إسلام ويب

شرح بلوغ المرام - كتاب الجنائز - حديث 581-585للشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مما يشرع في صلاة الجنازة أن يجتمع لها فوق أربعين رجلاً كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، وإذا وقف الإمام خلف الجنازة فإنه يقف عند صدر الرجل ووسط المرأة، ويكبر على الميت أربع تكبيرات، وهذا هو القول الراجح، ومن قال بالخمس أو الست جاز له ذلك.
    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

    ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه، حبيبنا وسيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    رقم هذا الدرس من شرح بلوغ المرام (197)، وهذا يوم الإثنين السادس عشر من شهر جمادى الأولى من سنة (1427) للهجرة، وقد سبق معنا بالأمس أربعة أحاديث تتعلق بصلاة الجنازة وأحكامها، وسنشرح اليوم إن شاء الله خمسة أحاديث أخرى في الباب نفسه.

    فالحديث الأول منها وهو الحديث رقم (559): حديث ابن عباس رضي الله عنه يقول: ( ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه ) رواه مسلم .

    أولاً: فيما يتعلق بالتخريج:

    فالحديث رواه مسلم في صحيحه كتاب الجنائز، باب: من صلى عليه أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً، ورواه أيضاً أبو داود في سننه وابن ماجه والطحاوي والبيهقي في كتاب الجنائز, والإمام أحمد في مسنده وغيرهم .

    وللحديث شواهد صحيحة، منها حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من رجل يموت فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة رجل إلا شفعهم الله تعالى فيه )، وحديث عائشة رواه مسلم أيضاً في الباب نفسه.

    ومن الشواهد أيضاً حديث مالك بن هبيرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من رجل مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب )، ومعنى أوجب يعني: وجبت له الجنة، وشفعهم الله تعالى فيه، وهذا الحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه الحاكم في مستدركه أيضاً وقال: حديث صحيح الإسناد، وفي الباب شواهد أخرى كثيرة.

    معاني ألفاظ الحديث

    النقطة الثانية: ما يتعلق بغريب الحديث:

    فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل مسلم) المقصود هنا: المسلم سواءً كان رجلاً أو امرأة, والتعبير برجل خرج مخرج الغالب، وإلا فبالاتفاق فإن المرأة داخلة في ذلك أيضاً, يعني: ما من امرأة مسلمة تموت فيصلي عليها أربعون أو مائة أو ثلاثة صفوف على حسب الروايات من المسلمين لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله تعالى فيها, وإنما لفظ (رجل) هنا خرج مخرج الغالب, وهو جارٍ على قاعدة اللغة.

    أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (يموت فيقوم على جنازته)، فالمعنى بقوله: (يقوم على جنازته) يعني: يصلي عليه، وقد جاء في القرآن الكريم قوله سبحانه: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]، فالقيام يحتمل معنيين: يحتمل الصلاة كما في هذا الحديث، ويحتمل ما هو أعم من ذلك, مثل: الصلاة عليه واتباعه, والوقوف عند قبره, وإنزاله في القبر بحيث يقوم الإنسان عليه حتى يفرغ منه.

    وقوله عليه الصلاة والسلام: (فيقوم على جنازته أربعون رجلاً) هكذا ورد في هذا الحديث، وهو كما رأيتم حديث صحيح رواه مسلم .

    وقد جاء في الحديث الآخر حديث عائشة : ( فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة رجل ), وفي الحديث الثالث حديث مالك بن هبيرة : ( يبلغون ثلاثة صفوف ), وللتوفيق بين هذه الألفاظ في الأحاديث الثلاثة نقول: ليس المراد الحصر، يعني: أن كثيراً من الأصوليين يقولون: إن مفهوم العدد غير معتبر , يعني: عندما يقول: مائة رجل لا يعني أن أقل منهم لا ينطبق عليهم الحكم, فيقولون: إن العدد ليس له مفهوم ؛ ولهذا نقول: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (مائة رجل) لا ينفي أن يكون أقل من ذلك أيضاً يشفعون فيه كأربعين رجلاً، ونظير ذلك المرأة. لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم للنساء وقال: ( ما منكن من امرأة يموت لها ثلاثة من الولد فتحتسبهم إلا كانوا لها حجاباً من النار, فقالت امرأة: واثنان يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: واثنان )، وفي بعض الألفاظ: ( وواحد ) فهنا نقول: إن ذكر الفضل للثلاثة لا يلغي أن يكون الفضل حاصلاً لمن هم أقل من ذلك, وكذلك الشفاعة في المائة لا يلغي الشفاعة في الأربعين, والشفاعة في الأربعين لا تلغي أن تكون الشفاعة فيمن دون ذلك إذا كانوا يبلغون ثلاثة صفوف؛ ولهذا كان مالك بن هبيرة إذا رأى العدد قليلاً قسمهم إلى ثلاثة صفوف؛ حتى يصدق ويصح عليهم الحديث.

    إذاً: نقول: الجواب الأول: أن يقال: إن العدد في هذه الأحاديث ليس له مفهوم، هذه واحدة، وهذا الجواب هو أفضل الأجوبة.

    ويمكن أن يقال جواب آخر: وهو أن الأمر الأول كانوا مائة، ثم تفضل الله سبحانه وأخبر نبيه بما هو دون المائة كالأربعين، ثم أخبره بما هو دون الأربعين كثلاثة صفوف مثلاً.

    الجواب الثالث: أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن هذه الأعداد بحسب المقام والسؤال، يعني: جاءه رجل فسأله عن المائة فأخبره بالمائة, وجاءه آخر فسأله عن الأربعين فأخبره بالأربعين، وجاءه ثالث فسأله عن ثلاثة صفوف فأخبره بثلاثة صفوف، وهذا نظيره اختلاف إجابات النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بأفضل الأعمال، فمرة يقول مثلاً: الإيمان بالله، ومرة يقول: بر الوالدين، ومرة يقول: عملاً، ومرة يقول عملاً آخر كما أشار إليه ابن القيم وغيره، فيقال: إن هذه الإجابات تختلف بحسب أحوال الناس، أو تختلف بحسب السؤال وطبيعة وحال السائل.

    إذاً: هذا هو الجواب عن اختلاف ألفاظ الحديث ما بين مائة وأربعين وثلاثة صفوف.

    أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم هنا: ( لا يشركون بالله شيئاً ) الشرك معروف كما قال الله سبحانه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] وهو أن تجعل لله نداً وهو خلقك، كما في حديث ابن مسعود، وهو في الصحيح لما قال: ( قلت: يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك )، قال سبحانه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]؛ فنقول: إن المقصود بقوله: (لا يشركون بالله شيئاً) أي: لا يعبدون مع الله غيره، وظاهر السياق -والله أعلم- أن المقصود: الشرك الأكبر، ويحتمل أن يكون المراد: ما هو دون ذلك من الشرك الأصغر كالرياء وغيره، خاصة إذا كان هذا الشرك الأصغر في العبادة نفسها، مثل: أن يصلي صلاة الجنازة رياء وسمعة وبغير نية؛ فهذا يتجه ألا يعد من ضمن هؤلاء؛ لأن عمله غير مقبول، والله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان صالحاً وأريد به وجهه؛ ولهذا جاء في الصحيح -وسيأتي- قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ) فأمر هنا بالإخلاص.

    فنقول: المقصود هنا بالشرك: الشرك الأكبر ودخوله في الحديث دخولاً أولياً قطعي، ويحتمل أن يكون الشرك الأصغر داخلاً في هذا الحديث خاصة إذا كان في ذات العبادة، يعني: في صلاة الجنازة نفسها.

    وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إلا شفعهم الله فيه )، يعني: قبل دعائهم وقبل شفاعتهم، وهذا دليل على أن الدعاء شفاعة، وأن صلاة الجنازة شفاعة لهذا الميت.

    فوائد الحديث

    النقطة الثالثة: ما يتعلق بفوائد الحديث:

    الحديث ليس فيه مسائل فقهية واضحة، ما يتعلق بفوائد الحديث ففيه عدد من الفوائد:

    منها أولاً: اختلاف إجابات النبي صلى الله عليه وسلم وبيان وجهها وسببها.

    ومنها: مشروعية صلاة الجنازة على الميت وفضلها.

    ومنها: عظم شأن الشرك بالله وأنه محبط للأعمال.

    ومنها: حث الناس على الاجتماع على الطاعات، ومن ذلك صلاة الجماعة، وصلاة الجنازة، وصلاة الجمعة وغيرها من الأعمال الصالحة.

    ومن ذلك: أن التوحيد لله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة وإخلاص العمل له من أعظم أسباب قبول الدعاء كما قال هنا.

    ومنها: فضيلة شفاعة المسلمين بعضهم لبعض، ودعاء المسلمين بعضهم لبعض، وقد جاء في حديث أبي الدرداء وهو في مسلم : ( أن العبد المؤمن إذا دعا لأخيه كان على رأسه ملك موكل يقول له: ولك بمثل )، وهكذا ما يتعلق بصلاة الجنازة، فأنت تصلي على جنائز الناس فيصلون على جنازتك وعلى قرابتك، والخير هنا يكون متبادلاً ومتداولاً بين الناس.

    أيضاً من فوائد الحديث سؤال: هل هذا الوعد من النبي صلى الله عليه وسلم بقبول شفاعتهم، هل هو خاص بالتائبين.. هل هو خاص بالصالحين، أم يشمل غيرهم؟

    هذا عام، وهذا الذي اختاره أكثر أهل العلم ونص عليه ابن تيمية وغيره، أن هذا لا يخص الطيبين أو الصالحين والتائبين فقط، وإنما هو عام في الناس، وإلا فإذا قصر الأمر على من هم من أهل الخير والصلاح ومن تجنبوا الذنوب الكبيرة والصغيرة، فإن هؤلاء في الغالب أنه غفر لهم بتوبتهم وبإيمانهم كما قال الله سبحانه وتعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]، وإنما يقال: إن هذا فضل عام، ويرجى أن يشمل كل أحد من المسلمين توفرت فيه وفيمن صلى هذه الشروط والصفات.

    صلاة الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

    أيضاً هنا سؤال -وهو يتعلق بفائدة الحديث-: كيف صلى الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم؟

    صلوا عليه فرادى كما سبق ذلك. طيب لماذا لم يصلوا عليه جماعة صفوفاً كما في هذا الحديث وصلوا منفردين؟

    قيل: إنهم لم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم جماعة لأنه لم يتحدد إمام، ولو صلى بهم إمام لكان هذا الإمام والياً لما سوى ذلك، والصحابة لم يكونوا قد اتفقوا بعد، وإنما اتفقوا على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بعد ذلك، وهذا القول فيه نظر أو فيه ضعف؛ لأن أبا بكر الصديق ولي صلاة الفريضة في مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكان أولى أن يلي صلاة الجنازة لو كان الأمر يتعلق بهذا.

    لكن قد يكون الأمر لعظمة جنازة النبي صلى الله وسلم وعظمة مقامه حتى كان هذا الأمر، وقد ورد أن الذين صلوا على جنازة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ثلاثين ألفاً، ولا شك أن الذين كانوا مؤمنين به يزيدون على ذلك كثيراً، فالذين حضروا حجة الوداع معه عليه الصلاة والسلام كانوا أكثر من ( 110 آلاف) كما ذكر الحاكم وغيره، ولكن الذين صلوا هم الذين كانوا في المدينة وعلى مقربة منها. هذا هو الأمر.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088933276

    عدد مرات الحفظ

    779989768