إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه وخيرته من خلقه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الجنائز].
ورقم هذا الدرس (192) من سلسلة: أمالي شرح بلوغ المرام، وهذا يوم الإثنين، العشرون من شهر جمادى الأولى من سنة (1426هـ)، وهذا جامع الراجحي بـبريدة، الدرس ضمن سلسلة دروس الدورة العلمية الرابعة.
(كتاب الجنائز)، وفيه أحاديث كثيرة تصل إلى نهاية خمسمائة وتسعة وتسعين حديثاً، يعني: حوالي أكثر من ستين حديثاً، ولن نستطيع إنجازها في هذه الدورة لكن نأخذ منها ما تيسر، وبإنجاز كتاب الجنائز نكون قد انتهينا من كتاب الصلاة.
علماً أن كتاب الجنائز -كما أسلفت لكم وأشار إليه كثير من المصنفين- أنه كتاب مستقل، حتى في كتب السنة وغيرها، يصنف مستقلاً، وبعضهم يقولون: إن العلماء وضعوا كتاب الجنائز بين الصلاة وبين الزكاة لتعلقه بالبابين معاً؛ والذي يظهر لي أن في هذا نوعاً من التكلف، وأن الصواب أن الجنائز وإن كان كتاباً مستقلاً إلا أنه ملحق بكتاب الصلاة؛ لأن الأصل صلاة الجنازة، وما يذكر بعدها فإنما هو تابع لها .
المصنف رحمه الله ذكر عدداً من الأحاديث:
أولها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه ورقمه (534): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت )، وقد عزاه المصنف للترمذي والنسائي، وصححه ابن حبان .
وهذا الحديث في سنده شيء: فإنه من رواية محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ومحمد بن عمرو بن علقمة وإن كان صدوقاً إلا أن في روايته عن أبي سلمة شيئاً، وقد أعلَّ الإمام أحمد هذا الإسناد، وكذلك أعله الدارقطني بأن محمد بن عمرو بن علقمة أحياناً يروي عن أبي سلمة ويقف، وأحياناً يروي عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فهو مرة يروي الحديث مرسلاً -يعني: بدون ذكر أبي هريرة - ومرة يرويه متصلاً مسنداً إلى أبي هريرة رضي الله عنه، وأن هذا يكثر في حديثه، وبهذا ضعفوا روايته كهذا الحديث وغيره.
ولذلك الإمام أحمد عدَّ هذا الحديث حديثاً منكراً، وكذلك الدارقطني قال: إنه لا يصح. ولكن كثيراً من أهل العلم صححوا هذا الحديث أو حسنوه، وممن ذكر المصنف أنه صححه: ابن حبان، وكذلك ذكرنا أن الحاكم صححه وقال: على شرط الشيخين. وهكذا وافقه الذهبي على ذلك. والترمذي مثل ذلك والنووي والألباني .. وغيرهم.
وأقول: لعل الذين صححوا هذا الحديث أو حسنوه صححوه بشواهده وليس بمجرد إسناده، فالحديث له شواهد:
منها: حديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أكثروا ذكر هاذم اللذات، فإنه ما ذكر عند ضيق إلا وسعه، ولا عند سعة إلا ضيقها )، وحديث ابن عمر رواه الطبراني وفي سنده مجهول .
وله شاهد آخر أيضاً عن أنس رضي الله عنه عند الطبراني وأبي نعيم والبزار، وشاهد أنس صححه ابن السكن وحسنه المنذري، والواقع أنه حسن، وإن قيل بضعفه مطلقاً فلا بأس بذلك؛ لأنه ليس له طريق يصح.
وأمثل وأفضل الأحاديث في الباب هو حديث ابن عمر عند الطبراني وفيه مجهول، أما حديث أنس ففيه منكر الحديث، وأما حديث الباب ففيه انقطاع -كما ذكرنا-.
ولكن مما يُسهل الأمر: أن الحديث في باب عام وهو في باب الوعظ والذكر والتخويف، وليس يتعلق به حكم معين، وإن كنت سأذكر ملاحظة في متن الحديث بعد قليل.
فأولاً: الجنائز كما هو عنوان الباب، الجنائز: جمع، والمفرد: جنازة، وتنطق بفتح الجيم وبكسرها. فإذا قلنا: جَنازة أو جِنازة كلاهما صحيح.
وبعض أهل اللغة فرقوا، فقالوا: إن الجِنازة -بالكسر- يطلق على النعش، وأما الجَنازة -بالفتح- فإنه يطلق على الميت نفسه، ولا يكون ذلك إلا إذا كان الميت فوق النعش. يعني: الميت المسجَّى على النعش يسمى جَنازة بالفتح، وبالكسر جِنازة يطلق على النعش، أو على النعش فوقه الميت، وبعضهم عكس، والأول هو المشهور.
إذاً: هذا هو معنى الجنائز.
وبحث الجنائز في الغالب هو بحث -كما قلت- يدخل فيه جانب التذكير، وجانب أحكام الميت: كالوصية، والصلاة، والدفن، والاستغفار، وحسن الخاتمة، وسوء الخاتمة.. وغير ذلك من الأحكام، ويلحق العلماء به الحديث عن وصول الثواب إلى الميت، وما يخفف به عنه، وعذاب القبر.. وغير ذلك من الأحكام.
وقد صنف الشيخ الألباني بالمناسبة رسالة طيبة اسمها: أحكام الجنائز وبدعها، وهو كتاب مشهور طبع طبعات كثيرة جداً، والكتاب جيد، وفيه جهد عظيم، وفي آخره وضع الشيخ ملحقاً ببدع الجنائز، وربما يكون توسَّع في ذكر البدع وألحق منها ما لا يصلح أن يوصف بأنه من البدع، لكن للشيخ رحمه الله طريقته واجتهاده ودقته وحرصه، المهم أن هذا معنى الجنائز.
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروى في هذا الحديث: ( أكثروا ذكر هاذم اللذات )، أكثر العلماء والرواة رووه بالذال المعجمة: (هاذم) بالذال، والهذم: هو القطع، فكأنه يقول: أكثروا ذكر قاطع اللذات، ومعنى كونه قاطعاً للذات يحتمل معنيين:
إما أن يكون المعنى أن مجيء الموت ينهي اللذة، فإن الناس مهما تمتعوا إذا جاء الموت حال بينهم وبين ما يشتهون، فيكون الموت قاطعاً لاستمتاعهم ونعيمهم في الدنيا، وهذا واضح.
ويجوز عندي أن يكون للحديث معنى آخر، وهو: أن يكون ذكر الموت هاذماً للذات: ( أكثروا ذكر هاذم اللذات ) يعني: الموت ليس فقط بمجيئه يهذم اللذات ولكن مجرد ذكره.
يهذم اللذة يعني: يقطعها، فإن الإنسان إذا كان مسترسلاً في لذة أو نعيم فذكر الموت ربما قطع استمتاعه، وهنا نذكر قصة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما وُسِّع عليه في المال وقُرِّب له يوماً ما طعام فتذكر وبكى وقال أنه ذكر: ( أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معهم مصعب بن عمير
فيجوز أن يكون المعنى إذاً: أن مجرد ذكر الموت يهذم اللذة، والمعنيان قريب من قريب.
وفي الحديث رواية أخرى -وإن لم تكن بالمشهورة- وهي أن (هادم) بالدال، بالدال المهملة، يعني: التي ليس عليها نقطة، فهي من الهدم إذاً هادم اللذات، وهذا أيضاً معنى واضح: أن مجيء الموت يهدم اللذة، كأن اللذة بناء فإذا جاء الموت هدمها وأزالها.
وقد ذكر المعلق رواية أخرى بمعنى: (هازم) بالزاي (هازم اللذات)، والذي يظهر لي أنها تصحيف، وإن كان لو ثبتت الرواية لها معنى ولها وجه، ولكن الأقرب أنها تصحيف، وأكثر الرواة بل وأكثر أئمة اللغة يذكرونه بالذال: (هاذم) كـالخطابي وغيره.
وأما اللذات: فهي جمع لذة وهي المتعة أياً كانت، سواءً كانت بأكل أو شرب أو لهو أو أهل.. أو غير ذلك.
البخاري
ومسلم
وغيرهما فإنك لا تجد أمراً بذكر الموت مجرداً، بل في القرآن مثلاً الله سبحانه وتعالى حين يمدح الأنبياء والرسل يقول: (( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ))[ص:46] ماذا؟ (( ذِكْرَى الدَّارِ ))[ص:46] ما قال: ذكرى الموت؛ لأن ذكر الموت مجرداً يمكن أن يكون حسناً ويمكن أن يكون غير ذلك، فإذا كان ذكر الموت على سبيل الاستعداد له، والامتناع عن الذنب، والإقلاع عن المخالفة، فهذا لا شك أنه محمود، وكم من إنسان يوعظ بالموت، سواءً برؤية مشاهد الموتى، أو بتصور الموت، أو باستذكاره، فيقلع عما هو عليه، فهذا وجه محمود، لكن قد يكثر الناس من ذكره -كما أشار الإمامابن القيم
في زاد المعاد - فيطيلون في كتب الوعظ بذكر ما يفعله الدود في الأجساد، وتصور الإنسان في قبره، وكيف حاله.. إلى غير ذلك من الأشياء التي هي عبارة عن عدمية محضة، قد تورث عند الإنسان نوعاً من الانقباض عن الدنيا، ولكنها لا تفعل عنده نوعاً من الإيجابية والفعل والعمل في هذه الدار. ولذلك يشترك في ذكر الموت أحياناً حتى بعض غير المؤمنين، الكفار مثلاً يقولون: (( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ))[المؤمنون:82]، فهم يذكرونه ويعرفون أنه آت، وكثير من الشعراء الذين يسترسلون، مثلاًأبو العتاهية
كثيراً ما تجد في ديوانه ذكر الموت والحفر والبلاء والدود.. وغير ذلك، ومع هذا تكلم بعض الأئمة والعلماء في سيرته، وبعضهم اتهموه، ولكن نحن نقول: إن هذه التهمة بعيدة ولا دليل عليها والأصل براءة المسلم. لكن يشار إلى أن ذكر الموت مجرداً ليس فيه أجر، يعني: لو أن الإنسان ذكر الموت الموت الموت الموت، لا يكتب له أجر بذكر الموت، وإنما يكتب له أجر بذكر الله.. بقراءة القرآن.. بالصلاة على رسول الله.. بفعل الخير.. وما أشبه ذلك، ويكتب له أجر إذا تذكر الموت على الصفة الشرعية التي أشرنا إليها. كما أن هناك صورة ثالثة غير محمودة يقع فيها من يذكرون الموت وهي: أن يتحول الموت إلى كابوس يسيطر عليهم ويخيفهم، فيصبح الواحد منهم مريضاً بالخوف، وهذا أشرت إليه في محاضرة: (أنا خائف) وزعتها عليكم، وأتمنى أن تسمعوها؛ لأنها مفيدة في هذا الباب وغيره. إن البعض قد يوسوس حتى يتحول إلى نوع من المرض النفسي في تخيل الموت، حتى إنه لا يستطيع أن يأكل جيداً، ولا أن ينام، فيصيبه قلق، ولا أن يستمتع بأهله، ولا أن يعيش مع أطفاله، وكلما اجتمع مع صبيانه تخيل الموت وقد أخذه عنهم وبقي هؤلاء الصبيان أيتاماً فدمعت عينه، وحيل بينه وبين ما هو مشروع، بل قد يترتب على ذلك أن يقصر فيما أوجب الله عليه من الحقوق وغير ذلك. فهذا من التفصيل الذي أردت أن أقوله في موضوع ذكر الموت والوجه المحمود منه والوجه غير المحمود. فهذه إحدى فوائد الحديث. ومن فوائد الحديث: فساد الاسترسال في اللذة: فإن قوله: (عمر بن الخطاب
رضي الله عنه يكثر أن يستشهد بأبيات من الشعر، يقول: لا شيء مما يرى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له بأمر ربك لم يعلم بها أحد إلى غير ذلك. وهكذا أيضاً الأئمة،عمر بن عبد العزيز
رضي الله عنه لما ولي الخلافة وكان الشعراء جرت العادة أنهم يهنئون الملوك بالسلطان والرياسة ويقولون قولاً طويلاً، فتغيرت اللهجة؛ لأنعمر
رضي الله عنه كان صاحب زهد وإعراض، فجاءه الشعراء يعرضون عليه معاني أخرى: وبينما المرء أمسى ناعماً جذلاً في أهله معجباً بالعيش ذا أنق غراً أتيح له من حينه عرض فما تلبث حتى مات كالصعق ثمة أضحى ضحى من غب ثالثة مقنعاً غير ذي روح ولا رمق يبكى عليه وأدنوه لمظلمة تعلى جوانبها بالترب والفلق فما تزود مما كان يجمعه إلا حنوطاً وما واراه من خرق وغير نفحة أعواد تُشب له وقلَّ ذلك من زاد لمنطلق فلا شك أن الاسترسال وراء اللذة يضر بالإنسان، وأن على المرء أن يداوي قسوة قلبه بتذكر الموت؛ ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة الأمر بزيارة القبور، كما في حديثمسلم
: (ولهذا مثل هذا الحديث المصنف رحمه الله وإن قال: متفق عليه، إلا أنه يصح أن نقول: رواه السبعة؛ لأنه رواه مع الشيخين أصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد في المسند، فقد خرَّجه السبعة، وغير ذلك أيضاً: ابن حبان وابن أبي شيبة والبيهقي والطبراني .
منها: حديث خبيب بن عدي رضي الله عنه وهو في المتفق عليه أيضاً: ( أنهم دخلوا عليه يعودونه وهو مريض، فقال: والله لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني الموت لتمنيته )، ثم ذكر قصته في أول الإسلام وآخره.
ومن شواهده أيضاً حديث عن أبي هريرة أو عن سعيد بن عبيد مولى ابن أزهر، والواقع أنه حديث واحد لكن مرة يروى عن سعيد وهو يرويه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يتمنين أحدكم الموت، فإما محسناً فلعله يزداد، أو مسيئاً فلعله ينزع )، لاحظ الفائدة: ( إما محسناً فلعله يزداد ) يعني: يزداد من الإحسان، والحديث في صحيح البخاري وغيره، محسن يعمل صالحاً فلا يتمنى الموت؛ لأن العمر يزيده خيراً، ( أو مسيئاً ) لا يتمنى الموت ( فلعله أن ينزع )، يعني: يتوب من إساءته ومن معصيته.
واللفظ الآخر للحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً قال: ( لا يتمنين أحدكم الموت ولا يرجه من قبل أن يأتيه، فإن المؤمن إذا مات انقطع عمله، ولا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً ) وهو بهذا اللفظ عند مسلم.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( فإن المؤمن إذا مات انقطع عمله )، نقول: هذا عموم: (انقطع عمله)، ولكن يستثنى منه ماذا؟ ما جاء في الألفاظ الأخرى مثل قوله: ( انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )، وهذا المقصود فيه انقطاع ماذا؟ لفظ الحديث: (انقطع عمله)، يعني: العمل الذي مصدره هو، وأما عمل الآخرين فإن الحديث لم يتعرض له، وهذه فائدة، فانقطاع العمل هنا يعني: العمل الذي قام به هو، وأما عمل الآخرين: كدعاء الناس له، أو صدقاتهم عنه.. أو ما أشبه ذلك فهو باب آخر.
وأيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً ) يعني: أن استمرار الإنسان في الحياة وهو مؤمن، الإيمان هو أعظم الطاعات، وما يترتب على ذلك من أداء الصلاة وصوم رمضان والدعاء.. وغير ذلك من الأعمال الصالحة.
والحديث نهي: ( لا يتمنين ) وهو نهي مؤكد بنون التوكيد الثقيلة، دليل على شدة النهي عن تمني الموت.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لضرٍ نزل به )، الأقرب والله أعلم أن المقصود بالضر هاهنا يعني: الضر الديني أو الدنيوي؟ الدنيوي نعم، يعني: لمرض.. لفقر.. لحاجة.. لمشكلة عائلية.. لهمّ.. لغمّ، أنه لا يتمنى ذلك.
( لضر نزل به ) يعني: من أمر الدنيا مما قد يصيب الناس.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( فإن كان لابد فاعلاً ).
قوله: (لا بد) يعني: لا مندوحة، وكان الإنسان لابد داعياً ومتمنياً، يعني: الأفضل أن لا يتمنى قط، ولا يدعو بالموت من قبل أن ينزل به، ولاحظ القيد الذي ذكرناه قبل قليل: ( لا يتمنين أحدكم الموت ولا يرجه من قبل أن يأتيه )، فهنا قال: (لا يتمنين)، لكن إذا كان ولا بد وأصر الإنسان علمه النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء المأثور، وهو أن يقول: ( اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي )، وهذه هي الرواية الأوضح، أنه دعا بالحياة: (أحيني) يعني: أبقني حياً، ( ما دامت الحياة )؛ لأنه هو حي؛ ولهذا كان من المناسب أن يقول: (ما دامت)؛ لأنها موجودة فالمقصود استدامتها.
وأما الموت فقال: ( وتوفني إذا كان )، فأتى بأداة الشرط المستقبلة، وهي: (إذا)، إشارة لأن الموت أمر مستقبل لم يقع بعد وقت الدعاء.
وظاهر الحديث يدل على كراهية تمني الموت لسبب دنيوي.
وذهب بعض أهل العلم إلى تحريم ذلك لظاهر النهي.
وظاهر الحديث يدل على الكراهة؛ لأنه قال في آخر الحديث: ( فإن كان ولا بد )، فدل على أن الأمر ليس نهياً على سبيل الجزم والقطع، وإنما على سبيل الكراهة، فتمني الموت مطلقاً مخالفة لما هو الأفضل والأحسن مما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر أهل العلم أنه يمكن أو يسوغ للإنسان تمني الموت في أحوال:
الحالة الأولى منها: إذا كان ذلك لغرض ديني أو شرعي، أو خشي الإنسان الفتنة على نفسه في الدين فإن هذا لا يمنع من تمني الموت، وقد كان في الدعاء الذي رواه النسائي وغيره وسنده جيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم الدعاء ومنه: ( أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون )، فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوا بالقبض عند الفتنة.
والمقصود هنا:
إما أن تكون الفتنة التي تعرض للإنسان في دينه فيحب أن يموت قبل أن يُفتن.
أو الفتنة العامة التي تقع بين الناس: من القتال والاختلاف والتطاحن، والتي يضيع الأمر فيها فلا يعرف الناس الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، ويكون هناك جرأة على الدماء، وهذا من أعظم معاني الفتنة في الإسلام، فلذلك يتمنى الإنسان أو يدعو بالموت عند الفتنة أن يُقبض إلى ربه جل وعز وهو غير مفتون.
وكذلك قد يرى الإنسان أنه وصل إلى حال لا يريد أن ينقص عنها؛ ولهذا صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال في آخر عمره: (اللهم قد كبرت سني، ورقَّ عظمي، وكثرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مفتون ولا مضيع)، فكون عمر رضي الله عنه يدعو بهذا الدعاء -والله أعلم- هذا فيما ظهر لي لأن عمر رضي الله عنه على ما هو عليه من القوة أنه لم يكن يرضى بأقل مما هو يريد ويتمنى، فإذا ضعفت قوته وهو الإمام الخليفة تمنى أن يُقبض على تلك الحال من القوة والاستمساك والالتزام بما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نُقل هذا عن عمر بن عبد العزيز وعن جماعة من الصحابة والسلف والتابعين رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقد يُحمل بعض ما ورد على معنى آخر، إما أن يكون لم يبلغه النهي، أو يكون عالماً من نفسه حالة خاصة.. أو ما أشبه ذلك.
الحالة الثانية التي يجوز فيها تمني الموت من غير كراهة: هي ما إذا دنا الموت بالإنسان، إذا دنا الموت من الإنسان فيكون يتمنى أن يقبض على الإسلام، ولعل من هذا الباب قول يوسف عليه الصلاة والسلام: أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101].
وكذلك نُقل عن جماعة مثل هذا المعنى، ولعل هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة الذي في صحيح مسلم : ( أن المؤمن إذا حضره الأجل أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه )، فيكون في هذه الحالة هو لم يتمن الموت من قبل أن يأتيه، ولكن لما دنا الموت كأنه فرح به، وهذا مشهور عن الصحابة، معاذ رضي الله عنه عندما أصبح قال: ( لا أفلح من ندم، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، أعوذ بالله من ليلة صبيحتها إلى النار )، وهكذا عدد من الصحابة رضي الله عنهم نقل عنهم مثل هذا المعنى، فهذا مما يستثنى ويدل على الجواز.
جابر
رضي الله عنه وهو في صحيحالبخاري
، وقال حديثجابر
المشهور: (البخاري
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مسلم
حديثصهيب
: (ابن القيم
- الإحجام في موضع الإحجام، والإقدام في موضع الإقدام، بعض الناس قد يعجز مثلاً عن أن يصبر على أمر يسير جداً، ومع ذلك يصبر على خوض المعارك ويُقتل فيها، فتتعجب: هذا الإنسان الذي لم يستطع أن يصبِّر نفسه على أمر يسير كيف أقدم على ذلك الأمر الكبير؟! هذا ليس بالضرورة دليلاً على حصول الصبر، لكنه دليل على نوع من الاندفاع غير المنضبط في شيء، والضعف المفرط أيضاً في شيء آخر كما ذكرنا فيما سبق.الثلاثة هم: الترمذي والنسائي وابن ماجه .
وقد رووه جميعاً في كتاب الجنائز في باب المؤمن يموت بعرق الجبين، هذا عند الترمذي، والنسائي قال: باب علامة موت المؤمن، فكأنه اعتبر أن الحديث يدل على أن عرق الجبين هي علامة موت المؤمن.
و ابن ماجه أيضاً في الجنائز؛ باب المؤمن يؤجر عند النزع.
ورواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه وصححه، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي .. وغيرهم.
وفي سند الحديث رواية قتادة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، الحديث من رواية قتادة بن دعامة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، وفي هذا السند شيء، وبذلك أعله البخاري والترمذي .. وغيرهما بأن قتادة لم يسمع من عبد الله بن بريدة، وقتادة مدلس ويمكن أن يكون لقيه من الناحية التاريخية لكنه مدلس، ولم يُحدِّث عنه مباشرة، والعلماء يقولون: لا يعرف لـقتادة سماع من عبد الله بن بريدة ؛ ولهذا فالأقرب لهذا الحديث أنه منقطع، الأقرب أنه منقطع.
ولكن له شاهد عن ابن مسعود رضي الله عنه عند الطبراني في معجمه الأوسط وسنده لا بأس به، والذي يترجح عندي أنه موقوف على عبد الله بن مسعود من قوله هو، والدليل على ذلك أنه أيضاً عند مسدد كما في كتاب المطالب العالية لـابن حجر : أنه رواه ونسبه إلى مسدد في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من قوله أنه قال: ( المؤمن يموت بعرق الجبين، فتبقى عليه خطايا عند موته يجازيه الله تعالى بها، فيعرق من ذلك جبينه )، وسنده أيضاً لا بأس به.
فيتلخص من ذلك: أن الحديث ثابت موقوفاً عن ابن مسعود وغيره، ولعل هذا هو الأقرب في الحديث أنه موقوف ولكن له حكم الرفع، والله أعلم؛ لأنه مما لا يقال بالرأي، بل هو من أمر الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى أو من يُخبر من عباده، فيكون الصحابة تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: ( المؤمن يموت بعرق الجبين ): العرق معروف، وهو الماء الذي يخرج من الإنسان عند الحر، أو عند الحرارة في بدنه، أو عندما تنزل به نازلة.
والجبين هل هو الجبهة أم شيء آخر؟
يحتمل أنه الجبهة، وهذا مشهور عند المغاربة حيث يطلقون الجبهة على الجبين، وهذا جاء فيه حديث حتى في مسلم في قول الله سبحانه وتعالى: (( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ ))[التوبة:35]، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة : ( فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة )، فعبَّر بالجبين عن ماذا؟ عن الجبهة المذكورة في الآية: (جباههم) عبر عنها في الحديث بالجبين.
ولكن أهل اللغة يرون أن الجبين غير الجبهة، فالجبين في الغالب عندهم هو طرف الجبهة من اليمين واليسار؛ ولذلك يكون للإنسان جبينان، وأما الجبهة فقد تكون ما بينهما، أو تكون الجبهة أعم من ذلك، فتطلق على مجموع ما هو أسفل الرأس وأعلى الوجه، هذا على كل حال أمر يسير.
طيب، قول النبي صلى الله عليه وسلم أو ابن مسعود : ( المؤمن يموت بعرق الجبين )، ما معناها؟ قرأت ما كتبه أهل العلم في شرح هذا الحديث فوجدت اختلافاً كثيراً ولا مرجح.
فبعضهم يقولون: إن معنى الحديث: أن المؤمن يجهد ويكدح في طلب الدنيا حتى يموت وهو يعرق، وهو مأجور على كدحه وجهده، وهذا المعنى بحد ذاته صحيح وإن لم يكن الحديث صريحاً في الدلالة عليه.
وقال آخرون: إن المعنى: ( يموت المؤمن بعرق الجبين ): أن هذه علامة وضعها الله تعالى على خروج الروح، وهذا جاء في حديث لكنه منكر، وأشار إليه الإمام النسائي في تبويبه كما ذكرت، قال: باب علامة موت المؤمن، يعني: عرق الجبين، فعلى هذا يكون قوله صلى الله عليه وسلم: ( المؤمن يموت بعرق الجبين ) يعني: إذا عرق جبينه فاعلم أنه قد انتهى، أو يُئس منه، أو خرجت روحه، أو أنه في النزع، فتكون هذه علامة جعلها الله تعالى لموت المؤمن.
ومنهم من قال: إن معنى الحديث: ( أن المؤمن يموت بعرق الجبين ) يعني: أن الله تعالى يخفف عن المؤمن نزعات الموت وسكراته، حتى إنه يعرق جبينه فقط، بينما الموت شدة عظيمة، حتى إنه ورد في وصفه بالشدة أنه: (مثلما يُطعن الإنسان بالخناجر والسكاكين في جوفه وبطنه)، ومع ذلك المؤمن تخرج روحه بسهولة ويعرق من ذلك جبينه، فيكون ذلك دليلاً على تخفيف سكرات الموت.
ومنهم من قال بنقيض ذلك: أن عرق الجبين دليل على تشديد سكرات الموت على المؤمن، كما قال ابن مسعود في الأثر السابق أنه: ( يبقى على المؤمن ذنوب فيكتب الله تعالى أو يريد أن يشدَّد عليه، حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة ).
و عائشة رضي الله عنها كانت بعد ما رأت موت النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان عند الموت يتفصَّد جبينه ويظهر منه التألم، فتقول فاطمة : ( وا كرب أبتاه! فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد الموت )، وهو يقول: ( الله أكبر، إن للموت لسكرات )، فتقول: ( ما أغبط أحداً بهون موتٍ بعد الذي رأيت من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ).
وبعضهم يقول: إن عرق الجبين معناه: الحياء، أن المؤمن يستحي من ربه؛ لأنه يرى الخير ويرى البشارة والفضل من الله سبحانه وتعالى ويتذكر ما فرط منه من الذنب والتقصير فيعرق جبينه خجلاً وحياءً، ويظل الحديث والأثر: ( المؤمن يموت بعرق الجبين )، محتملاً لكل هذه المعاني.
والواقع أن هذين حديثان وإن كان المصنف جمعهما على عادته أحياناً في التسامح، وإلا فمن حقهما أن يكونا رقمين؛ لأن حديث أبي هريرة مستقل وحديث أبي سعيد مستقل، وقد جمعهما المصنف.
قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله ) رواه مسلم والأربعة.
والحديث أيضاً رواه أحمد وابن حبان وابن أبي شيبة والبيهقي والطبراني .. وغيرهم.
منها: حديث عن عائشة رضي الله عنها عند النسائي، وحديث عن ابن مسعود عند الطبراني وسنده حسن.
وفي الباب أيضاً أحاديث كثيرة:
منها: حديث معاذ رضي الله عنه عند أبي داود وغيره وسنده جيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة ) .
ومنها أيضاً: حديث سعيد بن المسيب عن أبيه وهو في البخاري ومسلم، في قصة مجيء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي طالب وتلقينه لا إله إلا الله: ( يا عم، قل: لا إله إلا الله؛ كلمة أحاج لك بها عند الله.. ) إلى آخر الحديث المشهور.
وأيضاً في الصحيحين قصة الغلام اليهودي الذي دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( تشهد أن لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله، فقالها، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار )، وفي البخاري هذا الحديث.
فهذه الأحاديث كلها تدل على موضوع التلقين.
قوله: ( لقنوا موتاكم لا إله إلا الله )، التلقين ما هو؟
التلقين قد يكون هو التعليم، أو التفهيم، أو التذكير، كلها تدخل في التلقين؛ ولذلك تقول: لقنت الصبي العلم، يعني: فهمته، وتقول: هذا صبي لقن، يعني: سريع الفهم سريع الحفظ.
وقد يكون معنى التلقين هو التذكير؛ لأن الميت الآن لا يُفهَّم شيئاً لم يكن يعلمه من قبل، وإنما يذكَّر بما يعلم؛ لأنه بسبب شدة سكرات الموت عليه يحتاج إلى تذكيره بلا إله إلا الله.
طيب، قوله: ( موتاكم )، ما المقصود بها؟
(موتاكم) يعني.
مداخلة: ...
الشيخ: المحتضرون؛ لأن الميت لا يلقن إذا مات وإنما يلقن عند الموت، فهو سمي ميتاً باعتبار ما يئول إليه أمره، فالمقصود بالأموات هنا المحتضرون ومن دنا موتهم.
طيب، قوله: ( لا إله إلا الله )، ما معناها؟
مداخلة: ...
الشيخ: الشهادتان صحيح! يعني: لقنوهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويستغنى بالأولى عن الثانية؛ لأن الثانية تأتي تبعاً، فالمقصود أن يلقنهم الشهادتين.
وهي سنة عند جمهور أهل العلم، وذكر القرطبي في كتاب التذكرة أنها واجبة، أن التلقين للميت واجب، والأقرب أنه مستحب.
ومعنى التلقين هو أن يقال عند الميت: لا إله إلا الله محمد رسول الله، حتى يفطن لها ؛ لأن الميت يكون في حالة صعبة، وقد يكون الإلحاح عليه سبباً في عزوفه عما يُطلب منه، فالأولى حينئذ أن يقول الحاضر: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، حتى يسمعها الميت فيتذكرها، وإذا احتاج إلى أن يقول له، لو قلت: لا إله إلا الله محمد رسول الله كان حسناً، فإذا قالها تركه، فلا داعي لأن يكرر عليه.
ولهذا لما قيل لـابن المبارك قال: أنا عليها ما لم أتكلم، يعني: مثل الذي يقول: لا تكرروا عليَّ ذلك.
وقد تذاكروا وهم في محضر أبي زرعة وهو في النزع رضي الله عنه، تذاكروا تلقين الميت، فحدثهم بإسناده حديث: ( من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة )، ثم قضى رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: يراعى في الميت أن يلقَّن، ويلقن بأدب وبحكمة، ولا يُلحّ عليه؛ لئلا يتبرم من ذلك، فإذا قالها مرة اكتفي بذلك، وإذا كان الميت منشغلاً في ذكر وتسبيح وتهليل وقراءة قرآن.. أو ما أشبه ذلك من المعاني التي تدل على حسن الخاتمة، فهذا داخل في الباب ويُترك على ما هو عليه.
فمن فوائد الحديث: مشروعية تلقين الميت: لا إله إلا الله.
ومن فوائده: الأدب في التلقين كما ذكرنا.
ومن فوائده: فضل هذه الكلمة العظيمة واستحباب أن يكثر الإنسان من ذكرها في الدنيا؛ لأنه من أكثر من ذكرها في الدنيا سُهِّل له أن يقولها عند الموت، فإن الإنسان غالباً يموت على ما عاش عليه.
ومن فوائد الحديث: فضل من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله.
بعض الناس إذا مات الميت وهو لم يقل: لا إله إلا الله، ظنوا به سوء الخاتمة، وقد يكون الإنسان مات بحادث، أو مات موت فجأة.. أو غير ذلك مما لم يتسن له أن يقول هذه الكلمة.
وأقول: هذا ليس بلازم، فإن من الصحابة من قد يكون مات في المعركة موتاً سريعاً، ومنهم من يكون يعني مات بحال لم يقل هذه الكلمة عند النزع، ولكنه عاش حياته كلها في سبيل لا إله إلا الله، يدافع عنها، ويدعو إليها، ويعبد ربه، فالعبرة بحال الإنسان الظاهرة وما هو عليه، وإن كان ذكر هذه الكلمة لمن مات وكان هناك مناسبة لأن يلقن فتلقن وقالها، فلا شك أن هذا من حسن الخاتمة له.
ورواه ابن ماجه أيضاً في الجنائز ما يقال عند المريض إذا حضر، وأحمد وابن حبان وصححه، والحاكم وصححه أيضاً، وابن أبي شيبة والبيهقي والطبراني .. وغيرهم.
هذا الحديث: ( اقرءوا على موتاكم يس )، حديث ضعيف، فإنه من رواية أبي عثمان عن أبيه عن معقل بن يسار، وأبو عثمان هذا ليس هو أبا عثمان النهدي كما ينصون عليه، بل هو رجل مجهول، وأبوه مجهول أيضاً، فالحديث إذاً فيه مجهولان .
ومع ذلك فإن في الحديث اضطراباً: فإن أبا عثمان مرة لا يذكر أباه ومرة يذكر أباه، ومرة يرويه عن معقل من قوله ومرة يرويه عن معقل مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إذاً: الحديث فيه علتان:
العلة الأولى: أن في سنده مجاهيل.
العلة الثانية ما هي؟
أنه مضطرب في السند بين ذكر أبيه وعدم ذكره، أو ذكر رفع الحديث أو عدم رفعه.
ولذلك قال الدارقطني : الحديث ضعيف، وقال -يعني الدارقطني -: لا يصح في الباب حديث، يعني: قراءة يس على الموتى، وكذلك ضعفه ابن القطان والنووي والألباني .. وغيرهم من أهل العلم.
فنقول: إن قرأها فالأمر واسع، لكن ليس على سبيل أن ذلك سنة.
وقد قال بعضهم: إنه جُرِّب أن قراءة سورة يس على الميت تكون سبباً في التخفيف عنه؛ وربما ذلك بسبب ذكر الموت فيها، وقد يكون لما ذكر الله تعالى فيها من الأحوال والأخبار والتغيرات.
أما قوله: ( موتاكم )، فقد بينا ما معنى الموتى، وأن المقصود هنا عند الجمهور: المحتضرون، وقيل: إن المقصود عند الميت إذا نزعت روحه.
من ذلك طبعاً القدر المتفق عليه وهو الدعاء، فإنه من المجمع عليه عند المسلمين -عامة وخاصة- أن الدعاء يصل إلى الميت وينتفع به الميت بإذن الله عز وجل إذا كان من المسلمين؛ ولذلك شرع للمسلمين صلاة الجنازة، وصلاة الجنازة إنما هي دعاء للميت، وهذا بالاتفاق؛ فلهذا نقول: لا يوجد خلاف بين المسلمين في مشروعية الدعاء للمسلمين وأمواتهم وأحيائهم، وفي القرآن الكريم من ذلك الشيء الكثير؛ ولذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: ( أو ولد صالح يدعو له )، لماذا خص الولد الصالح مع أن الدعاء يصل حتى من غير الولد؟
الولد أكثر إخلاصاً، أكثر دعاء؛ ولذلك أيضاً نص على الصلاح، لكن نحن قبل قليل قلنا إن الحديث هذا: ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله ) جاء في ذكر عمل الإنسان نفسه، وليس في ذكر عمل الآخرين له، فخَص الولد؛ لأن الولد من كسبك، ولد الرجل من كسبه، فدعاء الولد هو من أثر عملك أنت، فالولد بضعة منك، وخُلق من مائك، وكذلك أنت السبب في تربيته وتوجيهه وإرشاده، فعمله ودعاؤه هو من أثر عملك أنت، ولهذا: ( انقطع عمله ) يعني: عمل الميت.
أما دعاء الناس هل هو من عملك أنت؟ لا، ما هو من عملك، هو من عملهم هم لكنهم أحسنوا به وتفضلوا، هذا متفق عليه.
ويدخل أيضاً في ذلك قضاء دين الميت وإبراء ذمته بذلك، وهكذا الحج والعمرة كما في قصة المرأة التي قالت: ( إن أمي افتلتت أو ماتت ولم تحج، أفأحج عنها؟ فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحج عنها ).. وما أشبه ذلك، فهذا أيضاً ظاهر أنه يُعمل عن الميت ويصل إلى الميت.
مثلاً: الصوم، قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من مات وعليه صوم صام عنه وليه )، وهذا في الصحيح، وقد ذهب أكثر أهل العلم ونص عليه الإمام أحمد : أن المقصود بالصوم هنا صوم النذر .
وبعضهم قالوا: مطلق الصوم، يعني: سواء كان صوم نذر أو صوم قضاء.
وبكل حال فإن الأكثر من أهل العلم -وهو مذهب الحنابلة والحنفية- أن العبادات البدنية يصل ثوابها إلى الميت، وهذا أيضاً قول المتأخرين من الشافعية والمالكية.
وذهب المتقدمون من الشافعية والمالكية: إلى منع ذلك، وأنه لا يصل، ورأوا أنه يقتصر في هذا الباب على ما ورد، وقد توسع الإمام ابن القيم رحمه الله في هذه المسألة ورأى أن الأعمال الصالحة تصل، واستدل بالأحاديث والنصوص الواردة، بينما الآخرون منعوا ذلك واحتجوا بمثل قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى [النجم:39].
مشروعية قراءة القرآن على الميت وبالذات سورة (يس) لو صح الحديث، وقد ذكرنا أن هذا مشهور عندهم ولكن لم يثبت به سنة، فنقول: من فعله فلا شيء، عليه ومن تركه فلا شيء عليه أيضاً.
أبو سلمة هو ابن عبد الأسد، واسمه: عبد الله، وهو من بني مخزوم، وهو زوج أم سلمة رضي الله عنها، مات تقريباً في السنة الرابعة من الهجرة، وهو والد زينب بنت أبي سلمة وعمر بن أبي سلمة، وقصته في الصحيح، وهو من السابقين الأولين، وأفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
ومعنى: (شق بصره) يعني: شخص إلى السماء، وهذا معروف من حال المحتضر أنه ينظر إلى السماء بعد موته.
( فأغمضه ) يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أغمض عينيه؛ حتى لا تقبح صورة الميت بعد موته فيغمض عينيه.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الروح إذا قُبض )، ما هي الروح؟
الروح هي النفس.. هي الحياة، لكن لا ندري: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85]، وقد ذكر صاحب فيض القدير: أن العلماء -ويقصد الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم- اختلفوا في الروح على كم قول؟ هذا رقم قياسي: على ألف قول، قال: اختلفوا في الروح على ألف قول، ثم قال: وليس شيء من ذلك صواباً بل الصحيح غيره، الصحيح أن الروح من أمر ربي. لا ندري ما هي الروح، لكن نعرف أن الروح هي التي بها يصبح الإنسان حياً، فإذا خرجت مات، نعرفها بآثارها، أما حقيقة الروح ومسألة الروح جوهر أو عرض.. أو ما أشبه ذلك، هذا كله كلام لا طائل من ورائه.
ولكن عرفنا من الحديث: أن الروح يذكر ويؤنث، ولكن في الحديث جاء بصيغة التذكير؛ ولهذا قال: ( إن الروح إذا قبض )، ولم يقل: إذا قبضت، فهذا التذكير لغوي لا يدل على شيء -أيضاً- فيما يتعلق بأمر الروح.
ولهذا وإن كان المقام مقام تذكير بالموت لكن يحضرني هنا طرفة في مسألة (قبض وقبضت): أنهم سألوا رجلاً أحمق، وقالوا له: كيف نعرف الأرنب هل هي ذكر أو أنثى؟ قال: نطلقها فإذا هرب فهو ذكر وإذا هربت فهي أنثى، مع أن النتيجة واحدة!
فقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر ) يعني: ينظر، كأنه ينظر إليه ثم يجمد على هذه الحال، ومعنى ذلك: فإن أبا سلمة رضي الله عنه قد قبض روحه.
(فضج ناس من أهله) يعني: صاحوا وارتفعت أصواتهم بالبكاء.
فقال صلى الله عليه وسلم: ( لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير ) يعني: نهاهم في مثل هذا الموقف أن يدعوا إلا بخير، ( فإن الملائكة تؤمن على ما تقولون ).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اغفر لـ أبي سلمة
وفي لفظ: ( واخلفه في عقبه في الغابرين ) (في عقبه) يعني: فيمن وراءه من زوج وأهل وولد.
و(الغابرين): هم الباقون، كما قال سبحانه: كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ [الأعراف:83] يعني: الباقي الذي لم يرحل.
( وافسح له في قبره ونور له فيه )، رواه مسلم .
أبو بكر
من السنح، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قُبض فقبَّل وجهه ثم قال: (أبي سلمة
، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، اللهم افسح له في قبره، ونور له فيهلا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: ( إن الروح إذا قبض تبعه البصر )، أشار إلى أن أبا سلمة قد قضى ومات، عند الفقهاء المعاصرين والأطباء مسألة يتحدثون عنها: وهي الموت الدماغي، يعني: عندما يكون جذع الدماغ قد مات، وعندهم من المقطوع به أن جذع الدماغ هو الذي يتحكم في التنفس وضخ الدم وحركة القلب، فإذا تيقنوا أن الدماغ مات موتاً نهائياً ومؤكداً لا شك فيه ولا تردد؛ فمعنى ذلك: أن الإنسان يعتبر في حكم الميت، حتى لو كان قلبه يتحرك من خلال الأجهزة مثلاً الموضوعة عليه؛ ولذلك يقولون: إنه ميت دماغياً.
طبعاً: يقع أحياناً خطأ في التشخيص، بحيث يقال: إنه ميت دماغياً وهو غير ميت، لكن عندما يكون هذا الأمر في حكم المقطوع به طبياً أنه ميت دماغياً فإن هذا الإنسان يعتبر في حكم الميت؛ ولذلك فلا يكون هناك ضرر من رفع ونزع الأجهزة عنه؛ لأن حركة القلب هنا وضخ الدم هو فقط بسبب تفعيل الأجهزة لهذه القوة، وإلا فإن الجزء الذي يتحكم فيها في الأصل في الدماغ قد توقف بشكل نهائي، خصوصاً إذا كانت هذه الأجهزة يُحتاج إليها في المحافظة على حياة إنسان آخر.
الجواب: لا بأس بذلك؛ حتى يسموع جيران المسجد أن الصلاة قد أقيمت.
الجواب: لا بأس بأن يحفظ الإنسان، يحفِّظ ما حفظ ويواصل حفظه.
السؤال: أيضاً يقول: هل يجوز للمرأة المسلمة أن تسافر بدون محرم لزيارة أهلها وتعليم أولادها؟
الجواب: هذا السؤال أظنه سبق أن أجبنا عليه.
الجواب: هذا أحد الأقوال التي لا بأس بذكرها؛ لأن المقصود بقوله: (الله البادي) يعني: ما يتعلق بالله سبحانه وتعالى من أمر الدين والإسلام والرسول صلى الله عليه وسلم، فكلها داخلة في المضمون الأول، ولا شك أن مجد البلد هو مجد للإسلام، فبلاد الإسلام هي التي تحفظ مجده.
الجواب: هذه هي السماء الأولى أو السماء الدنيا، والله أعلم.
الجواب: يعني تشجيع الطلاب مثلاً إذا أجاب الطالب إجابة صحيحة هذا لا بأس به، ولا يدل دليل على المنع منه.
الجواب: نعم، سترة الإمام سترة لمن خلفه.
الجواب: والله إذا كان الإنسان وجد فرصة كبيرة هناك فليدرس، وعليه أن يكون قدوة حسنة في نشر الإسلام، والدعوة إليه، والتأثير حتى على أبناء وأولاد المسلمين.
ومع الأسف أن الجامعات الإسلامية والبلاد الإسلامية لا تستوعب هذه الطاقات والكفاءات، فلا يجدون الحفاوة والمرتب والإمكانيات المادية ومراكز الأبحاث التي توجد في مثل تلك الجامعات.
الجواب: هذا إذا كان ولا بد.
الجواب: صحيح، وهذا يؤيد ما ذكرناه.
الجواب: كثرة التذكير عند دفن الموتى ليس بمشروع أن يطيل الإنسان فيه، أما كلمات عابرة فلا بأس، أو بين الحين والآخر، أما أن يكون هذا أمراً لازماً، بعض الناس عند كل جنازة يجلس نصف ساعة يعظ الناس، ووعظ قد لا يكون من عالم أو فقيه، هذا لا ينبغي.
السؤال: أرجو تبيين سند حديث أبي هريرة ؟
الجواب: ذكرناه.
الجواب: إذا استطاع أن يتخلص من هذا المال فهو حسن، وإن كان محتاجاً إلى شيء منه وتاب، فلا بأس.
الجواب: يتعود على ذلك، يجب أن يتعود على ذلك، ويقرأ في كتب الأدب، وأعظم من ذلك كله قراءة القرآن بصوت جهوري، فإنها تساعد على حسن النطق.
الجواب: نعم، وعمدة الفقه أو دليل الطالب هي من المتون المختصرة عند الحنابلة.
الجواب: يتعامل بالصبر والإعراض.
الجواب: والله كليات الشريعة متقاربة، ربما كلية الشريعة بـالرياض تكون أفضل من غيرها.
نكمل فيما بعد إن شاء الله.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر