولاً: من حيث تخريجه: رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم كما ذكر المصنف، والدارقطني أيضاً كلهم في كتاب: الزكاة.

    ورواه البيهقي في كتاب: الجنائز، وإسناد هذا الحديث حسن، كما حسنه الإمام النووي في الخلاصة وفي غيرها، وأبو محمد المقدسي، وغيرهم من الأئمة، فإسناده حسن وليس فيه مطعن.

    معاني ألفاظ الحديث

    أما ما يتعلق بألفاظ حديث ابن عباس قوله: ( طهرة للصائم ) يعني: تطهيراً له ( من اللغو والرفث ).

    فالطهرة هي التطهير، يعني: سبب للطهارة، واللغو: هو الكلام الذي لا فائدة منه، كما قال سبحانه: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا [مريم:62]، لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225]، يعني: بالحلف غير المقصود، ولكن المقصود هنا باللغو الكلام الرديء.

    وقوله: (الرفث) فالرفث عادة يطلق على الكلام الذي يكون في شأن النساء أو يكون مع النساء، كما قال سبحانه: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، يعني: الكلام مع المرأة، إذا كان الرجل مع زوجته، أو الكلام بين الرجال في الرفث كما يقع عند بعض الرجال أحياناً؛ أنهم يستطردون في الكلام في القضايا المتعلقة بالجنس والمعاشرة.. وغير ذلك، وبعض الناس يتشهى هذا الأمر، وقد يفعله أثناء الصيام ويقع من جراء ذلك خدش لصومه، فتكون الصدقة تطهيراً له من ذلك.

    وقوله: ( وطعمة للمساكين ) (طعمة) يعني: إطعاماً لهم، و(المساكين): جمع مسكين، وهو أحد الأصناف التي تصرف لها الزكاة المفروضة.

    فوائد الحديث

    الحديث مثلما سبق دليل على أن صدقة الفطر لا تصرف للأصناف الثمانية، وإنما تصرف للمساكين والفقراء.

    وبهذا نكون انتهينا من أحاديث صدقة الفطر، لكن نقف على بعض المسائل المتعلقة بما سبق من الأحاديث:

    أقوال العلماء في حكم صدقة الفطر وأدلتها

    أولاً: ما حكم صدقة الفطر: هل هي واجبة أو ليست بواجبة؟

    في هذا قولان مشهوران:

    أقوال أقتصر منها على أهمها وهما قولان مشهوران:

    القول الأول: وجوب صدقة الفطر وأدلته

    الأول: أن صدقة الفطر لازمة لابد منها، وهذا مذهب الجمهور وهو مذهب الأئمة الأربعة، وإنما قلت: لازمة؛ لأن منهم من يقول: هي فرض واجبة، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد، أما أبو حنيفة فيقول: هي واجبة وليست بفرض؛ وذلك لأن من طريقة الأحناف أنهم يفرقون بين الفرض والواجب، يقولون: إن الفرض هو ما ثبت بدليل قطعي مثل القرآن أو الحديث المتواتر، فهذا فرض، وأما الواجب: فهو ما ثبت عندهم بدليل ظني مثل آحاد السنة .

    إذاً: الأحناف عندهم شيء يسمونه الفرض وهو فوق الواجب، وعندهم شيء يسمونه واجب، وهو بين الفرض وبين المندوب عندهم؛ يرون أنه واجب، ولكن الفرض عندهم أعلى ويليه الواجب؛ ولهذا منكر الفرض عندهم يكفر؛ لأنه أنكر شيئاً ثبت بيقين وبدليل قطعي، أما منكر الواجب فليس بكافر؛ لأنه أنكر أمراً دليله ليس قطعياً وإنما هو ظني .

    إذاً: الأحناف يخالفون الجمهور في إثبات شيء يسمونه فرضاً وآخر يسمونه واجباً، أما الجمهور فالفرض والواجب عندهم بمنزلة واحدة.

    ولهذا نقول: إن صدقة الفطر واجبة عند الجميع، وإن لم تكن فرضاً عند الأحناف، وهذا القول بالوجوب -وجوب صدقة الفطر- وهو مذهب الأئمة الأربعة ومذهب الظاهرية أيضاً ومذهب الكثير من الصحابة المنقول عنهم والمنصوص كمذهب أبي سعيد الخدري وابن عباس وابن عمر وعمر بن الخطاب وأبي بكر وعثمان وعلي .. وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

    فهؤلاء يقولون بوجوبها، واستدل القائلون بالوجوب بأدلة، منها:

    القرآن الكريم: كما في قوله: وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، فقالوا: إنها من الزكاة التي يجب إيتاؤها، وهذا ليس نصاً في الباب.

    ومنها: أيضاً في القرآن قوله سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، فإن بعضهم -كما نُقل هذا عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً والمرفوع ضعيف، ولكنه صح عن ابن عمر أنه فسر الآية بذلك- قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى:14] يعني: أخرج زكاة الفطر، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:15] يعني: صلاة العيد، وجعل الفلاح مقروناً بذلك، ويلزم على هذا القول أن صلاة العيد تكون واجبة أيضاً.

    وهذا قول مشهور عند بعض أهل العلم، وإن كان الذي نختاره أن صلاة العيد واجبة على المجموع لا على الأفراد، يعني: أنها فرض كفاية وسنة بالنسبة للأفراد، إذا قام بها من يكفي، فهذا مما استدلوا به على صدقة الفطر أنها واجبة، وكذلك استدلوا بأحاديث الباب كحديث أبي سعيد رضي الله عنه، فإنه ذكر أنه كان يخرجها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا دليل على إجماع الصحابة على ذلك وأمر النبي صلى الله عليه وسلم به، وكذلك حديث ابن عمر، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض ذلك، والفرض من معانيه الإيجاب؛ ولهذا نقول: الدليل الخامس على وجوبها الإجماع، فإنه حكى طائفة من أهل العلم الإجماع على وجوبها، نقل هذا ابن المنذر وغيره.

    والصواب: أن المسألة ليس فيها إجماع، ولكنه مثلما قال بعضهم: هو كالإجماع، يعني: رأي جمهور أهل العلم القول بوجوبها، وإلا فالإجماع ليس ثابتاً؛ بدليل ما سوف أذكره بعد ذلك في القول الثاني.

    القول الثاني: استحباب صدقة الفطر وأدلته

    وفي المسألة قول آخر وهو: أن صدقة الفطر سنة وليست بواجبة.

    وهذا نقل عن بعض فقهاء الشافعية، ونقل عن بعض فقهاء المالكية، وقد نقله ابن حزم عن مالك رحمه الله، وهو خطأ، فإن المنصوص عليه في موطأ مالك أنه مثل الجمهور يوجب زكاة الفطر، فما نسبه ابن حزم في المحلى لـمالك فالظاهر -والله أعلم- أنه وهم، وإنما هو قول لبعض فقهاء المالكية.

    وقد نُقل أيضاً ضمن هذا القول أن صدقة الفطر منسوخة بإيجاب الزكاة، كما نقلناه قبل قليل عن قيس بن سعد بن عبادة، وبناء عليه تكون نسخت، يعني: إما نُسخ وجوبها أو قد تكون نُسخت بالكلية، وهذا منقول عن ابن علية وابن كيسان، ونقل أيضاً عن الزهري أنه كان لا يوجبها على أهل العمود، وإنما يوجبها على أهل المدن.

    إذاً: أهل العمود ما المقصود بهم؟ البوادي أنه لا يوجبها على أهل البوادي.

    طيب. ما هو الدليل لمن قالوا: بأن صدقة الفطر سنة؟

    أولاً: قالوا: عموم الأحاديث الواردة، مثل قصة الرجل الذي قال: ( يا رسول الله! هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع ) لما ذكر زكاة المال، قال: ( هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع ).

    قالوا: هذا دليل على أنه ليس في المال إلا الزكاة المفروضة، وصدقة الفطر ليست منه.

    وكذلك قالوا: إن قول الصحابي هنا: (فرض) ليس معناها: أوجب، وإنما معناها: قدر، يعني: بين مقدارها لمن يريد أن يخرجها.

    ومما استدلوا به حديث قيس بن سعد بن عبادة الذي أسلفته، وهو عند أبي داود والنسائي وابن خزيمة والحاكم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بزكاة الفطر قبل أن تفرض عليهم زكاة المال، فلما فرضت عليهم زكاة المال لم يؤمروا ولم ينهوا ).

    وفي الواقع أن هذا الحديث في سنده ضعف يسير، وعلى فرض صحته فلا دلالة فيه؛ لأن فرض زكاة المال لا يلزم منه أن يؤمروا بعد ذلك أمراً متجدداً بصدقة الفطر أو أن ينهوا عنها، فزكاة المال للمال وزكاة الفطر هي للرءوس والأبدان كما ذكرنا.

    إذاً: القول الراجح هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وهو مذهب الأئمة الأربعة أن صدقة الفطر من رمضان واجبة على الأعيان؛ لقوة الدليل وسلامته من المعارض.

    مسألة: تعجيل صدقة الفطر أو تأخيرها

    المسألة الثانية: تعجيل صدقة الفطر أو تأخيرها:

    فيما يتعلق بتعجيل الصدقة، فإن جمهور الفقهاء يرون أنه يجوز تعجيل صدقة الفطر، ولكن إلى أي وقت وإلى أي قدر يمكن أن تعجل؟

    هذا محل اختلاف بينهم، فالحنابلة يرون أنها تعجل قبل يوم العيد بيوم أو يومين، ويستدلون بحديث ابن عمر رضي الله عنه، وهو في البخاري : ( أنه كان يخرجها قبل العيد بيوم أو يومين )، وينقلوا ذلك، وهذا أيضاً مذهب المالكية، ولكنهم يقولون: يوم أو يومين أو ثلاثة، وقد يستدلون لإخراجها قبل العيد بثلاثة أيام بقصة أبي هريرة مع الشيطان لما كان أبو هريرة يحرس صدقة الفطر وجاءه الشيطان في الليلة الأولى والثانية والثالثة، فقالوا: كونه جاءه -يعني- ثلاث ليالٍ دليل على أن صدقة الفطر قد أخرجت قبل ذلك، ولكن لا يتم الاستدلال بهذا الحديث؛ لسبب وهو أن هؤلاء الذين أخرجوا صدقة الفطر هنا ما أخرجوها للفقير، وإنما أعطوها الوكيل الذي سوف يقوم بإخراجها، ولا شك أن بين الأمرين فرقاً، فإن إخراج صدقة الفطر للوكيل هذا لو أعطيتها للوكيل من أول رمضان أو من أول العام، وقلت له: خذ الصدقة هذه، وإذا جاء يوم العيد فأخرجها لي فإن ذلك جائز؛ لأن هذا توكيل، فهو يقوم مقامك في إخراج الصدقة، وإنما الكلام والخلاف في أن تعطيها للفقير أنت أو أن يعطيها الوكيل أيضاً للفقير قبل العيد بيوم أو يومين أو ثلاثة، فهذا هو الذي فيه الخلاف.

    والشافعية عندهم قول ثالث: يرون أنه يجوز إخراجها من أول الشهر، وحجتهم في ذلك قالوا: لأن سبب الوجوب منعقد، فهي تجب بصوم رمضان، فإذا دخل رمضان جاز أن تخرج من أول الشهر.

    والأحناف يقولون: يجوز أن تخرج من أول السنة، بل نقل بعضهم عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يقول: يجوز أن تخرج قبل سنة أو سنتين.

    فالأحناف يتوسعون جداً في إخراجها، ولعل من حجة الأحناف في إخراجها وإن لم أقف على ذلك، لكن لعلهم يستدلون ببعض الأحاديث الواردة في الزكاة المفروضة وجواز تقديمها على ما أسلفناه وبيناه، لكن هذا ليس هو مذهبهم المشهور المطرد.

    وعلى كل حال في هذه المسألة أقوال أربعة، والأقرب عندي فيها دليلاً: أنها تخرج قبل العيد بيوم أو يومين أو نحو ذلك.

    أما آخر وجوب صدقة الفطر.. آخر وقت لوجوبها فهو يوم العيد قبل الصلاة، كما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه، وهذا عند الأكثرين؛ خلافاً للنخعي وابن سيرين.

    حكم إخراج زكاة الفطر بعد صلاة العيد

    وهل يجوز أن تؤخر عن الصلاة؟

    جمهور الفقهاء يجيزون أن يخرجها بعد الصلاة يوم العيد، يعني: إلى غروب الشمس، فيجوز عندهم أن تخرج بعد صلاة العيد، لكن حديث ابن عباس رضي الله عنه الذي يقول: ( ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات ) يرجح أن آخر وقتها المشروع هو قبل صلاة العيد، فعلى هذا يجب إخراجها قبل صلاة العيد.

    مقدار الصاع في زكاة الفطر

    نقطة رابعة: وهي مقدار الصاع، وقد علمنا أن صدقة الفطر تخرج صاعاً كما في حديث ابن عمر وأبي سعيد، فما هو الصاع؟

    سبق أن ذكرنا أن الصاع أربعة أمداد بمد الرجل المعتدل، وأنه يعادل خمسة أرطال وثلث الرطل بالبغدادي، وقلنا: إن قياسه بالعملة الحاضرة يعادل ألفين -يعني: اثنين كيلو- ألفين ومائتين من الجرامات، هذا هو الصاع النبوي، فعليه يكون الصاع النبوي أقل حجماً من الآصع الموجودة بين أيدي الناس اليوم، والأصواع معروف أنها كثيرة ومختلفة من الشام إلى مصر إلى المدينة إلى العراق ؛ كل أهل بلد عندهم صاع يختلف عن الآخر.

    أما أبو حنيفة فبينا سابقاً أن الصاع عندهم أكبر، صاع العراق ؛ ولهذا الصاع عندهم ثمانية أرطال وليس خمسة أرطال، ولكن الذي نختاره هو ما تدل عليه الأدلة والقياس والنظر.

    أود أن أشير أيضاً فيما يتعلق بالصاع أنه وإن كان الأمر كما قال أبو سعيد: (صاعاً..)، وقال: (لا أخرج إلا صاعاً)، إلا أن في المسألة خلافاً قوياً أيضاً.

    فـ معاوية رضي الله عنه لما خطب على المنبر وقال: (إني أرى مداً من سمراء الشام يعدل مدين).

    معاوية ما تكلم من فراغ، عنده خبر؛ وذلك لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صح عنه هذا الأمر، بل جاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث جيدة، وصح هذا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعن عثمان بن عفان، وهم الخلفاء الثلاثة، بل جاء هذا عن أبي بكر، وإن كان في سنده ضعف .

    فنقول: ما ذهب إليه معاوية رضي الله عنه من اعتبار أن الحنطة الجيدة يخرج منها نصف، فهو قول قوي، وعليه عمل أكثر السلف رضي الله عنهم، وهو مستفيض عندهم جداً، وأخذ به أيضاً الكثير من أتباع المذاهب الفقهية، فنقول: إن هذا قول معتبر، وممن رجحه من الحنابلة شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهم من أهل العلم رحمهم الله.

    ولذلك انظر خلق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ما شنع ولا عير ولا عاب، وإنما عبر عن موقفه الشخصي، يقول: أنا وفي للشيء الذي كنت أخرجه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الناس فهم وشأنهم، يخرجون صاعاً أو نصف صاع، هذا أمر راجع إليهم، فهذا من الأدب واللطف والذوق الذي كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن نحييه فيما بيننا في المسائل التي هي من هذا القبيل، يعني: مسائل فرعية، مسائل فقهية، مسائل اجتهادية، الأمر فيها ليس فيه هدى وضلال وحق وباطل، وإنما راجح ومرجوح، وقوي وأقوى منه.

    أقوال العلماء في مسألة: إخراج القيمة في زكاة الفطر بدلاً من الطعام

    ومن هذا أيضاً أنتقل لنقطة خامسة وهي: الأصناف التي تخرج منها صدقة الفطر، وقد ذكر ابن عمر وأبو سعيد الطعام، وهو البر، وذكر التمر والشعير والزبيب والأقط، فهذه الأصناف مما اتفق الفقهاء على أن صدقة الفطر تُخرج منها وهي مجزأة؛ لأنها ثابتة بالنص، لكن هل يجوز إخراج القيمة؟ إخراج فلوس، دراهم، ذهب، هل يجوز أو لا يجوز؟

    القول الأول: عدم جواز إخراج القيمة في زكاة الفطر وأدلته

    هذه المسألة فيها خلاف قوي أيضاً، القول الأول: أنه لا يجوز إخراج القيمة، بل يجب إخراج الطعام، وهذا مذهب الجمهور، فهو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، وابن حزم الظاهري .

    وحجتهم: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه كما ترونه الآن أنه: ( كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ).. وقالوا: إن هذا كالإجماع، كحكاية الإجماع عن الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك حديث ابن عمر وهو إخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض الزكاة هكذا، وابن عباس أيضاً كما في الحديث الذي ذكرناه أنه فرضها طعمة، قوله: ( وطعمة للمساكين ) وهذا يعني أنها طعام.

    فهذه أدلة أربعة: حديث أبي سعيد، حديث ابن عمر، حديث ابن عباس، إجماع الصحابة رضي الله عنهم عند من يدعي إجماع الصحابة.

    القول الثاني: جواز إخراج القيمة في زكاة الفطر وأدلته

    القول الثاني: أنه يجوز إخراج القيمة، وهذا القول هو مذهب أبي حنيفة، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كما تعرفون خليفة، فقد ثبت عنه كما في مصنف ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق : أنه أرسل إلى عماله في الأمصار، يعني جعله نظاماً في الدولة، والدولة كان فيها الصحابة والتابعون متوافرين، فأمر أن يؤخذ من خراج كل واحد منهم نصف دينار صدقة للفطر، فلم يكن مذهب عمر رضي الله عنه قولاً أو رأياً شخصياً، وإنما عمل به والناس موجودون، الصحابة والتابعون، وكذلك هو مذهب سفيان الثوري وعطاء والحسن البصري وهم من أئمة وكبار التابعين، بل قال أبو إسحاق السبيعي رضي الله عنه قال: [ أدركتهم وهم يعطون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام ]، يقول أبو إسحاق السبيعي -وهو إمام جليل من أئمة التابعين وأدرك جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعدداً كبيراً منهم، يقول: (أدركتهم -أدركت الناس- وهم يخرجون في صدقة رمضان الدراهم بقيمة الطعام).

    فهذا من أبي إسحاق، وهو إمام ثقة جليل القدر معروف العلم إخباراً منه عنهم في ذلك العصر أنهم يخرجون الدراهم، وهو مثلما ذكرته عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وكأن البخاري مال إلى هذا في صحيحه، فذكر باب: العروض والزكاة فأشار إلى ذلك.

    وقال بعضهم: إن هذا من المسائل التي وافق فيها البخاري الأحناف، مع أن البخاري في الغالب يرد عليهم في صحيحه، خصوصاً في التراجم، ولكنه في هذه المسألة وافقهم، قالوا: وإنما قاده إلى ذلك الدليل.

    فإذاً: القول الثاني: أنه يجوز إخراج القيمة.

    واحتجوا بماذا؟ احتجوا أولاً: بعدم النص، قالوا: إن الأحاديث الواردة كلها أحاديث فعلية وليس فيها قول يمنع من إخراج القيمة في صدقة الفطر، وقالوا: ربما كانت القيمة أفضل للمعطي وأفضل للآخذ.

    وقالوا: إن ذلك ربما كان أيسر أيضاً للمعطي وللآخذ.

    الدليل الثاني: قالوا: إن هذا الفعل كان عليه السلف في العصور الأولى كما ثبت عن عمر بن عبد العزيز، وهو في المصنف وقد ذكرته، وكما ثبت عن أبي إسحاق السبيعي، وقد ذكرته أيضاً، ولم ينكر في ذلك العصر، فعدم إنكاره دليل على أن الأمر كان فيه سعة؛ إن أخرج طعاماً فحسن، وإن أخرج مالاً فحسن.

    ومن أدلتهم: أن معاذاً رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن كان يأخذ منهم القيمة في الزكاة بدل الحنطة وبدل الشعير؛ وطبعاً يأخذ القيمة ويبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فهذا دليل على أنه يجوز أن يخرج بدلاً من الزكاة أن يخرج المال.

    الدليل الرابع: أن زكاة المال أكثر وجوباً من زكاة الفطر، وهذا عندي دليل قوي؛ زكاة المال هي ركن من أركان الإسلام، ومع ذلك الفقهاء اختلفوا: هل يجوز إخراج القيمة بدلاً من العرض أو لا يجوز؟ يعني: لو وجبت على الإنسان زكاة قيمة: عروض تجارة مثلاً أو نحوها، هل يجوز أن يخرج بدلاً منها المال أو لا يجوز؟

    والأقرب والأرجح وهو قول الجمهور أنه يجوز إخراج القيمة، وإن كانت أحظ للفقراء كان إخراج القيمة أولى، بمعنى مثلاً: إذا كانت الزكاة زكاة ثياب يخرج ثياباً، طيب. الأفضل أن يخرج ثياباً أم مالاً؟

    نقول: يجوز أن يخرج ثياباً ويجوز أن يخرج مالاً، لكن إن كان الفقير الذي تعطيه الثياب سوف يبيع هذه الثياب ليأخذ المال ويشتري به طعاماً، فالأفضل هنا أن تعطيه مالاً؛ لأن المال أحسن له وأوفر؛ لأنه سوف يبيع الثوب بأقل من قيمته حتى يحصل على المال، أما إذا كان هذا الفقير سيلبس الثوب والثوب أنفع له من المال ولو أعطيته مالاً لذهب يشتري ملابس ويشتريها بسعر التفريد وسعر التفريد أغلى، فيكون حينئذ إعطاؤه الثياب أفضل، فنقول: إذاً: الأفضل في زكاة المال أن يخرج مالاً أو عروضاً الأفضل كما رجحه ابن تيمية وابن القيم وعدد من المحققين: أن الأفضل من إخراج القيمة أو العرض الأفضل هو الأحظ للفقير -كما بينته- إذا علمت أن الفقير سيستخدم العروض فأعطها له، إذا علمت أنه سيبيعها ليستفيد من المال فأعطه أنت مالاً، لأن هذا سيكون أوفر له، أوفر بالمال وأوفر بالوقت والجهد، وقد يكون هذا الفقير لا يحسن البيع والشراء ويخدع فيراعى في ذلك مصلحة الفقير.

    فقالوا: إذا جاز إخراج القيمة في زكاة المال التي هي ركن من أركان الإسلام، وأمرها عظيم، ولا خلاف عليها، فإخراجه في صدقة الفطر من باب أولى.

    ومما يعزز هذا المعنى أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مما يخرج -كما في حديث أبي سعيد -: الشعير، فإذا جاز أن يخرج الشعير فالذهب أولى بالجواز؛ لأنه أعظم منه قيمة والشريعة جاءت بالعدل والميزان، وهذا من العدل والميزان.

    ومن الأدلة التي تعزز وتقوي هذا أيضاً: أن الفقهاء كلهم إلا من ندر عدلوا عن الأصناف المذكورة في الحديث إلى ما يسمونه بقوت البلد، هذا تجده عند الحنابلة والأحناف والشافعية والمالكية ممن لا يقولون بإخراج القيمة؛ يقولون: له أن يخرج قوت البلد، فإذا كانت القصة قصة نص فعليهم ألا يخرجوا من قوت البلد، وإنما يخرجون مما ورد فيه النص، أما إن كان الأمر يدور على المعنى ورعاية المعنى والمقصد، فحينئذ نقول: العدول عن قوت البلد مؤذن بأن الأمر فيه سعة وأن المقصود إيصال الخير للمستحق سواء كان هذا الخير طعاماً أو كان غيره، وإلا فإن قوت البلد قد يكون كما هو موجود اليوم في قوت الناس الرز، وقد يكون ألواناً وأصنافاً من الأطعمة تختلف، والفقهاء توسعوا فيها جداً فيما ذكروا منها الأصناف، وأنه أي قوت أصبح هو القوت السائر في البلد جاز أن تخرج منه الزكاة.

    إذاً: هم عدلوا عن النص الموجود في الحديث والذي تمسكوا به في منع إخراج الزكاة.

    فيتأكد هذا أيضاً بأن نقول: هل يعتقد أو يظن بأن النص على الشعير أو الزبيب أو الأقط له -يعني- علة أو أنه أمر تعبدي محض مما لا تدرك مقاصده؟

    فإن قلنا: إنه أمر تعبدي والله تعالى أعلم بمراده ولا يعرف الناس ولا تدرك العقول المراد، فحينئذ يجب الوقوف عندها، أما إن قلنا: إن هذا أمر معروف العلة؛ وأنه ذكر هذه الأصناف لأنها كانت هي الغالبة عند الناس، وهي الموجودة في المدينة، وهي أسهل على الناس من إخراج الذهب أو الفضة أو غيرها في ذلك الوقت، بل قد لا يتوفر لهم إلا هي، فكان ذلك توسعة، فحينئذ يقال: إن الأولى والأرجح والأرفق هو ما كان مناسباً للناس من جهة أنه أحظ للفقير بالدرجة الأولى، فإن كان مع ذلك أرفق، يعني: أسهل على الغني وأقل كلفة عليه، كلفة من حيث الجهد فلا حرج.

    ومن هنا أفتى جماعة من الفقهاء المعاصرين ومنهم الشيخ مصطفى الزرقاء، وقد كتب كتاباً وأعد فيه بحثاً، وفي فتاويه كذلك في صدقة الفطر، وهل يجوز إخراج النقود، وأجاد فيها أيما إجادة، بحث محرر: أنه إذا كنت ترى الفقير -كما يحدث أحياناً في مكة - يأخذ الصدقة منك ويبيعها بنصف قيمتها، فإن مما يعرف بمقصد الشريعة أن تعطيه أنت القيمة الكاملة أولى من أن يخسر نصفها ببيع هذا المال أو بربع قيمتها، فهذا هو مأخذ ومستمسك من قال بجواز إخراج القيمة في صدقة الفطر. وهذا الذي أميل إليه .

    ولكني أختم بأن أقول: ترى المسألة ليست من أصول الاعتقاد، ولا هي من كبريات المسائل التي يكون عليها معقد الولاء والبراء، ولا يتطلب الأمر مثلما ذكرنا في زكاة الحلي، يعني: أرى كثيراً من الخطباء خصوصاً في رمضان، وفي خطبة العيد أو في الخطب قبل العيد يؤكدون على هذا المعنى، ويشددون ويبالغون حتى أن منهم من يرى أنه يعيد إخراجها، مع أنه هب أنه أخطأ إذا كان اجتهاداً وأخذ بقول فقهاء، وقد سبقه مثل عمر بن عبد العزيز، وفي عصر يتوافر فيه الصحابة والتابعون، وجعله نظاماً عاماً للدولة، وأبو إسحاق السبيعي يقول ما سمعت، وأيضاً رأينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعثمان وعلي، وما ينقل عن أبي بكر الصديق من إخراجهم النصف فيما يتعلق بالأنواع الجيدة من الحنطة دل على أن الأمر.. وهذا الذي قصدته من سياق الأقوال: أننا بحاجة إلى أن نمرن عقولنا وألسنتنا أيضاً على فهم الأقوال ووضع الأمور في نصابها، فمن أخذ بظواهر الأحاديث وتمسك بها وأصر عليها فلا حرج عليه، ومن وسع ذلك أخذاً أيضاً بما نُقل عن السلف وما قامت عليه بعض الدلائل فلا حرج عليه أيضاً، والقضية لا تتحمل المزيد، لا تتحمل أكثر من ذلك، فالخلاف فيها جارٍ، والعرف فيها واضح، والأمر فيها واسع، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768239276