إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون, وعلى أزواجه وذريته وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين, ورضي الله عنا وعنكم وعن جميع المسلمين.
والحمد لله الذي وفق وأمد في الأعمار, وأطال في الآثار, وأذن بالتكرار لمثل هذا المجلس المبارك في هذه الإجازة الصيفية, فهذا هو يوم السبت الرابع عشر من شهر جمادى الأولى من سنة (1427هـ), وسيكون هذا الدرس بعد صلاة العصر درساً لشرح بلوغ المرام , وبإذن الله تعالى بنهايته نكون أنجزنا كتاب الصلاة؛ لأن ما بقي من كتاب الصلاة -وهو بقية كتاب الجنائز- نحو ثمان وأربعين حديثاً, وعندنا اثنا عشر درساً, ففي كل درس -إن شاء الله- ننجز أربعة إلى خمسة أحاديث، نكون انتهينا من كتاب الصلاة.
ولعله من المناسب أيضاً إزجاء الشكر والحمد مرة أخرى لله وحده سبحانه في إتمام كتاب الطهارة من شرح البلوغ وطباعته, حيث طبع في أربع مجلدات, وبالنسبة للإخوة الطلبة الذين ليس لديهم هذا الكتاب فأرجو أن يكتبوا أسماءهم, وسنسعى إن شاء الله تعالى في توفيره لهم, وكذلك الإخوة الطلبة الذين سيستمرون في حضور هذه الدورة أرجو أن تكون أسماؤهم مكتوبة عند عميد هذا المجلس الشيخ صالح السلمان ؛ حتى يراعى هذا في توفير نسخة من البلوغ ومن الكتب والهدايا الأخرى التي سوف تجهز لهم.
وأيضاً بشرى أخرى إن شاء الله أن كتاب الصلاة قد تم تجهيزه والعمل عليه ككتاب, وسيكون في حجم كتاب الطهارة نحو أربع مجلدات, وإن شاء الله أرجو ألا يأتي الصيف القادم إلا وقد أصبح في متناول أيدي الطلاب.
فعندنا اليوم مجموعة أحاديث في كتاب الجنائز, وقد سبق أن شرحنا طرفاً منها يتعلق بالموت, ويتعلق بالدفن, ويتعلق بالكفن, ويتعلق بالصلاة, وبقي أجزاء وأطراف من هذا الباب, وسنقف اليوم على أربعة أحاديث منها.
وكالمعتاد فإن طريقة العرض تبدأ بتخريج الحديث وعزوه, ثم الحكم عليه, ثم شرح الغريب من الكلمات والوقوف عند بعض المسائل العلمية والفقهية في الحديث, وتنتهي بذكر بعض الفوائد.
فالحديث الأول ورقمه: (551) هو حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تغالوا في الكفن، فإنه يسلب سلباً سريعاً ).
وهذا الحديث سهل من حيث حفظه, ومختصر في ألفاظه.
وقد رواه البيهقي أيضاً في سننه .
من أشهر الشواهد: حديث أبي بكر رضي الله عنه وهو في البخاري عن عائشة : (أن أبا بكر لما حضر وكان عليه ثوب فيه ردع من زعفران, فقال: انظروا ثوبي هذا فاغسلوه ثم كفنوني فيه, فقالت عائشة رضي الله عنها: يا أبتاه! إنه ثوب خلق, أفلا نكفنك في ثوب جديد؟ فقال لها: يا بنية! إن الحي أولى بالجديد من الميت، وإنما هو للمهلة -أو للمهل- والصديد) فحديث أبي بكر يشهد لمعنى حديث الباب.
هذا الرجل تكلم فيه غير واحد من أهل العلم كالإمام أحمد ضعفه في إحدى روايتيه, وكذلك البخاري قال: فيه نظر, وهذه كلمة لا يقولها البخاري إلا على من هو شديد الضعف عنده, وضعفه أيضاً مسلم كما في كتاب التمييز له, مسلم صاحب الصحيح .
وابن حبان أشار إلى أنه يروي عن الثقات ما لا يشبه حديثهم, فبطل الاحتجاج به, فكأن ابن حبان يشير إلى أن الرجل صاحب غرائب, وصاحب غرائب تطلق على الراوي الذي يأتي بالأحاديث والروايات الغريبة عن الشيوخ, والتي لا يشاركه ولا يشاطره فيها غيره, فيتوقى العلماء حديثه, ولهذا أحياناً يقولون: فلان صدوق أو ثقة يغرب, يعني: يأتي بالشيء الغريب, وهذا مظنة أن يكون ثمة حذر وتوق منه، وهكذا الناس في مجالسهم وأحاديثهم إذا كان من بينهم شخص يأتي بالأخبار الغريبة يتقونه؛ لأنهم يقولون: هذه الأخبار الغريبة أين هي من الناس لا يأتي بها إلا هو؟ فيتجنبون حديثه.
إذاً: هذه هي العلة الأولى في حديث علي , وهي وجود أبي مالك , واسمه قلنا: عمرو بن هاشم الجنبي .
العلة الثانية: أن الحديث مروي من طريق عامر عن علي رضي الله عنه, وعامر هو الشعبي كما هو معروف, وبينه وبين علي انقطاع, فقد ذكر الدارقطني وغير واحد أنه لم يأخذ من علي إلا حرفاً أو حرفين, وبعضهم قال: إنه لم يأخذ منه شيئاً, وبعضهم قال: إنه لقيه , فهو قد يكون لقي علياً، لكنه لم يرو عنه؛ ولذلك فإن الحديث فيه ضعف, ولكن ليس في متن الحديث ما يستغرب, وهذه قضية ينبغي اعتبارها، فإن الأئمة كما هو واضح من صنيعهم؛ أئمة الحديث المتقدمين، كانوا يلاحظون المتن أيضاً, فإذا كان المتن متناً عظيماً أو فيه أصل لا يوجد في غيره فلا يأخذونه إلا عن الثقات الأثبات, أما إذا كان المتن من المتون المتداولة التي لا استقلال فيها عن غيرها فهم قد يتسامحون في أخذها وروايتها , ولهذا أحياناً يقولون: هذا الحديث عليه العمل كما كان الترمذي يقوله, وكذلك ابن عبد البر قد يقول مثل هذا ويصحح به أحاديث, والإمام أحمد وسواهم.
إذا أحد له تعليق أو سؤال ما يمنع أنه يطلب التعليق في وقته, إذا كان يتعلق بذات المسألة المنصوصة.
اللفظ أول الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تغالوا في الكفن ) أكثر الروايات هكذا على ضم التاء وفتح الغين: (لا تغالوا), وهو مأخوذ من المغالاة، وهي: الزيادة ومجاوزة الحد في الشيء, ومنه الغلو أيضاً, يقال: غلا في الشيء إذا تجاوز الحد.
وفي الحديث الآخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم عند النسائي وغيره: ( إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين )، فهذا هو اللفظ المشهور, (لا تغالوا).
وبعض الأئمة والرواة ضبطوه ورووه بفتح التاء: (لا تغالوا في الكفن) وهنا يكون كأن هناك تاء ثانية محذوفة, يعني: أصله: (لا تتغالوا), ومرد اللفظ للأول, أنه من المغالاة والزيادة, لكن هنا فيه معنى إضافي غير الأول, وهو؟
مداخلة: التنافس.
الشيخ: التنافس، نعم. حين يقول: لا تتغالوا, يعني: لا يغالي بعضكم بعضاً, بمعنى: أن كل إنسان ينظر للآخر, يقول: فلان كفن ميته في كفن سعره كذا.. مائة ريال, فأنا أريد أن أكون أحسن منه فأكفن ميتي في مائتي ريال, وهذا ما يسميه علماء اللغة -ما يكون يعني: بين طرفين-: نوع من المفاعلة أو المغالبة بين طرفين, مثل المضاربة والمساباة والمساعدة وغيرها, مما يعني: أن كل طرف ينافس الطرف الآخر فيها, ومرده للمعنى الأول كما ذكرت: (لا تغالوا), وهناك طبعاً ألفاظ أخرى.
?(لا تغالوا في الكفن)، والكفن هنا: اسم لما يكفن ويلف به الميت, وهو بفتح الكاف والنون, والمصدر الكفْن بسكون الفاء, وهو من كفَن يكفِنُ كفْنَاً, والكفن معناه: التغطية, من معاني الكفن في اللغة: التغطية؛ وذلك لأن الكفن يغطى ويلف به جسد الميت, وقد أصبح هذا اسماً شائعاً معروفاً له لا يحتاج إلى مزيد بيان.
(فإنه يسلب سلباً سريعاً) مرجع الضمير في (إنه) إلى الكفن.
وقوله: (يسلب) هذا نسميه مبني للمجهول, يعني: الكفن يسلب, من الذي يسلبه؟
إما الأرض أو الدود؛ لأنه يتآكل مع الوقت وينتهي, وهذا هو الذي عليه أكثر الشراح, أن المقصود أن الكفن يذهب بسرعة, فالمغالاة فيه لا فائدة منها, بل هي من إضاعة المال, فهذا الكفن يوضع في التراب ويتآكل سريعاً, حتى لو أنك أتيته بعد فترة وجيزة لم تجد له أثراً, وبدأ -أيضاً- الدود يأكل جسد الميت.
وهنا نذكر القصة التي وقعت لأحد الشعراء لما دخل على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بعد ولايته الخلافة, وقد تسامع الناس أن عمر يعطي الفقراء ويمنع الشعراء, فبدأ الشعراء يتقربون إلى عمر بن عبد العزيز بالمعاني التي تروقه, وقد ولي الخلافة فزهد في الدنيا, فجاءه أحد الشعراء ووقف بين يديه, وأنشد:
وبينما المرء أمسى ناعماً جذلاً في أهله معجباً بالعيش ذا أنق
غراً أتيح له من حينه عرض فما تلبث حتى مات كالصعق
ثمة أضحى ضحى من غب ثالثة مقنعاً غير ذي روح ولا رمق
يبكي عليه وأدنوه لمظلمة تعلى جوانبها بالترب والخرق
فما تزود مما كان يجمعه إلا حنوطاً وما واراه من خرق
وغير نفحة أعواد تشب له وقل ذلك من زاد لمنطلق
فبكى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حتى أخضل لحيته.
فهذا هو المعنى الأول, أنها تسلب سلباً سريعاً يعني: تتآكل وتنتهي, ولهذا في بعض الروايات قال: ( فإنه يُسلبه سلباً سريعاً ) بزيادة هاء الضمير, (يسلبه)، وعلى هذا يكون الضمير الأول (فإنه) يرجع إلى الميت, يعني: الميت يسلب منه كفنه, كأنه يؤخذ منه, حتى لو كان هذا الميت ملكاً عظيماً أو إمبراطوراً أو -يعني- ضخماً أو عزيزاً أو تاجراً أو قوياً في بدنه؛ فإنه في قبره غير قادر على أن يحمي نفسه حتى من الدود, ويسلبه الدود كل شيء حتى لباسه, بل حتى نفسه وأعضاءه وجسده، فالرواية الأخرى: ( فإنه يسلبه ), يعني: الميت يسلب ثوبه وكفنه.
المعنى الثاني: وقد ذكره غير واحد وإن كان فيه غرابة: يسلب يعني: يسلبه اللصوص, وقالوا: إن اللص إذا عرف أن الكفن عزيز وغال فإنه لا يبالي أن ينبش القبر وأن يأخذ الكفن أو يسرقه, فيبيعه لمن يتخذه كفناً آخر أو لغير ذلك، والأمر يسير على كل حال.
(يسلب سلباً سريعاً), يعني: غير بطي, وإنما في أيام وليال.
وقد اتفق العلماء والفقهاء على أن المغالاة الزائدة عن الحد في الكفن محرمة؛ لأنها من باب ماذا؟ من باب الإسراف, وإذا كان الإسراف محرماً على الحي فهو على الميت أولى بالتحريم؛ لأن الحي قد يستفيد من اللباس للزينة وللسفر وللوقاية من الحر والبرد, وغير ذلك, أما الميت فلا ينتفع به إلا أنه يستر به بدنه, ولهذا اتفق الفقهاء على أن الإسراف في الكفن المتجاوز للاعتدال منهي عنه, وقد يصل إلى التحريم إذا زاد عن الحد, وهذا الحديث دليل لما قالوه.
والضابط في هذا: أن الواجب في الكفن هو ما يستر الميت. ولهذا نقول: الواجب هو ثوب واحد. لو أنهم ستروا الميت بثوب واحد أو لفوه بخرقة واحدة تستر جسده أجزأ ذلك وكفى، ويستحب أن يكون الكفن بالنسبة للرجل كما مر معنا كم قطعة؟ ثلاث, واحدة كالإزار, والأخرى كالرداء, والثالثة لفافة, مع تغطية الرأس.
ويستحب بالنسبة للمرأة كم؟ خمس, فهذه السنة.
طيب، لو زادوا على ثلاث أو على خمس؟ فنقول: هذه الزيادة سواء كانت زيادة في العدد أو كانت زيادة في الصفة ونوع الكفن، الزيادة إن تعدت الحد المشروع والمعتدل فهي منهي عنها, وقد تصل إلى التحريم, تكون مكروهة ثم تصل إلى التحريم إذا كان فيها إتلاف للمال وإضاعة له, وأما لو زادت زيادة معتدلة فإن هذا لا يضر, كما أنه لو نقص نقصاً معتدلاً فاكتفى بخرقة واحدة ولفافة واحدة للميت فإن هذا جائز أيضاً، والسنة -كما قلنا- ثلاث للرجل, وخمس للمرأة؛ لأن المرأة مطلوب فيها الستر حتى حال الموت أكثر مما هو مطلوب من الرجل.
والاعتدال أيضاً هو في الجمع بين هذا الحديث وبين الحديث الذي سبق معنا, وهو حديث جابر في صحيح مسلم، ما هو هذا الحديث؟ حديث جابر في مسلم وهو: ( أن أحد الصحابة مات بليل فكفنوه بكفن غير طائل ودفنوه, فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه )، فهنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحسان الكفن، وفي حديث علي قال: ( لا تغالوا في الكفن ) إذاً: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان:67]، فلا يبالغ في الكفن بأسعار خيالية وغالية, ولا يقتر أيضاً ويقصر فيه ويكون الكفن كفناً غير ساتر، أو كفناً رديئاً.. أو ما أشبه ذلك.
ومن جميل ما يمكن أن يضبط به هذا الباب أن يقال: أن يكفن الإنسان بجنس ما يلبس في الدنيا؛ لأن الناس يتفاوتون بالغنى والتجارة وغير ذلك. فيقال: يكفن الإنسان من جنس ما يلبس في الدنيا من اللباس المعتدل المناسب لمثل حاله ومقامه، ولو أن إنساناً أوصى بأن يكفن بما دون ذلك جاز, فقد ورد أن أبا بكر رضي الله عنه كما سلف أمر أن يكفن في ثوبيه اللذين كان يصلي فيهما، وربما اختار أبو بكر رضي الله عنه الكفن فيهما؛ لأنه كان يصلي فيهما, فأحب أن يكفن فيما كان يناجي به ربه, وقد يشهد له عند الله عز وجل, أو يكون له بذلك أنه شهد بها مشاهد, أو ما أشبه ذلك من المعاني, وقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم أهدى لفلان ثوباً فأحب أن يكفن فيه.. إلى غير ذلك مما قد يجعل الإنسان يختار ما هو أقل قيمة من الأكفان.
الرجل. إذاً: نقول جواباً على سؤال: هل يجوز أن يكفن الإنسان في ثوب حرير؟ إن كان رجلاً فلا يجوز أن يكفن في ثوب حرير؛ لأن الحرير حرام عليه في الحياة، فيكون أولى بالتحريم حال الموت؛ لما ذكرناه من أن وضع الحرير في القبر إضافة إلى المخالفة فيه إتلاف للمال.
أما إن كانت امرأة فالصواب أنه يجوز أن تكفن في ثوب حرير, ولكن الأولى ألا تفعل, وصرح بعض الفقهاء بالكراهة, الأولى ألا يفعلوا, وصرح بعض الفقهاء بالكراهة؛ لأن ثوب الحرير بالنسبة للمرأة جائز لها لبسه في حال الحياة, وما كان جائزاً في الحياة فالأصل جوازه بعد الوفاة, وأما الكراهية فلأن المرأة في حال الحياة أبيح لها ذلك لمعنى التزين والتجمل, وهو جزء من طبيعة المرأة: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18]، لكن بالنسبة للميت هو لا يستفيد منه شيئاً, فيكون في ذلك إتلاف للمال.
جابر
: (علي
؛ لأنه لما نهى عن المغالاة دل على أن ما دونها مطلوب, وهو التحسين أو الاعتدال. وأيضاً من فوائد الحديث: وجوب الكفن -وهذا سبق- فإن الكفن واجب, بل هو من أولى ما يجب الاشتغال به, ويقدم في تركة الميت. إذاً: من الفوائد: وجوب الكفن, والمقصود بالكفن: ما يستر جسد الميت, حتى إنه حدث كما في قصةعبد الرحمن بن عوف
لما ذكرمصعب بن عمير
رضي الله عنه وحديثه في الصحيح: (أبو بكر
رضي الله عنه، فإنه أمر أن يكفن بالخلق المغسول, وقال: إنما هو للمهل والصديد. و(المهل) بضم الميم أو فتحها أو كسرها ثلاثة أوجه, والمقصود بالمهل إما أن يكون المقصود به الصديد, يعني: هو ما يقع للميت في قبره من سيلان الماء وغيره, وبعضهم يقول: إنما هو (للمهل) بفتح الميم, وهو المهلة, يعني: الوقت, المدة, وعلى هذا يكون المقصود أن الجديد يكون للمهل, يعني: الجديد للحي؛ لأنه ممهل, معطى فرصة, فيكون أولى به, والميت يأخذ الخلق, إنما هذا اختيارأبي بكر
رضي الله عنه. وإذا أوصى الميت أن يكفن في ثوب خلق تنفذ وصيته, ولكن لا يكون هذا دليلاً على استحباب أن يكون الثوب الذي يكفن فيه الميت خلقاً, وإنما نقول: يستوي أن يكون جديداً أو أن يكون خلقاً, المهم أن يكون ثوباً نظيفاً, وأن يكون ثوباً مناسباً لا مغالاة فيه, وأيضاً أن يكون ثوباً ساتراً, فلو كفن في ثوب لا يستر لا ينفع ولا يغني. وأيضاً أن يكون طاهراً, فلا يصلح أن يكفن في ثوب نجس, حتى لو كان جائزاً أن يلبسه حال الحياة؛ لأن الفقهاء قد يقولون بجواز أن يلبس الإنسان الثوب النجس حال الحياة, لكن لا يجوز أن يصلي فيه , لكن لو لبسه ونام به أو قعد به وعليه -مثلاً- بول طفل رضيع أو ما أشبه ذلك فإن الأقرب أنه ليس في ذلك حرج, لكن الميت لا ينبغي أن يكفن في ثوب نجس, بل ينبغي أن يكون ثوباً طاهراً, ولهذا أوصىأبو بكر
رضي الله عنه أن يغسل ثوبه. من فوائد الحديث: منع إضاعة المال, وقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (أميمة بن الجلاح
يقول: (استغن أو مت) يعني: كون الإنسان طيب وتقي وعابد ومع ذلك هو فقير ومحتاج للناس يمد يده إليهم؛ هذا ذل. استغن أو مت ولا يغررك ذو نسب من ابن عم ولا عم ولا خال إني أبيت على الزوراء أعمرها إن الحبيب إلى الإخوان ذو المال فالإنسان صاحب المال يكون حبيباً إلى الناس؛ ولهذا جاء الدين بالنهي عن إضاعة الأموال. من فوائد الحديث أيضاً: أن الحي أحق بالجديد من الميت, وهذا فيه معنى لطيف, وهو استحباب التجمل للحي, استحباب التجمل للحي، وقد سبق معنا مباحث من هذا القبيل, يعني: الله سبحانه وتعالى يحب أن يُرى أثر نعمته على عبده, وأن يكون الإنسان نظيفاً في ثوبه وبدنه ولباسه وغترته وشعره وجسده, فإن هذا يحبه الله؛ يحبه الله في العبادة, ويحبه في الصلاة, يحبه للجمعة, ويحبه للجماعة, ويحبه للناس. فلذلك نقول: من فوائد الحديث: استحباب لبس الطيب والنظيف والجديد من الثياب. من فوائد الحديث: أن الإنسان يبعث عارياً. من أين نأخذ الفائدة هذه؟ يسلب: (عائشة
لما قال: (أبي داود
أنأبا سعيد الخدري
رضي الله عنه لما حضرته الوفاة أمر بثوب جديد له فلبسه, وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أبي سعيد الخدري
من أحد أمرين: إما التضعيف أو التأويل. فأما التضعيف فيقال: بأن الحديث على فرض صحة إسناده في الظاهر إلا أنه حديث منكر؛ لمخالفته للأحاديث الصحيحة. وإما أن يقال: إن المقصود به أن الناس يبعثون في ثيابهم يعني: يبعثون على الحال التي كانوا عليها, والثوب قد يعبر به عن الفعل والعمل, كما في قوله تعالى: (( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ))[المدثر:4]، قال كثير من المفسرين: إنه لا يعني طهارة الثوب فقط, بل طهارة الظاهر والعمل والسمعة والخير الذي ينسب للإنسان ويعرف به كما يعرف بالثوب , فلابد من أحد الأمرين, ولا داعي للتكلف. وأشد من ذلك تكلفاً وبعداً: أن بعض الشراح يقولون: إن الأموات يتفاخرون بثيابهم التي كانوا عليها, وأقول: ما أبعد هذا! فالأموات في شأن آخر, ليس في شأن الدنيا أن يتزاوروا ويتفاخروا بثيابهم, إلا أن يكون المقصود أن يتفاخروا بعملهم الصالح, فهذا حسن. أيضاً من فوائد الحديث: وجوب أن يكون الكفن مباحاً, وألا يكفن الإنسان فيما هو حرام, سواء كان حراماً لأنه حرير يمنع منه الرجل, أو لأنه مغصوب, أو للمبالغة, فإنه يحرم على الإنسان لبس ما فيه إسراف ومبالغة. من الفوائد أيضاً: قضية الاعتدال في القبر؛ لأنه إذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتدال في الكفن فمثل ذلك بل أولى منه الاعتدال في القبر. وماذا نعني بالاعتدال في القبر؟ لاعتدال بصفة القبر, فاليوم ومنذ قديم جداً الملوك والكبراء والوزراء والأمراء أحياناً في كثير من الأمصار يتفاخرون بالقبور, وقد عرف الناس كلهم في بلاد الإسلام من شرقها إلى غربها إلا ما رحم الله أنك تجد كثيراً من المقبورين ممن لهم شأن ومكانة، تجد قبره مزاراً ضخماً, وتجد عليه ألواناً من الذهب أحياناً والفضة والمعادن والأحجار الكريمة والقيم الغالية, وقد يكون بملايين أحياناً, بينما الناس يعيشون حالة من الفقر, وفي دولة مصر رأيت بعيني أحياء -وأكيد الكل يسمع هذه الأحياء- هي عبارة عن مقابر يسكن فيها الناس, مقابر والناس يعيشون فيها, هي مدافن للأموات وهي مدافن للأحياء, يعيشون فيها ويتزوجون فيها وينجبون فيها, في داخل هذه المقابر, حارات بأكملها, بينما على بعد ربما كيلو مترات منها تجد مدفناً أو مقاماً للسيد فلان أو للسيدة فلانة، وتجد فيه من ألوان الأحجار النفيسة الغالية, ولهذا أظنحافظ إبراهيم
كان يتشكى ويقول: أحياؤنا لا يرزقون بدرهم وبألف ألف ترزق الأموات فتجد أن هذا من الخلل الكبير والجهل العظيم.وأيضاً يبحثون مساًلة أخرى, وهي: إذا كان لا ينبش هل يغرم هذا الإنسان, يقال: تدفع قيمة الكفن، أو لا تدفع؟
وأنا أكره أن أعرض لهذه المباحث؛ لأنني أظن أن الإيغال والتعمق الشديد في بعض التفاصيل في كتب الفقه وكتب الحديث وغيرها أن هذا الإيغال أضر بالعقلية الإسلامية وشغلها بكثير من التفاصيل التي لا حاجة إليها, وقد تكون مسألة يبحثها الملايين من الطلاب عبر عصور طويلة, ولو سألت: هل وقعت مرة واحدة؟ لقال لك الكثير: الله أعلم, يمكن ما وقعت.
الناس في حال موت, وعندهم مروءة, وعندهم أخلاق, وعندهم شيمة, فقضية أنه ينبش القبر أو لا ينبش, وقضية أن يغرم أو لا يغرم؛ هذه أشياء من حيث النظر -الاحتمال العقلي المجرد- يمكن أن تقع, ليست أموراً مستحيلة الوقوع, لكنها شديدة الندرة, وأيضاً هي لا تحل من خلال البحث الفقهي, وإنما تحل بالمحاسنة والمصالحة وما أشبه ذلك، فالإيغال في بحث هذه المسائل والتفريع عليها وسرد الأقوال وصف الأدلة، أظن أنه من الأشياء التي يجب أن يتجاوزها طالب العلم, وألا يقف عندها, خصوصاً ونحن -كما قلت قبل قليل في الفرق بين الحي والميت الآن في العالم الإسلامي- أننا نجد أن بعض الطلبة قد يوغلون في بحث بعض المسائل ويشتغلون بها, بينما ثمة مسائل واقعة اليوم ويحتاجها الملايين من الناس حاجة ضرورية, وقد لا يجدون من يفتيهم فيها, لماذا؟ لأنهم يقولون: لا أعرف, لماذا لا تعرف وأنت مشتغل بمسائل فرعية لا تقع إلا نادراً أو لا تقع أصلاً؟ فهذا من الخلل, وهو نقيض الحكمة, وأظن أن العلم والحكمة قرينان , والحكمة ما هي؟ الحكمة: وضع الشيء في موضعه, الحكمة: إعطاء كل ذي حق حقه، فلا معنى لأن نتجاهل بعض القضايا النازلة والواقعة اليوم التي يحتاجها الناس قريبين وبعيدين, كباراً وصغاراً, سواء كانوا من التجار, أو من الأطباء, أو من غيرهم ونغفل عنها, بينما ننشغل في بعض المسائل الفرعية. هذا الحديث الأول.
وهو حديث عائشة رضي الله عنها، وقد أشار إليه المصنف مختصراً, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ( يا
الحديث فيه قصة طويلة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى عائشة ودخل عندها, فقالت: ( وا رأساه! -تشتكي من رأسها- فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم مداعباً: ما يضرك أن تموتي قبلي فأغسلك ) هذه الرواية فيها: (أغسلك), والحديث أصله في البخاري وليس فيه لفظ التغسيل: ( وأصلي عليك وأستغفر لك, فقالت: والله إني أظن يا رسول الله! أن لو مت قبلك أن ترجع إلى بيتي فتعرس ببعض -أو فتُعرِس - ببعض نسائك. فابتسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: بل أنا والله يا
فإن في سنده محمد بن إسحاق بن يسار، وهو صاحب السير المعروف, سيرة ابن إسحاق , وهو إمام في السيرة على ما هو معروف, ولكنه في الحديث صدوق إذا لم يعنعن, يعني: إذا صرح بالتحديث وقال: حدثنا فلان, وإلا فهو مدلس, يعني: قد ينسب إلى شيخ وهو لم يأخذ منه مباشرة, وإنما أخذ منه بواسطة, ولهذا يقولون: صدوق إذا حدث, وأما إذا عنعن وقال: عن فلان فمعناه: أن بينه وبين فلان واسطة؛ ولهذا يضعف حديثه، ومن هنا ضعف جماعة من أهل العلم هذا الحديث, فقد ضعفه النووي في الخلاصة والزيلعي وابن التركماني كما في تعليقه على سنن البيهقي , وغير واحد ضعفوا الحديث.
ومما يضعف الحديث أيضاً: أن الحديث فيه معنى لا يوجد في الأحاديث الأخرى, فإن القصة نفسها مروية كما في البخاري وغيره وليس فيها لفظ: (وغسلتك), الذي هو موضع الشاهد في الحديث, ولهذا نقول: إن الحديث فيه ضعف, لا يخلو من ضعف.
الحديث فيه ذكر البقيع، أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع من البقيع، وأحياناً يعبر عنه ويقال: بقيع الغرقد، وهو موضع بـالمدينة كان يدفن فيه الموتى, ولهذا عرف بأنه مقبرة أهل المدينة، كما أن مقبرة أهل مكة تعرف المعلاة هذه الآن, وقبل كانت تعرف بـالحجون -أو الحَجون - الحجون كانت مقبرة لأهل مكة .
والبقيع معناه إما أن يكون المقصود بقعة واسعة, يعني: أرض واسعة فضاء, وقد يكون معنى البقيع هو: المكان الذي تنبت فيه النخل.
والصداع (أن عائشة كانت تحس بالصداع), الصداع: آفة أو مرض معروف، فإن كان المرض يصيب نصف الرأس -كما يقع أحياناً- فهذا يسمى الشقيقة , وهو موجود الآن, والعلماء يتحيرون فيه, ولا يعرف له سبب خاص ومحدد في الغالب، وهي -الشقيقة- صداع يصيب الإنسان في نصف رأسه, يعتاده بشكل دائم, يعني: بين الفينة والأخرى, وقد يجعل الإنسان لا يهنأ بنوم ولا أكل ولا شرب.
وإن كان الصداع يصيب الرأس كله فإنه يسمى أحياناً بالخوذة أو بالبيضة؛ تشبيهاً له بالسلاح الذي يلبس على الرأس ويغطي الرأس كله , فبعض الناس يصيبهم صداع دائم, وكأن هذا الصداع في نظر المتقدمين عبارة عن أبخرة في داخل الرأس تحاول أن تصدع الرأس, يعني: تشقه؛ ولهذا سموه صداعاً . والله أعلم.
وهو من الأمراض التي قل من يسلم منها؛ أن يصيب الإنسان صداع, لكن الصداع المزمن الدائم هذا مرض يتطلب العلاج, أما الصداع العارض فهذا كثيراً ما يعتاده الإنسان بسبب الشمس أو قلة النوم أو الجوع أيضاً والصيام, أو بسبب الهم والغم الذي ينتاب الإنسان.. إلى غير ذلك من الأسباب.
وقول عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: ( أن تكون أعرست ببعض نسائك ), التعريس يعني: النزول ليلاً أحياناً, عرسوا في المكان, وقد يطلق (أعرس) ويقصد به الزواج والبناء بالمرأة, وقد يطلق ويقصد به الجماع , ولعلها قصدت هذا المعنى؛ لأنها تقول: بعض نسائك, يعني: بعض أزواجه, فهي تعني: أنك تدفنني، ثم ترجع لتجامع إحدى زوجاتك.
النقطة الرابعة: ما يتعلق بمسألة الحديث: المسألة الفقهية, الحديث فيه مسألتان:
تغسيل الرجل لامرأته, وتغسيل المرأة لزوجها، الحديث الآن نص في تغسيل الرجل لزوجته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعائشة : ( لو مت قبلي فغسلتك ). وهذا هو محل الشاهد من الحديث.
إذاً: نقف عند هذه المسألة.
المسألة الثانية: ما هي؟ عكسها, وهي تغسيل المرأة لزوجها, يعني: لو افترضنا أن عائشة رضي الله عنها تغسل الرسول صلى الله عليه وسلم, هذه نأتي إليها في الحديث الذي بعده.
وفي المسألة قولان مشهوران: الأول: أنه يجوز للرجل أن يغسل امرأته المتوفاة, يغسلها بعد الموت, وهذا مذهب جمهور أهل العلم, فهو مذهب الشافعي ومالك، وهو الرواية المشهورة عند الحنابلة, وقال به كثير من السلف رضي الله عنهم, يمكن أن ينسب هذا القول لـأبي بكر , ولـابن مسعود , ابن عباس , علي بن أبي طالب .. وغيرهم, أنه يجوز أن يغسل الرجل امرأته.
دليلهم على هذا القول:
أولاً: حديث الباب, وقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة : (لغسلتك) طبعاً إذا صح الحديث, وقد ذكرنا أن فيه مغمزاً.
الدليل الثاني: أن علياً رضي الله عنه أوصى -كما عند ابن أبي شيبة وغيره- أن تغسله فاطمة رضي الله عنها، إذا صح هذا, طبعاً علي رضي الله عنه ماتت فاطمة قبله.
من الأدلة أيضاً: الآية الكريمة, وهذا استدلال لطيف لـابن حزم في المحلى , وابن حزم والظاهرية ممن يقولون بجواز أن يغسل الرجل امرأته, استدلوا بالآية الكريمة, وهي قوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12] بأن الله تعالى سماها زوجة حتى بعد الوفاة؛ لأن الآية الكريمة في المرأة المتوفاة: مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12], يعني: بعد موتها يرثها زوجها, ومع ذلك سماها الله تعالى زوجة, فدل على بقاء الزوجية وعدم انفصالها.
أيضاً القول الثاني في المسألة: أنه لا يجوز للرجل أن يغسل امرأته, وهذا مذهب الحنفية, وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد .
وحجتهم: انفصال عقد الزوجية بعد الوفاة. طيب ما معنى انفصال عقد الزوجية؟ وكيف عرفوا انفصال عقد الزوجية؟
قالوا: لأنه يجوز له إذا ماتت أن يتزوج أختها, بينما لو كانت حية لم يجز.
وكذلك قالوا: إذا كان عنده أربع -مثلاً- زوجات وماتت واحدة يجوز أن يتزوج رابعة بدلها, ولو كانت حية لم يجز.
وفي الواقع أن هذا باب مختلف؛ لأن ما يتعلق بالأختين الله تعالى قال: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23], يعني: الجمع بينهما في حال وجودهما معاً, وأما إذا ذهبت إحداهما بطلاق أو موت أو ما شابه ذلك فإنه يجوز أن يتزوج بأختها.
وهكذا أيضاً ما يتعلق بنكاح الرابعة, فإن الله تعالى أحل لنا أربع نساء, والدنيا هي دار التكليف, وليست الآخرة ولا القبر دار التكليف, فالتكليف بعدم الجمع بينهما أو بعدم الزيادة على أربع هذا إنما يكون في حال الدنيا وليس في حال الآخرة أو القبر أن تكون امرأة متوفاة ومع ذلك محسوبة ضمن العدد على الرجل. والباب مختلف. وهذا ليس قياساً, أو إن شئت فقل: هو قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الاختلاف, ولذلك نقول: إنه يجوز على القول الصحيح للرجل أن يغسل امرأته حتى لو لم يرد في المسألة نص؛ لأننا نقول: ما ورد من الأدلة السابقة كحديث الباب وغيره, ونقول: إن هذا هو الأصل؛ لأن الرجل يجوز له أن يرى من امرأته كل شيء في حال الحياة, فكذلك يجوز له في حال الوفاة. وقد يكون الرجل أكثر حرصاً -أحياناً- على تغسيل امرأته, وعلى إتقان ذلك وضبطه، فلذلك نقول: الأصل أنه يجوز بالأثر ويجوز بالنظر أيضاً, ولا يحتاج الأمر إلى قياس؛ لأن الأصل هو هذا, أن الرجل يجوز له أن يرى امرأته, كما يجوز للمرأة أن ترى زوجها.
ومما يعزز هذا الترجيح ما سوف نذكره بعد قليل من أنه يجوز للمرأة أن تغسل زوجها, وهذه المسألة باتفاق الفقهاء، فالأولى أيضاً ومثل ذلك أنه يجوز للرجل أن يغسل امرأته.
فيه قضية مداعبة الرجل أهله.
وفيه: قضية أنه لا بأس بالشكوى إذا لم تكن على سبيل التضجر, أن يقول الإنسان: وارأساه! أو ما أشبه ذلك, وقد قالها النبي صلى الله عليه وسلم وقالتها عائشة , وفيه جواز تغسيل الرجل أهله, وجواز تغسيل المرأة زوجها أيضاً.
وهنا فيه أيضاً مسألة من جنس المسائل التي ذكرتها قبل قليل, وقلت: إن الأولى تجاوزها, فالفقهاء لما ذكروا تغسيل المرأة لزوجها ذكروا مسألة افتراضية, وهي واقعة, يعني: ممكن أن تقع أيضاً, هل يمكن للمرأة أن تغسل اثنين وكلهم أزواج لها؟ هل يمكن؟ الفقهاء قالوا: نعم. وهو ممكن من الناحية النظرية, كيف؟ قالوا: رجل مات عن امرأة وهي حامل في آخر مدة الحمل, فمات الرجل فوضعت حملها, وبذلك خرجت من العدة بوضع الحمل, فتزوجت فوراً -انظر كيف القصة يعني- تزوجت ثم مات الزوج الثاني قبل أن يتم غسل وتجهيز الأول, ولهذا بعضهم اشترطوا وقالوا: يجوز للمرأة أن تغسل الأول ما لم تتزوج, البعض قد يقول: كيف ما لم تتزوج؟ هذه هي الصورة المفترضة.
وقالوا: إنه لا يمكن أن يحل للمرأة أن تستمتع بالنظر إلى جسدين, وأي استمتاع بالنظر إلى جسد ميت بقصد تغسيله؟ نعم، هناك شذوذات, هناك حالات اغتصاب لموتى أو ميتات, هذا يقع كثيراً في بلاد الغرب, ويقع في بلاد الإسلام, لكن الشاذ ليس له حكم, والبحث العلمي والفقهي ينبغي أن يبتعد عن بعض التفاصيل التي فيها إضاعة وقت -كما قلت- وشغل الذهن بأشياء هي أشبه بالألغاز والأحجيات, وأن يقبل الطلاب, وأنا أتقصد ذكر هذه المسائل والتنبيه عليها؛ لأننا نريد أن يكون طلبة العلم المتخرجون أن يكون عندهم يقظة ومتابعة, وليس كل ما تقرأ في الكتب تقوم بابتلاعه وهضمه, وإنما يحاول الإنسان أن ينتقي منه الجيد, فالكتب فيها الغث والسمين, وقد يعرض المسائل العلماء أحياناً في ظرف من الظروف عندهم سعة وبحبوحة, بينما أوضاع الأمة الآن حتى من الناحية العلمية والفقهية والحضارية وغيرها لا تسمح بمثل إعادة وتكرار وإنتاج مثل هذه الأقوال, وإطالة الوقوف عندها.
وأسماء بنت عميس هي زوجة أبي بكر , وقد أوصى أبو بكر رضي الله عنه أن تغسله أسماء بنت عميس نفسها, وكانت صائمة, فحلف عليها أن تفطر, فغسلته وقالت: (والله لا أتبعه إلى قبره حنثاً), يعني: أمرني أن أفطر فأطعته وهو ميت، وهذا من الأمثلة الجميلة التي تضرب في طاعة المرأة لزوجها، قالت: لا يدفن في قبره وقد أمرني، مع أنه لا يجب عليها؛ لأنه لا يحتاجها, ولكن قالت: (والله لا أتبعه حنثاً), فأفطرت, أمرت بشيء من ماء وشربته.
الحديث رواه الدارقطني كما ذكر المصنف, ورواه أيضاً البيهقي والشافعي وغيرهم في كتاب الجنائز.
ما يتعلق بإسناد الحديث: فإن في سنده عبد الله بن نافع القرشي، ويكنى بـأبي بكر, وكلام أئمة الحديث فيه شديد, وخلاصته: أنه منكر الحديث , ولذلك فهذا الحديث منكر.
وأيضاً في سنده مجاهيل, إذاً: فيه علة أخرى، وهي أن في سند الحديث مجاهيل.
وقد ذكرنا قبل قليل غسل الرجل لامرأته, الآن نذكر المسألة الأخرى, وهي أن المرأة تغسل زوجها, وهذه المسألة جائزة بالاتفاق, يجوز أن تغسل المرأة زوجها المتوفى, وقد نص على الإجماع في هذه المسألة ابن المنذر وابن عبد البر , والإمام أحمد قال: الناس لا يختلفون في ذلك, وابن رشد أيضاً في بداية المجتهد وغيرهم.
إذاً: اتفق الفقهاء على أنه يجوز أن تغسل المرأة زوجها, وهذا من الأدلة على أنه يجوز للرجل أن يغسل امرأته, ولكن كيف ينفصلون هم عن هذا الأمر؟ ليس لهم انفصال؛ لأن الرجل والمرأة على حد سواء فيما يتعلق بالموت, المسألة ليست طلاقاً, بحيث نقول: الطلاق بيد الرجل وليس للمرأة منه نصيب, وإنما إذا قلنا: إن الموت يفصل الزوجية أو ينهي الزوجية هذا الرجل أصبح أجنبياً عن امرأته.
إذاً: مسألة الحديث هي: أنه يجوز للمرأة أن تغسل زوجها.
ومن الأدلة على ذلك: حديث الباب, على أنه منكر كما ذكرنا في سنده.
أيضاً جاء عن أبي موسى الأشعري أنه أمر امرأته أن تغسله، وهذا الحديث عند ابن أبي شيبة , وهكذا نقل عن جماعة من السلف أنهم أوصوا أن تغسلهم نساؤهم, والإجماع قائم على هذه المسألة.
والحديث طويل جداً, وفيه قصة أن ماعزاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرده, ثم أقام عليه الحد, فجاءت هذه المرأة وهي الغامدية وردها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ( يا رسول الله! لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً
الحقيقة أن الإنسان يقف مستغرباً من هذه العظمة حتى عند العصاة في ذلك العصر الطيب الجميل؛ عصر الصحابة رضي الله عنهم, يعني: هذا شأن امرأة -يعني- غلبتها نفسها على شهوة حرام, ومع ذلك انظر صراحة الإيمان، وقوة الإيمان وصدق الإيمان في قلبها, وهي تعرف مصيرها, وقد شاهدت وعلمت ما جرى لـماعز , ومع ذلك تأتي به أول مرة, ثم بعدما ولدته بعد تسعة شهور ما هدأ الندم في قلبها, ثم بعدما أرضعته وزيادة على ذلك، تأتي به وفي يده كسرة خبز؛ لتقدم دليلاً مادياً على أنه قد أكل الطعام أيضاً، فأقام النبي صلى الله عليه وسلم عليها الحد رضي الله عنها وأرضاها.
فيه ذكر الغامدية , وهي من غامد, غامد كما يقول العلماء: بطن من جهينة, وقيل غير ذلك .
وهذه المرأة هل هي صاحبة ماعز أو غيره؟ الله تعالى أعلم.
والرجم -المذكور بالحديث هنا- له عدة معان في اللغة, من معانيه: الضرب والرمي بالحجارة، وهذا هو المعنى المقصود.
ومن معاني الرجم: اللعن، ومنه نقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأنه مرجوم، يعني: مطرود وملعون.
ومن معاني الرجم أيضاً، القذف، ومن معاني الرجم: الظن, كما في سورة الكهف: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ [الكهف:22], يعني: رمياً من غير دليل ولغير بينة, ولذلك يقرب منه ما ذكرته أنه يعني الظن الذي لم يحقق ولا دليل عليه.
من معاني الرجم أيضاً: القبر, ولهذا يقال: الرجوم, يعني: القبور, ورجم فلان يعني: قبر فلان, وهذا كثير في أشعار العرب.
المحدود هو المقتول في حد، هل يصلى عليه أو لا يصلى عليه؟
أولاً: ما يتعلق بصلاة عامة الناس عليه هذا لا خلاف فيه أنه يصلى عليه, ويصلى على كل مسلم, وهذه من المعاني المهمة جداً, والعلماء يفيضون فيها لا خلاف بينهم أن كل من كان ظاهره الإسلام يصلى عليه من غير تفصيل .
ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم صلى على عبد الله بن أبي ابن سلول , والصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون على المنافقين, وعلى العصاة, وعلى المستورين, وعلى كل أحد, ولا زال المسلمون خلفاً عن سلف يتوارثون هذا المعنى؛ لأن الأصل بقاء عصمة الإسلام, وحفظ الناس من أن يقال فيهم بغير حق, أو أن يتهموا, وهذا أيضاً يدل على النهي عن التكفير وإخراج المسلم من دينه, وهي فتنة وقع فيها بعض الناس, وتحولت إلى وسواس وإلى افتتان وإلى كبر وإلى إعجاب بالنفس وإلى ازدراء للخلق, ولذلك من المهم جداً تكريس هذا المعنى, الصلاة على المستورين من المسلمين, حتى المحدودين, يعني: من أقيم عليه الحد وغيره .
لكن اختلف العلماء في صلاة ذوي الأقدار, يعني: من لهم قدر مثل الإمام والشخص المعظم هل يصلي عليهم أو لا يصلي عليهم؟
فبعض أهل العلم قالوا -كما نقل عن الإمام أحمد رحمه الله ومالك - أنه يكره أن يصلي عليهم, يكره لا يحرم, لماذا يكره؟ قالوا: من أجل الردع, ردع الناس أن يقعوا في مثل ما وقع فيه هذا الإنسان, وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصلاة على ماعز وهذا لم يثبت, وقال الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرو عنه أنه ترك الصلاة على أحد إلا على الغال وقاتل نفسه, ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أذن بالصلاة عليهم, ولكن لم يصل هو عليهم, هذا من باب التأديب.
القول الثاني: وهو قول جمهور أهل العلم كالشافعية والأحناف والظاهرية وغيرهم أنه يصلى على كل أحد, ويصلي عليه كل أحد, الإمام وغيره يصلون عليه.
والأقرب في هذه المسألة والله أعلم: أن الأمر متروك للمصلحة, يعني: ترك الصلاة هنا هو أمر استصلاحي, إن كان الأمر يستدعي زجراً وتأديباً مثل انتشار بعض الذنوب وحاجة الناس إلى ردع فيها فرأى الإمام الامتناع عن الصلاة, أو كان ثمة مصلحة فعل, وإن كانت المصلحة في الصلاة صلى, مثل أن يكون في ذلك تأليف للقلوب أو دفع لفتنة.. أو ما أشبه ذلك فيكون الأولى والأفضل أن يصلي.
إذاً: نقول: ليس في هذه المسألة حد فاصل, وإنما الأمر فيها موكول ومتروك إلى ما هو المصلحة, فهي قضية مصلحية.
ومما يتعلق بهذا الباب باب الصلاة باب آخر, وهو باب الترحم, فإن الأصل جواز الدعاء لكل مسلم بالمغفرة والرحمة , أو لا؟ والله سبحانه وتعالى ما نهى أن نستغفر لأحد إلا من؟ إلا المشركين: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113]، فلذلك نقول: يجوز الترحم على كل مسلم, لكن أحياناً بعض الذين.. يعني خصوصاً إذا كانت القضية حارة وساخنة, اشتهروا -مثلاً- بضرر أو فساد أو عدوان أو ظلم وإن لم يجزم الإنسان بتكفيرهم إلا أنه قد يترك الترحم عليهم, من باب النكال ومن باب التأديب, وهذا نقل عن الإمام أحمد -مثلاً- في شأن يزيد بن معاوية , ونقل عن جماعة في شأن الحجاج بن يوسف وغيرهم.
مشروعية الصلاة على كل أحد, ولهذا قال هنا: ( أمر بها فصلي عليها )، وهكذا الصلاة على ماعز بن مالك فالمؤكد أن المسلمين صلوا عليه، فمن فوائد الحديث: مشروعية الصلاة على كل أحد من المسلمين براً كان أو فاجراً.
ومن فوائده أيضاً: جواز الصلاة خلف كل أحد من المسلمين؛ براً كان أو فاجراً كما سبق تفصيله في باب الإمامة.
ومن فوائد الحديث: إقامة الحد على الزاني المحصن إذا ثبت بشرطه.
ومنه: فضيلة الغامدية وما كتب الله تعالى لها ولـماعز من التوبة الصادقة والقبول الحسن, حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ), وفي لفظ: ( لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ). أي نعم.
الجواب: نعم, المحرم يكفن في ثيابه, النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وكفنوه في ثوبه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ) ولم يقل: إنه يبعث بثيابه التي مات فيها, وإنما يبعث ملبياً, بمعنى: أنه محرم حتى بعد الموت, ولهذا لا يلبس ثياباً لا يلبسها المحرم, ولكن ليس في الحديث أنه يبعث في الثياب التي مات فيها. والله أعلم.
الجواب: نعم. المحدودون يدفنون في مقابر المسلمين, وقد جاء في قصة المرأة التي رجمها علي أن قومها سألوا علياً رضي الله عنه، فقال: (اصنعوا بها ما تصنعون بأمواتكم), يعني: في جميع الأحكام والمعاملات.
الجواب: إجماع العلماء على جواز ذلك، والأدلة مثلما ذكرنا وصية أبي موسى ووصية أبي بكر الصديق , يعني: فعل الصحابة رضي الله عنهم, والأصل أيضاً الاعتضاد بالأصل. نعم.
الجواب: نعم، هذا صحيح أيضاً. (لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه)، هذا دليل على أنه يجوز أن تغسل المرأة زوجها، والحديث هذا أيضاً حديث: (لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا), فيه ابن إسحاق أيضاً, ولكن مجموع الأحاديث يدل على ذلك.
سبحانك اللهم وبحمدك, نشهد أن لا إله إلا أنت.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر