ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وهذا يوم الأحد 15/جمادي الأولى/ 1427هـ. ورقم هذا الدرس: (196) من شرح بلوغ المرام، ولازلنا في أبواب صلاة الجنازة.
فعندنا اليوم الحديث رقم: (555)، وهو حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قتل نفسه بمشاقص، فلم يصل عليه النبي عليه الصلاة والسلام ).
ففيما يتعلق بالنقطة الأولى المتعلقة بتخريج الحديث، فإن الحديث رواه مسلم رحمه الله في صحيحه في كتاب الجنائز، باب: ترك الصلاة على قاتل نفسه، وكذلك رواه أبو داود في كتاب الجنائز، باب: الإمام لا يصلي على قاتل نفسه، والنسائي وابن ماجه كذلك في كتاب الجنائز، أما ابن ماجه فرواه في الجنائز في باب: الصلاة على أهل القبلة.
وقد روى الحديث أيضاً البيهقي وعبد الرزاق والإمام أحمد في مسنده والطحاوي والطيالسي وغيرهم.
والمشاقص: جمع، والمفرد: مشقص بفتح الميم، وهو نصل السهم، فالمشقص هو نصل السهم، وقد تطلق المشاقص على أنواع من النصال التي تكون طويلة أو عريضة أو ضعيفة القيمة والتأثير حتى يلعب بها الصبيان أحياناً.
من قتل نفسه بشيء سواء قتل نفسه بحديدة أو بترد من شاهق أو جبل أو باحتساء السم أو بأي وسيلة من الوسائل المباشرة في قتل النفس، ولا شك أن قتل النفس كبيرة مثل قتل الغير بل أشد، والله تعالى يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء:29-30].
فحرم الله تعالى على الإنسان قتل النفس، وجعل النفس أو الروح أمانة عنده يجب عليه أن يحافظ عليها، ولهذا لا يجوز للإنسان مثلاً أن يترك الأكل حتى يموت جوعاً، ولا أن يترك الشرب حتى يموت عطشاً، ولا أن يعالج نفسه بألوان من المعالجات الصعبة التي لا تستطيع النفس تحملها، كما لا يجوز له أن يحمل الآخرين مثل ذلك.
فمن قتل نفسه بشيء فهل يجوز أن يصلى عليه؟ هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال، ولعل الأقوال تكون واضحة لكم من خلال ما مر علينا بالأمس، القول الأول: بالجواز، والقول الثاني: أنه لا يجوز.
إذاً: القول الأول: أنه يصلى على القاتل نفسه، يصلى على قاتل نفسه أنه يصلى عليه، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وكثير من السلف والصحابة والتابعين، فهو قول الجمهور أنه يصلى عليه كما يصلى على غيره من أموات المسلمين، وأكثر ما يحتج به هؤلاء:
أولاً: الآثار المشهورة، وهي فعلاً آثار مشهورة عن كثير من الصحابة والتابعين في الصلاة على كل مسلم، حتى نقل مثلاً عن ابن سيرين رحمه الله - محمد بن سيرين - أنه كان يقول: (ما أدركت أحداً -يعني: من الصحابة ومن بعدهم- يتأثم من الصلاة على أهل القبلة). مطلقاً.
وكذلك نقل عن الحسن البصري رحمه الله أنه كان يقول: (يصلى على كل من قال: لا إله إلى الله، إن الصلاة عليه شفاعة).
وهناك نصوص كثيرة جداً لعلي أعرض لشيء منها فيما بعد.
إذاً: هم يحتجون أولاً بالآثار الكثيرة في الصلاة على كل مسلم كائناً ما كان عمله، وأنا أريد تكريس هذا المعنى والتأكيد عليه؛ لأن كثيراً من الناس دخلوا في أبواب من الظلم والضيق والتشديد على أنفسهم وعلى غيرهم بظن أن هذا ما يقتضيه اتباع السلف الصالح رضي الله عنه، بينما إذا قرأت سيرة السلف وجدت عندهم السعة والحكمة والبصيرة العظيمة.
إذاً: حجة هؤلاء أولاً: الآثار الكثيرة عن الصحابة والتابعين في الصلاة على جميع أهل القبلة وجميع المنسوبين إلى الإسلام، كائناً ما كان العمل الذي عملوه.
القول الثاني: أنه لا يصلى على قاتل نفسه، والآن على وجه الخصوص، يعني: ليس على مجمل أهل الذنوب أو المعاصي، وإنما على خصوص من قتل نفسه أنه لا يصلى عليه، وهذا القول معروف عن عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد الزاهد رضي الله عنه، وعن الأوزاعي وعن أبي يوسف من الحنفية قالوا: لا يصلى على قاتل نفسه، واستدلوا بحديث الباب حديث جابر بن سمرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه ) فقالوا: ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه دليل على أن من قتل نفسه ينبغي ألا يصلى عليه أسوة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد يجاب على استدلالهم بأن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة عليه، ولكنه لم ينه الصحابة عن أن يصلوا عليه، بل ظاهر الحال أن الصحابة رضي الله عنهم صلوا عليه، ولهذا قال: (لم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم) ولم يقل: إنه نهى عن الصلاة عليه، أو أن الصحابة لم يصلوا عليه، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون للزجر والتوبيخ والتأديب وتحذير الناس من فعل معين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام، إذا قدم رجل ليصلى عليه سألهم: هل عليه دين؟ فإذا قيل: ليس عليه دين صلى عليه، وإذا قيل: عليه دين، قال: صلوا على صاحبكم، وترك النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر الصلاة على أهل الديون، والمقصود من ذلك: حتى لا يتساهل الناس في إشغال ذممهم بالدين والاستدانة، وأخذ أموال الناس على الظن بوفائها في المستقبل، فلما فتح الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين كان يصلي عليه، وإذا كان عليه دين أوفاه من بيت المال ويقول: ( من ترك ديناً أو ضياعاً فإلي وعلي )؛ فقالوا: إن صاحب الدين لم يرتكب جرماً عظيماً أو إثماً أو كبيرة من كبائر الذنوب، بل قد يكون استدان لحظه أو لولده أو لنفقته، ومع ذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه، فيحمل تركه صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه على هذا المحمل، أنه على سبيل الزجر والتوبيخ والنهي عن الفعل، وليس على سبيل التحريم المطلق، وترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه لا يعني ترك الصحابة الصلاة عليه أيضاً.
القول الثالث في المسألة وهو قول الحنابلة أنه يترك الصلاة عليه الإمام فحسب ويصلي عليه بقية الناس، وهذا القول هو مذهب الحنابلة وبه جمعوا بين النصوص، واحتجوا بحديث الباب أيضاً، فإن حديث الباب فيه ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عليه، لكن ليس فيه ترك الصحابة الصلاة عليه، ولهذا قال الحنابلة: إن الصواب أن يصلي عليه عامة الناس ودهماؤهم، ويترك الصلاة عليه الإمام الأعظم أو من في حكمه.
والمقصود بالإمام هنا: الإمام الأعظم، يعني: الخليفة أو الحاكم أو من في حكمه، إما من عالم جليل أو شهير نبيل يكون في ترك الصلاة عليه معنى، والله أعلم، هذا هو القول الثالث.
والواقع أن الراجح في هذه المسألة كما رجحناه أمس أن يقال: إن الأمر متوقف على المصلحة، وعلى الزجر، فإن اقتضى الزجر واقتضت المصلحة أن يترك الصلاة عليه أهل الفضل والعلم والتقديم تركوها، وإن اقتضت المصلحة أن يصلوا صلوا، ولهذا نقول: هناك من صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهناك من ترك الصلاة عليهم، فإن صليت فقد صلى عليه الصلاة والسلام وإن تركت فقد ترك، والأمر والله أعلم موكول ومتوقف على المصلحة.
والمصلحة تختلف من مكان إلى مكان، فقد تكون المصلحة تقتضي ترك الصلاة عليه لزجر الآخرين وتنبيههم وتعظيم بعض الأمور التي استهان بها الناس، فيتحدث أن فلاناً ترك الصلاة، وقد تكون المصلحة أن يصلى عليه، كأن يكون فيها مصلحة تأليف القلوب، قلوب جماعته وقومه وقبيلته وأهل بلده فيصلى عليه، وسيأتي مزيد من الإيضاح لهذه المسألة.
إذاً: هذا هو القول الراجح. وكما ذكرت أن المسألة فيها نصوص وأقوال كثيرة جداً، ولذلك من النصوص أن الثوري رحمه الله كان يقول: (لا تترك الصلاة على أهل القبلة، حسابهم على الله عز وجل، صلاة الجنازة سنة). فيرى أن يصلى على كل ميت من المسلمين.
وهكذا الإمام مالك نص وقال: (يصلى على قاتل نفسه)، وهو من أصحاب القول الأول كما ذكرنا.
الشافعي أيضاً يقول: (لا تترك الصلاة على أحد مات من المسلمين براً كان أو فاجراً).
أبو حنيفة يقول مثل ذلك: (لا تترك الصلاة على أحد من المسلمين).
الأوزاعي يقول: (يصلى على كل من مات من أهل القبلة وإن عمل ما عمل).
إسحاق أيضاً يقول: (يصلى على كل أحد)، ويقصد كل أحد من المسلمين يقيناً. إذاً: هذا المعنى مهم.
وإذا قلنا: يصلى عليه، فمعنى ذلك الحكم له بأنه باق على الإسلام بظاهر الحال حياً وميتاً، وهذا المعنى معنى أصيل وعظيم ودارج، والذي يتأمل في السيرة النبوية وهدي الصحابة رضي الله عنهم يجد الأمر شديد الوضوح، فالصلاة على كل أحد حتى المنافقين كان الصحابة يصلون عليهم، اللهم إن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاه ربه بعد ذلك وقال: وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84]، وأما الصحابة فكانوا يصلون على كل من قدم للصلاة عليه.
وحتى القواعد العامة التي قد يطلقها بعض الأئمة مثل أن يقولوا مثلاً: من ترك الصلاة فقد كفر، هذه المسألة أولاً فيها الخلاف المعروف في تارك الصلاة، والجمهور لا يخرجونه من الملة، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والرواية الأخرى عن أحمد، ولكن حتى على القول الثاني عند أحمد في كفره فإن هذا تكفير الفعل ولا يعني تكفير المعين، بمعنى: أن تحكم أنت بردته عن الإسلام، لا يحكم بردته عن الإسلام إلا من يكون له مقام الحكم، وإلا فالأصل بقاؤه على الدين وعدم إخراجه منه.
وأيضاً قد يصلي الإنسان على أناس لا يعرف تفصيل أحوالهم، ليس عليك من أمرهم شيء، هذه شفاعة إلى الله سبحانه وتعالى فأنت تصلي مثلاً. بعض الناس في الحرم المكي أو الحرم المدني يتوقى أن يصلي على بعض أهل الجنائز، يقول: لا أدري ما حاله؟ وهذا ليس شأنك، ولو فتح هذا الباب لانفتح على المسلمين باب شر عظيم، وإنما ينبغي أنه كل من قدم للصلاة عليه في مسجد أن أصلي عليه وأمره إلى الله عز وجل .
وهنا يروى عن ابن تيمية رحمه الله كما نقل ابن القيم أنه يوماً من الأيام يقول: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال له: إنه يقدم جنائز أصلي عليها ولا أدري هل هو مسلم أو على السنة أم لا؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم في المنام: الشرط يا أحمد ! الشرط، فكان ابن تيمية إذا صلى دعا وقال: اللهم إن كان عبدك هذا مسلماً فاغفر له وارحمه إلى غير ذلك، وهذا قد يلزم ابن تيمية رحمه الله بموجب اجتهاده إن صح هذا عنه أو بموجب ما رأى واطمأنت نفسه إليه، ولكن الواقع أن الشريعة أوسع من ذلك، ولا ينبغي الشرط فيما أعلم، الأصل عدم الشرط، وإنما تدعو لهذا المسلم: ( اللهم اغفر له وارحمه )، هذا هو المنصوص عن الرسول صلى الله عليه وسلم في صفة دعاء الجنازة.
وهب أن هذا الإنسان منافق أو كافر ألم يكن الصحابة يصلون على المنافق الذي هو في الدرك الأسفل من النار؟ ولا يعرفون حقيقته ويقولون: اللهم اغفر له وارحمه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، ويدعون له بدعاء الجنازة؟ ولم يرد استثناء ولا شرط.
فنقول: تصلي وتدعو ولا تشترط ولا تستثن، والله تعالى هو الذي يعلم السرائر، فبالنسبة لك أجرك تام ودعاؤك على السنة، وبالنسبة له إن كان أهلاً للدعاء استجاب الله لك إن شاء، وإن لم يكن أهلاً للدعاء حجب الله دعاءك بما يعلم سبحانه من الأسباب، وليس عليك من ذلك بأس ولا حرج.
والناس بأمس الحاجة إلى هذا الأدب وهذا الفقه؛ لأن كثيراً من المصائب التي تقع بين المسلين وكثرة القيل والقال، أفضت إلى كثير من التعصب وأصبح الناس يكفر بعضهم بعضاً بأمور قد لا تكون موجبة للتكفير ولا لما دونه، بل يقع التردد في كونها خطأ أو ليست خطأ ويترتب على ذلك المهاجرة والمباعدة، حتى في حال الموت التي هي حال تقتضي الرحمة والشفقة والإنسانية أن يراقب الإنسان هذا الحال ويدعو للإنسان، ولهذا في يوم عرفة مثلاً كم في هذا الموقف من الناس الذين جاءوا إلى عرفة لعبادة ربهم ودعائه واعترافاً بالإسلام؟ هذا هو الأصل فيهم، وإيماناً بالله وبرسوله واتباعاً للأنبياء، ولكن قد يقع لكثير منهم من ألوان الغلط والزلل ما الله به عليم، بسبب الجهل وقلة العلماء وقلة الدعاة.
ففي يوم من الأيام جاء في بالي سعة رحمة الله سبحانه وتعالى، وأن الأصل في هؤلاء أنهم جاءوا لهذا الغرض النبيل العظيم، فسألت الله لهم جميعاً، وقلت: كل من تعلم من أهل هذا الموقف أنه أهل أن يدعى له بخير أو مغفرة أو رحمة فإني أسألك له ذلك، ولو لم يستثن الإنسان أيضاً في هذا المقام ودعا لأهل الموقف لكان خيراً وبراً وبركة؛ لأنك تدعو لمسلم حاج مصل، وقد يكون وقع في ألوان من الغلط أو حتى من الكفر ولكن بجهل أو بتأويل، أو بعذر يوجب عدم الحكم على ذاته وعينه بالتكفير.
أولاً: تحريم قتل النفس، وهذا محل اتفاق وهو أمر واضح، فإن قتل النفس مثل قتل الغير أو أشد فيه الوعيد الشديد والعقوبة العظيمة، وهو من كبائر الذنوب، لكن يقع لبعض الناس جهلاً أن قتل النفس كفر، أن الانتحار معناه الكفر، ولهذا بعضهم لا يترحم عليه ويظن أنه مات كافراً، وهذه المسألة تخفى حتى في بيئات ومجتمعات إسلامية متعلمة، ولديها فقه، يقع عندهم التباس ويظنون أن قتل النفس كفر، والواقع أن قتل النفس ليس كفراً, قتل النفس معصية، قتل النفس كبيرة من كبائر الذنوب، ولكن ليس كفراً.
وأيضاً: بعض الذين يقع لهم مثل هذا -قتل النفس- قد يكونون مدفوعين بحالات نفسية, فكثير من حالات الانتحار يكون بسبب أزمة نفسية أو مرض ضاغط على هذا الإنسان يجعله يفقد توازنه ويفقد تصرفه، ويتصرف دون وعي ولا معرفة، فلذلك الترحم على قاتل نفسه والاستغفار له، وقد جاء في صحيح مسلم : ( أن رجلاً هاجر إلى المدينة فاستوخم المدينة وأصابته الحمى -وقد يكون هو صاحب هذا الحديث, ولكن هذا الحديث مجمل والحديث الآخر مختصر- فحز عروقه بمشاقص وظل ينزف حتى مات, فرآه بعض الصحابة في المنام بهيئة حسنة وقد غطى يديه وقال له: ما صنع الله بك؟ قال: غفر الله لي بهجرتي إلى نبيه عليه الصلاة والسلام. قال: ما لي أراك مغطياً يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت من نفسك، فلما قص الصحابي هذه القصة على النبي صلى الله عليه وسلم استحسنها وقال: اللهم وليديه فاغفر ).
إذاً: من فوائد الحديث تحريم قتل النفس، وأنه من الذنوب والموبقات والكبائر العظام ولكنه ليس كفراً .
ومن فوائد الحديث: جواز الصلاة على أصحاب المعاصي والكبائر؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم صلوا عليهم .
ومنها: أنه يحسن بالإمام أو من يقوم مقامه أن يترك الصلاة على مثل هؤلاء إذا كان في ترك الصلاة عليهم مصلحة كالزجر، أو يصلي إذا كان في الصلاة عليهم مصلحة كتأليف القلوب وجمع القلوب على الخير.
وهذا سؤال جيد؛ لأنه يذكرنا بالحديث الذي في صحيح البخاري يقول: ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ فيها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسُم -أو بسَم- فسمه في يده في جهنم يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فهو يتردى منه في نار جهنم -يعني: بقصد الانتحار وقتل النفس- خالداً مخلداً فيها أبداً ) وهذا الحديث مما تكلم أهل العلم في معناه ودلالته، وقطعاً ويقيناً لا يقصد بهذا الخلود الخلود الأبدي السرمدي الذي هو خلود الكافرين لمن فعل المعصية، وإنما يؤول الحديث على أضرب:
إما أن نقول: إن المقصود من استحل هذا الفعل كما يقوله بعض الشراح، من فعل الفعل مستحلاً له. وهذا ضعيف.
وإما أن يقال: إن المقصود هنا: الزجر، وكثير من العلماء والسلف لهم طريقة في أحاديث الوعيد والزجر أن يقولوا: تجرى على ظاهرها ويترك التأويل لها حتى يرتدع الناس ويخافوا منها، مع الجزم بأن ظاهر الحديث في الخلود الذي هو خلود الكفار غير مراد.
ولهذا نقول: إن الأقرب والله أعلم في الحديث أن المقصود بالخلود هو خلود العصاة، وقد نص غير واحد من أهل العلم على أن الخلود في النار نوعان:
الأول: خلود الكافرين، وهو الخلود الأبدي السرمدي الذي لا يحول ولا يزول ولا نهاية له، كما في قوله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [النساء:169]، لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23]، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن:23] هذا هو الخلود الأول، وهو يعني البقاء السرمدي.
المعنى الثاني: الخلود الذي هو خلود أهل المعاصي من أهل القبلة، وهذا يقصد به المكث الطويل، فإن الخلود يسمى في اللغة: المكث الطويل، وأخلد إلى الشيء يعني: مكث به مكثاً طويلاً، ومنه أخلد في النوم إذا طال نومه، فمن معاني الخلود: طول البقاء، فيئول خلود أهل المعاصي من المسلمين في النار بطول البقاء.
فكما ذكر المؤلف رواه البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة في مواضع، منها: باب الخدم للمسجد، ومنها: باب الصلاة على القبر، ورواه مسلم أيضاً في الجنائز باب الصلاة على القبر.
وكذلك أبو داود وابن ماجه رووه في كتاب الجنازة الصلاة على القبر أو على القبور، ورواه الإمام أحمد في مسنده وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والبيهقي وغيرهم.
وللباب شواهد كثيرة لا نطيل بها، بل نكتفي منها بهذه الأحاديث الصحاح.
أولاً: هذه المرأة في القصة كنيتها أم محجن، تكنى بـأم محجن كما ذكره غير واحد ممن صنفوا وألفوا في الصحابة، واسمها خرقاء، ما معنى الخرقاء في اللغة؟
الخرقاء: هي التي لا تجيد العمل ولا تحسن العمل، لكن هذا اسم، واسم قد يكون مستحسناً؛ لأن بعض العرب يمدحون المرأة أحياناً بذلك، أحياناً على سبيل التدليل، يعني: أن عادة المرأة المدللة هي التي لا تحسن العمل، فيريدون أن يقولوا: إن هذه الفتاة مخدومة أو مدللة ولذلك يصفونها بالكسل أحياناً، يصفون المرأة بالكسل أو بالخرق أو غير ذلك، ومحبوبة أحد الشعراء اسمها خرقاء كان يتغنى بها كثيراً، وهذا الشاعر هو ذو الرمة أحسنت، ذو الرمة، معشوقته كان اسمها خرقاء . فالعرب لا يقصدون حقيقة هذا المعنى بعدم إتقان العمل، لكن يريدون لازم هذا الوصف بأن هذه المرأة مخدومة أو مدللة لا تحتاج إلى أن تباشر العمل بنفسها.
وقد تكون هذه المرأة والله أعلم هي المرأة التي حصلت لها قصة، والقصة جاءت في صحيح البخاري أيضاً: أنها كانت عند قوم تعمل، فيوماً من الأيام فقدوا قطعة من الذهب واتهموها به، قالوا: أنتِ التي سرقتِ الذهب، وقالت: ما سرقت، فابتلوها وفتشوها حتى فتشوا قبلها يبحثون عن الذهب، فبينما هي جالسة عندهم إذ جاءت الحدأة ورمت بالذهب، كانت الحدأة أخذته تظنه لحماً فرمت به عندهم، فلما رأت قالت: هذا هو الذهب الذي رميتموني فيه واتهمتموني به وأنا منه بريئة! فانطلقت منهم وهربت وأسلمت وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت في المسجد وكانت تقم المسجد، وكثيراً مما كانت تقول:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني
فتتذكر ذلك اليوم الذي ربما كان سبباً في نجاتها من بلاد الكفر وأهل الكفر، قد تكون هذه هي أو غيرها، المهم أن هذه المرأة كانت تقم المسجد، وتقم المسجد هذا من العامي الفصيح المعروف عند الناس، تقم يعني: تكنس المسجد، ومنه القمامة، والقم هو: كنس المسجد وإزالة الأذى والقذى والأوساخ من المسجد أو من غيره، فهذا معنى (تقم المسجد).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (هلا كنتم آذنتموني) يعني: أخبرتموني، فالأذان هو الإخبار، ومنه الأذان للصلاة، ومنه قوله تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3] يعني: إعلام وإخبار، فآذنه بالشيء يعني: وضع الخبر في أذنه، هذا معنى آذنه، يعني: وضعه في أذنه، فالأذان إذاً هو الإخبار.
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لماذا لم تخبروني بوفاتها حتى أصلي عليها.
فكأنهم صغروا أمرها، يعني: حقروا أمرها، (صغروا) يعني: حقروا، رأوا أنها لا تستأهل هذا الشيء، لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان نائماً فموتها كان بليل، هم قالوا: ( إنها ماتت بليل وكرهنا أن نوقظك ) فهنا التصغير ليس على سبيل احتقارها هي بذاتها، ولكن على سبيل الموازنة بين المقامين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حالة راحة ونوم وخلوة، فكرهوا أن يزعجوه أو يوقظوه، ورأوا أن الأمر بالنسبة لها لا يتحمل مثل هذا، وأنه يكفي أن يتولوا هم أمرها ويجهزوها ويهيئوها ويصلوا عليها ويدفنوها وفعلوا، فهذا المعنى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( دلوني على قبرها، فدلوه فصلى عليها ).
ففيه الصلاة على القبر، فيه مسألة: حكم الصلاة على القبر خصوصاً من فاتته صلاة الجنازة ولم يصل عليها قبل أن تدفن، فهل يصلي على القبر أو لا يصلي عليه؟
في المسألة أقوال:
الأول: أنه يصلي على القبر، أي: أن من فاتته الصلاة يصلي على القبر، وقد يكون من الأقارب أو الجيران أو الناس الذين يعنيهم أمر هذا الإنسان، فإذا دفن صلى عليه في قبره بعد دفنه، وهذا القول بأنه يصلى عليه هو مذهب الجمهور، فهو قول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين الأئمة، وهو مذهب الشافعي وأحمد والظاهرية وبعض المالكية أيضاً، قالوا: يصلى على القبر بعد الدفن.
حجة هؤلاء حديث الباب، فإن النبي صلى على هذه المرأة مع أنه صلي عليها؛ لأن الصحابة صلوا عليها ودفنوها ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن قبرها وصلى عليها.
وأيضاً حديث المنبوذ -حديث ابن عباس - المتفق عليه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبر منبوذ فكبر عليه أربعاً ) وشواهد كثيرة جداً، ولهذا الإمام أحمد رحمه الله يقول: جاء من ست طرق كلها حسان -ست طرق يعني ستة أحاديث- كلها حسان أن النبي صلى على القبر، يعني: صلى على الميت صلاة الجنازة وهو مقبور مدفون، قال ابن عبد البر رحمه الله: بل ثبت من تسع طرق كلها حسان .
ثم ساقها ابن عبد البر رحمه الله واحداً بعد الآخر بأسانيد صحيحة.
إذاً: هذه الأحاديث المتكاثرة المتواترة الصحيحة تدل على جواز، بل مشروعية الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الميت قبل ذلك.
القول الثاني: قالوا: لا يصلى على القبر إلا أن يكون لذلك سبب معين، مثل أن يكون لم يُصَلَّ عليه أصلاً، يعني: لم يؤد عليه واجب الصلاة، أو يكون الولي صاحب الميت لم يدرك الصلاة، سبق بها أو عوجل فيصلي عليه، وإلا فلا يصلى على القبر.
فيرى هؤلاء منع وإغلاق باب الصلاة على الميت بعد الدفن إلا إذا كان الولي سيصلي عليه أو دفن من غير صلاة، وهذا كما هو واضح هو مذهب المالكية.
لأننا قلنا: (بعض المالكية) في القول الأول يقولون بالصلاة، لكن المذهب المشهور عن مالك هو هذا أنه لا يصلى عليه، وهو أيضاً مذهب أبي حنيفة .
ولعل أحسن وأقوى ما احتجوا به في ذلك، قالوا: لئلا يفتح الباب للصلاة في المقابر.
وقد يحتجون بالأحاديث التي فيها النهي عن الصلاة في المقبرة: ( لا تجلسوا إلى القبور ولا تصلوا عليها ).
والجواب على هذا الاستدلال أو على هذين الاستدلالين أن نقول:
إن الذي نهى عن الصلاة على القبور هو الذي صلى على القبور، فلابد من التوفيق بينها، ولابد من التفريق بين الصلاة التي هي صلاة الجنازة المتعلقة بالقبر، وبين الصلاة الفريضة أو النافلة التي يقصد بها صاحبها أن يوقعها في المقبرة، فصلاة الفرض أو النفل في المقبرة محرمة، وأما صلاة الجنازة فهي استثناء وجائزة، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم يقيناً على بعض الموتى وصلى عليهم في المقابر.
بعض هؤلاء المانعين يقولون: لو قلنا بالصلاة على القبور لكان الناس يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم في قبره! فكيف ننفصل عن هذا الجواب؟
قال كثير من الحنابلة: إن هذا من الأمر المعروف المتفق عليه أنه لا يشرع الصلاة -يعني صلاة الجنازة- على النبي صلى الله عليه آله وسلم، ولم يكن الصحابة يفعلونها. هذا جواب.
والجواب الثاني عندي أن يقال: إن كل مسلم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بالصفة الواردة المأثورة الفاضلة، دون حاجة إلى أن يجعل هذه الصلاة عند القبر، أو يجعل القبر بينه وبين القبلة أو يكبر؛ لأن صلاة الجنازة هي عبارة عن دعاء وثناء، والنبي صلى الله عليه وسلم إذا قلت: (صلى الله عليه وسلم) فقد فعلت ذلك، وهو يقول عليه الصلاة والسلام: (صلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ).
أما ابن حزم فقد انفصل عن هذا الإشكال وقال: لا مانع، ولم يثبت عن أحد نقل بمنع الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعني: الصلاة على قبره عليه الصلاة والسلام، وما ذكره ابن حزم فهو ضعيف ولم ينقل فعله، والأصل في العبادة أن ينقل فعلها أو استحباب فعلها.
بعض الفقهاء حدوها بيوم، وبعضهم حدوها بأسبوع أو شهر، أو ما لم ييبس القبر، أو غير ذلك.
طبعاً: لا يوجد حد في الشريعة ولا نص يمكن الرجوع إليه في هذا الباب، لكن ينبغي أن يقال: إن الصلاة على الميت في القبر وإن كانت جائزة -كما ذكرنا- إلا أنها ينبغي أن تكون لسبب.
فنحن نرجح جواز الصلاة على القبر لسبب، مثل أن يكون الإنسان لم يصل عليه، لم يصل على هذا الميت، ويكون ممن كان يمكن أن يصلي عليه، بخلاف الذين ماتوا في القرون الغابرة والسابقة، وإنما إذا مات جارك أو قريبك أو زميلك أو شخص من جماعتك وذهبت لتصلي عليه في المقبرة لأن الصلاة فاتت؛ فلا بأس ولا حرج في ذلك.
أبي داود
: (البخاري
على النقيض من ذلك في الذي يتفل في المسجد يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (جليبيباً
والحديث رواه أحمد والترمذي وحسنه، قال الترمذي : هذا حديث حسن.
نعم. رواه الترمذي في سننه في كتاب الجنائز، باب: النهي عن النعي، وأما أحمد فرواه في مسند حذيفة رضي الله عنه، ورواه ابن أبي شيبة وغيرهم، وقد حسنه الترمذي كما ذكرت، وحسنه أيضاً الحافظ ابن حجر في فتح الباري وغير واحد.
المقصود بـ النعي: هو النداء على الميت بصوت مرتفع .
وقد اختلف الفقهاء في تعريف النعي، وبناءً عليه اختلفوا في الحكم عليه، فمنهم من يقول: النعي هو الإخبار بالميت، ولعل هذا ما كان يذهب إليه حذيفة رضي الله عنه بأنه كان يقول: (لا تخبروا بموتي أحداً، فإني أخشى أن يكون من النعي)، وقد يكون هذا منه على سبيل الورع والاحتياط.
ومنهم من يقول: إن النعي هو النعي والنداء بصوت مرتفع مصحوباً بالثناء على الميت وذكر محاسنه ومحامده على ما كان يفعله أهل الجاهلية.
ومنهم من يقول: إن النعي يكون مصحوباً بالنياحة أيضاً والبكاء على الميت.
وبسبب اختلاف معنى النعي عندهم يختلفون في الحكم عليه.
ما حكم النعي؟ فنقول أولاً: المقصود بالنعي الذي نتكلم عنه هنا هو الإعلام المجرد بوفاة فلان مفصولاً عن قضية الثناء عليه ومفصولاً عن قضية الندبة أو النياحة أو غير ذلك من المعاني التي ثبت النهي عنها، الإعلام في المجامع أو في المناسبات أو في الأسواق أو في غيرها أن فلاناً مات وسيصلى عليه في المكان الفلاني.
القول الأول: أن ذلك جائز، بل قد يستحب، وهذا مذهب الأكثرين كـأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، يعني: المشهور عن الأئمة الأربعة أن ذلك جائز وقد يكون مستحباً بحسب الحال.
وأدلتهم على جواز ذلك الحديث الذي قبله حديث المرأة التي كانت تقم المسجد وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( هلا كنتم آذنتموني ) فهو دليل على الإعلام وأنه جائز أو مستحب.
أيضاً من الأدلة نعي النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي، والحديث سوف يأتي: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى إلى الصحابة رضي الله عنهم النجاشي وقال: إن أخاً لكم مات بـالحبشة بأرض غير أرضكم، وخرج بهم إلى المصلى، وكبر أربعاً وصلى عليه صلاة الجنازة ) فالنبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي، وهذا دليل على أن أقل أحوال مثل هذا النعي هو الجواز.
وفي الباب أحاديث عديدة في نعي بعض الموتى.
كذلك النبي صلى الله عليه وسلم ورد أنه نعى بعض الصحابة في غزوة مؤتة لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( حمل الراية
أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلن أو لتكرهنه
قد طال ما قد كنت مطمئنه ما لي أراك تكرهين الجنة
قد أجلب الناس وشدوا الرنة
ثم:
يا نفس إلا تقتلي تموتي هذي حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلي فعلهما هديت
وإن تأخرت فقد شقيت).
فتردد ثم أقدم رضي الله عنه، المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نعاهم إلى أصحابه رضي الله عنهم أجمعين، فهذا دليل على جواز مثل هذا اللون من النعي.
القول الثاني: أنه يكره، أن النعي يكره، وهذا قول جماعة من السلف، ومنهم حذيفة راوي الحديث رضي الله عنه؛ أنهم كانوا يرون عدم الإخبار بالوفاة ويخشون أن يكون من النعي، ومن أقوى أدلتهم حديث الباب.
القول الثالث: هو التفصيل، وليس في الواقع قولاً ثالثاً، وإنما هو يرجع للقول الأول، بمعنى: أننا نرجح القول الأول، ولكننا نوضحه أيضاً ونقول: إن الأئمة الأربعة وغيرهم ممن أجازوا النعي أجازوا الإخبار والإعلام المجرد بوفاة فلان، خصوصاً إذا كان فيه مصلحة مثل الصلاة عليه، أو من كان له عليه حق أو مطالبة أو ما أشبه ذلك، فهنا قد يكون الأمر سنة، والأحاديث فيه واضحة وصحيحة وصريحة، أما إذا كان النعي فيه معنى آخر، مثل أن يكون فيه نوع من المفاخرة، المفاخرة: أنه يصلي على فلان أكثر مما يصلي على فلان، وهذا كما يقال (أحجية): أن إنساناً يرائي حتى بعد موته، كيف يرائي بعد موته؟
قالوا: يحب أن يحضر جنازته خلق كثير حتى يتكلم الناس في المجالس ويقولوا: ما شاء الله! جنازة فلان مثل الغمام، لم يعرف في البلد جنازة حضرها وصلى عليها مثلما صلي على فلان!
وهذا من المعاني التي تأتي في النفوس أحياناً، فكذلك الجماعة، قد لا يكون هو يرائي، لكن جماعته يريدون حشد الناس للصلاة عليه، لإثبات مقام قبلي أو مقام ديني أحياناً على سبيل المفاخرة والمغالبة!
بالله عليكم هذا المعنى موجود أو لا؟ موجود، موجود أحياناً، هذا المقام مقام موت يا أخي! فإلى متى هذا الإنسان لا يرتدع ولا ينزجر؟ نسأل الله العافية.
فإذا كان الموضوع فيه مفاخرة فهو مكروه، وإذا كان الموضوع فيه نياحة فهو محرم، مثل أن يأتوا في الأسواق والشوارع، وفلان وفلان، ويذكروا تاريخه وأمجاده وعمله وغير ذلك، وقد يكون مصحوباً بالرنين والنياحة والبكاء والصياح والنياح.
إذاً نقول: النعي له ثلاثة أحوال، كما ذكر ذلك الإمام ابن العربي وغيره:
الحالة الأولى: الإعلام المجرد، وهذه نقول حكمها جائز أو مستحب أو سنة.
الحالة الثانية: أن يكون نعياً على سبيل المفاخرة والمباهاة، فهذا مكروه.
الحالة الثالثة: أن يكون مصحوباً بالنياحة وغيرها، فهذا محرم.
والحديث متفق عليه، فقد رواه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز، وكذلك مسلم أيضاً في التكبيرات أربع.
ورواه أبو داود في المسلم يموت في بلاد الشرك، والترمذي أيضاً في التكبيرات على الجنازة، والنسائي في النعي، وابن ماجه في الصلاة على النجاشي .
ورواه أحمد وابن حبان ومالك والبيهقي والطحاوي وابن أبي شيبة وغيرهم، هذا ما يتعلق بتخريج الحديث.
والحديث له شواهد كثيرة جداً، منها حديث عن جابر وعمران بن حصين ومجمع بن جارية وحذيفة بن أسيد وغيرهم، والذي صح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه صلاة الغائب هو النجاشي، فقد ثبت هذا من طرق كثيرة جداً في الصحيحين وغيرهما، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على غيره صلاة الغائب، ولكن في سنده مقال.
إذاً: النجاشي هذا الاسم العام لكل من ملك، أما اسمه الخاص فهو أصحمة، وهذا النجاشي هو الذي استقبل الصحابة رضي الله عنهم وسمع قراءتهم لسورة مريم، وبكى وآمن واستسر بإيمانه وبقي، ولذلك صلى عليه النبي صلى الله عليه آله وسلم كما في هذا الحديث.
ما حكم الصلاة على الغائب؟
وهذه المسألة فيها تقريباً ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الصلاة على الميت الغائب تجوز مطلقاً.
وحينما نقول: (مطلقاً) نعني: سواءً كان إلى القبلة أو إلى غير القبلة، يعني: سواءً كانت الميت هذا الغائب بيننا وبين القبلة، أو كان إلى جهة أخرى كما لو كان إلى جهة المشرق.
وقد خالف في ذلك ابن حبان في صحيحه فرأى: أن شرط الصلاة صلاة الغائب أن يكون الميت بينك وبين القبلة، أو أن يكون إلى جهة القبلة، يعني: أن يكون إلى جهة القبلة وليس بضروري أن يكون بينك وبين القبلة، فإما أن يكون بينك وبين القبلة، أو أن يكون إلى جهة القبلة فتصلي عليه، ولم أر هذا لأحد غيره من المحدثين أو الفقهاء، فالجمهور لا يدخلون في هذا التفصيل أصلاً؛ لأن الصلاة ليست على جثمانه.
إذاً: حينما نقول: (مطلقاً) نقول: سواء كان إلى الميت إلى جهة القبلة أو كان إلى غيرها.
وأيضاً (مطلقاً) يعني: من غير تفصيل، من غير سبب، فيصلون عليه مطلقاً.
وهذا القول هو قول الشافعية وقد نص عليه الإمام الشافعي ونصره كما في الأم وغيره، والحنابلة والظاهرية.
ما حجة هؤلاء؟
حجتهم حديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي، وقد جاء هذا من طرق كثيرة، فهذا الحديث يدل على جواز الصلاة على الغائب.
ومن الحجج أيضاً: النظر، قالوا: إن الصلاة على الجنازة حقيقتها الدعاء، ولذلك هي دعاء للميت، فسواء كان حاضراً أو غائباً فإنه يدعى له، هذه أدلتهم.
القول الثاني قالوا: إنه لا يجوز أن يصلي على الغائب:
وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة ورواية عن أحمد، منعوا صلاة الغائب، لماذا؟
قالوا: إنه لابد من حضور الجنازة؛ لأن صلاة الجنازة وإن كانت دعاءً إلا أنها دعاء بصفة مخصوصة، لما في ذلك من القيام والصفوف والتكبير وقراءة الفاتحة والتسليم، فلابد أن يكون الميت حاضراً مشهوداً، يعني: يصلون عليه وهو أمامهم، وهذا المذهب هو مذهب الأكثرين كما تلاحظون تقريباً، هو مذهب مالك وأبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد .
أيضاً قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي على من ماتوا من أصحابه بعيداً.
وأما صلاته على النجاشي فهذا مؤول، بعضهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كشف الأمر له، وقد ورد في هذا أحاديث لكنها ضعيفة، وفي بعض الألفاظ يقولون: الصحابة يكبرون وراءه وهم لا يشكون أن جنازته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!
الأمر الثالث: أنهم يحملون هذا الحديث على حال خاصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والأولون يجيبون ويقولون: هذا فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
ولذلك كان القول الثالث؛ هو الذي ربما يعدل الكفة: أنه يجوز الصلاة على الغائب إذا لم يصل عليه في بلده:
والأقرب أن النجاشي هكذا؛ لأن النجاشي كان ملكاً للنصارى ولم يعلموا بإسلامه فكان يكتم إيمانه، والأغلب أنه لم يكن بـالحبشة مسلمون مظهرون معلنون بحيث إنهم يقيمون صلاة الجنازة عليه، ولهذا أقام النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الجنازة عليه في المدينة لهذا السبب، وهو سبب قوي.
وهذا القول اختاره الخطابي من الشافعية والروياني أيضاً من الشافعية، وبوب عليه أبو داود كما رأيتم وسمعتم قبل قليل أن أبا داود في سننه قال: باب المسلم يموت في بلاد الشرك، فربط الأمر بكونه وقع في بلاد الشرك، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عثيمين وجماعة من أهل العلم.
وهذا القول قوي، وفيه جمع بين النصوص؛ لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الغائب هي صلاة واحدة فقط، هي الصلاة على النجاشي، هذا هو الذي ثبت بالأسانيد الصحاح، ولم يصل على غيره ممن ماتوا من الصحابة في أسفارهم وذهابهم وإيابهم ممن يكون معهم قوم تولوهم وصلوا عليهم، فدل على أن هذا لأمر خاص، ولا يوجد أمر خاص إلا أن النجاشي كان في بلاد الشرك -كما أشار أبو داود - ولم يُصَلَّ عليه في بلده فصلى عليه النبي صلى الله عليه آله وسلم، ولذلك عرف الصحابة إسلامه من هذه الصلاة، حتى إن المنافقين تكلموا في ذلك، مع أن هذا الأمر متأخر نسبياً، ومع ذلك تكلم المنافقون وقالوا: يصلي على علج من العلوج، ووقع منهم ما وقع.
ومتى كانت هذه الصلاة؟
قيل: إن هذا كان بعد فتح مكة .
وقيل: كان قبل ذلك، والأقرب أنه كان قبله!
وهذا القول هو الذي أختاره، أن الصلاة على الجنازة تكون إذا لم يصل عليها. هذه واحدة. وتكون في حال أخرى إذا كان فيها موافقة في الجماعة؛ لأننا نرى أن موافقة الجماعة مطلب للشريعة والانفصال عنهم مذموم، وهذا أيضاً من المعاني التي ينبغي تربية الشباب عليها، فإن بعض الشباب تربوا على الانفصال عن الناس ومخالفة الناس، وكأنهم يرون في مخالفة جمهور الناس معنىً، يعني لتعظيم النفس والإشادة بها .
فإذا صلي على جنازة غائب وأنت في مسجد أو حرم أو مكان عام، فالسنة أن تصلي عليه موافقة للناس وانتقالاً إلى القول الآخر؛ لأنه وإن كان هذا القول راجحاً إلا أن القول الثاني ليس قولاً منكراً أو شاذاً، بل قد يوجد ما يرجحه، مثل ما إذا رجحه موافقة الناس وعدم الانفصال عنهم، وألا يظن أن لك رأياً في هذا الإنسان وأنك لا تراه، ولهذا كثيراً ما يصلى في الحرم على المشاهير الذين يموتون، وقد يكونون أهل علم وفضل، أذكر أنه صلي مثلاً على أبي الحسن الندوي، وأذكر أنه صلي على الشيخ أحمد ياسين نعم. صلي على كثير من أهل العلم المشهورين نعم.
فإذا صلي على إنسان له قدر وله إمامة مع الناس وصليت معهم كان هذا أفضل؛ لأنك وإن كنت تختار القول الثاني أنه لا يصلى عليه إلا إن كان لم يصل عليه في بلده، مع ذلك فموافقة الناس قد ترجح القول الثاني، وهذه من الفقه الدقيق، بعض الناس يظنون أن ترجيح هذه الأقوال هو ترجيح نهائي مطلق، لا! هذا القول الراجح قد يصبح مرجوحاً في حال معينة، والقول المرجوح قد يصبح راجحاً في حال معينة إذا وجد سبب له.
عائشة
رضي الله عنها: (سهل بن بيضاء
إلا في المسجدالجواب: أصبح هذا واضحاً، نقول: لا يشرع لهم الصلاة عليه، لكن لو صلوا فليس عليهم في ذلك من بأس أو حرج.
السؤال: يقول: يقترح مواصلة شرح البلوغ في أحد المساجد في الرياض، وهل صحيح أن قناة مكة على وشك البث؟
الجواب: أما البلوغ فنسأل الله التيسير. وأما قناة مكة فليس عندي خبر عنها، ويسأل بعض الإخوة عن الشيخ سفر، هو بخير وصحة والحمد لله.
الجواب: في الغالب لا؛ لأنه لم يقصد الموت، صحيح أنه مخاطر ولكنه لم يتعاط سبباً مباشراً.
الجواب: قد يكون قول الأوزاعي عاماً، الأول: عام في الصلاة على أهل القبلة، ويستثني من ذلك القاتل لنفسه لوجود الحديث.
الجواب: أحد الصحابة كان يقرأ سورة الإخلاص ويكررها، ويقول: إنها صفة الرحمن، فأنا أحب أن أقرأ بها، لكن ليس للأمر علاقة بصلاة الجنازة.
الجواب: ما رأيكم بهذا؟ هل يجوز للإنسان أن يسافر لصلاة الجنازة؟ ماذا تقولون؟
نعم، يجوز. ما هو المانع أصلاً؟! ألا يجوز أن الإنسان يسافر للتجارة؟ يسافر لبر والديه؟ يسافر لدورة يحضرها؟ صلاة الجنازة عبادة يسافر إليها.
البعض يظنون حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن شد الرحال: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) هذا ليس نهياً عن السفر، السفر منه واجب، ومنه مستحب، ومنه مباح، ومنه مكروه، ومنه محرم، تجري فيه الأحكام الخمسة، وإنما (لا تشد الرحال) يعني: لا تشد الرحال بالسفر إلى بقعة باعتقاد أفضلية العبادة في هذه البقعة على وجه الخصوص، إلا هذه المساجد الثلاثة لورود الفضيلة، أما لو اعتقد أن في بقعة مثلاً في الحبشة يشرع أن يذهب ويصلي فيها ركعتين، نقول: هذه بدعة، أما لو ذهب إلى أي مكان في الأرض لطلب علم أو لصلة رحم أو لتجارة، أو لصناعة، أو لعمل، أو لدراسة أو لأمر مباح، فضلاً عن أن يكون لصلاة الجنازة فلا حرج في هذا . والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر