إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, ونصلي ونسلم على خاتم رسله, سيدنا وإمامنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد لله، هذا يوم الخميس التاسع عشر من شهر جمادى الأولى لسنة (1427هـ), وهذا الدرس رقمه مائتان من أمالي شرح بلوغ المرام , ولدينا اليوم وجبة جديدة من الأحاديث المتعلقة بالجنازة, وفيها عدد من الأبحاث المهمة.
الأول: من هذه الأحاديث ورقمه خمسمائة وثلاث وسبعون, حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إذا رأيتم الجنازة فقوموا, فمن تبعها فلا يجلس حتى توضع ) متفق عليه.
أولاً: ما يتعلق بتخريج الحديث, فقد رواه البخاري في صحيحه، باب: من تبع جنازة فلا يجلس حتى توضع, ومسلم أيضاً في الجنائز باب: القيام للجنازة, وفي الباب نفسه -القيام للجنازة- رواه أبو داود والترمذي والبيهقي .. وغيرهم, وقد خرجه أيضاً أحمد والبيهقي والطحاوي وسواهم.
ومن شواهده أيضاً حديث جابر وفيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مُرَّ بجنازة فقام, فقالوا: إنها جنازة يهودي, فقال: إن الموت فزع ), وحديث جابر هذا أيضاً رواه مسلم .
ومن شواهده أيضاً: حديث قيس بن سعد بن عبادة وسهل بن حنيف، وفيه: أنهما كانا في الشام أو العراق فمرت جنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض -يعني: من أهل الكتاب- فقالوا: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فقام, فقيل: إنها جنازة يهودي, فقال صلى الله عليه وسلم: أليست نفساً )، وهذا الحديث أيضاً رواه مسلم .
وفي الباب حديث علي رضي الله عنه في صحيح مسلم قال: ( قام النبي صلى الله عليه وسلم ثم قعد ), قام للجنازة ثم قعد, والشافعي يقول: هذا الحديث ناسخ للحديث الأول.
طيب. إذاً: هذه شواهد الحديث, وبهذا نعرف أن عندنا في مسألة القيام للجنازة كم حديث؟
أولاً: حديث الباب, حديث أبي سعيد .
ثانياً: حديث عامر بن ربيعة , وهو متفق عليه.
ثالثاً: حديث جابر , وهو في مسلم .
رابعاً: حديث قيس بن سعد وسهل بن حنيف هذا حديث واحد, وهو أيضاً في مسلم .
خامساً: حديث علي بن أبي طالب وهو في مسلم .
ففي المسألة خمسة أحاديث, وإن كان حديث علي يختلف عنها بذكر ما يوحي بالنفخ كما سوف نعرض له.
يحتمل معنيين: إما أن توضع في الأرض, وإما أن توضع في القبر في اللحد , وكلا المعنيين محتمل, ولهذا قال حتى توضع في اللحد.
فنقول: إن قوله: (حتى توضع) يحتمل أي: حتى تدفن, وبناء عليه يكون المشروع فيمن تبعوا الجنازة ألا يقعدوا في المقبرة, وإنما يقوموا حتى ينتهي دفنها.
الاحتمال الثاني: أن يكون قوله: (حتى توضع), يعني: حتى توضع على الأرض, وهذا الاحتمال أرجح أن المقصود حتى توضع على الأرض؛ لأن الأمر ليس متعلقاً فقط بالاتباع, وإنما بالقيام، يعني: لو رأيت الجنازة وهي في المسجد يستحب لك أن تقوم, لكن إذا وضعت الجنازة فاقعد.
وقد ورد في بعض الألفاظ: ( حتى توضع على الأرض ), مما يدل على أن هذا هو المقصود بالوضع.
وفي هذه المسألة قولان مشهوران:
القول الأول: أن القيام للجنازة مستحب, وهذا مذهب الحنابلة وإسحاق بن راهويه من أئمة الحديث، وابن حزم الظاهري، وقد نصره في كتاب المحلى, وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين والأئمة, ويصح أن ينسب هنا لـأبي سعيد الخدري وعامر بن ربيعة وجابر وقيس بن سعد وسهل بن حنيف , ونقل أيضاً عن ابن عمر وسواهم, فهو مذهب من ذكرنا.
حجة هؤلاء في الاستحباب حديث الباب, وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فقوموا ), وقالوا: إن الأمر هنا للاستحباب ليس للوجوب؛ لما ذكرناه غير مرة أن الأمر لا يتعلق بعبادة محضة, وإنما يتعلق بآداب وأخلاق وإرشاد، فببابه الاستحباب في الأمر, والكراهية في النهي, وليس الوجوب أو التحريم.
وكذلك أيضاً حديث أبي سعيد من أدلتهم، وحديث عامر، وحديث جابر، وحديث قيس بن سعد، وحديث سهل بن حنيف , هذه أدلتهم نحو أربعة أحاديث تقريباً.
وقد يستدل الأولون أيضاً بحديث علي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ثم قعد ), ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قام ثم قعد, قيامه دليل على الاستحباب, وقعوده دليل على عدم الوجوب, وأن الأمر فيه سعة, قعد لئلا يشق عليهم، وليبين لهم أن القعود جائز؛ لأن حديث علي ليس نصاً في النسخ.
القول الثاني: أن الباب منسوخ, وأنه لا يشرع القيام للجنازة إذا جاءت, وإنما كان هذا أول الأمر بـالمدينة، ثم نسخ, وهذا القول بالنسخ هو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وجماعة من الأئمة، وهو مذهب أبي يوسف أيضاً ومحمد بن الحسن وغيرهم.
حجتهم في النسخ حديث علي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ثم قعد ), وقالوا: إن علياً احتج بهذا الحديث على من طلب إليه القيام, فدل على أن علياً حفظ الأمر بالقيام وحفظ النسخ, وهو ترك القيام، والأمر الثاني هو الذي صار إليه التشريع, ولهذا لا يشرع للإنسان أن يقوم للجنازة.
وقال الترمذي كما في جامعه بعد حديث علي , قال: إن معنى (قعد) أي: ترك القيام بعد ذلك، فهو ناسخ, وقد قال الشافعي كما ذكرنا: إنه ناسخ للقيام.
وعند التحقيق فإن حديث علي رضي الله عنه ليس فيه التصريح بالنسخ؛ لأن العلماء يقولون: إنه لا يقال بالنسخ إلا إذا تعذر الجمع بين النصين أو تعذر الجمع بين الفعلين.
والآن نحن أمام فعلين من أفعال النبي عليه الصلاة والسلام وليست نصوص أقوال, وأيضاً الأفعال النسخ فيها بعيد، بمعنى أن كون النبي صلى الله عليه وسلم قام مرة وقعد مرة هذا نظيره مسائل كثيرة جداً؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ينهى عن شيء ويفعله، أو قد يأمر بشيء ويتركه.
ففي مثل هذا المقام نقول: إن الأمر بالشيء محمول على الاستحباب, وتركه لبيان الجواز, وأن النهي عن الشيء محمول على الكراهة لا على التحريم, وأن فعله هو لبيان أن الأمر ليس للتحريم, فيحمل كل حديث على حال, أو يحمل أن الفعل في حال والترك في حال أخرى, يعني: فالأمر ليس نصاً قطعياً في النسخ حتى كون النبي صلى الله عليه وسلم ترك القيام؛ قد يكون ترك القيام لأنه ثقل عليه, قد يكون ترك القيام في بعض الحالات لعارض، قد يكون ترك القيام -كما قلنا- لبيان أن الأمر ليس للوجوب, فليس نصاً لا يحتمل إلا القول بالنسخ, والنسخ هو إبطال حكم شرعي؛ ولهذا لا يصار إليه إلا عند تعذر ما سواه, أي: عند تعذر إمكانية الجمع بين عدد من النصوص.
إذاً: نقول: إن حديث علي ليس نصاً في النسخ.
وأيضاً مما يحتج به على هذا الباب أنه نقل عن جماعة من الصحابة, أنهم كانوا يقومون وهم من أكثر الناس قرباً من النبي صلى الله عليه وسلم كمن ذكرنا, ويبعد أن يخفى النسخ على مثلهم على كثرة ما يقع من الجنائز وما يؤتى بها في مسجد الجنائز.
الحجة الثانية للقائلين بالنسخ؛ حجتهم الأولى حديث علي , وحجتهم الثانية يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم أول الأمر لما كان بـالمدينة ؛ لأن اليهود كانوا يقومون للجنازة, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه موافقتهم على ما لم يرد فيه نص, ثم ترك موافقتهم بعد ذلك.
وهذا أيضاً ضعيف لا يثبت فيه شيء بخصوص هذه المسألة.
ولهذا نقول: إن الأقوى في هذه المسألة هو أنه يستحب للإنسان القيام, لكن من ترك القيام فلا شيء عليه؛ لأن الأمر دائر على الاستحباب.
ففيما يتعلق بالشطر الثاني من حديث أبي سعيد وفيه: ( من تبعها فلا يجلس حتى توضع ) فيه قيام المشيع للجنازة, ونقول هنا: إن قيام المشيع للجنازة مستحب عند أكثر أهل العلم كـأبي حنيفة وأحمد وأكثر الصحابة والتابعين لحديث الباب, وكأنه حكم آخر غير حكم القيام للجنازة إذا عرضت، يعني: قد تكون جالساً في الشارع وجيء بجنازة فتقوم, فإذا تعدتك الجنازة وكنت خلفها رجعت وقعدت.
أما المشيع فهو الذي يتبع الجنازة, فهذا السنة في حقه أن يقوم ولا يقعد حتى توضع, وهذا مذهب الأكثرين من الصحابة والتابعين ومنصوص عنهم، ومذهب أحمد وأبي حنيفة .
القول الثاني: أن ذلك واجب وليس مستحباً فقط، وهو مذهب إسحاق والأوزاعي ؛ ولعلهم أخذوا بظاهر حديث الباب.
القول الثالث له: أن ذلك منسوخ مثلما في المسألة الأولى، وهو مذهب الباقين كـمالك وغيره.
والأقرب أيضاً في هذا الحكم أنه مستحب؛ فالذي يتبع الجنازة يستحب له القيام حتى في المقبرة, وألا يجلس حتى توضع, ولكن بينا أن الراجح في قوله: (حتى توضع) ليس حتى تدفن ويفرغ منها, وإنما حتى توضع على الأرض, فإذا وضعت على الأرض قعد الناس, هذا هو الأقرب.
ولذلك بعض الناس في المقابر يتكلفون الوقوف حتى ينتهى من دفن الجنازة, وهذا إذا كان له حاجة مثل كونه يعمل بأعمال تتعلق بتجهيزها أو دفنها أو ما أشبه ذلك فلا بأس فيه, وإن كان أيضاً بتأول واجتهاد ورأي فأيضاً لا بأس فيه؛ لأن الأمر كما قلنا فيه اختلاف, وإلا فالأفضل أن يعرف الإنسان أن القول الراجح في هذه المسألة أنه لا يشرع الوقوف, ولا نقول: إنه مكروه، لكن لا يعتقد أن الوقوف مشروع على القول الذي اخترناه.
منها: القيام للجنازة كما هو واضح: ( إذا رأيتم الجنازة فقوموا.. ).
ومنها: أن المقصود إذا كانت الجنازة محمولة, أما إذا كانت موضوعة فإنه يجلس كما في آخر الحديث.
وفيه أيضاً: قيام المشيع، وأنه لا يجلس حتى توضع على الأرض أو توضع في القبر.
وفيه: أن القيام بقصد احترام الملائكة الذين مع الجنازة كما جاء في بعض النصوص أن مع الميت ملائكة, وأن هذا أحد التعليلات.
والتعليل الثاني: أن الموت فزع؛ فيقوم الإنسان لهذا الفزع.
والتعليل الثالث: أن هذه النفس الميتة هي نفس خلقها الله وكرمها: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70] فيقوم الإنسان لهذا المعنى أيضاً, هذا هو الوارد وهو أصح ما في الباب.
وبعضهم تكلفوا تأويلات بعيدة وليست صحيحة, مثل قول بعضهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قام؛ لأن الجنازة -جنازة اليهودي- كان فيها رائحة كريهة، رائحة بخور أو شيء يضعونه من حنوط وسواه للميت.. وهذا بعيد:
أولاً: لأنه ليس فيه نص, ولم يصح به نقل.
وأيضاً: القيام لا يمنع الرائحة, إنما الذي يمنع الرائحة هو مغادرة المكان, وهذا لم ينقل.
وبعضهم قال: إنه قام لئلا تعلوه الجنازة؛ يعني: يكون هو قاعداً وجنازة اليهودي فوقه, وهذا أيضاً لا أصل له ولا يصح؛ لأن الأمر منصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً: فيه مسألة تعليل الأحكام, من فوائد الحديث تعليل الأحكام الشرعية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علل القيام بـ: ( إن الموت فزع )، وعلل القيام بأن الميت نفس خلقها الله, وهذا دليل على تعليل الأحكام.
وأيضاً: يمكن أن نلتمس من الحديث أن الأحكام المعللة لا يتهاون أو يتساهل في نسخها , وهذا يقوي جانب القول بأن الاستحباب باقٍ, يعني: الحكم المعلل لا يسهل نسخه؛ لأن تعليله يقوي جانبه ويعززه, فإذا كانت العلة عامة دل على أن الأصل عدم النسخ, يعني: النبي صلى الله عليه وسلم لما قام وعلل القيام بأن الموت فزع, أليس الموت فزعاً أمس واليوم وغداً، وفي عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الزمان وفي كل زمان.
إذاً: العلة باقية أو لا؟ باقية, وكذلك لما قال: ( أليست نفساً )، هنا القيام لكل نفس خلقها الله, أليس كل ميت نقول عنه: إنه نفس؟
إذاً: هذا نقول عنه في زمن النبوة, ونقول عنه في زمن الخلفاء الراشدين، وبني أمية، والآن، وفي العصور القادمة.
إذاً: التعليل باقٍ, فإذا كان التعليل باقياً فالأصل أن يكون الحكم المعلل باقياً أيضاً.
فهذه من الفوائد الأصولية التي قلَّ من يشير إليها, وهي أن الحكم إذا كان معللاً فالأصل بقاؤه وعدم نسخه مادامت العلة باقية.
إذاً: البيهقي صحح الحديث, وكذلك الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله قال: إن هذا إسناد رجاله ثقات, والشوكاني قال: رجاله رجال الصحيح.
عندنا الآن ثلاث كلمات نقف عندها بسرعة, البيهقي قال: هذا إسناد صحيح, وهذه الكلمة تدل على صحة إسناد الحديث؛ صحة الإسناد من حيث الاتصال وعدم الانقطاع, وصحة الإسناد من حيث أن الرجال ثقات.
إذاً: الصحة هنا فيها جانبان: أن الرجال ثقات, وأن الإسناد متصل غير منقطع في ظاهر الأمر, بينما الحافظ ابن حجر قال: رجاله ثقات, فأيهما أقوى: رجاله ثقات أو إسناده صحيح؟
إسناده صحيح؛ لأن قوله: رجاله ثقات، يعني: ثقة الرجال، ولكن قد يكون بين الواحد والآخر انقطاع فيكون الحديث معلولاً بالانقطاع أو التدليس أو الإرسال أو ما شابه ذلك.
كلام الإمام الشوكاني يقول: رجاله رجال الصحيح, أيها أقوى؟
الذي يظهر لي أن (رجاله رجال الصحيح) هي أضعف الألفاظ الثلاثة؛ لأنه لما قال: رجاله رجال الصحيح يحتمل أن يكون رجاله رجال البخاري , يحتمل أن يكون رجاله رجال مسلم , ويحتمل أن يكون رجاله رجال الحديث الصحيح, يعني: الذين يوثق بهم, وهو عندما يقول: (رجاله رجال الصحيح), فإن الصحيح يعني البخاري أو مسلماً، قد يكون بعض الرجال الذين في الصحيحين انتقى البخاري أو مسلم من أحاديثهم, يعني: لا يخرج البخاري كل حديثه, وإنما ينتقي من أحاديثه الأحاديث التي يعلم أنها صحيحة عن شيخ معين أو ما أشبه ذلك, وسلمت من التدليس؛ لأن بعض الرواة قد يكونون مدلسين مثل أبي إسحاق، عندنا الآن أبو إسحاق هذا راوي الحديث, هذا إمام جليل القدر عظيم، وأبو إسحاق هذا هو أبو إسحاق السبيعي بفتح السين، أبو إسحاق السبيعي , فهو من كبار التابعين والأئمة, وقد ورد أنه روى عن أكثر من واحد وعشرين صحابياً, وولد لسنتين مضتا من خلافة عثمان رضي الله عنه وأرضاه, ومات في سنة: (129هـ), وهو بحر من بحور العلم, ولكن فيه تدليس, ولهذا كان شعبة يقول: كفيتكم تدليس ثلاثة، وذكر منهم أبا إسحاق السبيعي , فإذا روى عنه كان لا يروي إلا الأحاديث التي يعلم أنه أخذها مباشرة من صاحبها بغير تدليس.
إذاً: أقوى الألفاظ هنا كلمة البيهقي حيث يقول: إسناده صحيح, ثم كلمة ابن حجر حيث يقول: رجاله ثقات, ثم كلمة الشوكاني حيث يقول: رجاله رجال الصحيح.
وقد عرفتم من هو أبو إسحاق صاحب الحديث فهو أبو إسحاق السبيعي .
وهذه فيها ثلاثة أو أربعة أقوال تقريباً:
القول الأول: أنه يسل الميت من عند رجلي القبر، يعني: أول ما يدخل من الميت رأسه، فيدخل رأس الميت من عند رجلي القبر, ثم يذهب رأسه إلى موضع الرأس وتبقى رجلاه في موضع الرجلين, يعني: يسل سلاً من عند رجلي القبر ثم يوضع الميت في قبره, لكن أول ما ينزل من الميت في القبر رأسه, رأسه نزل في موضع الرجلين ثم استمروا بحمله حتى وضعوا رأسه في نهاية القبر ورجليه عند رجلي القبر, هذه هي الصورة الأولى أن يسل الميت من عند رجلي القبر، يعني: إذا كان مثلاً القبر هكذا: هذا موضع الرجلين وهذا موضع الرأس, فيؤتى بالميت فيسل هكذا, ينزل الميت عند موضع الرجلين, ينزل رأسه ثم يسحب إلى موضع الرأس وتبقى رجلاه في آخر القبر, هذا ما يقتضي حديث الباب, وهذا القول هو مذهب الإمام الشافعي ومذهب الحنابلة أيضاً وقول الأكثرين, وهو المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم كما نقل عن ابن عمر وأنس وسواهم أنهم هكذا كانوا يفعلون بالموتى, يسلونهم من عند رجلي القبر, هذا المنقول عن الصحابة.
وحجة هؤلاء, أولاً: حديث الباب، حديث أبي إسحاق أن عبد الله بن يزيد -و عبد الله بن يزيد صحابي- رضي الله عنه؛ ( أنه أدخل الميت من عند رجلي القبر وقال: إن هذا من السنة ), وقد سبق معنا أن قول الصحابي: إن هذا من السنة له حكم المرفوع, يعتبر كأنه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا.
أيضاً: من حجتهم أن هذا هو الذي عليه عمل الصحابة رضي الله عنهم في إدخال الموتى في قبورهم, وقد يرى بأن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل قبره هكذا أيضاً, فهذه هي الحجة الثانية.
القول الثاني: أن الميت يدخل من قبل القبلة معترضاً، يعني: يؤتى بجنازته من جهة القبلة يعني: يكون الميت بين القبر وبين القبلة, ثم يوضع في القبر معترضاً وليس يسل سلاً كما في الحالة الأولى, وهذا مذهب أبي حنيفة .
واحتج أبو حنيفة لهذا بما روي عن ابن عباس وغيره: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل قبره من جهة القبلة معترضاً )؛ أن هذا المنقول من فعل الصحابة بإدخالهم النبي صلى الله عليه وسلم في قبره.
وهذا الحديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل قبره من جهة القبلة معترضاً ), هذا الحديث رواه البيهقي , وفي سنده الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف.
إذاً: الحديث لا يصح من جهة الإسناد, وأيضاً فقد شنع العلماء على من أخذ بهذا الحديث وظاهره, كما فعل الشافعي في الأم وغيره، وكثير من أهل العلم قالوا: إن هذا الحديث منكر المتن ولا يصح أبداً، لماذا؟
قالوا: لأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بينه وبين القبلة.. القبلة بالنسبة للمدينة إلى جهة الجنوب يعني: بهذا الاتجاه القبلة في المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم دفن في بيته في حجرة عائشة , فقالوا: إن جدار الحجرة ملتصق بالقبلة تماماً, وإذا كان الجدار ملتصقاً بالقبلة فمعناه أنه ليس بين القبر وبين الجدار مكان يمكن أن يدخل منه ولا يسع الجنازة أصلاً, القبر محفور إلى جهة القبلة, يعني: ليس بينه وبين القبلة فراغ, ولهذا قالوا: لم يكن يوجد مكان يتصور وجود الجنازة أو وجود من يدخلها في القبر فيه، فقالوا: إن هذا منكر ولا يتصور، بل هو مكابرة للحس, ولذلك نقول: إن هذا لا يصح.
القول الثالث: أنه يسل من قبل رأسه, يعني: عكس الحالة الأولى؛ يدخل من قبل رأسه, ومعنى ذلك إذا كان الميت سوف يدخل من قبل رأسه فأول ما سوف ينزل إلى القبر رجلاه، ثم ينزل رأسه بعد ذلك, وهذا أحد القولين للإمام الشافعي، لكن الأول هو المشهور.
واحتج الشافعي لهذا القول بما رواه الثقة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخل القبر من جهة رأسه ), وقلنا الثقة هو إبراهيم بن محمد المدني، وهذا ذكرناه أمس وقلنا: إنه وإن كان ثقة عند الشافعي إلا أنه متروك عند الأئمة.
إذاً: هذا القول ضعيف أيضاً.
القول الرابع: أنه مخير بين أي ذلك شاء, إن شاء أدخله من جهة الرجلين, وإن شاء أدخله من جهة الرأس, وإن شاء أدخله من جهة القبلة، وإن شاء من أي جهة أخرى جاز ذلك, وهذا منصوص عن الإمام أحمد , فإنه قال: كلٌ لا بأس به, وهكذا الإمام مالك وابن حزم واختاره الصنعاني في سبل السلام وغيرهم.
وأقول: إن هذا القول بأن الأمر واسع وكلٌ لا بأس به لا ينافي أو يناقض القول الأول: أن السنة أن يسل من قبل رجليه؛ لأننا نقول: الأمر فيه سعة, والمسألة ليس فيها نص صريح صحيح يجب الرجوع إليه, وإنما فيها فعل صحابي، وقال: إنه من السنة, وهناك ما يعارضه, وإن كان الراجح عندنا أنه يدخل من قبل رجليه -من قبل رجلي القبر- إلا أن الأمر فيه سعة، فأي شيء فعله من ذلك أجزأه.
والمصنف رحمه الله عزا هذا الحديث إلى أحمد وأبي داود والنسائي، وقال: صححه ابن حبان وأعله الدارقطني بالوقف، يعني: أنه موقوف.
فقد رواه أبو داود في سننه في كتاب الجنائز، باب الدعاء للميت إذا وضع في القبر, ورواه الترمذي وابن ماجه والنسائي في الجنائز أيضاً، باب ما يقول إذا وضع الميت في قبره, وقد خرجه أحمد وابن حبان كما ذكر المصنف وصححه، والحاكم وصححه أيضاً، والبيهقي وابن أبي شيبة وغيرهم.
والمصنف هنا قال: وأعله الدارقطني بالوقف, والوقف معناه: أنه موقوف على الصحابي، فيكون هنا من كلام ابن عمر رضي الله عنه وليس من كلام النبي عليه الصلاة والسلام, هذا معنى قوله: أعله بالوقف.
وفي الواقع أن في الحديث اختلافاً الآن, هل هو مرفوع أو موقوف؟ والعلماء دائماً يضطربون في الحديث إذا ورد بصيغتين؛ ورد مرة مرفوعاً ومرة موقوفاً, بعضهم يميل إلى ترجيح المرفوع كقاعدة عامة, ما هو بالحديث هذا فقط, بعضهم يميل إلى ترجيح المرفوع، لماذا؟
لأنه يقول: إن الرافع معه زيادة علم, يعني: هذا يظنه من كلام ابن عمر، وذلك معه زيادة علم أنه من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فيميلون إلى أن الرفع زيادة، فإذا كان الرافع ثقة مالوا إلى قبولها.
وبعضهم يميلون إلى الوقف؛ لأنهم يقولون: إن الوقف هو القدر المتيقن والرفع زيادة فيها نظر، والاحتياط ألا يرفع الإنسان الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن يتثبت ويتأكد منه.
وكثير من أهل العلم ليس عندهم قاعدة مطردة في هذا الباب, وإن كانت قاعدة الاحتياط مهمة، وعدم رفع الشيء للنبي صلى الله عليه وسلم إلا بيقين, ولكنهم ينظرون إلى المرجحات, وهل الأكثر والأوثق من الرواة رفعوه أو الأكثر والأوثق من الرواة وقفوه مثلاً؟ وهل الأكثر أرسلوه أو الأكثر وصلوه؟ وكذلك الأوثق.
إذاً: الترجيح يتم بالنظر إلى أمرين أساسين:
الأول: الأكثر من الرواة.
الأمر الثاني: الأوثق.
وقد يراعون أمراً ثالثاً وهو: الخصوصية, يعني: إذا كان هذا التلميذ معروفاً بالأخذ عن هذا الشيخ فهو يقدم فيه على غيره, إضافة إلى القاعدة الرابعة التي ذكرناها قبل قليل وهي قاعدة: الاحتياط في الرفع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم, فالأصل براءة ذمة النبي صلى الله عليه وسلم من أن يكون قال الحديث, وبراءة ذمة المكلف من أن يكون مكلفاً مأموراً بهذا إلا بأمر تقوم به الحجة.
إذاً: هذه إشارة عامة إلى موضوع الرفع وموضوع الوقف, ولكن فيما يتعلق بهذا الحديث على وجه الخصوص فإن الذي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: الذي قال عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم- هو همام بن يحيى , وقد خالفه شعبة وهشام، فوقفوا الحديث, وهم أوثق منه، ولذلك نقول: إن الراجح في الحديث أنه موقوف وأنه من كلام ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً نقول: إذا وضع الميت في قبره يقال أي دعاء، وأصح ما ورد هو كلام ابن عمر: (باسم الله وعلى ملة رسول الله)، وهو المشهور عند العلماء، ولو قال: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ [طه:55] لم يكن بذلك من بأس.
أولاً: رواه أبو داود في كتاب الجنائز, باب الحفار يجد العظم في القبر, ورواه أيضاً ابن ماجه في النهي عن كسر عظم الميت, وقد خرج الحديث: أحمد والبيهقي والدارقطني وابن حبان وعبد الرزاق ومالك وغيرهم.
أيضاً حديث رقم (577): وزاد ابن ماجه من حديث أم سلمة : (في الإثم)، يعني: ( كسر عظم الميت في الإثم ككسره حياً )، هذه الزيادة طبعاً هي عند ابن ماجه مثلما ذكر المصنف, ولا تصح كما سوف أشير.
الجواب: لأن الصحابي مختلف، وسبق أن بينا أنه إذا اختلف الصحابي فهو حديث جديد, حتى لو كان اللفظ نفسه, ولهذا صحابي الحديث الأول عائشة , وصحابي الحديث الثاني أم سلمة، إذاً: هما حديثان وإن كانت الزيادة لفظ: (في الإثم).
أما الحديث الأول حديث عائشة : ( كسر عظم الميت ككسره حياً )، ففيه راو اسمه سعد بن سعيد الأنصاري وهو أخ لـيحيى بن سعيد الأنصاري الإمام الثقة المعروف, وسعد بن سعيد الأنصاري هذا رواه عن عمرة عن عائشة , ولكن سعد فيه مقال , ولكن نقول: إنه جاء للحديث متابعات، يعني: عن عمرة عن عائشة عن جماعة من الرواة منهم يحيى بن سعيد أخوه, فقد رواه أيضاً عن عمرة عن عائشة فيتقوى الحديث بذلك, وبناء عليه نقول: الحديث وإن كان إسناده عن سعد بن سعيد ضعيفاً إلا أن له طرقاً يتقوى بها، فهو إسناد حسن.
وأما زيادة: (في الإثم) فلا تصح، بل هي منكرة, والأقرب أنها من إضافة بعض الرواة , وقد ضعف الحديث في الجملة جمع من الأئمة كـابن عدي وابن حزم، وحسنه ابن القطان وصححه النووي، والأقرب أنه حديث حسن بدون زيادة: (في الإثم).
المسألة الأولى: لو ماتت امرأة حامل في بطنها جنين وحي فماذا يصنع بها؟ هل ندفنها والجنين في بطنها؟ أو ننتظر حتى يموت الجنين؟ أو نشق بطنها ونستخرج الجنين؟
نقول: يشق بطنها ويستخرج الجنين هذا هو الصحيح, والمسألة هنا فيها أقوال:
القول الأول: -أنه كما قلنا- يشق بطنها ويستخرج الجنين, وهذا مذهب الحنفية والشافعية وأكثر أهل العلم, لماذا يشق بطنها ويستخرج الجنين؟
قالوا: لأن استخراج الجنين والحفاظ على حياة الجنين أمر مهم، والشرع جاء بحفظ الضرورات الخمس والتي منها: الحياة, ولذلك توجد أحكام كثيرة جداً شرعت من أجل حفظ الحياة, وشق بطن الميت وإن كان خلاف ما يجب في الأصل، لكنه يتعين من أجل الحفاظ على الحي, فليس الحفاظ على بطن الميت بأولى من الحفاظ على الحي.
ومثل هذه المسألة يجب ألا يكون فيها خلاف فيما يبدو لي, وإن كان فيها خلاف فهو بسبب نقص المعلومات الطبية في عصر من العصور, ولذلك الفقهاء يقولون الآن: لو كان الميت في بطنه شيء, لو أن أحداً في حال الحياة وضع في بطن هذا الإنسان قطعة من الذهب للورثة, وقال الورثة: لا، لا يدفن الميت إلا أن يستخرج هذا الذهب لأنه لنا, فهل يشق بطنه أو لا يشق؟ يشق, طيب. فأيهما أولى: المال أو الجنين؟
الجنين بيقين، ولهذا نقول: إن مسألة شق بطن المرأة الميتة لاستخراج الجنين منها أمر متعين، لكن يتعين إذا كان الجنين حياً, أو يغلب على الظن أنه حي.
ولاحظوا أنه في وقت مضى كان الناس لا يستطيعون أن يعرفوا إن كان حياً أو ميتاً, ومن هنا بعض أهل العلم ربما تحذروا في هذه المسألة؛ لئلا يتوسع الناس في بقر بطون النساء الحوامل.
ولهذا القول الثاني في المسألة, قالوا: لا يبقر بطن المرأة, وهذا مذهب مشهور عند الحنابلة والمالكية.
لماذا لا يبقر بطنها؟
قالوا: لأن الغالب أن الجنين لا يسلم، لا يكون حياً، فإذا ماتت أمه فإنه يلحقها في الوفاة, فهو عادة لا يعيش.
ومن هنا قالوا: لا يجوز هتك حرمة الميت, وهو أمر متيقن -يعني بشق بطنه- بأمر موهوم أو مظنون، وهو حياة الجنين وهو عندهم موهوم، ولكن هذا النظر ضعيف, وخصوصاً مع تقدم العلم وتقدم الطب.
ولهذا نقول: إذا ثبتت حياة الجنين فإنه يجب بقر بطن المرأة واستخراج الجنين منها.
جثة الميت تشرح لأغراض عدة, إما تشرح أحياناً لمعرفة سبب الوفاة, إذا كان أمراً جنائياً يتعلق بجريمة أو أمر من هذا الباب, والطب الشرعي هنا يتابع معرفة طريقة الجريمة وسبب الجريمة والمسئول عنها, هذا سبب من أسباب التشريح.
السبب الثاني من أسباب التشريح: التشريح من أجل العلم والتعليم، فإن الطلاب في كليات الطب وغيرها يحتاجون على المشرحة إلى جثث يعرفون من خلالها تركيب الجسد وأعضاء الجسد وأجهزته وطريقة عمله، وأشياء كثيرة جداً ربما يعرفها المختصون.
السبب الثالث من أسباب التشريح هو: معرفة المرض الذي مات به المريض, بمعنى أنه قد يكون المريض مات بمرض معين يُحتاج إلى معرفته, وهذه المعرفة يترتب عليها توقي المرض بالنسبة للأحياء، ومعرفة العلاج وما كان من هذا الباب.
إذاً: هذه ثلاثة أسباب, وقد يوجد غيرها، لكن هذه هي الأسباب المشهورة, ومسألة التشريح مسألة حادثة, ولهذا لم يكن عند الأئمة السابقين فيها كلام، وإنما كان كلامهم في أمور أخرى بعيدة وربما لم تعد اليوم قائمة, مثلاً: كانوا يتكلمون في مسألة حفظ حرمة الميت وما يترتب عليه, ولهذا كانوا يطرحون مسألة: لو إنسان وجد عنده ميت وهو شديد الجوع؛ جاع حتى خاف على نفسه الموت, هل يجوز أن يأكل من هذا الميت أو لا يجوز؟
ومثل هذه القضية فضلت أن أضرب عنها صفحاً؛ لأنها قضية على الأقل الآن لم تعد، وإن كانت الضرورات قد تطرأ في بلد أو في أي وقت، مجاعة وغير هذا, وقد تكون هذه الصورة بعينها موجودة في بعض مجاهل أفريقيا ومجاعات وأشياء من هذا الباب، لكنها ليست صورة شديدة الذيوع، والأفضل أن نختار الصورة التي توجد اليوم في كلية طب وفي كثير من المشارح وفي كثير من محلات الطب الشرعي والمستشفيات وغيرها.
فإذاً: هذه مسألة التشريح لهذه الأغراض الثلاثة، وهنا السؤال: ما حكم التشريح؟
فنقول: أولاً: إن كان يغني في أي حالة من الحالات أن يقام بتشريح جثة حيوان فإن هذا يتعين، أي: إذا كان يكفي فيه تشريح جثة حيوان فلا يجوز تشريح جثة إنسان.
إذا احتيج إلى تشريح جثة إنسان فإن ذلك جائز بشروط:
الشرط الأول: أن يكون لذلك ضرورة كما قلنا، سواء كانت ضرورة علمية أو ضرورة طبية أو ضرورة قضائية أو غيرها.
أن يكون ذلك لضرورة، فلا يتساهل فيه أو يتوسع فيه؛ لأن العبث بالجثث والعبث بأجساد الناس أمر مذموم ومردود فلا يلجأ إليه إلا لضرورة.
الشرط الثاني: أن يكون ذلك بإذن الميت أو بإذن ورثته، فإما أن يأذن هو حال الحياة أو يأذن ورثته من بعده، إذا لم يكن قد أذن بذلك فلابد من إذن الورثة.
الشرط الثالث: أن يحافظ على حرمة الجثة ما أمكن، مثلاً: إذا كانت الجثة جثة امرأة، وهنا ينبغي أن يكون تشريحها بأيدي طبيبات من النساء إلا إذا تعذر ذلك.
الشرط الرابع: كذلك المحافظة على عورة الميت حتى لو كان في مكان التشريح.
الشرط الخامس: أنه بعد انتهاء التشريح ينبغي أن تحفظ الجثة وتدفن في مكان محترم مع القبور.
إذاً: ذكرنا الآن خمسة شروط:
الأول: وجود ضرورة علمية أو قضائية أو طبية.
الثاني: إذن الميت حال حياته وورثته بعد موته.
الثالث: المحافظة على حرمة الجثة.
الرابع: المحافظة على عورة الميت.
الخامس: أن تدفن في مكان محترم -يعني: في المقابر- بعد الانتهاء منها.
وهذا القول الذي رجحناه تقريباً هو ما عليه كثير من المجامع الفقهية في العالم الإسلامي على اختلاف في التفاصيل، مثل هيئة كبار العلماء، ومثل المجمع الفقهي بـمكة، ولجنة الفتوى بالأزهر، ولجنة الفتوى بـالأردن وعدد من الجهات المسئولة عن الفتوى.
وهي أيضاً من المسائل النازلة الحديثة وإن كان المتقدمون ذكروا طرفاً منها، أذكر أن النووي في المجموع تكلم عن نقل عظم من خنزير إلى إنسان، هذا كان يحدث، لكن على ندرة، أما الآن فقد أصبحت عملية نقل الأعضاء عملية شائعة جداً، بل أصبح هناك بنوك للأعضاء.
ونقل الأعضاء قد يكون نقل عضو أو جزء من الإنسان إلى نفسه، وهذا لا إشكال فيه، مثل أن ينقل شيء من اللحم أو غيره من موضع في الجسد إلى موضع ثان فيه تشويه، فهذا لا بأس به.
نقل عضو من إنسان لآخر ما حكمه؟
أيضاً هذا كما قلت من النوازل؛ ولهذا من أهل العلم من منعه وشدد فيه؛ مثل نقل الكلية، نقل الكبد، نقل القلب، نقل العين، وأذكر أن الكثير من أهل العلم شددوا فيه، مثل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله كان يشدد في هذه المسألة، الشيخ الشعراوي كان يشدد فيها وجماعة من أهل العلم، لكن الأكثرين من العلماء على جواز نقل الأعضاء، لكن بشروط، فينقل العضو من إنسان لآخر إذا كان في ذلك مصلحة.
من الشروط بطبيعة الحال موافقة الشخص صاحب العضو؛ لأن نقل الأعضاء قد يكون نقلاً من حي، وهذا لا إشكال فيه أنه يؤخذ إذنه، لكن قد يكون الغالب أن النقل من ميت، والمقصود هنا الميت دماغياً كما يسمونه، وهذه قضية جديدة اكتشفها الأطباء الفرنسيون، ثم أصبحت معروفة في العالم كله، وهي قضية موت الإنسان دماغياً مع بقاء القلب يضخ الدم إلى جميع أجزاء الجسم، ويمكن هنا وضع الأجهزة بحيث يظل الجسم محتفظاً بحيويته وتتم عملية التروية، يعني: يروى الجسم بالدم فيظل حياً، العين مثلاً والقلب والكلية والكبد وغيرها تظل حية؛ لأنها من خلال ضخ القلب تزود بالدم فتكون حية، لكن الدماغ ميت، فإذا رفعت الأجهزة عنه مات.
فالعلماء هنا يلجئون والأطباء إلى تشغيل هذه الأجهزة، بحيث يمكن من خلال فترة معينة أن يستفاد من هذه الأعضاء.
فهنا لابد أولاً من التأكد من الموت التام للإنسان، والتأكد هنا لابد أن يكون بشهادة أطباء موثقين أو لجنة؛ لماذا؟ لأن ثمة حالات قد يحكم طبيب متسرعاً أو بناء على تقرير خاطئ أو ظاهرة قد يحكم بوفاة الميت دماغياً ويتبين أنه لم يمت، فلابد من التأكد من ذلك.
الشرط الثاني: لابد من إذن الميت كما قلنا أو إذن ورثته كما في الحال الثانية.
الشرط الثالث: أن يكون هناك أيضاً ضرورة في المسألة للحفاظ على حياة الحي، هذه أهم الشروط.
الأصل أنه لا يجوز، ( والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الدم ) كما في صحيح البخاري .
فنقول: لا يجوز أخذ المال مقابل العضو، خصوصاً وأن هذا العضو ليس ملكاً لك في الواقع, هو ملك لله سبحانه وتعالى، وأنت مؤتمن عليه أو موظف في استخدامه في مصالح الدين أو مصالح الدنيا، ولهذا الأكثرون يرون عدم جواز أخذ العوض.
لكن هنا مسألة مرتبطة بهذا وهي: إذا لم يمكن تحصيل هذا العضو إلا بمال يدفعه المحتاج، فهل يدفع المال أو لا يدفع؟
نقول: يدفع؛ لأنه بالنسبة للآخذ المحتاج ليس عليه شيء، وإنما الأمر على الباذل، يعني على صاحب العضو فنقول: يحرم عليه أن يأخذ مالاً، أما بالنسبة للمحتاج المريض فلو دفع مالاً من أجل الحصول على كلية فليس عليه في ذلك حرج؛ لأنه مضطر, وإذا لم يجد من يتبرع له فله أن يدفع مالاً للحصول على هذا العضو.
أما التبرع فهو عبارة عن نقل؛ لأنك أنت لا تحتاجه الآن، مثل إنسان عنده كليتان وفي الواقع يحتاج واحدة، الثانية وضعها الله سبحانه احتياطاً, فكون هناك إنسان على وشك العطب فتعطيه هذا الاحتياط الذي عندك من أجل الحفاظ على حياته، هنا التبرع لا يحتاج إلى أن تكون مالكاً له؛ لأنه ليس له مالك إلا الله سبحانه وتعالى، والله وضعه لعباده فانتقل من شخص إلى آخر، ولكن أخذ المال هو الذي يكون ممنوعاً؛ لأنه لا يملكه ملكاً مطلقاً، وإنما يملكه ملك انتفاع به، لكن لا يملكه ملكاً يمكنه من أن يبيعه، بل بعضهم قالوا: إن هذا مثل الاسترقاق، كأن جزءاً من أعضاء الإنسان أصبحت في حكم الرقيق الذي يباع.
منها: احترام الميت كاحترام الحي، وأن الموت لا ينزع صفة الإنسانية عن الجسد.
ومن ذلك نقول: كراهية أو تحريم وطء القبور والقعود عليها؛ لأن هذا فيه إهانة للميت أن تطأ قبره أو تقعد عليه، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوطء على القبور أو القعود عليها، وقال: ( لأن أقعد على جمرة حتى تخلص إلى ثيابي، أحب إلي من أن أقعد على قبر ).
وكذلك فيه حرمة أذية الميت، سواء كانت أذية حسية أو أذية معنوية، مثلاً: سب الميت، انتقاصه، تحقيره، تعييره، ذمه، نسبة السوء والباطل إليه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما عملوا ) .
ومنه: دفن الجزء من الإنسان، يعني: إذا وجد من الإنسان جزءاً، مثل يد أو رجل أو قطعة منه، فإنها تدفن في مكان محترم كما قلنا.
فيه: أن ذلك عام في الأموات كلهم جميعاً، يعني: أن كسر عظم الميت ككسره حياً, وبناء عليه نقول هذا عام في كل ميت سواء كان مسلماً أو غير مسلم، يعني: هل يجوز أن تكسر عظم إنسان لأنه غير مسلم إلا أن يكون ذلك في قتال مشروع؟ لا يجوز إلا في القتال المشروع.
إذاً نقول: الحديث عام، ومن هنا أيضاً الحديث الذي قبله قال: ( أليست نفساً ).
أيضاً: فيه تكريم الإسلام للإنسان، وهذا معنى عظيم أنك تجد أنه ونحن نقرأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في مجامع الدرس والعلم نقف على قول النبي عليه الصلاة والسلام في الميت الذي قام له، فقيل إنها جنازة يهودي قال: ( أليست نفساً )، وهذا في صحيح مسلم، واللفظ الآخر: ( إن للموت لفزعاً ) يعني: قوموا، وأيضاً قصة الصحابة الذين وقع منهم قيس بن سعد وسهل مثل هذا المعنى.
ومثله أيضاً هنا: ( كسر عظم الميت ككسره حياً ) من غير تفصيل، دليل على تكريم الإسلام للإنسان ورعايته للإنسانية وحفظه لمقاماتها.
فيه: أن من أراد العدوان على جثة الميت بإحراق أو إتلاف أنه ينبغي مدافعته.
يعني: لو وجدت جنازة ميت وناس أتوا لأخذ الجنازة لإحراقها أو لإتلافها يدافعون بالأسهل فالأسهل، فإذا لم يندفعوا إلا بالقتال قوتلوا دون هذه الجنازة.
إخراج الميت من قبره، هل يخرج الميت من قبره.. ينبش؟
لا, إلا لضرورة أو حاجة لابد منها، مثل لو كان قبره -مثلاً- في مجرى السيل وكان يقع الضرر بانكشاف القبر أو ما أشبه ذلك، فإنه ينبش القبر ويؤخذ ما بقي منه ويدفن في مكان آخر محترم أيضاً.
الجواب: بناء على الحديث نعم, وهذا الذي ابن حزم قال.. يعني: كأنه يقول: إن وجد من يقول بهذا القول فأنا أقول به، ولكن غير واحد من أهل العلم ذكروا الإجماع على أنه لا يقال بالقصاص، وممن ذكر ذلك الطحاوي، وذكر الطحاوي وجهاً جيداً في هذا التخريج، وهو أنه وإن كان كسر عظم الميت محرماً إلا أنه لا يقتص منه، لماذا؟
لأنه بالنسبة للحي الأذية بقطع عضو من أعضائه مثلاً أو كسره تفوت على الحي الانتفاع به، مثل لو قطع رقبة الحي هنا يكون قد قتله، ولذلك يأتي فيه القصاص، لكن لو قطع رقبة الميت هل يكون قد قتله؟ لا؛ لأنه أصلاً ميت، يعني: قطع رقبته أو لو أطلق عليه رصاصة مثلاً ما قتله، هو أصلاً ميت، ولكن نقول: هذا الفعل بشع وشنيع ويعزر عليه ويؤدب، ولكن لا يقتص منه فيقتل هو؛ لأنه ما قتل أحداً، هذا الميت أصله مقتول، وهكذا نقول في القصاص في الجراح والأطراف وغيرها، هذا هو الصواب والله تعالى أعلم.
الجواب: نعم يجوز، بل كثير من أهل العلم نصوا على أنه سنة، وهو عام للرجال والنساء.
الجواب: نعم، أنا الذي قمت بجمعها، وقد جمعت كل ما قيل: إنه من الأسماء الحسنى، فوجدت حوالي ثلاثمائة وسبعين اسماً أو أكثر من ذلك، وانتقيت منها بالاجتهاد، ولذلك وضعت في الكلمة أن اختيار تسع وتسعين اسماً من بين ما ورد أمر فيه اجتهاد، ومن حفظ تسعة وتسعين منها فله إن شاء الله الأجر الموعود.
الجواب: هي الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الجواب: هذا فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اصبغوا هذا أو غيروا هذا الشيب بشيء ) حديث في قصة أبي قحافة، وفيه زيادة: ( وجنبوه السواد ) العلماء يقولون: إن زيادة: (وجنبوه السواد) فيها إدراج، وأنها أقرب أن تكون مدرجة أو منكرة فليست في أصل الحديث، ولهذا نقول: إن الصبغ بالسواد إن قلنا: إن الزيادة لا تصح فهو جائز، وقد نقل عن أكثر من عشرة من الصحابة أنهم كانوا يصبغون.
وإن قلنا: إن هذه الزيادة صحيحة بناء على ظاهر الحال فنقول: إن الصبغ يكون مكروهاً؛ لأن النهي هنا: ( وجنبوه السواد ) في أبواب الآداب والأخلاق كما ذكرنا، والغالب أن النهي هنا يكون للكراهة.
السؤال: نريد الدورات السابقة في درس البلوغ كاملة فأين نجدها؟
الجواب: بالنسبة للبلوغ موجود طبعاً عند (بينات) هم الذين قاموا بتسجيله.
الجواب: تكون ملغاة إذا عارضت الشريعة, تكون متوهمة.
الجواب: طبعاً هذا الأصل، إذاً: يؤخذ إذن من؛ إذا لم يؤخذ بإذن ورثته؟! هم الذين يرثون الحق بعده.
الجواب: نعم، لابد من إذنه أو إذن أهله.
الجواب: يجوز أخذها للضرورة كما ذكرنا.
الجواب: هذا ذكرناه الآن، يأخذ من الزكاة.
الجواب: وضحنا أنه لا نقصد بالاجتهاد أن الواحد يخترع اسماً من عنده، من كيسه، الاجتهاد هو أن عندنا ثلاثمائة وسبعين اسماً، فأن ينتقي منها تسعاً وتسعين اسماً على ضوء ما ورد في الحديث.
الجواب: أجره قيراط كما ذكرنا بالأمس.
الجواب: كل كتب السنة مفيدة، وهناك كتب حديثة مختصرة في البيوع وغيرها، رسائل علمية ماجستير ودكتوراه.
الجواب: ينصرف ويقدم من يكمل بهم الصلاة.
الجواب: ليس بحديث، ولكنه قول صحيح.
الجواب: سددوا وقاربوا، قد يكون هذا بحسب الحال والمقام، الإنسان أحياناً ذاهب لحج أو عمرة، فلن يقف على الأبواب ويمسك الناس واحداً بعد الآخر، وتعرف أن مكة يجتمع فيها الملايين، لكن إذا كانت أخت بجوار أخت أخرى ورأت أنها امرأة -مثلاً- جميلة حسنة الصورة، وجرى بينها وبينها حديث، وبينت لها أنه في مثل هذا المقام الأفضل أن تستر وجهها لئلا يراها الرجال وما أشبه ذلك؛ فهذا خير.
الجواب: هذا خير ودليل على حياة قلبك، وإن شاء الله أنك مأجور في الحالين، وعليك أن تجتهد في التبكير في النوم وأخذ العدة، ومرة من المرات قلت لبعض الإخوة: اشرب ماء قبل أن تنام حتى تضطر إلى القيام لقضاء الحاجة.
الجواب: لعله سيأتي إن شاء الله هذا الباب.
الجواب: لا يوجد قدر واجب، إنما اللغة هي وعاء للقرآن الكريم والإسلام، ولذلك كلما كان الإنسان أتقن في اللغة كان أضبط لمعرفة القرآن والتفسير.
الجواب: هذا أولاً استنباط جيد، يعني: كأنه يقول: فيه قيراطان؛ واحد للصلاة عليه والثاني لاتباعه، وأصغرهما مثل أحد، هذا وجه، والذي ذكرناه وجه آخر أن القراريط تتفاوت كما تتفاوت سائر الأعمال، الصلاة مثلاً وغيرها.
الجواب: لا يجوز، أيضاً هذا من الإفساد، لكن للحاجة كما قلنا مثل التشريح وغيره. فنعم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر