إسلام ويب

شرح بلوغ المرام - كتاب الجنائز - حديث 608-614للشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اختلفوا في حكم زيارة الرجال للمقابر فذهب الجمهور إلى الجواز، وأوجبه ابن حزم، وكرهها الحسن، ولم يخرج حكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم مع شد الرحال عن نحو هذه الأقوال، وإن كان الراجح هو الحرمة، أما زيارة النساء للقبور فالجمهور على الإباحة وذهب آخرون إلى الحرمة، والجماهير على حرمة النياحة على الميت، وأن الميت يعذب ببكاء أهله عليه كما ثبت في السنة، لكن أهل العلم اختلفوا في توجيه الحديث.

    1.   

    شرح حديث: (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه وخيرته من خلقه، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فهذا الدرس رقم: (202) من شرح بلوغ المرام، وهذا يوم الأحد الحادي والعشرون من شهر جمادى الأولى من سنة (1427هـ).

    وبالأمس أخذنا ما يتعلق بصفة القبر، والنهي عن التجصيص والبناء، وحكم الكتابة على القبر وما يتعلق بذلك، وتلقين الميت، واليوم أيضاً عندنا مجموعة من الأحاديث المتعلقة بالقبور وزيارتها وأحوالها وغير ذلك.

    الحديث الأول رقمه (585):

    وهو حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ). والحديث رواه مسلم والترمذي وزاد: ( فإنها تذكر بالآخرة )، وزاد ابن ماجه أيضاً: ( وتزهد في الدنيا ).

    تخريج الحديث

    ما يتعلق بتخريج الحديث:

    فقد رواه مسلم في صحيحه في كتاب الجنائز، باب: استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يزور قبر أمه؛ وذلك لأن في أول الحديث قصة: ( أنهم مروا بـالأبواء، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم في قبر أمه فبكى بكاءً طويلاً وأبكى من حوله، وقال: إني استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي، ثم قال صلى الله عليه وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ).

    ورواه مسلم أيضاً في كتاب الأضاحي؛ وذلك لأن في بعض طرق الحديث أنه قال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فكلوا وادخروا ما بدا لكم).

    وأيضاً رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم في الجنائز.

    أما الزيادة التي ذكرها المصنف وهي: ( فإنها تزهد في الدنيا ) وقال: رواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود.

    فهذه الزيادة -زيادة ابن ماجه- فيها ضعف، في سندها أيوب بن هانئ وهو ضعيف.

    وأيضاً فقد سبق أن بينا أن الزيادات التي ينفرد بها بعض الرواة في أحاديث مشهورة ينبغي توقيها والتأني في قبولها؛ لأن الغالب أنه يغلب عليها نوع من النكارة أو الشذوذ، فإذا كان الراوي ضعيفاً كما هنا أيوب بن هانئ، فإن الزيادة تكون منكرة إذا زادها راو ضعيف.

    معاني ألفاظ الحديث

    ما يتعلق بألفاظ الحديث:

    قوله: ( كنت نهيتكم ) يعني: أنه سبق من النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن زيارة القبور، وهذا لم يحفظ عن طريق أحد من الصحابة إلا من طريق هذا الحديث، فإنه بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحكم أول الإسلام كان هو النهي عن زيارة القبور، ثم نسخ ذلك.

    وقد ذكر بعض أهل العلم السبب في النهي أول الإسلام، فقال: لحداثة الناس بالجاهلية، وما يمكن أن يحدث عند زيارتهم للقبور من العويل والبكاء والصياح، أو ما يمكن أن يحدث من النياحة والكلام عن الميت والتغني بمحامده.. إلى غير ذلك، فلذلك نهاهم أول الإسلام، فلما استقر الأمر واستقر الإيمان في قلوبهم أذن الله تعالى لهم بالزيارة.

    ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( فزوروها ) والزيادة: ( فإنها تذكر بالآخرة )؛ لأن القبر أول منزل من منازل الآخرة، وقد ورد أن عثمان رضي الله عنه كان يذكر عنده الجنة والنار فلا يبكي، فإذا ذكر عنده الموت بكى، فقيل له في ذلك، فقال: (إن القبر أول منزل من منازل الآخرة).

    وفي الحديث أيضاً في بعض ألفاظه عند مسلم قوله: ( كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي ) وادخار لحوم الأضاحي، يعني: أنهم كانوا يقومون بعمل تجفيف لهذه اللحوم ثم يدخرونها لفترة طويلة، كما يفعله كثير من الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، وسر النهي أنه أصابت بعض قبائل العرب مجاعة، فجاءوا للمدينة كما في حديث جرير بن عبد الله البجلي وهو في مسلم : ( أنهم جاءوا عراة مجتابي النمار متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) فأصابت بعض قبائل العرب مجاعة، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن أن يدخروا شيئاً من لحوم الأضاحي، وإنما تأكله أو تتصدق به فوراً ولا تدخر أكثر من ثلاثة أيام من أجل هذه النازلة أو الدافة كما في بعض الألفاظ؛ (الدافة) يعني: القوم الذين يكون لهم صوت، يدفون يعني: لهم صوت.

    ثم أذن النبي صلى الله عليه وسلم بعد زوال هذا الأمر العارض بالادخار وقال:

    ( كلوا ) يعني: من لحوم الأضاحي.

    ( وادخروا ما بدا لكم ) مع أن السنة في الأضاحي كما هو مشهور أن يقسمها أثلاثاً: يأكل ثلثاً، ويهدي ثلثاً، ويتصدق بثلث.

    حكم زيارة الرجال للمقابر

    فيما يتعلق بمسائل الحديث ففيه مسألتان مهمتان شهيرتان.

    المسألة الأولى: زيارة الرجال للقبور، حكم زيارة الرجال للمقابر:

    القول الأول: مشروعية واستحباب زيارة الرجال للقبور وأدلته

    وهذه المسألة واضحة وسهلة؛ وذلك أن جماهير أهل العلم يرون مشروعية واستحباب زيارة الرجال للقبور وأن ذلك من السنة، وهذا حكاه غير واحد من أهل العلم إجماعاً؛ فقد حكاه النووي وحكاه أيضاً الحازمي في الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، وحكاه العكبري وغيرهم من الأئمة: أن العلماء أجمعوا على استحباب زيارة القبور.

    ولا شك أنه لو كانت المسألة إجماعاً لم تكن هذه المسألة فقهية تذكر فيها الأقوال، وإنما غالب العلماء أحياناً يحكون الإجماع ويقصدون به مذهب الجماهير، ولا يلتفتون إلى خلاف الواحد والاثنين والثلاثة، مع أن الأئمة إذا كان الإمام مشهوراً فإن قوله يخرق الإجماع، ولا يمكن حكاية الإجماع مع حفظ الخلاف لبعض الأئمة من الصحابة أو السلف أو غيرهم، إلا أن يقال: إنه كان ثمة خلاف ثم استقر الأمر على الإجماع، وهذا أيضاً صعب؛ لأن الناس والعلماء بعد انتشار الأمة واتساعها يصعب حصر أقوالهم، ويوجد الخلاف فيهم مثلما يوجد فيمن قبلهم أو أكثر.

    الخلاصة: أن هذا هو القول الأول: أنه يستحب للرجال زيارة القبور، وهذا كما قلت مذهب الجماهير بما في ذلك الأئمة الأربعة: مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة .

    حجتهم على هذا القول:

    من أقوى حججهم حديث الباب، وهو حديث صحيح رواه مسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فزوروها ) وهذا أمر، وأقل أحوال الأمر هو الاستحباب، ولذلك يؤخذ من الحديث استحباب زيارة الرجال للقبور.

    وأيضاً من أدلتهم: فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه زار قبور أصحابه بـالبقيع، كما في الصحيحين من طرق، وكذلك زار قبر أمه بـالأبواء كما في الصحيح أيضاً.

    فكان النبي صلى الله عليه وسلم يزور القبور، وقد يزورها في ملأ من أصحابه كما في الصحيحين أيضاً من حديث البراء بن عازب : ( أنه انتهى إلى القبر، وقال: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27] ).

    إذاً الدليل الثاني: فعل النبي صلى الله عليه وسلم المتواتر من طرق كثيرة جداً.

    الدليل الثالث: فعل الصحابة، فإنه كان مشهوراً عندهم زيارة القبور، وفي ذلك أحاديث وآثار كثيرة جداً.

    القول الثاني: وجوب زيارة الرجال للقبور ولو مرة في العمر وأدلته

    القول الثاني: أن زيارة القبور فرض ولو مرة في العمر، وهذا جنح إليه الإمام ابن حزم كما في المحلى، واحتج أيضاً بحديث الباب، ولكنه حمل الأمر في الحديث على الوجوب، فقال: ( فزوروها ) أمر للوجوب، ولا يوجد صارف يصرفه عنه.

    والواقع أن ما ذهب إليه ابن حزم قول ضعيف؛ لاعتبارات:

    أولاً: لما سبق أن ذكرناه أن الأوامر والنواهي إذا كانت في مقام الآداب والأخلاق والإرشاد وغيرها، فإن الأصل فيها أنها تكون الأوامر للاستحباب، والنهي يكون للكراهة وهذا منها.

    فنقول: ما كان هذا وجهه فالأصل أنه للاستحباب وليس للوجوب، وعلى هذا عمل الأئمة في معظم أو في الكثير من المسائل.

    وفي حديث الباب على وجه الخصوص أيضاً اعتبار آخر يضعف القول بأنه للوجوب، وهو أنه أمر بعد نهي، يعني: إذا جاء في الشرع في البداية نهي عن شيء ثم أمر به، فهذا عند بعض العلماء يدل على الإباحة، يقولون: الأمر بعد النهي يقتضي الإباحة ؛ لأنه كان منهياً عنه، فلما أمرهم به كأنه يقول لهم: إن الحرمة قد زالت، ولذلك نظائر، وقد يكون من ذلك مثلاً عندما يكون الإنسان ممنوعاً من شيء بالصيام أو بالإحرام ثم يؤذن له بعد ذلك، مثلاً: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187] فالأمر أمر إباحة، يعني: أنه كان ممنوعاً حال الصيام ثم أذن لهم، وكذلك بالنسبة للمحرم في منعه من الصيد أو من غير ذلك.

    وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] فهنا ليس الاصطياد مستحباً ولكن مأذون به، يعني: وإذا حللتم فجائز لكم أن تصطادوا، أو تصطادوا إن شئتم، وليس الأمر أمر استحباب، وإنما هو لبيان رفع الحظر.

    وقد يدل الأمر على الاستحباب، والأقرب في مثل حديث الباب أن يقال: بأن الأمر ليس للإباحة، وإن كان هذا مال إليه بعضهم، ولكن نقول: الأقرب أن الأمر في قوله: ( فزوروها ) للاستحباب، لماذا نرجح أن الأمر للاستحباب وليس للإباحة؟

    لوجود التعليل في الحديث، وقد ذكرنا سابقاً أيضاً: أن كون النص يأتي معللاً فإن هذا يقويه ويعزز جانبه، فلما قال: ( فزوروها فإنها تذكر بالآخرة ) دل ذلك على أن الأمر للاستحباب.

    القول الثالث: كراهة زيارة الرجال للقبور وأدلته

    القول الثالث في المسألة: أن زيارة القبور للرجال مكروهة، وهذا قول الحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن سيرين، فثبوته عن هؤلاء الأئمة وهم من أعلام السلف يدل على أن المسألة ليس فيها إجماع، فخلاف هؤلاء معتبر، ولعل هؤلاء الأئمة لم يبلغهم النسخ، فبقوا على أصل النهي الوارد.

    ولذلك نقول: المسألة فيها ثلاثة أقوال، والراجح: هو أن زيارة القبور مستحبة، لقوة الأدلة وسلامتها من المعارض.

    حكم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم

    في هذا الحديث أيضاً مسألة أخرى متعلقة بذلك: وهي زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام، ولا شك أن زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام فيها أو لها حالتان:

    الحالة الأولى: أن تكون زيارة من قرب، أن تكون زيارة من غير سفر، يعني: من دون شد رحل، مثل إنسان مقيم في المدينة أو زائر للمدينة، فهل يشرع له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو لا يشرع؟ يشرع، هذه هي الصورة الأولى: أن تكون زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من دون سفر، ومن دون شد رحل.

    فهذه الحالة لا شك أنها مشروعة، ونقول: إن هذه الزيارة من أولى ما ينطبق عليها البحث السابق، فإذا كانت زيارة القبور مشروعة، قبور الوالدين وقبور المسلمين، فأولى ما تتحقق فيه المشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبري صاحبيه، هذا إذا كانت من غير شد رحل.

    الحالة الثانية: أن تكون بشد رحل، وشد الرحل معناه السفر:

    لأن الإنسان إذا أراد أن يسافر وضع الرحل على البعير وما يسمى بالشداد وتهيأ للسفر، وليس المقصود شد الرحل على وجه التنصيص، فاليوم الناس لا يشدون رحلاً، وإنما يركبون السيارات أو الطيارات أو القطارات أو غيرها من وسائل السفر، فالمقصود السفر إذاً، فالأمر متعلق بالسفر بغض النظر عن آلته وصفته، فهل يجوز السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو لا يجوز؟

    فيها خلاف قوي ومشهور أيضاً:

    القول الأول: عدم جواز شد الرحل لزيارة قبر النبي وأدلته

    القول الأول في مسألة زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك محرم، أنه لا يجوز كما ذكرت:

    لا يجوز السفر أو شد الرحل لزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا مذهب الإمام مالك، وأكثر أصحاب الإمام أحمد، ونصره الإمام ابن تيمية رحمه الله في فتوى مطولة، وكذلك جماعة من الحنابلة ابن عبد الهادي، وكان بينه وبين السبكي مناظرة طويلة ومرادة، وكتب في قضية شد الرحل لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك ابن القيم رحمه الله وابن الجوزي من الحنابلة، وقبلهم أيضاً ابن عقيل من الحنابلة.. وغيرهم.

    فهذا القول الأول: أنه لا يجوز شد الرحل من أجل زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام.

    وحجة هؤلاء على ما ذهبوا إليه:

    أولاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى ).

    وهذا النص أو هذا اللفظ ذكر غير واحد من أهل العلم أنه متواتر، فقد جاء في الصحيحين حديث أبي هريرة كما ذكرناه، وكذلك حديث أبي سعيد الخدري وحديث ابن عمر وجابر وغيرهم، وفيه أحاديث عديدة، فهو حديث مشهور، إن لم يكن متواتراً فهو حديث مشهور وصحيح: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ).

    وجه الاستدلال من الحديث على هذه المسألة قالوا: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تشد الرحال ) خبر بمعنى النهي، فكأنه يقول: (لا تشدوا الرحال) وهذا معناه أنه لا يجوز لكم، وهذا معناه النهي؛ لأنه ليس خبراً على وجهه، فالرحال قد تشد لأي مكان، وإنما هو خبر معناه أنه لا يجوز في الشريعة شد الرحال إلا إلى هذه المساجد الثلاثة، هذا وجه الاستدلال بهذا النص وهذه المجموعة من الأحاديث.

    وقالوا: إن المقصود بالحديث هو أنه لا يجوز السفر إلى بقعة بقصد التعبد لله عز وجل، هذا المعنى؛ لأنه أيضاً الرحال قد تشد للتجارة، وقد تشد لطلب العلم، وقد تشد لصلة الأرحام، وقد تشد لمعان كثيرة، وقد تشد للهجرة.. إلى غير ذلك من الأبواب والأسباب، وهذه فائدة مهمة، وبعض الناس يلتبس عليه الأمر.

    المقصود في الحديث: أنه لا يجوز أن يسافر الإنسان إلى بقعة في الأرض أو مكان بزعم أن هذا المكان له خصوصية تعبدية إلهية وفضيلة، كونك تسافر مثلاً إلى مكان من أجل الخضرة أو من أجل الماء أو من أجل المطر أو من أجل التجارة أو الطب أو الزراعة، أو أي مقصد دنيوي، أو للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ هذا كله جائز، لكن المنهي عنه هو السفر باعتقاد وجود فضيلة لهذه البقعة التي تسافر إليها، لماذا؟ لأن القول بوجود فضيلة هذا لا يكون إلا إلى الله، لا يكون إلا إلى الشرع، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68] يعني: لا يملك أي إنسان أن يقول: هذا المكان فاضل وهذا مفضول لخصوصه.

    طبعاً المسجد فاضل، لكن المسجد فضيلته بكونه مسجداً، وليس بخصوص البقعة، فالمقصود بالبقعة: أن يكون حكماً لازماً لا يتغير، فهذا معنى الحديث، وهو معنى ينبغي فهمه حتى لا يقع عند الإنسان إشكال في سوء فهم الحديث وتعميمه على غير محله، وقد رأيت كثيراً حتى من طلبة العلم من يقع لهم اللبس في تعميم الحديث، وإنما يصح الحديث على السفر إلى بقعة في الأرض باعتقاد أن الله فضلها يوم خلق السماوات والأرض، يعني تفضيلاً أزلياً.

    وأما اعتقاد أن الإنسان يذهب لدنيا أو لتجارة أو لدعوة إلى الله أو لطلب علم، فهذا لا بأس به، والعلماء ألفوا في الرحلة في طلب العلم كما ألف الخطيب البغدادي، والله تعالى ذكر لنا قصة موسى والخضر وسفره: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62] سماه سفراً وتعب فيه أيضاً.

    فالسفر لطلب العلم وما أشبه ذلك من مقاصد الدين والدنيا ليس منهياً عنه.

    أيضاً صلاة الجنازة، لو سافر واحد إلى مكة لأن هناك عالماً جليلاً أو شخصاً قريباً له سيصلى عليه في الحرم المكي مثلاً، فهذا لا بأس به.

    أولاً: السفر إلى مكة مشروع، فهي من النقاط المستثناة كما في الحديث، وغريب أن يقع اللبس عند بعضهم لما صلي على بعض العلماء في مكة، طيب، مكة مستثناة يجوز السفر إليها بقصد خصوصية البقعة أصلاً، فإذا وجد سبب آخر فلا بأس، لكن لو كانت الجنازة في الرياض أيضاً فيجوز السفر بقصد الصلاة عليها؛ لأنه لم يسافر للبقعة واعتقاد فضيلتها، وإنما سافر لمقصد آخر.

    إذاً: هذا هو مفهوم ومعنى الحديث المعروف: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )، وهذه هي طريقة الاستدلال به على عدم شد الرحل لزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام.

    القول الثاني: جواز شد الرحل لزيارة قبر النبي وأدلته

    القول الثاني: أن ذلك جائز حتى لو كان فيه شد رحل، وهذا قال به خلائق لا يحصون من أتباع المذاهب الأربعة: من الحنابلة والشافعية والمالكية والحنفية وغيرهم، وهو منصوص في الكثير من كتبهم حتى كتب الحنابلة كـالإنصاف والمغني وغيرها تنص على هذا، بل قد يتوسع بعضهم ويقول بمشروعيته واستحبابه، وبعضهم قد يطلق ألفاظاً تدل على أنه يقترب عندهم من الوجوب كما في نصوص بعض الأحناف وسواهم.

    وممن رجح هذا القول وانتصر له بقوة السبكي كما ذكرنا في مناظرته مع ابن عبد الهادي وكذلك الحافظ ابن حجر والإمام النووي وغيرهم.

    والواقع أنك إذا نظرت إلى أدلة هذا القول لا تجد له مستنداً، فإنهم أو بعضهم استدلوا بنحو عشرين حديثاً، وكلها أحاديث شبه موضوعة أو موضوعة، وهذا ما تجده عند قراءة كتاب السبكي - شفاء السقام في زيارة خير الأنام أو نحو ذلك- فإن الأحاديث المذكورة كلها أحاديث تالفة، يعني: ركيكة اللفظ ضعيفة الإسناد، فيها رواة متروكون ومجاهيل.

    وهذه الأحاديث مشهورة، مثل: ( من زار قبري وجبت له شفاعتي )، ومثل: ( من حج ولم يزرني فقد جفاني )، ومثل: ( من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي )، ومثل: ( من زارني في قبري كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة )، ومثل: ( من زارني وزار قبر أبي إبراهيم كان له أجر شهيد ) أحاديث كثيرة من هذا الباب، وكل هذه الأحاديث كما قلنا ما بين الموضوع والضعيف جداً التي لا يستقيم بها استدلال، فلا داعي للإطالة والإطناب بها؛ لأنها موجودة في كتب أهل العلم لمن أحب أن يتزود منها.

    ومن استدلالاتهم أيضاً على هذا الحكم قوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64].

    وقد استدل بعضهم بهذه الآية بناء على أن هذه الآية ليس فيها تفصيل بين حال الحياة وحال الموت!

    والواقع أن هذا أيضاً استدلال ضعيف؛ لأن الآية واضح أنها خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم حال حياته، حينما كان يأتيه الناس ويستغفر لهم، أما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فإن أحكام الموت تجري على البشر كلهم: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].

    والنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته لم يرد أنه يستغفر لأعيان الناس وآحادهم في قبره عليه الصلاة والسلام، وهذا حكم يحتاج إلى توقيف وإلى دليل، ولا دليل عليه، وأما شفاعته يوم القيامة فهي شيء آخر مختلف.

    فنقول: الآية صريحة في أنه حال الحياة وليس بعد الوفاة، فلا يصح الاستدلال بها على مشروعية السفر للقبر وإتيانه.

    أيضاً: هم قد يستدلون أحياناً بعمومات، مثل عموم زيارة القبور كما ذكرنا، ولا شك أن العموم هنا لا يتم الاستدلال به؛ لأنه لم يذكر فيه السفر.

    وقد يقال: إن السفر لقبر النبي صلى الله عليه وسلم فيه اعتقاد فضيلة لهذه البقعة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا كانت الفضيلة فضيلة أصلية وهي فضيلة ما ورد في المسجد النبوي أنه بألف صلاة فهنا ينبغي أن تكون النية وأن يكون القصد بقصد السفر إلى ماذا؟ إلى البقعة التي لها أصل الفضيلة، وإذا زار البقعة زار المسجد.

    وأيضاً مما استدلوا به: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء راكباً أو راجلاً كل سبت ويصلي فيه ) حديث ابن عمر عند مسلم وغيره.

    والجواب: أن هذا ليس فيه شد رحل، وكذلك زيارة البقيع ليس فيها شد رحل، فلا يتم الاستدلال بذلك.

    بعضهم يستدلون بقصة غريبة عن العتبي : أنه كان جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاء أعرابي، يخاطب صاحب القبر عليه الصلاة والسلام وهو في قبره: يا رسول الله، إن الله عز وجل يقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64] وإني أتيتك معترفاً بذنبي وأنا أسألك الاستغفار، قال: ثم أنشأ يقول:

    يا خير من دفنت في الترب أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم

    نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الطهر والكرم

    ثم بكى الأعرابي وانصرف.

    يقول العتبي : فأصابتني سنة من النوم، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي: يا عتبي ! الحق الأعرابي وأخبره أن الله تعالى قد غفر له!

    فهذه القصة من الغريب، يعني أن أئمة أجلاء ساقوها في هذا المساق، ويندر أن يكتب أحد في باب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويذكر هذه القصة.

    على سبيل المثال ممن ذكرها الإمام النووي في المجموع، وذكرها ابن قدامة في المغني، وذكرها ابن كثير في التفسير عند قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ [النساء:64]، وذكروها على سبيل الاستحسان، ليس الاحتجاج بها؛ لكن الاستحسان والاستئناس بها.

    ولكن نقول: إن الواقع أن هذه القصة -أولاً- لا تصح من حيث السند، وأيضاً هي عبارة عن رؤيا، والعتبي من هو؟ وهذا لا مجال للاستدلال فيه بحال من الأحوال على مثل هذه المسائل التي فيها الأخذ والرد.

    ولذلك نقول: إن الراجح أنه لا يشرع شد الرحل لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما تستحب زيارته إذا كان في المدينة، سواء كان من أهلها أو زارها، وأن من أراد السفر إلى المدينة فعليه أن ينوي زيارة المسجد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ومسجدي هذا )، وإذا زار المسجد زار القبر استحباباً، أما أن ينشئ السفر لقصد زيارة القبر فلا.

    وابن تيمية رحمه الله أطال النفس في هذه المسألة، وقد امتحن بسببها وأوذي وسجن؛ لأن المشهور عند كافة الفقهاء هو استحباب ذلك وفضيلته، فلما قال ابن تيمية رأيه وأعلنه رحمه الله وقع عليه النكير، وتنادى إليه بعض العلماء وأجلبوا إليه، وسعوا به إلى السلطان، وسجن وأوذي، ووقع بسبب ذلك أمور عظيمة، مع أن المسألة هي من مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف.

    وابن تيمية رحمه الله نصر قوله بالحجة والدليل والرأي الذي يراه، ولم يأت ببدع من الأمر، بل هو مسبوق إلى هذا القول من الحنابلة والمالكية والأئمة وغيرهم، والصحابة أيضاً في الصحيح: ( لما رأى أبو بصرة أبا هريرة رضي الله عنه قادماً، قال أبو بصرة لـأبي هريرة : من أين أقبلت؟ قال: من الطور -يعني: ذهب لزيارة الطور، وذهب لاعتقاد فضيلة الطور؛ لأن الله تعالى أقسم به- فقال: لو رأيتك ما تركتك تذهب؛ لأني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ).

    ولكن غالباً ما يكون بين العلماء أحياناً بسبب الاختلاف ضيق في النفوس وتشبع ببعض الآراء وتعصب لها، والتعصب في الواقع مذموم حتى لو كان للحق، فلا يتعصب الإنسان للحق، وإنما يتمسك بالحق؛ لأن التعصب يفضي إلى سوء الأخلاق وإلى الشدة على المخالفين، وإلى تجنب العدل والإنصاف فيهم، وإلى الظلم والهوى، وإلى التعسف، وأحياناً إلى أن يتجاوز الإنسان ما شرع الله عز وجل بسبب العصبية وفرط الهوى، وربما تمنى الإنسان موت المسلم المصلي القانت العابد النافع لنفسه ولأمته ولغيره، بسبب أنه لم يرق له اجتهاد أو فتوى أو قول من الأقوال، وما ذلك إلا بسبب غلبة الجهالة عند الناس وضعف فقههم، وإلا فإن العدل والأناة خير!

    ولذلك نجد أن كثيراً من المحن التي امتحن بها العلماء والناس في التاريخ سببها التعصب، ولذلك الإمام ابن مفلح في الفروع في كتاب الطهارة نقل كلاماً يقول عن أبي الوفاء بن عقيل وغيره، يقول: إني رأيت الناس لا يمنعهم من الظلم شيء إلا العجز، ثم قال: لا أقول العوام، بل العلماء، فإني رأيت أن الحنابلة لما كان لهم دولة وسلطة استطالوا على الشافعية ومنعوهم من القنوت، وسعوا بهم إلى السلطان وضيقوا عليهم، فلما كانت النوبة أو الدولة إلى الشافعية استطالوا على الحنابلة وسبوهم ونبزوهم بالتجسيم، وسعوا بهم إلى السلطان وآذوهم!

    ثم قال: وهل هذه إلا أخلاق العسكر! أي: أخلاق الجنود، وليست أخلاق العلماء، هذه أخلاق الجنود والعساكر الذين يؤذون الناس ويظلمونهم ويبغون عليهم بغير الحق في أيام دولتهم وقوتهم، فإذا زالت دولتهم لزموا المساجد وتظاهروا بالزهد.

    وقديماً كان المتنبي يقول:

    والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم

    ولا يردع الإنسان عن الظلم إلا التقوى، ولهذا الله سبحانه وتعالى قال: وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ [الأحزاب:72]؟ بطبعه: كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، فهذا من المعاني العظيمة.

    فوائد الحديث

    من فوائد حديث الباب:

    أولاً: مشروعية زيارة القبور، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فزوروها ) .

    مشروعية تذكر الآخرة: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [ص:46] فإنها تذكر بالآخرة.

    من فوائد الحديث -أيضاً- وهي فائدة مهمة: وقوع النسخ في الشريعة خلافاً لمن أنكر ذلك من الخوارج وغيرهم، فإن النسخ يقع في القرآن ويقع في السنة على تفصيل طويل، وهو يعني النسخ يعني: إبطال حكم شرعي بحكم آخر يأتي بعده، والنسخ يعرف بأحد أمور:

    إما أن يعرف النسخ بنص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مثل حديث الباب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها.. كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي أن تدخروا فادخروا) فبين الناسخ وبين المنسوخ، وهذا أحسن ما يكون، أن يكون بيان الناسخ والمنسوخ على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    أيضاً قد يعرف النسخ عن طريق الصحابة، مثل قول جابر : ( كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار ) فهذا من الصحابة.

    وكذلك مسائل عديدة كان الصحابة يراقبون فيها النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل أمرين مختلفين، فيجدون أن الأمر الآخر هو الناسخ، ولعله من هذا.

    على سبيل المثال مما مر معنا: حديث علي رضي الله عنه: ( قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد ) عند الشافعي وغيره ممن يقولون إن هذا ناسخ، أن القعود ناسخ للقيام، وقد رجحنا سابقاً أنه لا يلزم النسخ، لكن المقصود المثال، أنه قد يعرف النسخ عن طريق الصحابي.

    أيضاً قد يعرف النسخ عن طريق الإجماع على ترك حكم من الأحكام، ولعل من أفضل الأمثلة في هذا: الحديث الذي رواه الترمذي في سننه وأشار إليه في العلل -علل الترمذي- الذي مع السنن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن شرب -يعني الخمر- فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه، قال في الرابعة: فإن شرب فاقتلوه) فهذا الحديث أشار إليه الترمذي في العلل، وقال: إنه لم يخرج في جامعه حديثاً اتفقوا على عدم العمل به إلا هذا الحديث، وذكر حديثاً آخر.

    فقال العلماء: إن هذا الحديث لم يعمل به من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، لم يقتل شارب الخمر في الرابعة، وإن كان قد يوجد أقوال ضعيفة ومهجورة في هذا، لكن المشهور عند الأئمة والعلماء: أن شارب الخمر يجلد فحسب، وقد ورد أن بعض الصحابة ابتلوا بشرب الخمر، وتكرر منهم، وتكرر الحد عليهم، ومع ذلك لم يقتل أحد منهم، مثل من؟

    مثل أبي محجن الثقفي، ومثل أيضاً عبد الله الذي جلد في الخمر الذي كان يلقب بـ حمار، وكان يضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال بعض الصحابة: (لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا لعنه الله، قولوا: رحمك الله، وقال: إنه يحب الله ورسوله) والحديث في البخاري.

    فالمهم أنه يعرف النسخ -إذاً- بترك العمل بالحديث والإجماع على تركه، وهنا يقول العلماء: إن الناسخ ليس هو الإجماع، وإنما يكون الناسخ أمر آخر عرف بالإجماع، مثل أن يكون النبي نفسه صلى الله عليه وسلم ترك العمل به، فترك العمل به فيه نوع من النسخ بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء تلقوا ذلك بالقبول، واعتبر هذا إجماعاً.

    الأمر الرابع الذي يدل على النسخ التقدم والتأخر مع التعارض، وجود تعارض بين نصين أحدهما متقدم والآخر متأخر لا يمكن الجمع بينهما؛ لأنه إذا لم يعلم المتقدم من المتأخر فلا مجال للنسخ، وأيضاً: إذا أمكن الجمع بينهما فلا مجال للنسخ، وإن كان من أهل العلم من قد يرجح النسخ من غير قطع، ولهذا يختلف العلماء، مثلاً عندما يكون عندنا حديث الوضوء من مس الذكر، مرة قال: ( إنما هو بضعة منك ) ومرة قال: ( من مس ذكره فليتوضأ ) فهذان نصان أحدهما معارض للآخر، لا نقول: لا يمكن الجمع بينهما، لكن بعض أهل العلم يرى أنه لا يمكن الجمع بينهما، فيلجأ إلى القول بالنسخ ويرجحون أن الحديث الأخير، وهو: ( من مس ذكره فليتوضأ ) ناسخ لحديث: ( إنما هو بضعة منك ) ويرجحون هذا بالتاريخ، ويرجحونه أيضاً بالنظر؛ لأنهم يقولون: إن قوله: (بضعة منك) هذا موافق للأصل بعدم تكليف ذمة المكلف بالوضوء، ثم انتقل عن ذلك إلى حكم جديد، وهو أن المكلف مطلوب منه أو ذمته مشغولة بالوضوء إذا مس ذكره.

    بينما ينفصل آخرون عن هذا فيقولون: إن هذا الحديث لا ينطبق عليه الشرط؛ لأن الجمع بين الحديثين ممكن، وإذا أمكن الجمع بينهما فهو أولى؛ لأن النسخ معناه: إلغاء حديث، إلغاء نص، وإلغاء النص عسير، فيجمعون بين الحديثين من طرق، مثل أن يقولوا: إن الأمر محمول على الاستحباب، وهذا ذكره ابن تيمية رحمه الله وغيره.

    أو يقولوا: إن الأمر في حال دون حال، مثل إذا مس ذكره بشهوة.. إلى غير ذلك.

    المقصود هنا: موضوع النسخ وثبوته في الشريعة وكيف يعرف النسخ.

    أيضاً من فوائد الحديث: تعليل الأحكام الشرعية، وهذه مسألة أيضاً أصولية وعويصة، وجرى الخُلْف فيها بين أهل الظاهر وبين الجمهور في مسألة تعليل الأحكام.

    والجمهور على أن الأحكام الشرعية معللة، وهكذا تجد هنا مثلاً يقول: ( فإنها تذكر بالآخرة ) بين علة الأمر، وعلة الأمر هنا معرفتها مفيدة؛ لأنها تزيد المكلف إيماناً ويقيناً، وهذا من فوائد معرفة العلة أنها تزيد المكلف إيماناً ويقيناً.

    ومن فوائد معرفة العلة أيضاً: أنها تجعل مجالاً للقياس، فإن القياس باب من أبواب الفقه في الشريعة، والقياس لا يكون إلا إذا كان الحكم معللاً، بحيث تعرف علته ويقاس على هذا الحكم ما يتفق معه في العلة.

    1.   

    شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور)

    ننتقل بعد ذلك للحديث الذي يليه.

    ورقمه: (587)، حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور ).

    والحديث رواه الترمذي وصححه ابن حبان كما يقول المصنف.

    تخريج الحديث

    الترمذي رواه في باب كراهة زيارة النساء للقبور، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه أيضاً ابن ماجه في باب النهي عن زيارة النساء للقبور، ورواه ابن حبان كما أشار المصنف في قوله: (وصححه)، أخرجه في صحيحه، وكذلك الإمام أحمد في مسنده والبيهقي .

    وفي سند الحديث عمر بن أبي سلمة وهو مختلف فيه، فعمر بن أبي سلمة وفيه اختلاف كثير، ومن أهل العلم من ضعفه، ومنهم من قواه، ولكن فيه اختلاف .

    وللحديث شاهد، يعني: الحديث بـعمر بن أبي سلمة هذا قد يقال: إنه من قبيل الحديث الحسن لا يصل إلى درجة الصحيح، بل يتقاصر عن رتبة الصحيح ويكون من قبيل الحديث الحسن؛ لأن ضعف عمر بن أبي سلمة ليس شديداً، وإنما فيه ضعيف يسير أو فيه اختلاف، فنقول: الحديث أقرب إلى أن يكون حديثاً حسناً، ومع ذلك فقد جاء للحديث أكثر من شاهد.

    شواهد الحديث

    من شواهد الحديث: حديث ابن عباس رضي الله عنه، وهو حديث أبي صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج ).

    حديث ابن عباس هذا رواه أبو داود والترمذي والبيهقي والحاكم كلهم في أبواب الجنائز، وهو كما قلت: من طريق أبي صالح عن ابن عباس , وأبو صالح أكثر من واحد، لكن أبو صالح هذا هو باذان آخره ميم أو نون، إما باذان أو باذام، وهو مولى أم هانئ، هذا هو الراجح من كلام علماء الأسانيد، وإن اختلفوا فيه، لكن هذا قول الأكثرين وهو الراجح؛ أن أبا صالح هذا الراوي عن ابن عباس هو باذام، وهو مولى أم هانئ، وأبو صالح هذا ضعيف، ولذلك ضعفنا حديث ابن عباس أيضاً .

    ولكن يشهد له حديث ثالث: وهو حديث عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن زائرات القبور )، وهو عند الحاكم والبيهقي وابن ماجه وفيه ضعف أيضاً.

    فهذه ثلاثة أحاديث في لعن زائرات القبور:

    الحديث الأول عن أبي هريرة حديث الباب.

    والثاني: حديث ابن عباس قلنا: علته: أبو صالح مولى أم هانئ.

    وحديث أبي هريرة ما علته: عمر بن أبي سلمة .

    الثالث: حديث حسان بن ثابت وفي سنده ضعف، لكن هذه الأحاديث قد يقوي بعضها بعضاً؛ لأن ضعفها ليس بالشديد.

    معاني ألفاظ الحديث

    أما ما يتعلق بألفاظ الحديث:

    فإن قول أبي هريرة : ( لعن رسول الله )، وفي الحديث الآخر: ( لعن الله )، وإذا لعن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من لعن الله عز وجل .

    واللعن كما هو معروف هو: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وهو في مثل هذه المواضع من الوعيد ومن الدعاء الذي يراد به الزجر عن شيء وليس لعناً لفرد معين، وإنما هو لعن على صفة، مثل: فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران:61].. وما أشبه ذلك، أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]، فهو لعن لفعل معين مذموم وتحذير الناس من الوقوع فيه.

    وأما قول ابن عباس : ( والمتخذين عليها المساجد والسرج ) فمعناه: الذين يبنون على القبور المساجد، وهذا دأب قديم: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا [الكهف:21] فاتخذوا على أهل الكهف مسجداً، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ).

    واتخاذ القبور مساجد يطلق على حالين:

    الحال الأولى: أن يبنى على القبر مسجد، وهذا مظنة أن يعم الجهل على الناس فيتحولون من عبادة الله إلى عبادة صاحب القبر .

    والمعنى الثاني: الصلاة، يعني: قصد هذه الأماكن القبور وغيرها للصلاة، ولهذا قال: ( لا تتخذوا بيوتكم قبوراً )، يعني: لا يصلى فيها، أي: صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً.

    فاتخاذ القبور مساجد معناه: أن ترتاد بقصد الصلاة فيها، ولا يستثنى من هذا إلا صلاة الجنازة في الحالات التي سبق أن ذكرناها.

    حكم زيارة النساء للقبور

    أما ما يتعلق بمسألة الحديث، ففيه مسألة ظاهرة وهي: زيارة النساء للقبور، وقد سبق أن ذكرنا هذه المسألة ولا بأس أن نعيدها الآن باختصار.

    حكم زيارة النساء للقبور فيها تقريباً أربعة أقوال:

    القول الأول: جواز زيارة النساء للقبور وأدلته

    القول الأول: أنها جائزة، يعني: ليست مستحبة ولا مكروهة، بل على الإباحة، وهذا لعله قول الأكثرين من الفقهاء والعلماء والأئمة:

    وحجتهم في هذا القول بجواز زيارة النساء للقبور عموم الإذن، يعني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فزوروها ) وقالوا: الأمر في الشريعة وإن كان موجهاً إلى الرجال إلا أنه يعم الرجال والنساء، والأصل اشتراكهم في الحكم، فقالوا: إن هذا الأمر يدل على أنه يجوز للمرأة أن تزور القبور كالرجل.

    أيضاً من أدلتهم قالوا: التذكير، لقوله: ( فإنها تذكر بالآخرة ) فإن المرأة محتاجة إلى التذكير بالآخرة مثلما الرجل محتاج إلى التذكير فيها أيضاً.

    من أدلتهم ما في صحيح البخاري عن أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأة تبكي عند قبر فقال لها: اتقي الله واصبري، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمثل مصيبتي! فانصرف عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لها: أتدرين من تخاطبين؟ قالت: لا، قالوا لها: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت إلى بيته فلم تجد عنده بوابين، فدخلت عليه وقالت: يا رسول الله! لم أعرفك )، كأنها تعتذر، تقول: ما عرفتك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتميز عن أصحابه بشيء، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) الصبر الحقيقي المحمود هو أول ما تنزل المصيبة فيصبر الإنسان، ولهذا إذا صبر الإنسان عند المصيبة أول ما تنزل رزقه الله تعالى القوة والثبات بعد ذلك، أما إذا ضعف وانهار عند أول ما تقع الصدمة فإنه قد يستمر الأمر معه .

    فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالصبر والتقوى، ولم ينهها عن زيارة القبر أو كونها عند القبر، فدل ذلك على أن هذا جائز.

    والحديث كما قلت في صحيح البخاري .

    ومن أدلتهم -أيضاً- حديث عائشة، وهو في صحيح مسلم : ( لما ذكر لها النبي صلى الله عليه وسلم المقابر، قالت: يا رسول الله! كيف أقول إذا زرت المقابر؟ فقال: قولي: السلام على أهل الديار.. ) ولقنها النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء الذي تقوله، والحديث في صحيح مسلم .

    ومن أدلتهم: [ أن عائشة -وحديثها في السنن وغيره- زارت قبر أخيها عبد الرحمن وقالت: لو شهدتك ما زرتك، ثم تمثلت بأبيات من الشعر، تقول:

    وكنا كندماني جذيمة برهة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

    فلما تفارقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا ]

    فقالوا: إن هذا دليل على الجواز وأن عائشة كانت تراه. هذه أدلة القائلين بالجواز.

    وأما جوابهم عن حديث الباب:

    فأجابوا عن حديث الباب بلعن زوارات القبور:

    أولاً: قد ينفصلون عن الأحاديث بالقول بأن هذه الأحاديث ضعيفة أو فيها مقال، ومعروف أن أهل العلم يختلفون في التصحيح والتضعيف.

    وأيضاً من الملاحظ أن أهل العلم إذا تبنى أحدهم رأياً بطبعه قد يميل إلى تضعيف الراوي والأخذ بقول المضعفين، ولو أنه تبنى غيره فقد يميل إلى تقويته من دون أن يتقصد شيئاً، ولكن هذا طبع الإنسان أحياناً.

    قد يقولون بتضعيف هذه الأحاديث، هذا جواب عندهم.

    الجواب الثاني: أن يقولوا: إن اللعن والنهي كان قبل الإذن؛ لأنه كان هناك نهي سابق: ( كنت نهيتكم ) كان هناك نهي سابق عن زيارة القبور، نهي الرجال ونهي النساء، فيقولون: إن اللعن المتوجه على النساء بزيارة القبور كان في وقت النهي الأول، فلما جاء النسخ نسخ اللعن وبقي النهي بالنسبة للنساء إما أن يقال: إنه بقي النهي، أو يقال: نسخ أيضاً وأصبح الأمر مباحاً، يعني: الحكم صار فيه اختلاف بين الرجال والنساء، لكنهم يقولون: إن اللعن كان في وقت النهي، هذا جوابهم.

    أيضاً جواب ثالث: وهو أنهم يحملون اللعن على من زارت زيارة غير شرعية، إما بتكرار الزيارة تكراراً مفرطاً، وقالوا: إن تكرار المرأة الزيارة يقع فيه ظهور العورات والفتنة، وربما التعرض للسوء، إضافة إلى ما قد يقع من المرأة من الضعف والجزع والهلع بذكر الموتى والصياح والعويل وما سوى ذلك.

    هذه ثلاثة أجوبة لهم على أحاديث الباب.

    القول الثاني: تحريم زيارة النساء للقبور وأدلته

    القول الثاني: أن زيارة النساء للقبور حرام:

    وهذا قول مشهور سبق أن أشرنا إليه؛ قول مشهور عند الشافعية والمالكية وبعض الحنابلة، واختاره ابن تيمية رحمه الله وابن القيم ونصروه نصراً مؤزراً، أنه يحرم على النساء زيارة القبور، وفندوا كل ما عارض هذا القول من الأدلة.

    من أدلتهم على التحريم: أحاديث الباب، وفيها اللعن، واللعن لا يكون إلا على أمر عظيم.

    والقول بأن هذا خاص بحال معينة لا دليل عليه، فإن اللعن معلق بالحديث أو متعلق بالصفة وهي الزيارة من دون إضافة أمر آخر.

    وأيضاً يقولون: إن كون اللعن كان في وقت النهي الأول ليس عليه دليل، بل الأصل بقاؤه، وهذا نهي خاص للنساء.

    ومما يعززه أيضاً حديث أم عطية في صحيح البخاري قالت: ( نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا ) فقالوا: إن الشق الأول من الحديث في النهي عن اتباع الجنائز يدل على بقاء الحكم بالنسبة للنساء، وكون أم عطية لم تشهد العزيمة كما يقول ابن القيم فقد شهدها غيرها.

    وبناء عليه رجح هؤلاء الأئمة تحريم زيارة النساء للقبور، وعززوا ذلك بما يقع من النساء من التأثر الشديد لحال الميت، وأيضاً ما يقع من التبرج والاختلاط وغير ذلك، حتى قال العيني : إنه ينبغي تحريم ومنع النساء من زيارة القبور قال: خاصة نساء مصر، وهو طبعاً مصري فهو يشاهد هذا، ولعل أهل كل بلد يعانون شيئاً معيناً فيشيرون إلى الأمر الذي يعانونه.

    القول الثالث: كراهة زيارة النساء للقبور وأدلته

    القول الثالث: أن ذلك مكروه، أن زيارة النساء للمقابر مكروهة.

    وقد سبق أن ذكرنا هذا القول، وهو المشهور عند الحنابلة، وحجتهم فيه حديث أم عطية : ( نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا ) فقولها: ( ولم يعزم علينا ) دليل على أن النهي ليس نهي تحريم، وإنما نهي كراهية.

    القول الرابع: استحباب زيارة النساء للقبور وأدلته

    القول الرابع: أن ذلك مستحب، وهذا مذهب ابن حزم، يرى أن الحديث عام للرجال والنساء، ولذلك يقول بالاستحباب.

    والراجح عندي متردد بين الكراهة والتحريم.

    وطبعاً حينما نقول: بين الكراهة والتحريم هذا في الزيارة المحضة، أما إذا صاحب الزيارة أمر محرم لذاته فهذا لا إشكال في القول بالمنع والتحريم.

    1.   

    شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة)

    الحديث (588): حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:

    ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة ) الحديث رواه أبو داود .

    تخريج الحديث

    رواه أبو داود في كتاب الجنائز باب: النوح، ورواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده والبيهقي .

    وهذا الحديث هو من طريق محمد بن الحسن بن عطية العوفي عن أبي سعيد، وهذا إسناد معروف، يعني: أصل عطية العوفي عن أبي سعيد هذا سند ضعيف، وإذا قال العلماء: وفيه عطية عن أبي سعيد فهو ضعيف، لكن أيضاً محمد بن الحسن عن جده هؤلاء يعني ضعفاء، ولذلك صرح الإمام أبو حاتم الرازي بأن هذا الحديث حديث منكر.

    معاني ألفاظ الحديث

    الحديث فيه مسألة النائحة والمستمعة، والنوح: هو رفع الصوت بالبكاء والعويل على الميت واجتماع النساء على ذلك.

    وأما المستمعة: فهي التي تقصد الاستماع لذلك، يعني: ليس السامع، وإنما المستمع، المستمع هو من تقصد الاستماع.

    1.   

    شرح حديث: (أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ننوح)

    الحديث الذي بعده: (589): حديث أم عطية رضي الله عنها قالت: ( أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ننوح ) والحديث متفق عليه.

    تخريج الحديث

    أولاً: تخريج الحديث: رواه البخاري في باب ما ينهى من النوح، وأيضاً رواه مسلم في باب التشديد في النياحة، ورواه النسائي في البيعة؛ لأنه: ( أخذنا علينا ) يعني: في البيعة، لما بايعهن على الإسلام.

    وقد رواه أحمد والبيهقي وغيرهم.

    معاني ألفاظ الحديث

    قولها رضي الله عنها أم عطية الأنصارية وهي صاحبة حديث: ( نهينا عن اتباع الجنائز )، وهي صحابية فقيهة كانت تجاهد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قولها: ( أخذ علينا ) يعني: في العهد والميثاق.

    (أخذ علينا) أي: شرط علينا.

    (ألا ننوح) وذلك شرط خاص بالنساء؛ لأن النياحة غالباً من فعل النساء، وإن كان قد يقع فيها الرجال، ولهذا كان هذا القيد والشرط على النساء في البيعة، ولم يكن على الرجال .

    وقولها: (ألا ننوح) بينا معنى النياحة، وفي الحديث نفسه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء دور أم عطية قالت: ( لا، يا رسول الله! أنا في فلانة من الأنصار أسعدتني ) أي: سبق أنها جاءت وناحت معي على ميت، فهذا معنى الإسعاد، يعني: ساعدتني أو عاونتني آزرتني وناحت معي، وعندها مصيبة الآن وأريد أن أذهب وأسعدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إلا فلانة ) والحديث في البخاري هكذا.

    والعلماء طولوا في قضية ما معنى الاستثناء، يعني: شريعة تنزل ويستثني أسرة معينة أو شخصاً معيناً، لكن أنا أقول: أمروها كما جاءت، دعوها على الطريقة المحمدية، يعني النبي صلى الله عليه وسلم عنده رعاية لأحوال الناس، وعنده سياسة شرعية، وعنده تقدير لبعض المواقف؛ لأن المرأة كانت متشددة في هذا الموقف، ويبقى أصل الحكم الشرعي ليس فيه استثناء، لكن كون هذه استغفر لها النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر من الأمور يترك بحاله دون حاجة إلى إفساد جمال هذا الحديث في الموقف الذي فعلاً، يعني أعجبني خلق النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه القضية، قالت: ( لا، فلانة أسعدتني، قال: إلا فلانة ) وبايعها النبي عليه الصلاة والسلام.

    حكم النياحة

    فالحديث في حكم النياحة

    القول الأول: تحريم النياحة وأدلته

    وحكم النياحة أولاً: محرم عند جماهير أهل العلم، بل حكى غير واحد الإجماع عليه، فهو المذهب المشهور عن الأئمة الأربعة وأتباعهم، وهو مذهب الصحابة والتابعين كافة: أن النياحة حرام.

    وحجتهم حديث الباب، وبالذات حديث أم عطية : ( أخذ علينا ألا ننوح ) فهو صريح في المسألة.

    وأيضاً: ما سوف يأتي من حديث عمر والمغيرة بن شعبة وغيرهم: ( أنه من يُنَح عليه يعذب في قبره بما نِيح عليه ) فهذا نهي عن النياحة.

    وهناك أيضاً حديث أبي مالك الأشعري، وهو في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن -وذكر فيها- النياحة على الميت ) ما هي الأربع؟

    ( الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت ) فذكر النياحة على الميت وأنها من أمر الجاهلية، وهذا دليل على تحريمها.

    وأيضاً: في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: ( لما مات جعفر وبكت النساء، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يذهب فيسكتهن، فذهب، ثم أمره أن يذهب مرة أخرى فرجع علي، وقال: والله لقد غلبننا يا رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فاحث في أفواههن التراب ) وهذا دليل أيضاً على تحريم الزعيق والنياحة ورفع الصوت بالبكاء.

    القول الثاني: لا يحرم من النياحة إلا ما صاحبه شيء من أعمال الجاهلية وأدلته

    وأما القول الثاني في المسألة وهو قول ضعيف ذهب إليه بعض فقهاء المالكية وليس هو المذهب عند المالكية، وإنما ذهب إليه بعض فقهاء المالكية، قالوا: إنه لا يحرم من النياحة إلا ما صاحبه شيء من أعمال الجاهلية، مثل: شق الجيوب، وخمش الصدور، ونتف الشعر أو جر الشعر.. وما أشبه ذلك من الأحوال.

    طبعاً قد يحتج هؤلاء بحديث أم عطية، وأنها قالت: ( يا رسول الله! إن فلانة أسعدتني فلابد أن أسعدها ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إلا فلانة ) فقالوا: لو كان الأمر على التحريم ما استثنى فيه أحداً.

    والواقع أنه يصعب اعتبار أن هذا القول خروج عن تحريم النياحة، فنحن نقول: إن النياحة بالمفهوم العام محرمة عند هؤلاء وغيرهم، ولكن النياحة أيضاً قد يكون مفهومها واسعاً، قد تكون درجات، قد يكون هناك نياحة محرمة وكبيرة من كبائر الذنوب، مثلما إذا كان فيها نوع من التسخط على القضاء والقدر، وقد تكون النياحة محرمة من دون أن تكون من الكبائر، مثلما إذا كان فيها صياح ونياح واجتماع على ذلك، ونوع من إضراء روح الحزن على الميت.

    وقد تكون مكروهة، مثلما إذا وجد نوع من الاجتماع وفيها بكاء مكتوم ونوع من المدافعة.

    فالأمر يختلف بحسب مفهوم النياحة ومقصودها، ولهذا القرافي ذكر أن النياحة أربعة أشياء وتختلف بحسب الحال، ولكن العلماء حين يتكلمون في تحريم النياحة يقصدون المفهوم العام الذي هو اجتماع النساء على الميت من أجل البكاء، فلم يجتمعن للتعزية، وبسبب وقع المصيبة وجد نوع من البكاء، وإنما نساء يجتمعن وأحياناً يكون بالأجرة، مثلما قالوا: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، يعني: بالأجرة من أجل تبكي على فلان ويتفاخر الناس أيهم أكثر بكاء وعويلاً وصياحاً، ويستمر لأيام طويلة، فهذا يقلب مناسبة الموت التي هي مجال للاعتبار والاتعاظ إلى نوع من المفاخرة والمباهاة، ولهذا نقول: إن أهل العلم كافة يقولون بتحريم النياحة.

    فوائد الحديث

    من فوائد الحديث:

    تحريم النياحة كما ذكرنا، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم شروط البيعة على النساء كما ذكرتها أم عطية .

    1.   

    شرح حديث: (الميت يعذب في قبره بما نيح عليه)

    الحديث (590): حديث عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الميت يعذب في قبره بما نيح عليه ) والحديث متفق عليه.

    أولاً: أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز، باب النياحة، وأخرجه مسلم في الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، وأخرجه النسائي وابن ماجه والبيهقي في الجنائز أيضاً، وأخرجه أحمد في مسنده والطيالسي وغيرهم.

    1.   

    شرح حديث: (من ينح عليه يعذب في قبره ..)

    رقم خمسمائة وواحد وتسعون. قال: ولهما نحوه عن المغيرة بن شعبة . يعني: للبخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة نحو حديث عمر .

    وحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه تقريباً نصه أنه رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن كذباً علي ليس ككذب على أحد )، إن الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على آحاد الناس.

    ( إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من يُنَح عليه يعذب في قبره بما نيح عليه ) هذا حديث المغيرة بن شعبة، وقد رواه البخاري ومسلم في الباب السابق كما ذكرنا، ورواه الترمذي والبيهقي وابن أبي شيبة .

    1.   

    تعذيب الميت ببكاء الحي

    توجد مسألة الآن: تعذيب الميت ببكاء الحي:

    وهذه مسألة عويصة وطال جدل العلماء حولها من الفقهاء والشراح وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين، وهذا فيه بحث طويل جداً، لكن نذكر لكم خلاصته في كلمات:

    الخلاصة أولاً: العلماء مجمعون على معنى قوله تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] فقد وقع الاتفاق من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أنه لا يعذب أو يؤاخذ أحد بذنب غيره إذا لم يكن له فيه أثر، هذا معنى متفق عليه، هذا أولاً.

    أما ما يتعلق بتأويل الحديث وأن الميت يعذب ببكاء الحي فلهم فيها ضروب كثيرة جداً:

    منها عائشة الصديقة رضي الله عنها كانت ترد هذا المعنى وتقول: إنهم لم يسمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم كاملاً، وإنما كان النبي عليه السلام يتكلم عن رجل من اليهود مات وهم ينوحون عليه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنه ليعذب في قبره وإنهم ينوحون عليه ) فالتبس الأمر عليهم.

    والواقع أن هذا التفسير من عائشة لا يقوى على جواب حديث عمر رضي الله عنه وحديث المغيرة وأحاديث كثيرة جداً عن جمع من الصحابة، أبو هريرة أيضاً ورد عنه هذا المعنى، ابن عمر .. فيبعد أن يكون هؤلاء كلهم فهموا الأمر على غير وجهه، لكن هذا جواب عائشة رضي الله عنها.

    الجواب الثاني: أن يقال: إن هذا في الكافر، والمقصود أنهم ينوحون عليه وهو يعذب في قبره بما ينوحون عليه، يعني: يعذب بما نيح عليه ليس يعذب بالنياحة، وإنما يعذب بالأشياء التي يمدحونه فيها، يعني: هم قد يكونوا يمدحونه بأنه كان شجاعاً، وهو شجاع قتل الناس وآذى العباد والبلاد، فيعذب في القبر بالصفة التي هم يمدحونه بها في الدنيا وينوحون عليه بسببها، فهذا من مخارج الحديث.

    أيضاً من مخارج الحديث: أن هذا فيمن أوصى بالنياحة، وبعضهم قد يوصي:

    إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة مالك

    والآخر يقول:

    إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر

    بعضهم يقول: ابكي سنة واحدة فقط لا تزيدي، هذا أظنه لبيداً ..

    المقصود: أن بعضهم يوصون، فيكون العذاب هنا لمن أوصى أن يناح عليه.

    وقد يلحق بعضهم بذلك أنه ليس بالضرورة أن يكون أوصى، لكن يعلم أنهم ينوحون ويتهيئون للنوح وأن من عادتهم النوح، ثم لا ينهاهم وهو ذاكر ومتعمد، فهذا قد يناله شيء من التقصير والتبعة.

    بعضهم يقول: -وهذا جيد- أن ذلك لا يعني عذاباً من الله، وإنما يعذب يعني يتألم، وقالوا: إن الميت يعلم ويسمع ما يقع من الأحياء، فيدري أنهم يبكون وينوحون، فيصيبه من جراء ذلك ألم، وهذا الألم الذي يصيبه في قبره الله أعلم بكيفيته، لكن يقع له ألم، يعني: إذا وجد أن من تركهم وراءه تأثروا بموته وبكوا وحزنوا، يصيبه لذلك حزن، فهذا ألم ولكنه ليس عذاباً من الله، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( السفر قطعة من العذاب ) فالمسافر هنا يقال: إنه أصابه شيء من العذاب بالسفر، وليس عذاباً من الله، وإنما هو عذاب بسبب المعاناة ومتاعب السفر، وهذا الذي ذكره الطبري وكذلك القاضي عياض من المتقدمين، واختاره الشيخ ابن تيمية والشيخ محمد بن عثيمين وغيرهم.

    و ابن حجر رحمه الله حمل الأمر على الجميع، وقال: إن كل هذه الوجوه محتملة، يعني: يعذب.. قد يكون بحسب الحال، إما يعذب لأنه أوصى، أو لأنه لم ينههم، أو يعذب بذنوب عملها ومدحوه بها، أو يعذب بسماعه لبكائهم.

    الحديث عن عمر أم ابن عمر ؟

    يوجد حديث عن عمر وابن عمر، لكن حديثنا هذا عن عمر، والآخر عن المغيرة.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768032872