إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
رقم هذا الدرس (201) من شرح بلوغ المرام، وهذا هو يوم السبت: 21/جمادى الأولى/1427ه.
حقيقة البارحة أنا كنت في الرياض وكان عندي بعد الظهر برنامج، يعني: هذه فقط فائدة أحببت أن أستفتح بها، ثم بعد البرنامج موعد إلى العصر، وبعد العصر موعد إلى المغرب، وبعد المغرب موعد إلى العشاء، ثم انصرفنا إلى القصيم، وبعدما وصلت يمكن الساعة الحادية عشرة ونصف، ثم العشاء، ثم بدأت من أجل أني أرتب موضوع الدرس وأحضر وأجهز أوراقي، ففي هذه الأثناء أيضاً اتصل علي أحد الجيران وكان مكروباً وقال: أريدك ضروري جداً في أمر لا يحتمل التأخير، وجاء عندي لمدة ساعتين، وبعدها رجعت أرتب الدرس فوجدت أن الطفل يصيح يقول: قل لي قصة أنا أبغى قصة، والبنت تقول: بابا اقرأ علي، ووجدت أن الذهن مشوش وطار النوم، وما استطاع الإنسان يستفيد تحضيراً ولا نوماً ولا قراءة، ولما كان الصباح -بعد الفجر- أحاول، ولكن بدون فائدة من النوم لا مجال.
فقلت: إذاً: أقوم وأستفيد من الوقت وأحضر، وفعلاً قمت ووجدت أني خلال سويعات الصباح الأولى وكما: ( بورك لأمتي في بكورها )، رتبت موضوع هذا الدرس، والحمد لله.
فمن فوائد الحياة: أن الإنسان أحياناً عندما يكون عنده بحبوحة من الوقت وسعة يضيعها.. استرخاء، يقول: معي وقت، ويأتيه الوقت والأجل وهو لم يصنع شيئاً.
وعلى النقيض إذا شعر بأنه مضغوط وأن الوقت عنده قصير، استثمره أحسن ما يكون من الاستثمار، وهذا يؤكد على قضية الهمة في طلب العلم.
اليوم عندنا أيضاً عدد من الأحاديث يمكن سبعة أحاديث إن شاء الله متعلقة بدفن الميت وما يحتك به، وكذلك أحكام القبور.
أولها: الحديث رقم (578): حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ( ألحدوا لي لحداً وانصبوا علي اللبن نصباً، كما فعل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ). والحديث رواه مسلم .
ما يتعلق بتخريجه: فقد رواه مسلم في صحيحه كتاب الجنائز باب اللحد، ورواه أيضاً أبو داود وابن ماجه في الجنائز، باب اللحد، وخرجه الإمام أحمد في مسنده والبيهقي، والطحاوي وغيرهم.
وفيما يتعلق بمسائل الحديث وأبحاثه فسوف تأتي في الحديث الذي بعده، وهو الحديث رقم (579) .
فأولاً ما يتعلق بتخريج الحديث الثاني حديث جابر : فقد رواه البيهقي في كتاب الجنائز، باب لا يزاد في القبر أكثر من ترابه.
ورواه أيضاً ابن حبان كما أشار إليه المصنف وصححه، وذلك في كتاب التاريخ، وصف قبر المصطفى صلى الله وعليه وآله وسلم.
هم أبو داود، الترمذي، النسائي، ابن ماجه، وفي سند الحديث عبد الأعلى بن عامر وهو ضعيف، ولكن له طرق، وهو حديث مشهور، وإن كان ضعيف الإسناد.
أولها: ما يتعلق باللفظ -لفظ الحديث حديث سعد - يقول: ( ألحدوا لي )، (ألحدوا): بالهمزة المكسورة وفتح الحاء، ويجوز غير ذلك يجوز كسر الحاء: (ألحِدوا لي لحداً).
طيب. ما هو اللحد؟ يقول العلماء في اللغة: إن اللحد هو الميل، فالملحد هو المائل، ومنه يقال الملحد يعني: المائل عن الدين.
وقد استخدمت هذه الكلمة الآن -كلمة ملحد- بمعنى: المنكر لوجود الله وأصبح لها معنى خاصاً، فإذا قيل: فلان ملحد يعني: أنه ينكر وجود الله، فلو أن إنساناً وصف آخر وقال: هذا إنسان ملحد، ولما رفعت ضده قضية في المحكمة قال: صحيح. أنا قلت ملحد، لكن أنا لا أقصد أنه ينكر وجود الله، أقصد أن عنده بعض الأخطاء في فهمه للدين، هل يقبل تفسيره أو لا يقبل؟ لا يقبل؛ لأن كلمة ملحد أصبح لها مفهوم عرفي شائع عند الناس، فإذا قيل: إن فلان ملحد فمعناها عند الكافة: أنه لا يعترف بوجود الله ولا يؤمن بالأديان السماوية.
إذاً: هذا أصل الإلحاد هو الميل.
طيب. في الحديث حين يقول: ( ألحدوا لي لحداً ) ما هو اللحد؟
اللحد فيما يتعلق بشق القبر يعني: حفر القبر، اللحد: هو أن يحفر القبر حفراً عادياً في الأرض، ثم يحفر إلى جهة القبلة زيادة من داخل القبر، يعني: يكون في البداية شق الأرض بالحفر، يعني: عبارة عن مستطيل كما هو معروف، ثم من داخل القبر في أسفل القبر الذي سوف يوضع فيه الميت يتم حفر الأرض من الداخل إلى جهة القبلة، وهو المعمول به الآن في معظم أمصار المسلمين، فهذا هو معنى اللحد.
وكما في حديث ابن عباس : ( اللحد لنا والشق ).
يقابل اللحد الشق. ما هو الشق؟ هو الشق في الأرض هكذا المستطيل بدون أن يكون هناك حفر إلى جهة القبلة.
إذاً: فيه زيادة عن الشق أم لا؟ فيه زيادة.
اللبن جمع: لبنة على المشهور بكسر اللام وسكون الباء لِبنة أو لبنة، تجمع على لبن أو على لبنات، ولا يصلح أن نجمعها على ألبان؛ لأن الألبان جمع اللبن، إذا صح أن اللبن يجمع، ويمكن أن يجمع باعتبار هذا لبن الغنم أو البقر أو غير ذلك.
إذاً: أمر أن ينصب عليه اللبن يعني: على قبره، أن يوضع اللبن على قبره، يغطى قبره باللبن، واللبن غالباً ما يكون من الطين، وهذا هو الذي عليه جمهور السلف والأئمة: أن السنة أن يغطى قبر الميت باللبن، ومن الطين أو التراب أو نحوها، وأن يوضع بين اللبنات أيضاً الطين كما نص عليه الإمام أحمد وغيره، وقد ورد مرفوعاً، بحيث إن الفتحات التي بين اللبنات تغطى بالطين.
ومن الطريف هنا أن بعض العجم أخطئوا في قراءة الحديث، فكانوا يأتون إلى قبر ميت، ويصبون عليه اللبن صباً، ويظنون أن هذه هي السنة، أنه: (وصبوا علي اللبن صباً)، فكانوا يصبون اللبن على قبره يظنون أن في ذلك بركة أو أجراً أو سنة.
قوله: ( كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم ). هذا كما مر معنا له حكم المرفوع، وبناءً عليه نقول: إن اللحد هو السنة، وهو أصح ما ورد، لقول سعد هنا: ( كما فعل برسول الله )، وقوله: ( كما فعل برسول الله )، يعني: اللحد ونصب اللبن يعني: الثنتين معاً هذا هو الأصل، أن كلا الأمرين هو المنقول والمفعول برسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى لا يختار لرسوله صلى الله عليه وسلم إلا ما هو الأفضل.
وقد جاء أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا: هل يلحدون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو يشقون له؟ فقالوا: نرسل للاحد ونرسل للشاق، وأيهما جاء أولاً حفر القبر، فجاء اللاحد أولاً، ويحمل هذا إن صح على أن الذين اختلفوا لم يكن عندهم توقيت من الرسول صلى الله عليه وسلم، إما بناءً على ضعف حديث ابن عباس أو لأنه لم يبلغهم، وهذا قد يحدث أن الصحابي قد يخفى عليه شيء من السنة، مع أن الحديث كما قلنا: فيه ضعف لوجود عبد الأعلى بن عامر فيه.
أيضاً: فيما يتعلق بحديث جابر أولاً: نشير إلى أن حديث جابر له رقم آخر غير حديث سعد، والسبب ما هو؟
أولاً: اختلاف الصحابة.
ثانياً أيضاً: اختلاف المتن.
فالواقع أن سياق المؤلف هنا فيه اختصار شديد، ولذلك هو قال: وللبيهقي عن جابر نحوه، وعادة كلمة نحوه أو ما أشبه ذلك تستخدم إذا كان اللفظ متقارباً جداً، بينما الواقع أن حديث البيهقي عن جابر لا علاقة له بـسعد بن أبي وقاص، وإنما حديث البيهقي عن جابر : ( عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لحدوا له لحداً، ورفعوا قبره عن الأرض قدر شبر )، فهو متعلق بقوله: (كما فعل برسول صلى الله عليه وسلم) أو شاهد لقول سعد : (كما فعل برسول صلى الله عليه وسلم).
المسألة الأولى: قضية اللحد والشق، هل السنة اللحد للميت أو السنة الشق؟
وأولاً: أهل العلم اتفقوا على جواز الأمرين، ومن الجيد دائماً لطالب العلم أن يبدأ بالمتفق عليه، ويبدأ بالمجمع عليه؛ لأن أصول المسائل ورءوس المسائل هي المتفق عليها، وأنت ترى هنا مثلاً في هذه المسألة ومسائل كثيرة جداً نعرضها: أن العلماء متفقون على جواز الأمرين، ولكن الخلاف بينهم في الأفضلية، أو الخلاف أن هذا العمل مباح أو مكروه غالباً، وهذا يعطي سعة لطالب العلم أن الأمر لا يضيق فيه، والناس قد يختلفون وتختلف أوضاعهم وظروفهم ومناخاتهم وجغرافية بلادهم وأحوالهم وعوائدهم، ولا يسعهم أحياناً اجتهاد خاص، وإنما التوسعة على الناس هي التي تجعلهم يندفعون عن الفتنة، ويلتزمون بالدين، وتقل بينهم الخلافات مع وجود التوجيه والإرشاد.
فهذا مبدأ مهم أن يبدأ طالب العلم أولاً بالمتفق عليه، ثم ينتقل إلى المختلف فيه، وليس العكس.
فهنا المتفق عليه بين أهل العلم أن كلاً من اللحد والشق جائز ولا شيء فيه، وإنما الخلاف هو في الأفضلية، فبعض أهل العلم قالوا: إن اللحد أفضل، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل الحنابلة والظاهرية وغيرهم، وهو مذهب الأكثرين، ونقل عن جمع من الصحابة منهم: سعد بن أبي وقاص وجابر وعمر وابن عمر وابن عباس وغيرهم، وحديث ابن عباس واضح هنا، وأبي أمامة : أن اللحد أفضل من الشق.
وحجتهم أولاً: أن هذا ما فعل بالنبي صلى الله وعليه وآله وسلم، ويدل عليه حديث سعد رضي الله عنه وحديث جابر أيضاً.
وقالوا: إن الله لا يختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا ما هو الأفضل.
الدليل الثاني عندهم: حديث ابن عباس : ( اللحد لنا والشق لغيرنا ). وقد جاء من طرق، ولكن الحديث ضعيف -كما أسلفنا- فيه عبد الأعلى بن عامر، فالاستدلال به لا يتم.
إذاً: هذا هو القول الأول، وفيه أصح ما ورد في الباب حديث سعد بن أبي وقاص ؛ لأنه عند مسلم في الصحيح.
القول الثاني: أن الشق أفضل وعدم اللحد، وهذا منقول نقله جماعة عن الإمام الشافعي من الشافعية وغيرهم، وهو مشهور عن الإمام الشافعي أنه يقول: الشق أفضل من اللحد، والغريب أن هذا القول الذي نقل عن الإمام الشافعي أن الشافعي يحتج لهذا القول بعمل أهل المدينة يقول: لأن هذا الفعل هو الذي جرى عليه عمل أهل المدينة، وأنتم تعرفون أن الاحتجاج بعمل أهل المدينة ليس من طريقة الشافعي وإنما هو طريقة مالك .
فهذه من الأشياء التي تسجل، ويستفيد منها طالب العلم في البحث أن هذه المسألة ومسائل قليلة ربما يحتج بها الشافعي أو غيره بعمل أهل المدينة، وكيف يجاب عن عمل أهل المدينة؟
يجاب عن عمل أهل المدينة بأجوبة منها: أن يقال: إن ثبوت اللحد للنبي صلى الله عليه وسلم في قبره ولـسعد بن أبي وقاص ولجماعة من الصحابة يدل على أن هذا ليس عليه عمل أهل المدينة كلهم، وإنما أهل المدينة فيهم من يلحد وفيهم من يشق، وقد جاء في غيره من الأحاديث في شأن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم اختلفوا، فأرسلوا لمن يلحد وأرسلوا لمن يشق، مما يدل على أنه كان عندهم اثنان من الحفارين واحد يلحد وواحد يشق، وأنهم يستخدمون هذا وذاك.
الجواب الثاني: أن يقال: إن الشق فيما يتعلق ببعض أرض المدينة كالبقيع تقريباً؛ بسبب أن الأرض رخوة ولينة واللحد فيها لا يتأتى.
ولهذا بعض أهل العلم كما ذكره النووي وغيره يقولون: اللحد أفضل إن كانت الأرض صلبة والشق أفضل إن كانت الأرض رخوة، وهذا لا بأس به من هذا الوجه، يعني: فيه نوع من التفصيل، وإن كنا نقول: إنه قد لا يتأتى اللحد أحياناً في الأرض إذا كانت شديدة الرخاوة، لكن إذا كانت الأرض قد تصبر قليلاً ثم تنهار، فقد يكون الشق أفضل من حيث إنه لا يتعرض القبر للانهيار، ثم ينخسف ثم تنزل فيه الأمطار، وقد يقع فيه ما يقع.
فنحن نقول: من حيث الأصل إن اللحد أفضل، وهو مذهب الأكثرين، وهو الأصح دليلاً، ولكن إذا كانت الأرض رخوة وقد تنهار، فيكون الشق أفضل مراعاة لحال الأرض كما ذكرنا.
وأيضاً بعض المناطق التي تكون صلبة جداً أيضاً يراعى فيها هذا المعنى، فنحن نقرر الأصل: وهو أن اللحد أفضل، لكن مراعاة اختلاف طبيعة الأرض معتبرة، هذه مسألة.
وفي هذه المسألة قضية: هل السنة أن يسنم القبر أو السنة أن يسطح القبر؟
وهذا اللفظ معروف عند العلماء والفقهاء والشراح، ما هو الفرق بين التسنيم والتسطيح؟
أن تكون الأرض كسنام الإبل، هذا يعتبر تسنيماً يعني: تكون فيها استدارة، تكون أرض القبر مرتفعة، ولكنها مستديرة أعلاها هو أوسطها، ثم ينخفض يميناً وينخفض شمالاً، هذا يسمى: التسنيم.
أما التسطيح فهو أن تكون مرتفعة.
ولكن ارتفاعاً مستوياً، ليس مائلاً ذات اليمين وذات الشمال، فكأنه يكون مستطيلاً، كله تقريباً على ارتفاع واحد، هذا معنى تسطيح القبر.
وقبل أن نجيب على هذا السؤال ينبغي أن نقول إن الفقهاء اتفقوا على جواز الأمرين: جواز التسطيح وجواز التسنيم، وإنما الخلاف في الأفضل منهما.
فقيل: إن التسنيم أفضل، يعني: أن يكون القبر كسنام البعير، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد ونقل عن كثير من فقهاء الشافعية المشهورين.
إذاً: هو مذهب الجمهور وعليه عمل الكثير من الصحابة، وقد جاء في صحيح البخاري عن سفيان التمار وهو من التابعين وهو ثقة، وقد خرج له البخاري في صحيحه قال: [ إنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً ]، وكأنه حصل في ذلك العصر شيء إما لسقوط الحجرة أو ما أشبه ذلك، فرأوا قبر النبي عليه الصلاة والسلام، ورآه مسنماً.
هذا دليل على أن هذا هو ما فعله الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام في قبره، وهو دليل على أنهم اتفقوا أن هذا أفضل.
وبعضهم قال: إن التسنيم في قبر النبي صلى الله عليه وسلم إنما وقع بعد ذلك، فإن القبر في أول عهد بني أمية جرى له ما جرى، ثم سنموه.
وهذا مستبعد وليس هو الأصل، فالأصل أن نقول: إن أصل القبر قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنم كما ذكره سفيان التمار وغيره، ورأوا ذلك، والآثار في هذا صحيحة.
إذاً: هذا هو القول الأول وهو قول الجمهور والأكثرين أن السنة تسنيم القبر.
القول الثاني: أن السنة هو تسطيح القبر لا تسنيمه، وهذا أيضاً منقول عن الشافعي كما في القول الذي قبله، إذاً: الشافعي له في مسألة تسنيم القبر وله في مسألة اللحد والشق قولان مختلفان عن مذهب الجمهور، يعني: انفرد فيما يتعلق باستحباب الشق، وانفرد فيما يتعلق بتسطيح القبر.
فـالشافعي رضي الله عنه يميل إلى استحباب التسطيح، وقد جاء في هذا أثر عن فضالة بن عبيد أنه: مر بقبر فأمر به فسوي، ثم قال: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتسوية القبور ).
وأيضاً مما يستدل به لمذهب الشافعي ما جاء في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته ).
فقالوا: إن التسوية كما في حديث أبي الهياج عن علي، وكما في حديث فضالة بن عبيد أنه أمر بتسوية القبور يعني: أن يكون القبر مستوياً، وهذا هو التسطيح، ولا شك أن هذه الأحاديث صحيحة، ولكن لا يتم الاستدلال بها إلا إذا كان معنى التسوية واضحاً أنه يساوي التسطيح، والأقرب والله أعلم أن التسوية هنا لا تعني التسطيح، وإنما تعني: أنه إذا كان القبر مرتفعاً أكثر من اللازم؛ لأن السنة أن يكون القبر معتدل الارتفاع، بحيث يكون ترابه فقط فوقه، يعني: التراب المحفور من القبر وضع عليه بلا زيادة ولا نقص، هذه السنة. ويكره أن يزاد على القبر بتراب أو بناء.
فأما كون التراب مرتفعاً على القبر بهذا القدر سواءً كان مسطحاً أو مسنماً، فهذا له فوائد عظيمة منها: معرفة أنه قبر، بحيث إن الإنسان يتوقاه، ولا يطأ عليه، ولا يقعد عليه، ولا يقضي عليه الحاجة، ولا يهينه، هذه من الفوائد .
لكن الزيادة على ذلك بأن يوضع على القبر تراب كثير أو ما أشبه ذلك، هذا ليس من السنة.
فنقول: إن الأمر بالتسوية في حديث فضالة وأيضاً في حديث علي رضي الله عنه، معناها: أنهم يمرون بالقبور شديدة الارتفاع، فيأمر بتسويتها، يعني: إزالة ما زاد منها والاقتصار على القدر المسنون، وهو أن يكون تراب القبر فوقه، التراب الذي حفر من القبر يوضع فوق الميت، يدفن به من غير زيادة ولا نقص، فهذا هو الجواب على ما استدلوا عليه.
والأقرب والله أعلم، أن السنة أن يكون القبر مسنماً، ولو كان غير ذلك جاز أيضاً.
منها: وجوب دفن الميت، وهذا اتفاق .
ومنها: أيضاً أن هذا من فروض الكفايات التي يجب أن يقوم بها من يكفي .
ومن الفوائد: جواز اللحد والشق، وأن اللحد أفضل كما ذكرنا .
وفيه: قضية الاتباع والتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء، حتى بعد مماته في صفة قبره، وهذا دليل على حرص الصحابة أيضاً على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إن سعداً يوصي بعد موته أن يفعل به كما فعل بالنبي صلى الله وعليه وآله وسلم، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
وفيه أيضاً: مشروعية الوصية من الميت باتباع السنة في تجهيزه وفي غير ذلك، كما أوصى بها سعد رضي الله عنه .
وفيها: مشروعية وضع اللبن على قبر الميت، وأن هذا فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم .
وفيه: فضيلة لـسعد بن أبي وقاص في هذا الفعل .
والحديث فيه فوائد كثيرة؛ أيضاً فيه قضية التسنيم كما قال: ( ألا يرفع قبره عن الأرض قدر شبرٍ )، فهذا فيه الدليل على مشروعية ارتفاع القبر، وفيه دليل على أن السنة في القبور هي التسنيم.
أولاً: (عنه) من هو؟
هو جابر، فهو صحابي الحديث الذي قبله.
فقوله: ولـمسلم عنه يعني: عن جابر رضي الله عنه.
والترمذي كذلك في كتاب الجنائز باب: النهي عن تجصيص القبر، ورواه النسائي أيضاً في باب الزيادة على القبر يعني: زيادة تراب أو غيره على القبر.
وأيضاً رواه أبو داود في سننه وابن ماجه في باب النهي عن البناء على القبور، وقد رواه أيضاً أحمد والحاكم والبيهقي وابن حبان وغيرهم.
زاد أبو داود والنسائي في رواية مع قوله: ( أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه )، زادا: ( وأن يكتب عليه )، يعني: ونهى أن يكتب عليه، وقد روى هذه الزيادة الحاكم أيضاً في مستدركه وقال: هذه لفظة غريبة صحيحة .
وقد جرت العادة كما عرفتم: أن أهل العلم غالباً؛ ما هي سنتهم وطريقتهم في الألفاظ الغريبة التي يتفرد بها بعض الرواة في الأحاديث؟
الغالب أن أهل العلم يعتبرونها أقرب إلى الشذوذ ويردونها، هذا هو الغالب، ومن أهل العلم من يقبلها إذا صح الإسناد ويقول: هذه زيادة ثقة يتعين قبولها، وإن كان في الغالب إذا كان الحديث مشهوراً كثير الطرق والمخارج، وانفرد أحد الرواة ولو كان ثقة بحرف أو زيادة أو لفظ؛ أنهم يتقون هذه الزيادة، ويرجحون أن فيها نوعاً من الإعلال، كأن تكون مدرجة أو يكون وهماً، أو دخل عنده حديث في حديث، أو يكون روى بالمعنى، أو ما أشبه ذلك؛ هذا فيما يتعلق بقضية الكتابة على القبر، وأن يكتب عليه.
الجص: هو المادة البيضاء التي تبيض بها الجدران، في أزمنة مضت كان الناس يستخدمونها في بيوت الطين لتبييض الجدران وتجميلها، وهي مادة معروفة تشبه الطين في لزوجتها وثباتها، ولكنها بيضاء اللون، وأحياناً يعبر عنه بـ(يقصص)، بعض الأحاديث فيه: ( وأن يقصص القبر ).
إذاً: يقصص أو يجصص معناهما واحد، فالجص والقص معناهما واحد، وإن اختلف اللفظ فقوله: ( يقصص ) يعني: يطلى بالجص.
وقوله: ( نهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يقعد عليه )، القعود يحتمل معنيين:
المعنى الأول: الجلوس، وهذا هو المعنى المباشر، أنه نهى النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان عن أن يجلس على القبر؛ لأن القبر والميت له كرامة، فمن كرامته ألا يوطأ عليه بالرجل وألا يقعد عليه.
المعنى الثاني للقعود: وهو محتمل عند علماء اللغة أن المقصود: القعود لقضاء الحاجة؛ للبول أو غيره، فيكون هذا هو المنهي عنه، وسوف نبين ما في هذا الباب.
المسألة الأولى: ما يتعلق بالجلوس على القبر ما حكمه؟
والجلوس على القبر فيه قولان مشهوران:
القول الأول: أن الجلوس على القبر مكروه، وهذا مذهب الإمام أحمد والشافعي وإسحاق وابن حزم، وهو قول كثير من السلف والصحابة والتابعين والأئمة، أن الجلوس على القبر مكروه.
وحجتهم حديث الباب وهو صحيح: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقعد على القبر ).
وأيضاً مما يحتجون به حديث أبي هريرة وهو في صحيح مسلم : ( لأن يقعد أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه وتخلص إلى جلده، خير له من أن يقعد على قبر )، وهذا وعيد شديد، وأقل ما يدل عليه الكراهة، فهو يدل على الكراهة يقيناً.
القول الثاني في المسألة: أن الأمر ليس بمكروه، وإنما هو مباح، والمكروه هو القعود لقضاء الحاجة كما ذكرت، أن المكروه القعود على القبر للبول أو غيره، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه شيء من هذا، أنه كان ربما قعد على القبر، وربما اضطجع وجعل القبر وسادة له يتوسده برأسه، فهذا منقول عن علي رضي الله عنه وبعض الصحابة، وكانوا يقولون: إن المنهي عنه هو قضاء الحاجة على القبر.
ولذلك ورد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال لبعض التابعين: ( هلم أريك -يعني: تعال أخبرك وأعلمك- إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن القعود على القبر لحدث بول أو غائط )، هذا كلام زيد بن ثابت، وقد رواه الطحاوي وقال ابن حجر رحمه الله: رجال إسناده ثقات، فهذا مذهب علي وزيد بن ثابت وجماعة ومن ذكرنا، يدل على ذلك.
وقد رد عليهم ابن حزم بقوله: إن حديث أبي هريرة : ( لأن يقعد أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه وتخلص إلى بدنه )، يدل على أن المقصود هنا مطلق القعود وليس القعود لقضاء الحاجة؛ لأنه لا أحد يقعد لقضاء الحاجة وعليه ثيابه.
ولكن رد ابن حزم هنا متهافت؛ لأن الحديث ليس فيه إلا مجرد التشبيه، يعني: الحديث فيه أن قعود الإنسان على جمرة حتى تحرق ثيابه وتخلص إلى بدنه وتؤلمه وتكويه أهون له من أن يقعد على القبر أياً كان معنى القعود، فالمشبه به الآن -وهو القعود على جمرة- لا يستفاد منه شيء فيما يتعلق بوجود الثياب أو عدمها، فهذا ليس ظاهراً، ولكن نقول: إن الأقرب والله أعلم هو القول الأول: أن القعود على القبر مكروه، ويتأكد الأمر كراهية إذا كان قعوداً لقضاء الحاجة، بل هو أمر شنيع، وحرمة الميت -كما قلنا- كحرمة الحي، فالأمر مكروه مجرد القعود هو مكروه.
وقد ورد أيضاً ما يدل على النهي عن المشي على القبور، خصوصاً إذا كان المشي بالنعال، فدل ذلك على أن مجرد القعود مكروه، فكيف إذا كان القعود لقضاء الحاجة، فهو أشد وأغلظ في الكراهة.
فهذا أيضاً ظاهر الحديث يدل على أنه مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وهو الذي عليه كثير من أهل العلم، إلا أن يكون لذلك حاجة في حفظ القبر .
وبناءً على هذا ذهب أكثر أهل العلم إلى كراهية البناء على القبر، وهو منصوص عند الحنابلة وجمهور أهل العلم.
وبعض أهل العلم يقول بالتحريم، وليس فقط الكراهية فيما يتعلق بالبناء، وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يقول بالتحريم، خاصة إذا كان في البناء نوع من التفاخر.
وكثير من الفقهاء يطلقون التحريم فيما يتعلق بالبناء على القبر في أحوال عديدة مثل: إذا كانت الأرض موقوفة -وهذا هو الغالب- أن المقابر هي عبارة عن أرض موقوفة، فإذا كانت الأرض موقوفة فإن البناء يأخذ منها أكثر مما يأخذه مجرد القبر، وهي إنما أوقفت للقبر ولم توقف للبناء، فشرط الواقف هنا أن يدفن فيها الموتى وليس أن تبنى فيها المباني.
وأيضاً البناء قد يكون فيه مجال للمفاخرة.
زد على ذلك: أن البناء قد يفضي إلى تعظيم القبور والإسراف في هذا الجانب، وقد رأينا المباني في قبور كلفت عشرات الملايين في عدد من الأمصار الإسلامية، بينما تجد إلى جوارها أحياء شعبية والناس لا يجدون فيها بيوتاً يأوون إليها، وهذا من الغلط الكبير.
فضلاً عما أفضى إليه هذا من تحويل بعض هذه القبور التي تبنى والقباب التي تبنى على القبور إلى أماكن للعبادة، وأماكن للتعظيم وممارسة كثير من الطقوس والأعمال، وغير ذلك مما هو نقيض ما جاء به الإسلام من الدعوة إلى تجريد التوحيد وصفائه، والبعد عن الخرافات والأساطير التي تضعف عقول الناس وتذهب دينهم وتذهب دنياهم أيضاً.
ولا شك أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تنهض نهضتها المأمولة إلا إذا تخلت وتجردت من مثل هذه العادات الفاسدة التي احتفت بكثير من نظم الحياة فيما يتعلق بالموت، وفيما يتعلق بالزواجات، وفيما يتعلق بكثير من الأمور الطارئة على الناس، والتي أصبحت تحتك بتقاليد وعادات ورسوم وطقوس، وبدع كثيرة الناس بأمس الحاجة إلى التوعية بشأنها، التوعية برفق وحلم وصبر وهدوء وإصرار ومواصلة أيضاً.
فلذلك أقول: صرح أكثر أهل العلم بكراهية البناء على القبور، وصرح بعضهم كالحنفية بالتحريم، وحجتهم حديث الباب، وأيضاً هناك أحاديث كثيرة جداً في باب أوسع، وهو تحريم اتخاذ القبور مساجد، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مرض موته يقول: ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ) كما تقول عائشة : ( يحذر ما صنعوا. قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً )، ولهذا جعل قبر النبي صلى الله عليه وسلم عليه هذه الجدران، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد )، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله:
فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة جدران
فأحاطه الله تعالى بهذه الجدران وحمى قبره من أن يكون مكاناً للعبادة أو مزاراً.
إذاً: هذا ما يتعلق بالبناء على القبر.
وقد صح عن بعض الصحابة كـابن عمر : (أنه رأى قبراً وقد نصب عليه فسطاط -خيمة صغيرة- فنزعها وقال: يظله عمله)، لا حاجة لهذا الميت يظله عمله، وإلا فلا تضره الشمس.
إلى الآن ذكرنا القعود على القبر، وذكرنا تجصيص القبر، وذكرنا البناء على القبر، بقيت المسألة الرابعة التي زادها أبو داود والحاكم وهي قضية: وأن يكتب عليه، فمسألة الكتابة على القبر مكروهة عند كثير من الفقهاء، وقد رخص فيها آخرون.
وسبب الرخصة:
أولاً: أن هذا عليه العمل في معظم البلاد والأمصار والأعصار، فإن عادة كثير من البلاد أنهم يكتبون على القبور، يكتبون علامة أن هذا هو فلان أو أن هذا قبر فلان.
ومن الطريف: أن واحداً سألني بالجوال وقال: هل يمكن تحديد القبر عن طريق الإحداثيات هذه الجديدة، وهذه طريقة لا بأس بها، وإن كانت لازمة، الأمر أوسع من ذلك إنما كون الإنسان يعرف قبر أبيه أو قبر أمه ويزوره على وجه التخصيص، ( والنبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه -كما في صحيح
فنقول: مسألة الكتابة إذاً: الكثير من أهل العلم أشاروا إلى أن العمل في الأمصار والأعصار الإسلامية التوسع في مجال الكتابة على القبور، والواقع أن مجرد العمل لا يكفي، كما أشار إليه ابن القيم وغيره: أن كون العمل على هذا الشيء لا يلزم، فقد تكون كثير من الأخطاء انتشرت عند الناس وعملوا بها، لكن يعزز هذا العمل أن زيادة: ( وأن يكتب عليه )، ليست بالقوية، وقد يكون فيها مغمز، ولذلك لا يثبت النهي عن الكتابة على القبر ثبوتاً قوياً، فنقول: إن لفظة: ( وأن يكتب عليه ) فيها مقال. والله أعلم.
فإذا كانت الكتابة كتابة معتدلة عادية يقصد منها معرفة فلان أو علامة، بعضهم لا يحتاج أن يكتب اسمه، وإنما يكتب علامة يستدل بها على أن هذا قبر ميته، فهذا لا بأس به.
أما إن كانت الكتابة تجاوزت هذا، كأن يكتب أحياناً على لوحة من الذهب أو من البرونز أو غيرها بأغلى الأثمان كمثال، فهذا لا شك أنه لا يجوز، وكذلك إذا كانت الكتابة فيها مضامين، مثل أن يكون فيها إطراء وثناء وشعر ومدح وما أشبه ذلك، فهذا أيضاً ليس من هذا الباب، فالقبور يفترض فيها التواضع والبعد عن التكلف والإسراف، ويفترض فيها تجنب العبارات والألفاظ التي ليس هذا المقام مقامها.
منها: النهي عن القعود على القبر، ومن باب أولى النهي عن قضاء الحاجة .
ومنها: احترام الميت سواءً بجثته أو بسمعته، وعدم التعرض له .
ومنها: كراهية تجصيص القبور، ومن باب أولى مثل التجصيص وأشد منه استخدام مواد أخرى مثل: الإسمنت مثلاً أو غيرها، إلا أن يكون ثمة ضرورة وحاجة شديدة تدعو إلى ذلك .
هذا ليس له أصل، لكن لو وضع الإنسان حجراً أو أحجاراً على رأس الميت أو على قبره ليعرفه به ليس به بأس.
وينبغي أن يقال في هذا السياق إن الأشياء التي سكت عنها الشرع لا يتعبد بها ولا يشدد فيها، وأيضاً لو أن بعض الناس لقصد أو لحالة خاصة عملوا هذا العمل لا يشدد عليهم، قد يرشدون إلى ما هو الأصل من ترك هذه الأشياء.
وهكذا البيهقي رواه في سننه في حثي التراب.
وسند الحديث ضعيف جداً، فإن فيه القاسم بن عبد الله العمري وهو شبه المتروك . وأيضاً: فيه عاصم بن عبيد الله العمري وهو ضعيف.
فالحديث يعني: ضعيف جداً أو شبه موضوع أو موضوع، ولا يصح الاستدلال به، وأظن أن المصنف رحمه الله لم يشر إلى هذا، لم يذكر المصنف شيئاً قال: رواه الدارقطني، وحقه أن يشير إلى شدة ضعفه، ولكن يغني عن هذا الحديث حديث عمرو بن العاص وهو في صحيح مسلم، وهو حديث طويل: ( أن
هذا حديث جميل وأثر جميل عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وفيه فوائد كثيرة، لكن الشاهد منه الآن قوله: ماذا؟ (فسنوا علي التراب سناً)، وهو يغني: عن حديث عامر بن ربيعة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم حثا عليه ثلاث حثيات وهو قائم )؛ لأن الحديث كما قلنا تالف لا يحتج به، فيكتفى بحديث عمرو بن العاص وهو في صحيح مسلم .
قيل: إن الحثي مستحب، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد لحديث الباب، وقلنا: إن حديث الباب لا يحتج به، فيكتفى عنه بحديث عمرو بن العاص : ( سنوا علي التراب سناً ).
لكن حديث عمرو بن العاص هل فيه تحديد ثلاث؟ ليس فيه تحديد، ولذلك نقول: إن تحديد الثلاث ليس له أصل، فلا يصح، وإنما على هذا القول يستحب الحثي، أن يحثي على القبر!
القول الثاني وهو لـمالك : أنه لا يستحب الحثي أصلاً.
إذاً ماذا يفعل بالميت؟ يقول: يليه أهله وقرابته، وهذا أمر معروف، والذين غسلوه وكفنوه وصلوا عليه وأتوا به إلى المقبرة ودفنوه، يتولون بقية أمره ويدفنون القبر، بمعنى: أن الكلام ليس في دفن القبر دفن الميت الآن، وإنما الكلام فيما يعتقده بعض الناس من أن السنة أن كل من تبع الميت يستحب أن يأخذ ثلاث حثيات ويرميها على قبر الميت، هذا هو محل الاختلاف.
فالجمهور: الشافعي وأبو حنيفة وأحمد يقولون باستحباب ذلك، ومالك يقول: لا يستحب، وقد حثى الإمام أحمد في إحدى المرات على قبر وقال: هذا ثابت؛ [ لأن علياً رضي الله عنه حثى على قبر ابن المكفف ] وهذا الأثر رواه ابن أبي شيبة وسنده صحيح.
فإذا كان فعل الصحابي مع حديث عمرو بن العاص يكفي، فيمكن أن يؤخذ به في مذهب الجمهور.
والواقع أن الأمر ليس واضحاً؛ لأن حثي علي قبر ابن المكفف قد يكون من باب أنه قام على القبر وتولى هذا.
وبناءً عليه نقول: ليس هناك دليل واضح وظاهر في تنافس الناس الآن على أن يحثوا كل واحد منهم على القبر ثلاث حثيات، لكن إن فعل هذا فهذا خير، وهو من كمال اتباع الميت ودفنه.
أولاً: رواه أبو داود في كتاب الجنائز، باب الاستغفار للميت، ورواه الحاكم في مستدركه في الباب أيضاً وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد رواه أحمد في مسنده والبيهقي في سننه وغيرهم.
وقد نص على هذا الحكم، يعني: استحباب الوقوف واستحباب الاستغفار له، واستحباب سؤال الله له التثبيت؛ نص عليه الإمام أحمد والشافعي وغيرهما، وهو حكم ثابت، أولاً: بدلالة الآية الكريمة؛ قال الله عز وجل عن المنافقين: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84].
إذاً: الوقوف أو القيام على قبره مشروع، وإنما نهى الله تعالى عن القيام على قبور المنافقين.
ثانياً: حديث الباب، وهو حديث جيد الإسناد إن شاء الله، ففيه قضية الوقوف على قبره، والاستغفار، وسؤال التثبيت.
منها: أولاً: دفن الميت كما هو واضح .
منها: استحباب الوقوف على القبر، واستحباب الاستغفار للميت في تلك اللحظة، واستحباب الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات مطلقاً.
ومنها: سؤال التثبيت للميت.
ومنها: أن الميت يسأل في قبره، وقد ورد هذا في غير ما حديث أنه يأتيه الملكان، وقد ورد تسميتهما أيضاً بمنكر
ونكير ويسألانه: من ربك، ما دينك، من نبيك؟ وقد جاء حديث طويل عن أبي أمامة وغيره: ( أنه يقف على قبره ويقول له: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، يا فلان! قل: ربي الله ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم وديني الإسلام، ويكرر ذلك ثلاثاً )، وهذا هو الذي سوف يشير إليه المؤلف ويأتي بعد قليل، لكن أصل الحكم ثابت، أعني: أصل الوقوف والاستغفار ثابت.سعيد هو سعيد بن منصور، وقد مر ذكره وذكر سننه غير مرة وقلت: إن جزءاً منها مطبوع وجزء منها مفقود، ولكن نقل الأئمة ما في هذه السنن وفيها مراسيل كثيرة، وهذا منها .
ضمرة بن حبيب راوي هذا الأثر من أهل الشام، وكان مؤذن المسجد الجامع بـدمشق وهو ثقة روى له البخاري في صحيحه وقد توفي عام (100) أو (130) هـ .
ومثله الحديث الذي بعده خمسمائة وأربع وثمانون وهو حديث الطبراني قال: وللطبراني نحوه من حديث أبي أمامة مرفوعاً مطولاً، وهذا الحديث رواه الطبراني في المعجم الكبير وهو مطبوع.
وأيضاً: رواه الطبراني في كتاب الدعاء له وهو مطبوع أيضاً، ورواه الديلمي في مسند الفردوس، وهذا الأثر -أثر أبي أمامة - ضعيف ضعفه الأئمة كـالنووي وابن الصلاح والعراقي وابن القيم والصنعاني وغيرهم، وهو ظاهر، ضعف في سنده ومتنه، ولذلك نقول: إن المعنى الوارد فيه وفي حديث ضمرة بن حبيب لا يثبت، وإنما يكتفى بالاستغفار.
يعني: هل يستحب أن يلقن الميت في القبر؟
والتلقين غير الاستغفار وغير السؤال، يعني: أن يخاطب الميت وهو في قبره ويقال له: يا فلان! قل كذا وقل كذا وقل كذا؛ كأنه يلقنه ما يقوله للملك الذي يسأله، والمسألة فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن التلقين مستحب، وهذا مذهب الشافعي والحنابلة أو كثير من الحنابلة، أن التلقين مستحب، واحتجوا بمثل هذه الآثار، وبأنه نقل عن بعض الصحابة.
القول الثاني: أن ذلك مكروه وهو مذهب مالك وأبي حنيفة .
و ابن تيمية رحمه الله قال: أعدل الأقوال أن ذلك مباح، لا يقال باستحبابه ولا يقال بكراهيته؛ لأنه لم يثبت ولم يثبت النهي عنه، وفي الواقع أن القول بالكراهة في هذا أقرب، والله أعلم؛ لأنه لم يثبت فيه شيء، ومخاطبة الموتى بعد موتهم بمثل هذا؛ مع أن الله تعالى يقول: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [الروم:52]، وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]!
فهذا بعيد، وإن كان ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه يسمع قرع نعالهم، لكن هذا ليس سماع اعتبار وسماع تكليف، وانتقل هؤلاء من دار التكليف والعمل إلى دار الجزاء والحساب.
فالقول بالتلقين ليس له أصل، ولهذا نميل إلى كراهيته؛ حفظاً لجانب الشريعة من دخول ما لا يصح ولا يثبت، بل قد يفضي إلى كثير من العادات السيئة والخرافات، ولكن لو أن أحداً وقع في هذا، فإنه يراعى أن هناك من يقول باستحبابه وهناك من يقول بإباحته، فإن عُلِّم عُلِّم برفق أو يترك.
تقريباً هذه الأحاديث التي عندنا، والحمد لله أتينا على قدر طيب منها، وغداً وبعد غد إن شاء الله نكمل كتاب الجنائز.
الجواب: والله إذا كانت المقابر مجهزة لهذا وتدخل السيارات، ولا تطأ القبور؛ فليس فيه بأس، لكن إن كان فيه أذية للناس أو وطء للقبور، فينبغي أن يمنع.
الجواب: راجع نفسك، تحتاج إلى أنك تكون عندك خبرة فيما يقال وما لا يقال، لأن:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم تبق إلا صورة اللحم والدم
قد يكون أنت تعتبرها صراحة، والبعض قد يعتبرها نوعاً من عدم اللباقة، فلذلك ينبغي للإنسان أن يراعي مثل هذا المعنى، وأن يكون هناك نوع مثلما يقولون باللغة الحاضرة: فلترة، أو يكون عند الإنسان مثلما يقولون: كنترول يعني: ما كل ما خطر في بالك تقوله هكذا! احسب حساب الكلمة قبل أن تطلقها, مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
الجواب: بعض السلف كانوا يكرهون الأشياء المحرقة بالنار في القبور.
الجواب: إذا كان المقصود القعود عليه، فهذا هو الذي يظهر لي.
الجواب: الحديث: ( رحم الله امرأً ) فيه ضعف يسير.
الجواب: يعني: السنة أن يوضع تراب القبر عليه .
الجواب: نعم. إذا كان القبر بهذه المثابة، فيمكن أن ينقل إلى المقبرة .
الجواب: هذه سبق أن بحثناها: مسألة الصلاة على القبور، ولا بأس بها.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صل على محمد .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر