إسلام ويب

شرح بلوغ المرام - كتاب الجنائز - حديث 591-595للشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن من حق المسلم على أخيه المسلم أن يتبع جنازته إذا مات، وقد رتب الشارع على اتباع الجنازة الأجر العظيم والفضل الجسيم، حيث أن من صلى على جنازة كان له قيراط من الأجر، ومن تبعها حتى تدفن كان له قيراطان، كل واحد منهما مثل جبل أحد كما ثبت في السنة، فينبغي للمسلم الحصيف ألا يفرط في هذه القراريط.

    1.   

    شرح حديث أبي هريرة في الإسراع بالجنازة

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه وخيرته من خلقه, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    ثم السلام عليكم.

    أما بعد:

    فهذا يوم الأربعاء الثامن عشر من شهر جمادى الثانية من سنة (1427) للهجرة، ورقم هذا الدرس (199) من شرح بلوغ المرام، وإن شاء الله غداً نكمل المائتين، وتعرفون أن بداية هذا الدرس كانت قديمة, يمكن (1410 تقريباً), يعني أصبح له الآن ما يزيد على سبع عشرة سنة، والحمد لله أنا أؤمن دائماً وأبداً بأن الإنسان يواصل، إذا بدأ في شيء يكمله، مهما كانت العثرات والعوائق والتوقفات والأحوال، إلا أن الإكمال جيد.

    إذا قلت في شيء (نعم) فأتمه فإن (نعم) دين على الحر واجب

    وإلا فقل (لا) تسترح وترح بها لئلا يقول الناس إنك كاذب

    الإنجاز دائماً قرين المثابرة، كما يقولون: المثابرة زوجة كل ناجح، كما أنها طليقة كل الفاشلين .

    فعلى الإنسان دائماً أن يتعلم المثابرة والمواصلة.

    بالأمس أخذنا خمسة أحاديث تتعلق بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة, وذكرنا الخلاف فيها، وتتعلق أيضاً بالدعاء الوارد في صلاة الجنازة, بماذا يدعو، وذكرنا نوعين من الأدعية الواردة, ( اللهم اغفر له وارحمه وأكرم نزله )، هذا واحد, وهو أصح.

    والثاني: ( اللهم اغفر لحينا وميتنا, وحاضرنا وغائبنا, وصغيرنا وكبيرنا, وذكرنا وأنثانا).

    اليوم عندنا الحديث رقم (569), وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( أسرعوا بالجنازة؛ فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم )، والحديث متفق عليه, وهو حديث عظيم.

    تخريج الحديث

    أولاً: ما يتعلق بالتخريج، فقد رواه الأئمة في كتبهم: الإمام البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه , يعني: أصحاب الكتب الستة كلهم رووه في كتاب الجنازة, باب: الإسراع بالجنازة.

    إذاً: الحديث متفق عليه كما يقول المصنف. ونحن نقول: رواه الستة, وأيضاً رواه الإمام أحمد في مسنده , فيصح أن نقول: رواه إذاً السبعة، وقد رواه أيضاً الإمام مالك في الموطأ وعبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما , والطحاوي وغيرهم. هذا ما يتعلق بتخريج الحديث.

    معاني ألفاظ الحديث

    النقطة الثانية: ما يتعلق بألفاظ الحديث. قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أسرعوا بالجنازة ), أسرعوا: مأخوذ من السرعة, والإسراع هو ضد البطء، لكن في قوله: ( أسرعوا ) مبحثان:

    المبحث الأول: هل المقصود الإسراع بتجهيز الجنازة، أو المقصود الإسراع بالمشي إذا حملوها؟

    الأمر محتمل؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أسرعوا بالجنازة ) يحتمل أن يكون: أسرعوا بها إذا حملتموها على أكتافكم إلى القبر بعد الصلاة عليها، ويدل على ذلك قوله في الحديث: ( وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم )، يعني: عن أكتافكم، فهذا ظاهره قد يدل على أن المقصود بالإسراع هنا الإسراع بها عند حملها بعدما صلي عليها عندما يذهبون بها إلى المقبرة.

    ويحتمل أن يكون المقصود بالإسراع الإسراع بتجهيزها بعد الموت، بما يشمل الإسراع بغسلها وتكفينها والصلاة عليها في أقرب وقت، ثم الإسراع بها في المشي، وبناءً عليه يكون هذا المفهوم أوسع من الأول أو لا؟ يكون أوسع، يعني: أسرعوا بها منذ ماتت إلى أن تدفنوها. وهذا المعنى أوجه وسوف نشير إليه بعد قليل إن شاء الله تعالى. إذاً هذا بحث!

    المبحث الثاني: ما المقصود بالإسراع عند حمل الجنازة؟ هل المقصود بالإسراع الإسراع الشديد أم الإسراع المعتدل والمشي السريع؟ يعني: هل المقصود الركض بها، أو المقصود المشي السريع؟

    المقصود المشي السريع المعتدل, الذي لا يشق على الذين يتبعون الجنازة، وليس المقصود بالإسراع الركض أو الخبب الفاحش, الذي يؤذي من يتبعون الجنازة .

    وأيضاً سوف نزيد هذا الأمر وضوحاً إن شاء الله.

    ( أسرعوا بالجنازة )، والجنازة المقصود بها الميت، وكأنه نزل هذا اللفظ منزلة الإنسان، ولهذا قال: ( إن تك صالحة فخير تقدمونها )، وجعل الضمير ضمير مؤنث, يعني: يعود الضمير على الجنازة سواءً كانت جنازة ذكر أو أنثى، قال: ( فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه ).

    قوله: ( إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه ) هذا فيه حذف أكيد، فالمبتدأ محذوف مقدر، يعني: فالأمر خير تقدمونها إليه، أو ما أشبه ذلك.

    وهكذا قوله: ( فشر تضعونه )، هذا فيه حذف, وهو خبر لمبتدأ محذوف, يعني: تقديره: فهو شر تضعونه عن رقابكم, أو فهي -يعني: الجنازة- إما أن نقول: (فهو) يعني: الميت، أو (فهي) يعني: الجنازة, (شر تضعونه عن رقابكم).

    إذاً: قوله: فخير يعني: فالأمر خير أو فهو خير تقدمونها إليه. وكذلك فشر فيه حذف, تقديره فهو شر أو فهي شر تضعونه عن رقابكم.

    وقوله أيضاً: ( إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك )، كان من الممكن أن يكون التعبير في الحديث: إن تك صالحة فخير، وإن تك فاسدة؛ لأن مقابل الصلاح الفساد، فلماذا النبي صلى الله عليه وسلم اختار قوله: (سوى ذلك)؟

    وهو دليل على اختيار الألفاظ الحسنة، فبدلاً من أن يقول: فاسدة أو شريرة قال: (سوى ذلك). وهذا نوع من التعبير الحسن عن المعنى السيئ، وهذا في القرآن الكريم كثير, مثل قوله تعالى: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، قال المفسرون: لما كان الأمر شراً لم ينسبوه إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما قالوا: أريد, وجعلوا الفاعل مجهولاً، لكن لما صار خيراً، قالوا: أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10].

    فمن تعليم الشريعة أن الإنسان يحسن انتقاء الألفاظ والعبارات بالتعبير حتى عن المعاني السيئة، وهذا من الأدب والذوق أن يقول الإنسان مثل هذا المعنى، لم يقل: وإن تكن فاسدة، وإن كان هو المراد، وإنما قال: ( وإن تك سوى ذلك ) يعني: غير صالحة، واللغة العربية حمالة أوجه، كما يقولون.

    تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير

    مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير

    فالإنسان إذا أراد أن يعبر عن العسل عبر عنه بالعسل أو مجاج النحل أو غير ذلك من الألفاظ الجميلة، وإذا أراد أن يعبر عنه بسوء قال: هذا قيء الزنابير, والأمر واحد، وإنما التعبير مختلف.

    المقصود بالإسراع بالجنازة

    النقطة الثالثة: مسائل في الحديث، والمسألة الأولى: ما المقصود بالإسراع:

    وجمهور أهل العلم يقولون: إن المقصود بالإسراع هو سرعة المشي حين حمل الجنازة، ويحتجون بقوله: ( فشر تضعونه عن رقابكم )، مما يدل على أن الأمر يتعلق بحمل الجنازة، هذا قول.

    والقول الثاني: أن المقصود بالإسراع الإسراع بتجهيزها وتهيئتها, يعني: الإسراع بكل ما يتعلق بحال الميت، وهذا ذكره ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما، وقال النووي عن هذا القول: إنه باطل ومردود، واحتج بظاهر الحديث الذي ذكرناه.

    والواقع أن ما ذكره أو مال إليه ابن بطال والقاضي عياض وجيه, ولا يتعارض مع ظاهر الحديث، وكون الإمام النووي رحمه الله يقول: قول باطل ومردود - يعني: أخذاً بظاهر الحديث- فيه غرابة، فإن القول ليس شديد الضعف، وإنما القول له وجاهة جداً:

    أولاً: أن قوله: ( فشر تضعونه عن رقابكم ), ليس نصاً في الحمل، فإن مسألة الرقاب هذه تستخدم كثيراً في اللغة, تقول: فلان في رقبته دين مثلاً, في رقبته دين أو حق أو غرم، ولا يعني أنه يحملها على رقبته، وإنما المقصود الحمل المعنوي وليس الحمل الحسي، إذاً: هذا وجه, يدل على أن أمر الحديث ليس نصاً.

    ثانياً: نقول: ليس كل الذين يتبعون الميت يحملونه على رقابهم، وإنما الذي يحمله منهم فئة خاصة منهم، وأما الأكثرون فإنهم يتبعونه من دون حمل، والخطاب هو خطاب للعام وليس خطاباً للخاص.

    أيضاً: يقوي هذا الاختيار الذي ذهب إليه ابن بطال وعياض وغيرهما: أن المقصود الإسراع العام أن ثمة حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا ينبغي لجثة أو لجيفة امرئ مسلم أن يحبس بين ظهراني أهله ). أو: ( إذا مات امرؤ مسلم فلا تحبسوا جيفته بين ظهراني أهله ). وهذا الحديث رواه أبو داود, وقال الحافظ ابن حجر: إن إسناده صحيح. فنقول: إن قوله: ( لا ينبغي لجيفة امرئ مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله )، دليل على أن الإسراع عام, يشمل الإسراع بالتجهيز والإسراع بالصلاة في أقرب وقت صلاة، والإسراع بالدفن.

    وهو عام أيضاً؛ فإن حديث الباب يدل على هذا المعنى وعلى غيره، ولكن لا ينبغي قصر الإسراع على الإسراع بالجنازة.

    إذاً: هذه نقطة تتعلق بالإسراع ومعناه واختلاف العلماء فيه.

    حكم الإسراع بالجنازة

    النقطة الثانية: تتعلق بحكم الإسراع بالجنازة:

    وهذا أيضاً نقول: إن جمهور أهل العلم يقولون: إن الإسراع بالجنازة سنة، ويرون أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقوله: ( أسرعوا بالجنازة ) أنه أمر إرشاد, كما ذكرنا في غير موضع.

    والدليل على أنه أمر إرشاد التعليل الوارد فيه، فإنه حين يقول مثلاً: ( إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ).

    هذا يدل على أن الأمر يتعلق بأفضلية واستحباب، والأمر هنا وإن كان لا يوجد صارف مباشر له، إلا أن موضوع الأمر يدل على أنه للاستحباب، ولهذا ذهب الجمهور وهو المشهور عن الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد أنه يستحب الإسراع في الجنازة، وهذه نصوصهم في الباب.

    في المسألة قول آخر للإمام ابن حزم أنه يقول: يجب الإسراع بالجنازة وجوباً, ويحتج للوجوب بظاهر حديث الباب أنه أمر: (أسرعوا). والأمر يقتضي الوجوب, ولا يوجد له صارف، وبناءً عليه ذهب ابن حزم للوجوب.

    ونقول نحن جواباً على هذا: أولاً: فيما يتعلق بالصارف فإن التعليل يدل على نوع من الصرف عن الوجوب.

    ثانياً: سبق أن قررنا وبينا موضوع دلالة الأمر والنهي.. هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ فإذا كان الأمر في مسألة تعبدية محضة فالأصل أنه للوجوب، وإن كان في مسألة إرشادية فالأصل أنه للاستحباب، وهذا الباب الذي نحن فيه الأقرب أنه للإرشاد؛ لأنه لا يتعلق بعبادة مباشرة كصلاة أو غيرها.

    الأمر الثالث: أننا نقول: إنه حكى غير واحد الإجماع على أن الإسراع للاستحباب وليس للوجوب، وقد نص ابن قدامة على هذا, قال: إنه للاستحباب بغير خلاف نعلمه، ولكن رأي ابن حزم لا شك أنه رأي معتبر مع أننا نقول كما حكى غير واحد: إنه قول شاذ, كما ذكر العراقي في طرح التثريب , وكذلك ذكر الشوكاني، مع أن الشوكاني رحمه الله يميل إلى رأي ابن حزم في مسائل عديدة, ويأخذ بظاهريته في مسائل، ولكنه ذكر أن هذا القول بالوجوب قول شاذ.

    فوائد الحديث

    ما يتعلق بفوائد الحديث: فيه أولاً: مشروعية الإسراع بالجنازة؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وفيه: مشروعية المبادرة إلى الخير؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه ) . مشروعية المبادرة إلى الخير من الحي قبل الميت، ولهذا الله سبحانه وتعالى قال: (( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ))[البقرة:148]، وقال: (( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ))[الحديد:21]. فيبادر الإنسان إلى الخير, يبادر إلى طلب العلم, يبادر إلى الحفظ، يبادر إلى العمل الصالح؛ لأنه لا يدري متى يحال بينه وبين ذلك، إما بعجز يعتريه هو, أو بفتور همة, أو بذهاب هذا الخير الذي كان الإنسان يحاوله ويؤجل ويسوف، ومن هذا ما يتعلق مثلاً ببر الوالدين، فالمبادرة في البر مطلوب، لأنه قد يحال بينك وبينه، فتصبح أنت عاجزاً بآفة أو سبب أو بُعد، وقد يحال بينك وبين ذلك برحيل الأبوين، ولهذا جاء: ( الوالد أوسط أبواب الجنة )، فإذا مات الوالد أغلق باب من أبواب الجنة، كما جاء في الحديث. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر ثم لم يدخلاه الجنة ). فالمبادرة إلى أعمال الخير مشروع. أيضاً من فوائد الحديث: مشروعية التعبير الحسن عن المعاني المذمومة كما ذكرنا. من فوائد الحديث: كراهية صحبة الأشرار، ونأخذها من قوله: ( إن كانت سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم )، فإذا كان الشرير حتى وهو ميت، يطلب الخلاص منه وهو لا يضرك لعجزه، فكذلك إذا كان حياً فالخلاص منه أولى؛ لئلا يصحب الإنسان الأشرار, وكما قيل: إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي فهنا نقول: إن من فوائد الحديث: مشروعية صحبة الأخيار وتجنب الأشرار، وأيضاً: الأخيار قد يكونون من البشر وقد يكونون من الملائكة، والأشرار قد يكونون من البشر وقد يكونون من الشياطين، فيتجنب الإنسان الأعمال التي تجعل الشياطين تلابسه, مثل الوقوع في المحرمات والموبقات والشهوات، والغفلات الشديدة المردية التي تفضي بالإنسان إلى أن تتسلط عليه الشياطين, كما قال الله عز وجل: (( اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ))[المجادلة:19]. ولهذا سماهم حزبه، لأنهم كأنه تفرد بهم.

    1.   

    شرح حديث: (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ...)

    الحديث الذي بعده: هو رقم (570): حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين ).

    تخريج الحديث

    وهذا اللفظ متفق عليه كما ذكر المصنف، وقد رواه البخاري في كتاب الجنائز, باب: من انتظر الجنازة حتى تدفن.

    وهنا البخاري عبر بانتظر وهو أوسع وأعم من قوله: شهد أو اتبع الجنازة.

    ورواه مسلم أيضاً في كتاب الجنائز, باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، يعني: واتباع الجنازة.

    ورواه النسائي في ثواب الصلاة على الجنازة واتباعها.

    وهكذا رواه أحمد والبيهقي وابن حبان وغيرهم، هذا لفظ, وقد ساقه المصنف.

    ثم ساق اللفظ الثاني وهو في صحيح مسلم , قال: ( من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن تبعها حتى توضع في اللحد فله قيراطان ). وهو أيضاً في صحيح مسلم , باب: فضل الصلاة على الجنازة واتباعها حتى توضع في اللحد.

    اللفظ الثالث للحديث أيضاً -وكلها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه- وهو لفظ البخاري : (من تبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يصلى عليها، ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع بقيراطين، كل قيراط مثل أحد). وهذا اللفظ هو في صحيح البخاري في مواضع, منها كتاب الإيمان, باب اتباع الجنائز من الإيمان، وهو في مسلم أيضاً في فضل الصلاة على الجنازة واتباعها، فهذا اللفظ متفق عليه أيضاً.

    تسامح الصحابة رضي الله عنهم فيما بينهم

    والحديث هو في باب اتباع الجنازة والصلاة عليها, وله شواهد عن جماعة من الصحابة, منها شاهد عن عائشة رضي الله عنها, ففي الصحيحين أن ابن عمر سمع حديث أبي هريرة هذا، وقال: (أكثر علينا أبو هريرة).

    يعني: أكثر من الأحاديث، فأرسل ابن عمر إلى عائشة يسألها، طبعاً أبو هريرة قال: أنا ما أحدثك إلا بما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأرسل ابن عمر إلى عائشة يسألها فقالت عائشة : ( صدق أبو هريرة , أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, قال ابن عمر رضي الله عنه: لقد فرطنا في قراريط كثيرة ).

    وهذا الموقف الحقيقة فيه عجب:

    أولاً: مسألة المراجعة بين الصحابة رضي الله عنهم والسهولة والسماحة, يعني: ابن عمر ما تقبل الحديث, لو كان الأمر يتعلق بي أنا وبك كان يغضب الواحد منا ويقول: يا ابن عمر ! أنت تتهمني أني أكذب على الرسول؟ ومن هذا القبيل, وتكبر القضية! والواقع أنه لا يلزم أنه يتهمك, يمكن أنك ناس, يمكن وهم, يمكن الحديث عن بعض الصحابة وأنت ظننته عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ما أشبه ذلك! فهو يقول بالتأني والتثبت ليس أكثر، ولهذا لم ينقل أن أبا هريرة وقع منه غضب أو انفعال أو فحش لما سمع مثل هذا الكلام.

    أيضاً ابن عمر اقتصر على أن يتثبت مثلما كان أبوه يتثبت, عمر لما جاء أبو موسى واستأذن عليه وقال: ( الاستئذان ثلاث, فإن أذن لك وإلا فارجع. قال: لتأتيني بشهود على هذا الحديث وإلا لأوجعنك ضرباً ). وذهب أبو موسى إلى الأنصار في مجلس وهو يرتعد ويرتبك؛ لأن عمر كان رجلاً مهاباً، وقال: ناشدتكم الله! أفيكم أحد يشهد لي بهذا الحديث؟ قالوا: كلنا نشهد لك -هو أبو موسى - قالوا: كلنا نشهد لك، لكن لا يقوم معك إلا أصغرنا, وقام أبو سعيد وذهب وشهد مع أبي موسى على الحديث، ثم جاء أبي بن كعب يقول: يا ابن الخطاب ! لا تكونن عذاباً على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: لماذا هذا الخوف والرعب والهلع منك في واحد يروي حديث عن الرسول سمعه بأذنه عليه الصلاة والسلام، قال عمر بن الخطاب : (سبحان الله! إنما أردت أن أتثبت).

    الناس الآن دائماً أعصابهم مشدودة للآخر، يعني: هذه الروح التي عند الصحابة نريدها, نريد المراجعة والأخذ والرد والسماحة وسعة صدر وسعة بال، وهذا لا يزيد الإنسان إلا خيراً وبراً وعلماً، أما الغضب والانفعال لو أن الإنسان قال رأياً من قبل نفسه ثم راجعه فيه أحد، لربما حصل منه كثير من الغضب؛ بينما الصحابة كانوا يتراجعون في أحاديث يرويها أحدهم عن الرسول عليه الصلاة والسلام. إذاً: هذا فيه معنى مهم.

    كذلك ابن عمر رضي الله عنه مع أنه تردد في قبول الحديث أول الأمر، لم يحمله هذا على التعصب والرفض، وإنما ذهب ابن عمر يسأل عائشة، ولما صدقت عائشة كلام أبي هريرة تراجع ابن عمر وندم, وقال: (لقد فرطنا في قراريط). فرجع يعاتب نفسه.

    أيضاً: هذه الأخلاق الصحابية الإيمانية نريدها أن تكون هي الحكم والسلوك الذي يشمل حياة الناس, ويسيطر على علاقات بعضهم مع بعض، حتى حينما يبحثون أو يختلفون في مسائل علمية ومسائل شرعية.

    إذاً: هذه هي ألفاظ الحديث الثلاثة كما ذكرنا، ولذلك نقول: هذا حديث أبي هريرة , وله شاهد عن عائشة؛ لأن عائشة صدقت أبا هريرة , وقالت: (أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم).

    وله شاهد أيضاً عن ثوبان عند مسلم في الصحيح وعن أبي سعيد عند الإمام أحمد , وسنده لا بأس به، وكلها فيها أن: ( من صلى على الجنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان ).

    معاني ألفاظ الحديث

    النقطة الثانية: ما يتعلق بألفاظ الحديث:

    أغرب ما في الحديث من ألفاظ هو لفظ: القيراط ,وهو بالقاف ثم الياء، وقد قال صاحب الصحاح، وهو الجوهري ! قال: إن أصلها: (قِرّاط) بالقاف المكسورة والراء المشددة، والدليل على ذلك أنها تجمع -كما جمعها ابن عمر - على قراريط، فقال: أصلها (قِرَّاط) بتشديد الراء وكسر القاف، والقيراط هو مقدار في الوزن (مقدار في الميزان) وهو مقدار صغير جداً كما قال ابن عقيل الحنبلي : إن القيراط هو نصف سدس الدرهم, يعني: واحد على اثنى عشر من الدرهم، وهو نصف عشر الدينار، وفي بعض الأمصار: واحد على أربعة وعشرين من الدينار، إذاً القيراط: هو عبارة عن عملة للوزن مثل الجرام.

    فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا كأنه شبه الأجر الموعود للإنسان على الصلاة أو على الاتباع بالقيراط.

    وهنا قد يسأل سائل ويقول: لماذا التعبير بالقيراط, وهو عبارة عن عملة صغيرة أو جرم صغير؟

    فنقول: أولاً: لأنهم كانوا يعرفونه، والشريعة دائماً تقرب الأشياء التي لا يعرفها الناس بما يعرفون، وينقدح في ذهني معنى آخر -والله أعلم- أنه عبر بالقيراط لأن العادة أن العملة الصغيرة أو الوزن الصغير إنما يوزن به الأشياء الثمينة, يعني: ميزان الذهب، ولذلك يقول: هذا ميزان ذهب, يعني: أنه دقيق جداً, بخلاف ما إذا كان يزن الإنسان أشياء عديدة, قد يزن مثلاً بالطن أو بغيرها من الأوزان الثقيلة، لكن إذا كان الوزن بشيء صغير فهو دليل على أن الموزون شيء ثمين، وهو كذلك, لماذا؟ لأنه أجر.

    وأيضاً مع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عظم الأمر, أنه وإن كان هذا القيراط معروفاً عندكم بأنه شيء زهيد إلا أنه عند الله شيء عظيم، ولهذا لما قالوا: ( وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين ). وفي الرواية الأخرى قال: ( أصغرهما مثل أحد ). أصغر القيراطين مثل أحد .

    وقوله: ( أصغرهما مثل أحد ) أولاً: لأن أحداً جبل معروف عندهم في المدينة, فهم يعرفونه جيداً.

    ثانياً: أنه من الجبال العظيمة.

    ثالثاً: أنه جبل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس : ( أحد جبل يحبنا ونحبه ).

    وقوله صلى الله عليه وسلم: ( أصغرهما مثل أحد )، (أصغرهما) يدل على التفاوت, فقوله: ( أصغرهما مثل أحد )، يدل على تفاوت القراريط بالنسبة للناس، ولاشك أن التفاوت هنا يرجع أولاً لكمال التحقيق, يعني: بعض الناس يصلي على الجنازة، ثم قد يذهب بسيارته ويمر الشغل وهو عابر، ويرجع إلى المقبرة، هذا حقق الصلاة والاتباع في ظاهر الأمر أو لا؟ لكنه لم يحقق كمالها، وكذلك قوله: ( أصغرهما مثل أحد ) التفاوت قد يكون مرتبطاً بالنية، فبعض الناس يذهب بنية صالحة، وبعض الناس ليس كذلك، بل قد يكون أمره مدخولاً, مثل أن يذهب وهو خائف, أو يذهب وهو راج دنيا أو طمعاً, حتى يذهب طمعاً؛ لأنه والله إذا كان الميت كبيراً أو مسئولاً أو تاجراً قال: يمكن أولاده إن شاء الله ما ينسونني من التركة، وإلا إذا كان يطمع في أن الأولاد يقومون له بوظيفة أو بمصلحة دنيا، فالناس يتفاوتون في صدق نياتهم في الاتباع، ولهذا تتفاوت الأعمال تفاوتاً عظيماً، ومن أهم أسباب تفاوتها النية على ما هو معروف!

    وقت استحقاق القيراط الثاني

    وهنا مسألة, وهي: متى يحصل الإنسان على القيراط الثاني؟ متى يحصل على القيراطين؟

    القول الأول: أنه يحصل على كمال القيراطين بالفراغ من الدفن، يعني: إذا صلوا ودفنوا وانتهوا من الدفن ونفضوا أيديهم من تراب الميت, يعني: إذا انتهوا منه تماماً حصل له القيراطان، وهذا قول الإمام الشافعي وأحمد ومالك .

    ودليلهم على أنه لا يحصل على كمال القيراطين إلا بالدفن لفظ الحديث الآخر، وقول النبي صلى الله وعليه وآله وسلم في رواية البخاري : ( حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها ), واللفظ الآخر: ( حتى تدفن ). فقالوا: الفراغ من الدفن نص يدل على أنه لا يحصل على القيراط الآخر إلا بالفراغ من الدفن.

    وبطبيعة الحال نحن نقول: من تبعها حتى تدفن فله قيراطان، وقيراطان هذه غير القيراط الأول الذي حصل بسبب الصلاة أم معه؟ معه، هذا الصحيح، يعني: ليست ثلاثة قراريط لمن صلى عليها وتبعها حتى تدفن، وإنما هما قيراطان، من صلى عليها فقط فله قيراط. ومن تبعها ولم يصل عليها يتجه أن يكون له قيراط أيضاً. ومن صلى عليها وتبعها فله قيراطان.

    أي: اجتمع له القيراطان، إذاً: الجمهور الذين ذكرناهم من الشافعية والحنابلة والمالكية يقولون: إنه لا يحصل على القيراطين إلا بنهاية الدفن، ودليلهم نص الحديث.

    في المسألة قول آخر لبعض الشافعية وبعض الحنابلة، قالوا: إنها إذا وضعت في القبر فإنه يكون قد حصل على القيراط.

    ويحتجون باللفظ الآخر وهو لفظ مسلم , قال: ( من تبعها حتى توضع في اللحد ). فقالوا: هذا أيضاً نص على أنها إذا وضعت في اللحد -يعني: حتى لو قبل كمال الدفن- فإنه يكون حصل على القيراط الآخر.

    والأرجح -والله أعلم- قول الأولين؛ لأنه: أولاً: حديث النبي صلى الله عليه وسلم يفسر بعضه بعضاً، وقد يكون الحديث في أصله واحداً، ولكن وقع من الرواة اضطراب أو اختلاف في لفظه، وقد يعبر بعضهم بالمعنى.

    وقوله: ( حتى توضع في اللحد ) ليس المقصود: حتى توضع في اللحد قبل الكمال، وإنما هذا تعبير عن الدفن، ولذلك عندما يسأل أحدنا عن فلان الميت ويقول: رحمه الله قد وضع في لحده, هل يعني: أنه وضع في القبر ولم يدفن؟ لا, وإنما هذا معنى جار في لغة العرب, أن الوضع في اللحد معناه الدفن، فليس المقصود هنا بقوله: ( حتى توضع في اللحد ) حرفية العبارة, أي: قبل تمام دفنها، وإنما الكلام يفسر بعضه بعضاً، فنقول: ( حتى توضع في اللحد ) هي تماماً مثل قوله: ( حتى يفرغ من دفنها ). ولهذا نرجح أن الحصول على كمال القيراطين هو لمن تبعها حتى يفرغ من دفنها.

    فوائد الحديث

    فوائد الحديث:

    أولاً: مشروعية الصلاة على الميت.

    ثانياً: ذكر خصوص الفضل الوارد في هذا الحديث، وأن من صلى عليها فله قيراط وذلك لا شك حث على الصلاة عليها .

    فيه فضيلة اتباع الميت .

    فيه بيان معنى اتباع الميت, وهو أن يتبع جنازته حتى توضع في اللحد، وحتى تدفن ويفرغ منها .

    كما أخذ منه بعضهم فضيلة المشي وراء الجنازة, وسوف نأتي لهذه المسألة بعد قليل بمزيد وضوح.

    أيضاً من فوائد الحديث: تفاوت الأجور في العمل الواحد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( أصغرهما مثل أحد ).

    ومن فوائد الحديث: تقريب الأشياء المعنوية بالأشياء الحسية المعروفة، وهذا طريق في التعليم والتربية والتفهيم, أنه يقرب الأشياء الغائبة عن الأذهان بالأشياء المعروفة الموجودة .

    وفيه شرط الإيمان والاحتساب؛ لقوله في حديث البخاري : ( من تبع جنازة امرئ مسلم إيماناً واحتساباً )، وهذا القيد ورد فيه مسائل كثيرة, مثل: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً )، ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً )، ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً ). وهو قيد معتبر في كل الأعمال أن يعملها إيماناً بالله واحتساباً، ولكن هذا القيد يتفاوت, بمعنى: أن بعض الناس قد يكون دافعه إيمانياً، ولكن هذا الدافع نوعاً ما ضعيف أو فاتر، ولهذا قد يؤدي بعض العمل ويقصر فيه، وبعض الناس قد يكون عنده حضور قوي لهذا الدافع واستحضاره له, ولهذا يجتهد ويخلص فيه, ويحتسب عند الله تعالى ما يلقاه في هذا السبيل، فالدوافع وإن كانت إيمانية إلا أنها تتفاوت بين شخص وآخر.

    فيه أيضاً مشروعية التواصل بين الناس، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعطينا ويبلغنا بالأجر العظيم من الله تعالى على اتباع الجنازة، وعلى الذهاب معها إلى القبر, وعلى الصلاة عليها وهو ميت، فهذا فيه إحسان للميت بالدعاء, وفيه إحسان للحي بجبر خاطره، وفيه تواصل بين الناس .

    ففيه دليل على عظمة القيم التي جاء بها الإسلام في بناء المجتمع, وتكوين العلاقات بين الناس، وأن الإسلام جاء بالحرب على كل معاني الفرقة والتباعد والتباغض والكراهية والحسد والبغضاء بين المؤمنين، وهذا المعنى مع أنك تجده في كل شيء, تجده في الصلاة, تجده في الزكاة, تجده في الصيام, تجده في الحج, في العمرة, في الجنازة, إلا أن كثيراً من المسلمين لا يولون هذا الموضوع اعتباراً واهتماماً، وربما إذا سمعوا من يتكلم عنه لم يلتفتوا إليه، لأنهم يعتبرون أن هذا تحصيل حاصل، وقد يناقضونه بأفعالهم.

    بل قد تجد أحياناً من الأخيار والصلحاء من يتنازعون -مثلاً- على المسجد, أو على أماكنهم في المسجد، فيقع بينهم اختلاف عظيم, أو يتنازع طلبة العلم في المسائل العلمية والفقهية فيقع بينهم عداوة وبغضاء، أو إخوة أشقاء من أم وأب قد يتنازعون في ميراث أو أرض أو تجارة ويختلفون ويقع شيء عظيم، وهذا أمر عجيب، الإسلام دين جاء يهذب هذه النفس الوحشية المندفعة الضارية, جاء يهدئها، لكن لا يزال كثير من الناس لا يصغون لصوت الإيمان وصوت الحق، ولهذا تغلب عليهم نوازع الأنانية ونوازع الهوى.

    1.   

    شرح حديث ابن عمر في المشي مع الجنازة

    الحديث الذي بعده: حديث سالم :

    عن سالم عن أبيه: ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة ).

    رواه الخمسة وصححه ابن حبان، وأعله النسائي وطائفة بالإرسال.

    ترجمة سالم بن عبد الله بن عمر

    الحديث عن سالم وهو سالم بن عبد الله بن عمر , يعني: أبوه عبد الله بن عمر .

    و سالم هذا يكنى أيضاً بـأبي عبد الله على والده, وهو تابعي جليل عظيم, حتى إنه يقال: لم يكن في التابعين في وقته وزمنه مثله في العلم والديانة والقوة، حتى إنه يقال: إن أقرب أولاد عمر بن الخطاب شبهاً به هو عبد الله بن عمر ,وأقرب أولاد عبد الله بن عمر شبهاً به سالم، وكان عبد الله بن عمر يحبه حباً شديداً, ويقول:

    يلومونني في سالم وألومهم وجلدة بين العين والأنف سالم

    هذا سالم بن عبد الله , وهو أحد فقهاء المدينة السبعة, ومن سادات التابعين وأئمتهم وعظمائهم، وقد توفي سنة (106) للهجرة .

    تخريج الحديث

    هذا سالم بن عبد الله يقول: ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر

    وعمر

    يمشون أمام الجنازة
    ).

    هذا الحديث يقول الحافظ رحمه الله: صححه ابن حبان , وقد صححه أيضاً النووي في الخلاصة، وكذلك الألباني رحمه الله في غير موضع، وقواه جداً.

    لكن أكثر أهل العلم بالحديث من المتقدمين على تضعيف هذا الحديث وإعلاله بالإرسال, كما نقله المصنف هنا عن النسائي , قال: وأعله النسائي وطائفة بالإرسال .

    وقد أعلوه بذلك لأن الحديث جاء من طريق الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه الذي هو عبد الله بن عمر، وهذه الرواية -يعني: الزهري عن سالم عن أبيه- جاءت من طريق سفيان , بينما أكثر الرواة عن الزهري لا يذكرون: (عن سالم عن أبيه)، وإنما يقولون عن الزهري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر

    وعمر

    كانوا يمشون أمام الجنازة
    ). وبناءً عليه يكون من رواية الزهري , والزهري تابعي, وبناءً عليه فحديثه مرسل، وأيضاً مراسيل الزهري ضعيفة، حتى إن بعضهم يقول: مراسيل الزهري كالريح, يعني: ضعيفة .

    وهذا هو المعتبر عند أكثر أهل الحديث، فقد أعل هذا الحديث بالإرسال, بمعنى: أن أكثر الرواة المحققين عن الزهري نقلوه عنه, وليس عن سالم بن عبد الله , فقد رواه مالك بن أنس ومعمر ويونس بن يزيد , رووه عن الزهري من قوله هو, يعني: من مراسيله, وليس فيه ذكر سالم ولا عبد الله بن عمر , ووقع في ذلك لبس فيما يبدو في سياق الحديث.

    وممن رجح أن الحديث مرسل -كما قلنا- أكثر أهل الحديث, فـالترمذي لما روى الحديث قال: إن الأكثرين يقولون: إنه عن الزهري , وليس فيه ذكر لـسالم بن عبد الله , فـالترمذي أشار في جامعه إلى أن الصواب أن هذا الحديث مرسل.

    وكذلك عبد الله بن المبارك رحمه الله قال: هو مرسل، والإمام أحمد , أبو حاتم , البخاري , النسائي كما ذكر المصنف, وسواهم كثير، فالراجح عند المتقدمين أن الحديث مرسل، ولا ينفع في مثل هذه الحالة أحياناً حشد بعض الطرق التي لا تغير من واقع الحال شيئاً، فإن الإمام أحمد رحمه الله لما رأى بعض الطلبة يجمعون طرقاً من هنا وطرقاً من هنا ويقوون بهذا الحديث غضب وكره ذلك, وقال: أراهم يجمعون طرقاً من هنا وطرقاً من هنا لا تغنيهم شيئاً، فالأئمة المتقدمون عندهم بصر ونظر في الأحاديث, وحكمهم عليه بأنه مرسل مبني على أنهم أدركوا علة في الحديث خفية، وبناءً عليه نقول: إن هذا الحديث ضعيف.

    المشي مع الجنازة

    ننتقل بعد ذلك إلى مسألة متعلقة بالحديث, وهي مسألة المشي مع الجنازة كما أسلفنا قبل قليل، هل يمشي أمامها أو يمشي خلفها أو يمشي حيث شاء؟

    في هذه المسألة تقريباً أقوال, نختار منها أربعة:

    القول الأول: أنه يمشي أمام الجنازة، يعني: السنة -طبعاً- أن يمشي أمام الجنازة، القول الأول هو قول الشافعي أنه يمشي أمامها.

    ومما يقوى به هذا القول حديث الباب عند من صححه، فإنهم كانوا -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وفي رواية: وعثمان أيضاً, وهذا أيضاً منكر.. ذكر عثمان في الحديث- كانوا يمشون أمام الجنازة، فقالوا: هذا دليل على أن السنة المشي أمام الجنازة.

    أيضاً من الأدلة أنه نقل كما في مصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وغيرهم عن جمع من الصحابة كثير: (أنهم كانوا يمشون أمام الجنازة). فقالوا: هذا دليل على أن هذه هي السنة.

    استدلوا على المشي أمام الجنازة من النظر، فقالوا: لأن الذين يتبعون الجنازة يشفعون فيها، والشافع عادة يأتي قبل الإنسان، فقالوا: كونهم شافعين يدل على أنهم ينبغي أن يأتوا ويتقدموا عليه ويأتوا قبله. هذا القول الأول، وهو قول الشافعية.

    القول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة ونسب للأوزاعي أيضاً أن السنة أن يمشي خلف الجنازة.

    ومن أدلتهم على أنه يمشي خلفها الحديث السابق، حديث أبي هريرة في قوله: ( من تبع الجنازة )، فإنهم قالوا: إن الاتباع ظاهره يدل على أنه يتبع الشيء, يعني: يكون خلفه، ولا يكون أمامه.

    وأيضاً جاء في ذلك أحاديث أو جاء في ذلك معان أخرى, وهو أنهم قالوا: إن الميت كالإمام والذين يتبعونه كالمأمومين، فهم يمشون وراءه ولا يأتون أمامه.

    وقالوا: إن الأحاديث الواردة فيما سوى ذلك هي أحاديث ضعيفة, لا يصح الاستدلال بها.

    القول الثالث: أن الأمر في ذلك سواء, يعني: سواء مشوا أمامه أو خلفه فسيان, وهذه إحدى الروايتين عن الإمام مالك , أنه يستوي أن يمشي أمامه أو يمشي خلفه.

    القول الرابع: التفصيل, وقالوا: إن كان راكباً سواء كان راكباً على بعير أو على سيارة فإنه يكون خلف الجنازة، فالسنة أن يكون خلف الجنازة، وإن كان ماشياً فيكون أمامه.

    أو نقول: إن كان ماشياً فالأمر بالنسبة له واسع, يعني: يمشي أمامها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها. هذا هو القول الرابع.

    يعني نقول: إنه إما أن نقول: إن الماشي أمامها والراكب خلفها, وهذا مشهور عند مالك والحنابلة وابن حزم، أو نقول -وهذا أجود-: إن الراكب خلفها, والماشي حيث شاء أمامها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها، وهذا فيه توسعة على الناس، ومع التوسعة فإن فيه حديثاً لا بأس به, وهو من أحسن ما ورد بخصوص هذه المسألة، وهو حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الراكب يسير وراء الجنازة، والماشي وراءها وأمامها وعن يمينها وعن شمالها ). وهذا الحديث رواه أهل السنن الترمذي وأبو داود وغيرهم, وقال الترمذي : حديث حسن صحيح، وسنده جيد.

    فنقول: الأقرب في هذه الأقوال: أن الراكب يمشي وراء الجنازة، وأما الماشي فإنه يجوز له أن يكون وراءها وأمامها وعن يمينها وعن شمالها.

    والدليل حديث المغيرة ؛ لكونه نصاً في الباب، وأما لفظ الاتباع فهو لفظ عام, لا يقصد به حرفية اللفظ, أنه يتبعه يعني: يمشي وراءه، وإنما الاتباع يقصد به الصلاة على الميت وتجهيزه إلى قبره ودفنه. هذا معناه. ولذلك إذا كان الميت في القبر فإن المشيعين يكونون عن يمين القبر ومن أمامه ومن بين يديه ومن خلفه، فدل على أن الاتباع لا يقصد به حرفية اللفظ.

    طبعاً هذا الحديث ذكرنا علته.

    1.   

    شرح حديث: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا)

    الحديث الذي بعده:

    حديث أم عطية رضي الله عنها تقول: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا). والحديث متفق عليه.

    أولاً: الحديث رواه البخاري في كتاب الجنائز باب: اتباع النساء للجنازة.

    ورواه أيضاً بقية الأئمة كـمسلم وابن ماجه والبيهقي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة أيضاً في كتاب الجنائز, باب: اتباع النساء للجنازة.

    ورواه الإمام أحمد في مسنده .

    معاني ألفاظ الحديث

    فيما يتعلق بألفاظ الحديث, قولها: (نهينا) هذا مبني للمجهول. طيب. من هو الناهي؟ الأقرب أن الناهي هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد جرت العادة أن الصحابي إذا قال: أمرنا أو نهينا أن يكون ذلك محمولاً على أن الآمر والناهي هو النبي عليه الصلاة والسلام.

    وهذا هو الذي يأخذ به أكثر أهل العلم، وبناءً عليه يقولون: إن لفظة: (أمرنا أو نهينا) تعتبر من قبيل المرفوع حكماً , يعني: حكمها حكم المرفوع، فكأنها قالت: ( نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا ). وكذلك قولها: ( ولم يعزم علينا ).

    قولها: ( ولم يعزم علينا ) هذا نقول: إن أصح ما يقال فيه من المعاني: أن النهي لهم لم يكن نهي تحريم, أو هكذا فهمت أم عطية , أن النهي لم يكن نهي تحريم، وإنما هو نهي كراهة، والفقهاء استقر الأمر عندهم على أن هناك محرماً ومكروهاً.

    وبعضهم كالحنفية وغيرهم يقول: المكروه نوعان: مكروه كراهة تحريم، ومكروه كراهة تنزيه، وهذا مشهور عند الفقهاء.

    وهذا الحديث يدل على أن هذا كان موجوداً في فقه الصحابة أنهم يدركون أن من النواهي ما هو منهي على سبيل العزم والجزم، وهذا محرم، ومنه ما هو منهي على غير سبيل العزم، وهذا يكون مكروهاً لا يصل إلى درجة التأثيم والتحريم، فقولها: ( ولم يعزم علينا ) يعني: لم يؤكد علينا النهي.

    وبعضهم أولوا هذا اللفظ تأويلاً آخر مستكرهاً أو مستبعداً، فقالوا: إن قولها: ( ولم يعزم علينا ) معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعزم علينا في مشروعية زيارة القبور واتباع الجنائز كما عزم على الرجال، فإن الرجال عزم عليهم أن يزوروا القبور؛ فإنها تذكر بالآخرة، وعزم عليهم أن يصلوا على الجنازة، وعزم عليهم أن يتبعوها حتى تدفن أو توضع في اللحد، هذا بالنسبة للرجال، فكأنها تقول: نحن نهينا عن اتباع الجنائز, ولم يعزم علينا كما عزم على الرجال في اتباعها، وهذا المعنى كما قلت لا يخلو من غرابة أو نكارة.

    حكم اتباع النساء للجنازة

    أما ما يتعلق بمسألة الحديث، وهي مسألة اتباع النساء للجنازة:

    وقد نص الحافظ ابن حجر رحمه الله على أن الخلاف في هذه المسألة فيما إذا انتفت الفتنة، أي: إذا لم يكن ثم فتنة من المرأة أو بها, وفي هذا الحال، فإن في المسألة ثلاثة أقوال:

    القول الأول: أن اتباع النساء للجنائز مكروه، وليس بمحرم، وهذا مذهب الجمهور, فهو مذهب الشافعي , ومذهب الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه , وهو المنقول عن أكثر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم, أن اتباع المرأة للجنازة مكروه.

    أقوى حججهم: حديث أم عطية , وهو متفق عليه وصريح في الباب, قالت: ( نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا ). وقد بينا المعنى الصحيح في قولها: ( ولم يعزم علينا ). هذا القول الأول.

    القول الثاني: أنه يحرم على النساء اتباع الجنائز، وهذا مذهب أبي حنيفة .

    ومما استدل به أبو حنيفة على التحريم أولاً: حديث الباب, وحمله على أن النهي فيه للتحريم.

    ثانياً: استدلوا بـ حديث رواه الإمام أحمد والنسائي وأبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع من جنازة فرأى امرأة, فنظر فإذا هي فاطمة , فقال لها: من أين أتيت؟ قالت: من عند أهل هذا الميت, أتيتهم فعزيتهم بميتهم, فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لعلك بلغت معهم الكدى! قالت: لا. معاذ الله يا رسول الله! أن أبلغ معهم الكدى, وأنا سمعتك تقول فيه ما تقول، فقال صلى الله عليه وسلم: والله! لو قد بلغت معهم الكدى ما دخلت الجنة, أو ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك ).

    ( لو بلغت معهم الكدى ), يعني: المقابر.

    وهذا الحديث كما قلت: رواه النسائي وأحمد وابن حبان وغيرهم، وفي هذا الحديث غرابة.

    أولاً: فيه غرابة في الإسناد؛ فإن فيه ربيعة بن سيف المعافري , وهو ضعيف، ويأتي بالمناكير , بعض أحاديثه منكرة.

    الأمر الثاني: في المتن، فإنه حتى على القول الآخر بتحريم اتباع المرأة للجنازة، فإن هذا التحريم لا يكون كفراً, وبالتالي نقول: لا نتوعد المرأة التي تقع في هذا العمل بتحريم الجنة عليها حتى يراها الكفار, ( حتى يراها جد أبيك ).

    فنقول: هذا الحديث إذاً منكر في إسناده, ومنكر في متنه، فلا يصح الاستدلال به .

    أيضاً أبو حنيفة رحمه الله ومن وافقه يستدلون على تحريم اتباع المرأة للجنازة بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( لعن الله زوارات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج ). وهذا الحديث عند أحمد وأهل السنن.

    ويقولون: إن قوله: ( لعن الله زوارات القبور )، هذا اللعن دليل على منع المرأة من اتباع الجنازة.

    والجواب على هذا الحديث: أن يجاب بأحد وجوه:

    إما أن يقال: إن اللعن هنا لمن تُكثر الزيارة وتكررها؛ لأن إكثار الزيارة وتكرارها مظنة حصول الفتنة والضرر والشر. هذا وجه لأهل العلم في تأويل الحديث.

    الوجه الثاني: وكأن عائشة الصديقة كانت تميل إليه رضي الله عنها, أن هذا كان قبل الإذن بزيارة القبور؛ لأن الأمر في البداية كان النهي عن زيارة القبور, يعني: في أول الأمر نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين ذكورهم وإناثهم عن زيارة القبور, وهذا معروف, ثم أذن الرسول صلى الله عليه وسلم بزيارة القبور، بل أمر بها الرجال, وقال: ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ). هذا دليل على أنه كان هناك نهي سابق؛ ( كنت نهيتكم ), ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( فزوروها؛ فإنها تذكر بالآخرة ).

    قوله: ( فزوروها ) هذا خطاب للذكور والإناث معاً, أو للذكور فقط؟

    الأقرب أنه للذكور فقط، ولذلك نقول: إنه لا يشرع للمرأة زيارة القبور, مما يدل على أن الأمر في قوله: ( فزوروها ) خاص بالذكور, ولكن عائشة وجماعة وأكثر أهل العلم قالوا: إن الإذن للرجال، أو قالوا: إن حديث اللعن: ( لعن الله زوارات القبور ) كان وقت النهي الأول, ( كنت نهيتكم ), لكن لما جاء الإذن تغير الحكم, وصار بالنسبة للرجال مشروعاً، وبالنسبة للنساء ليس بمشروع، ولكنه إما مباح أو مكروه على حسب الأقوال المذكورة.

    إذاً: واضح هذا الجواب الثاني في: ( لعن الله زوارات القبور ) الذي استدل به أبو حنيفة ومن وافقه, أنهم أجابوا عليه بهذا الجواب، أن ذلك كان وقت النهي وقبل الإذن بزيارة القبور، ومما يعزز ويقوي هذا المعنى أن عائشة رضي الله عنها -وهذا في صحيح مسلم - لما ذكر لها النبي صلى الله عليه وسلم زيارته للبقيع قالت: ( يا رسول الله! كيف أقول إذا زرت المقابر؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين )، إلى غير ذلك، فذكر لها الدعاء الذي يقال، وهذا الحديث في صحيح مسلم .

    كذلك عائشة زارت قبر أخيها عبد الرحمن كما في الأثر الصحيح أيضاً، وقالت: (والله! لو شهدتك ما زرتك), تعني: أنها ما شهدت وفاته، فقالت: (لو شهدتك ما زرتك). ولو كان الأمر على التحريم ما زارت قبره.

    إذاً: القول الثاني وهو مذهب أبي حنيفة : أن ذلك يحرم، وقد ذكرنا أدلتهم.

    القول الثالث: أن ذلك يجوز من غير كراهة، وهذا مذهب مالك وعلماء المدينة, واختيار ابن حزم كما نص عليه في المحلى .

    ومن أقوى أدلتهم على جواز ذهاب النساء لزيارة القبور واتباع الجنائز:

    أن المرأة تخرج للصلاة في المسجد، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ) في حديث ابن عمر وغيره, وهي أحاديث متفق عليها.

    فقالوا: هذا دليل على أن المرأة يجوز لها أن تخرج للصلاة على الموتى، وكذلك اتباع الجنائز إذا أمنت الفتنة، فهذه ثلاثة أقوال في المسألة: الكراهة، التحريم، الإباحة، والأقوى هو القول الأول, وهو مذهب الجمهور, بأن ذلك مكروه.

    فوائد الحديث

    في الحديث أيضاً فوائد: منها: أن النهي درجات. وهذه فائدة أصولية جيدة وعزيزة، أن نهي الشارع ليس في مقام واحد، وإنما هو درجات، فهناك نهي بعزيمة، وهناك نهي بغير عزيمة . ومن فوائد الحديث: كراهية اتباع النساء للجنائز، ونقول: الكراهية إذا أمنت الفتنة، أما إذا وجد فتنة فلا شك أن ذلك يكون محرماً, سواءً كانت الفتنة بالنساء الشابات المتزينات الجميلات، أو كانت الفتنة بالبكاء والعويل والصياح, الذي كثيراً ما يعتري المرأة؛ لضعفها وليونتها, ويعني: تأثرها بالمواقف والمصائب. ومن فوائد الحديث: اختلاف المرأة عن الرجل في بعض الأحكام الشرعية، وهذا واضح, يعني: الأصل في الأحكام الشرعية المساواة - أن الرجل والمرأة سواء- فإذا جاء نص عام فالرجل والمرأة فيه سواء، كما في قوله تعالى مثلاً: (( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ))[البقرة:43]، (( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ))[آل عمران:97]، (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ))[البقرة:183]؛ هذا مما يستوي فيه الرجل والمرأة، وهذا هو الأصل، لكن جاءت نصوص تخص المرأة، وجاءت نصوص أخرى تخص الرجل. من النصوص التي تخص المرأة مثل ماذا؟ مثل لبس الذهب يجوز للمرأة ويحرم على الرجل، وأيضاً لبس الحرير. ومنه أيضاً ما يتعلق باتباع الجنائز، فهنا بالنسبة لاتباع الرجال أجمع العلماء على أنه مشروع، بل هو فرض كفاية, أن يكون هناك من يصلي على الجنازة من الرجال ويتبعها ويدفنها، لكن بالنسبة للنساء ليس هناك قول بالمشروعية أصلاً، وإنما أقصى ما قيل هو قول مالك

    وعلماء المدينة بالجواز، وهناك قول آخر بالكراهة, وهو قول الجمهور، وهناك قول ثالث بالتحريم كما ذكرنا. إذاً: هذا يدل على أنه ليس الذكر كالأنثى، وأن المرأة قد تختلف في بعض الأحوال والأحكام عن الرجل.

    1.   

    مسائل متفرقة في صلاة الجنازة

    عدد التكبيرات في صلاة الجنازة وحكمها

    هنا بقي عندنا عدد من المسائل أمس جاءت أسئلة تتعلق ببعض أحكام الجنازة، ولأننا الآن تقريباً انتهينا مما يتعلق بالصلاة على الجنازة، وسوف ننتقل إلى ما بعد ذلك أكمل بعض المباحث المتعلقة بصلاة الجنازة؛ عندنا ما يتعلق بتكبيرات الجنازة: فقد ذكرنا أن الجمهور وهو الذي جمع عليه عمر الناس, أن التكبيرات كم؟

    مداخلة: أربع.

    الشيخ: أربع تكبيرات.

    طبعاً: منها التكبيرة الأولى, وهي تكبيرة الإحرام، وهذه التكبيرة تكبيرة الإحرام ينبغي أن يقال: إنها ركن في صلاة الجنازة، بمعنى: أنه لا تنعقد الصلاة أصلاً إلا بها، فهي ركن في صلاة الجنازة, يعني: عند العلماء مثلما هي ركن في الصلوات الأخرى، وباقي التكبيرات هناك من قال بأنها واجبة، وهذا هو الأقرب, الأقرب أن بقية التكبيرات الأربع واجبة.

    حكم رفع اليدين في تكبيرات صلاة الجنازة

    القضية الثانية: أنه فيما يتعلق برفع اليدين في التكبيرات, عادة الناس الآن عندنا خصوصاً في السعودية أنهم يكبرون ويرفعون أيديهم مع كل تكبيرة في صلاة الجنازة، فهل هذا مشروع أو غير مشروع؟

    أما ما يتعلق بالتكبيرة الأولى التي هي تكبيرة الإحرام فهو مشروع عند جماهير أهل العلم, مثل تكبيرة الإحرام في الصلاة، بل لا يكاد يوجد في هذه المسألة خلاف إلا خلاف يسير.

    أما فيما يتعلق بباقي التكبيرات هل يرفع اليد فيها أو لا يرفع؟ فالأمر فيها واسع، وليس فيها نص صحيح.

    هناك من أهل العلم من يقول: إن رفع اليد مع بقية تكبيرات الجنازة مشروع، وهذا مذهب الشافعي وأحمد , وقد صح فيه الأثر عن ابن عمر رضي الله عنه, وهو في البخاري , أنه يرفع يديه مع التكبيرات .

    ومما يدل على مشروعيته: فعل الصحابة له, كما نقل عن ابن عمر وجماعة.

    ومما يدل على أنه مشروع كما رجحه الشافعي : أن الشافعي يقول: إن كل تكبيرة عن قيام ترفع لها الأيدي، مثل تكبيرة الإحرام، ومثل تكبيرة الركوع، فإنها ترفع لها الأيدي، فقال: إن تكبيرات الجنازة ويلحق بها تكبيرات العيد؛ أنه ترفع لها الأيدي؛ لأنها تكبيرات عن استقرار وقيام.

    القول الثاني: أن رفع الأيدي في غير تكبيرة الإحرام لا يشرع، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والثوري , وقالوا: إن كل تكبيرة في الجنازة فهي في مقام ركعة, ولهذا كانت أربع تكبيرات مقابل أربع ركعات، وهذا أيضاً مما يرجح ويقوي الاقتصار على أربع تكبيرات، أنها في مقام أربع ركعات في صلاة الفريضة، فقالوا: كل تكبيرة في مقابل ركعة، فالتكبيرة الأولى تكبيرة الإحرام يرفع لها، أما بقية التكبيرات فكبقية الركعات لا ترفع فيها الأيدي.

    والأمر في ذلك كما قلت فيه سعة والحمد لله.

    كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة, وحكمها

    المسألة الثانية: مسألة الصلاة على النبي صلى الله وعليه وآله وسلم:

    وهي مشروعة بعد التكبيرة الثانية، وأفضل صيغة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي الصلاة الإبراهيمية, ( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد, كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم , إنك حميد مجيد ).

    والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الجنازة مترددة بين الوجوب والاستحباب، فقد ذهب إلى الوجوب الشافعي وأحمد، وذهب إلى السنية والاستحباب أبو حنيفة ومالك , ولا يوجد في هذه المسألة نص صحيح صريح يجب الرجوع إليه.

    حكم الدعاء للميت في صلاة الجنازة

    المسألة الرابعة: ما يتعلق بالدعاء للميت:

    والدعاء للميت ذكرت أمس أنه هو مقصد صلاة الجنازة، ولهذا فهو واجب في هذه الصلاة عند الكافة من أهل الفقه والعلم.

    حكم التسليم في صلاة الجنازة

    المسألة الخامسة: مسألة التسليم:

    والتسليم الأقرب أنه واجب أيضاً كالتسليم في الصلاة.

    ولكن التسليم في الجنازة تسليمة واحدة, كما هو عند مالك وأحمد , بل الإمام أحمد رحمه الله يقول: إن التسليمة في الجنازة واحدة, وليس فيه اختلاف إلا عن إبراهيم , وكأنه يعني إبراهيم النخعي، يعني: أن جماهير أهل العلم من السلف كانوا يرون أن الجنازة لا يسلم لها إلا تسليمة واحدة عن اليمين: (السلام عليكم ورحمة الله)، ولو قال: (السلام عليكم) كما هو معروف لأجزأ، ولو زاد: (وبركاته) جاز.

    حكم من فاته شيء من صلاة الجنازة

    المسألة السادسة وقد سألني عنها غير واحد: مسألة القضاء, قضاء من فاته شيء من صلاة الجنازة.

    كثير من أهل العلم بل أكثرهم يقولون: إذا فاته شيء من صلاة الجنازة، فإنه يكبر ويسلم، يعني: لو فاته ثلاث تكبيرات يقول: الله أكبر الله أكبر ويسلم، ولو فاته اثنتان كبر اثنتين وسلم, وهكذا، هذا هو المشهور عند الكثير من أهل العلم.

    القول الثاني: أنه لا يجب عليه القضاء، وإنما يسلم مع الإمام.

    القول الثالث: وهو الأقرب عندي: أن تكون صلاة الجنازة مثل صلاة الفريضة, يعاملها سواءً بسواء، ( فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا أو: فاقضوا ). فإذا أدرك مع الإمام تكبيرة عدها بالنسبة له هي الأولى، وقرأ بعدها الفاتحة، ثم الثانية يقرأ بعدها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الثالثة يدعو, ثم الرابعة يسلم، وإذا ضاق المقام وكانت الجنازة سوف ترفع، فإنه يختصر، فمثلاً الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يكفي أن يقول: اللهم صل على محمد، وفي الدعاء يكفي أن يقول: اللهم! اغفر له وارحمه، ثم يكبر ويسلم. والله تعالى أعلم.

    سبحانك اللهم وبحمدك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768031903