إسلام ويب

شرح بلوغ المرام - كتاب الجنائز - حديث 556-561للشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الموت هو هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ما ذكر في كثير إلا قلله، انخلعت لذكره قلوب العابدين، وأشفقت منه أفئدة الصالحين، ونسيه أهل الدعة من الغافلين، ذكره الله عز وجل في كتابه الحكيم، وحذر من بغتته الصادق الأمين، فهو إذا حل بالعبد خرج به من ساحة العمل، وقطعه عن الأهل والولد في دنيا الأمل، وجعله مرهوناً إلى ما قدم، فلا ينفعه بعد الموت أن يتحسر أو يندم.
    بسم الله الرحمن الرحيم

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه وخيرته من خلقه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الجنائز].

    ورقم هذا الدرس (192) من سلسلة: أمالي شرح بلوغ المرام، وهذا يوم الإثنين، العشرون من شهر جمادى الأولى من سنة (1426هـ)، وهذا جامع الراجحي بـبريدة، الدرس ضمن سلسلة دروس الدورة العلمية الرابعة.

    (كتاب الجنائز)، وفيه أحاديث كثيرة تصل إلى نهاية خمسمائة وتسعة وتسعين حديثاً، يعني: حوالي أكثر من ستين حديثاً، ولن نستطيع إنجازها في هذه الدورة لكن نأخذ منها ما تيسر، وبإنجاز كتاب الجنائز نكون قد انتهينا من كتاب الصلاة.

    علماً أن كتاب الجنائز -كما أسلفت لكم وأشار إليه كثير من المصنفين- أنه كتاب مستقل، حتى في كتب السنة وغيرها، يصنف مستقلاً، وبعضهم يقولون: إن العلماء وضعوا كتاب الجنائز بين الصلاة وبين الزكاة لتعلقه بالبابين معاً؛ والذي يظهر لي أن في هذا نوعاً من التكلف، وأن الصواب أن الجنائز وإن كان كتاباً مستقلاً إلا أنه ملحق بكتاب الصلاة؛ لأن الأصل صلاة الجنازة، وما يذكر بعدها فإنما هو تابع لها .

    المصنف رحمه الله ذكر عدداً من الأحاديث:

    أولها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه ورقمه (534): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت )، وقد عزاه المصنف للترمذي والنسائي، وصححه ابن حبان .

    تخريج الحديث

    وهذا الحديث أولاً هو في سنن الترمذي كتاب الزهد باب ذكر الموت، وكذلك هو في النسائي في كتاب الجنائز باب ذكر الموت، وابن ماجه ذكره في الزهد أيضاً، وقد رواه الإمام أحمد وابن حبان -كما أشار المصنف- والحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي . ورواه البيهقي -أيضاً- في كتاب شعب الإيمان له وهو كتاب مطبوع.

    وهذا الحديث في سنده شيء: فإنه من رواية محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ومحمد بن عمرو بن علقمة وإن كان صدوقاً إلا أن في روايته عن أبي سلمة شيئاً، وقد أعلَّ الإمام أحمد هذا الإسناد، وكذلك أعله الدارقطني بأن محمد بن عمرو بن علقمة أحياناً يروي عن أبي سلمة ويقف، وأحياناً يروي عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فهو مرة يروي الحديث مرسلاً -يعني: بدون ذكر أبي هريرة - ومرة يرويه متصلاً مسنداً إلى أبي هريرة رضي الله عنه، وأن هذا يكثر في حديثه، وبهذا ضعفوا روايته كهذا الحديث وغيره.

    ولذلك الإمام أحمد عدَّ هذا الحديث حديثاً منكراً، وكذلك الدارقطني قال: إنه لا يصح. ولكن كثيراً من أهل العلم صححوا هذا الحديث أو حسنوه، وممن ذكر المصنف أنه صححه: ابن حبان، وكذلك ذكرنا أن الحاكم صححه وقال: على شرط الشيخين. وهكذا وافقه الذهبي على ذلك. والترمذي مثل ذلك والنووي والألباني .. وغيرهم.

    وأقول: لعل الذين صححوا هذا الحديث أو حسنوه صححوه بشواهده وليس بمجرد إسناده، فالحديث له شواهد:

    منها: حديث عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أكثروا ذكر هاذم اللذات، فإنه ما ذكر عند ضيق إلا وسعه، ولا عند سعة إلا ضيقها )، وحديث ابن عمر رواه الطبراني وفي سنده مجهول .

    وله شاهد آخر أيضاً عن أنس رضي الله عنه عند الطبراني وأبي نعيم والبزار، وشاهد أنس صححه ابن السكن وحسنه المنذري، والواقع أنه حسن، وإن قيل بضعفه مطلقاً فلا بأس بذلك؛ لأنه ليس له طريق يصح.

    وأمثل وأفضل الأحاديث في الباب هو حديث ابن عمر عند الطبراني وفيه مجهول، أما حديث أنس ففيه منكر الحديث، وأما حديث الباب ففيه انقطاع -كما ذكرنا-.

    ولكن مما يُسهل الأمر: أن الحديث في باب عام وهو في باب الوعظ والذكر والتخويف، وليس يتعلق به حكم معين، وإن كنت سأذكر ملاحظة في متن الحديث بعد قليل.

    معاني ألفاظ الحديث

    ما يتعلق بألفاظ الحديث:

    فأولاً: الجنائز كما هو عنوان الباب، الجنائز: جمع، والمفرد: جنازة، وتنطق بفتح الجيم وبكسرها. فإذا قلنا: جَنازة أو جِنازة كلاهما صحيح.

    وبعض أهل اللغة فرقوا، فقالوا: إن الجِنازة -بالكسر- يطلق على النعش، وأما الجَنازة -بالفتح- فإنه يطلق على الميت نفسه، ولا يكون ذلك إلا إذا كان الميت فوق النعش. يعني: الميت المسجَّى على النعش يسمى جَنازة بالفتح، وبالكسر جِنازة يطلق على النعش، أو على النعش فوقه الميت، وبعضهم عكس، والأول هو المشهور.

    إذاً: هذا هو معنى الجنائز.

    وبحث الجنائز في الغالب هو بحث -كما قلت- يدخل فيه جانب التذكير، وجانب أحكام الميت: كالوصية، والصلاة، والدفن، والاستغفار، وحسن الخاتمة، وسوء الخاتمة.. وغير ذلك من الأحكام، ويلحق العلماء به الحديث عن وصول الثواب إلى الميت، وما يخفف به عنه، وعذاب القبر.. وغير ذلك من الأحكام.

    وقد صنف الشيخ الألباني بالمناسبة رسالة طيبة اسمها: أحكام الجنائز وبدعها، وهو كتاب مشهور طبع طبعات كثيرة جداً، والكتاب جيد، وفيه جهد عظيم، وفي آخره وضع الشيخ ملحقاً ببدع الجنائز، وربما يكون توسَّع في ذكر البدع وألحق منها ما لا يصلح أن يوصف بأنه من البدع، لكن للشيخ رحمه الله طريقته واجتهاده ودقته وحرصه، المهم أن هذا معنى الجنائز.

    وقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروى في هذا الحديث: ( أكثروا ذكر هاذم اللذات )، أكثر العلماء والرواة رووه بالذال المعجمة: (هاذم) بالذال، والهذم: هو القطع، فكأنه يقول: أكثروا ذكر قاطع اللذات، ومعنى كونه قاطعاً للذات يحتمل معنيين:

    إما أن يكون المعنى أن مجيء الموت ينهي اللذة، فإن الناس مهما تمتعوا إذا جاء الموت حال بينهم وبين ما يشتهون، فيكون الموت قاطعاً لاستمتاعهم ونعيمهم في الدنيا، وهذا واضح.

    ويجوز عندي أن يكون للحديث معنى آخر، وهو: أن يكون ذكر الموت هاذماً للذات: ( أكثروا ذكر هاذم اللذات ) يعني: الموت ليس فقط بمجيئه يهذم اللذات ولكن مجرد ذكره.

    يهذم اللذة يعني: يقطعها، فإن الإنسان إذا كان مسترسلاً في لذة أو نعيم فذكر الموت ربما قطع استمتاعه، وهنا نذكر قصة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما وُسِّع عليه في المال وقُرِّب له يوماً ما طعام فتذكر وبكى وقال أنه ذكر: ( أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معهم مصعب بن عمير

    -الشهيد- رضي الله عنه فاستشهد فلم يجدوا ما يكفنونه به إلا بردة إذا غطوا بها رأسه ظهرت رجلاه وإذا غطوا رجليه ظهر رأسه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطوا رأسه وأن يجعلوا على رجليه من الإذخر، قال: ثم خلفنا من بعدهم فأخشى أن تكون طيباتنا عجلت لنا في الحياة الدنيا ) ولم يأكل حتى رفعت المائدة.

    فيجوز أن يكون المعنى إذاً: أن مجرد ذكر الموت يهذم اللذة، والمعنيان قريب من قريب.

    وفي الحديث رواية أخرى -وإن لم تكن بالمشهورة- وهي أن (هادم) بالدال، بالدال المهملة، يعني: التي ليس عليها نقطة، فهي من الهدم إذاً هادم اللذات، وهذا أيضاً معنى واضح: أن مجيء الموت يهدم اللذة، كأن اللذة بناء فإذا جاء الموت هدمها وأزالها.

    وقد ذكر المعلق رواية أخرى بمعنى: (هازم) بالزاي (هازم اللذات)، والذي يظهر لي أنها تصحيف، وإن كان لو ثبتت الرواية لها معنى ولها وجه، ولكن الأقرب أنها تصحيف، وأكثر الرواة بل وأكثر أئمة اللغة يذكرونه بالذال: (هاذم) كـالخطابي وغيره.

    وأما اللذات: فهي جمع لذة وهي المتعة أياً كانت، سواءً كانت بأكل أو شرب أو لهو أو أهل.. أو غير ذلك.

    فوائد الحديث

    فيما يتعلق بالحديث ففيه عدد من الفوائد: الفائدة الأولى: مشروعية ذكر الموت، وذكر الموت أن يكون على بال الإنسان، والحديث نص -لو صح- في هذا الباب، فإنه أمر بذكره بل أمر بالإكثار من ذكره، ولكن نقول: إنك لو تدبرت نصوص القرآن والأحاديث الصحيحة في البخاري

    ومسلم

    وغيرهما فإنك لا تجد أمراً بذكر الموت مجرداً، بل في القرآن مثلاً الله سبحانه وتعالى حين يمدح الأنبياء والرسل يقول: (( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى ))[ص:46] ماذا؟ (( ذِكْرَى الدَّارِ ))[ص:46] ما قال: ذكرى الموت؛ لأن ذكر الموت مجرداً يمكن أن يكون حسناً ويمكن أن يكون غير ذلك، فإذا كان ذكر الموت على سبيل الاستعداد له، والامتناع عن الذنب، والإقلاع عن المخالفة، فهذا لا شك أنه محمود، وكم من إنسان يوعظ بالموت، سواءً برؤية مشاهد الموتى، أو بتصور الموت، أو باستذكاره، فيقلع عما هو عليه، فهذا وجه محمود، لكن قد يكثر الناس من ذكره -كما أشار الإمام ابن القيم

    في زاد المعاد - فيطيلون في كتب الوعظ بذكر ما يفعله الدود في الأجساد، وتصور الإنسان في قبره، وكيف حاله.. إلى غير ذلك من الأشياء التي هي عبارة عن عدمية محضة، قد تورث عند الإنسان نوعاً من الانقباض عن الدنيا، ولكنها لا تفعل عنده نوعاً من الإيجابية والفعل والعمل في هذه الدار. ولذلك يشترك في ذكر الموت أحياناً حتى بعض غير المؤمنين، الكفار مثلاً يقولون: (( أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ))[المؤمنون:82]، فهم يذكرونه ويعرفون أنه آت، وكثير من الشعراء الذين يسترسلون، مثلاً أبو العتاهية

    كثيراً ما تجد في ديوانه ذكر الموت والحفر والبلاء والدود.. وغير ذلك، ومع هذا تكلم بعض الأئمة والعلماء في سيرته، وبعضهم اتهموه، ولكن نحن نقول: إن هذه التهمة بعيدة ولا دليل عليها والأصل براءة المسلم. لكن يشار إلى أن ذكر الموت مجرداً ليس فيه أجر، يعني: لو أن الإنسان ذكر الموت الموت الموت الموت، لا يكتب له أجر بذكر الموت، وإنما يكتب له أجر بذكر الله.. بقراءة القرآن.. بالصلاة على رسول الله.. بفعل الخير.. وما أشبه ذلك، ويكتب له أجر إذا تذكر الموت على الصفة الشرعية التي أشرنا إليها. كما أن هناك صورة ثالثة غير محمودة يقع فيها من يذكرون الموت وهي: أن يتحول الموت إلى كابوس يسيطر عليهم ويخيفهم، فيصبح الواحد منهم مريضاً بالخوف، وهذا أشرت إليه في محاضرة: (أنا خائف) وزعتها عليكم، وأتمنى أن تسمعوها؛ لأنها مفيدة في هذا الباب وغيره. إن البعض قد يوسوس حتى يتحول إلى نوع من المرض النفسي في تخيل الموت، حتى إنه لا يستطيع أن يأكل جيداً، ولا أن ينام، فيصيبه قلق، ولا أن يستمتع بأهله، ولا أن يعيش مع أطفاله، وكلما اجتمع مع صبيانه تخيل الموت وقد أخذه عنهم وبقي هؤلاء الصبيان أيتاماً فدمعت عينه، وحيل بينه وبين ما هو مشروع، بل قد يترتب على ذلك أن يقصر فيما أوجب الله عليه من الحقوق وغير ذلك. فهذا من التفصيل الذي أردت أن أقوله في موضوع ذكر الموت والوجه المحمود منه والوجه غير المحمود. فهذه إحدى فوائد الحديث. ومن فوائد الحديث: فساد الاسترسال في اللذة: فإن قوله: ( هاذم اللذات )، يدل على أن استرسال الإنسان في اللذة ليس محموداً، الإنسان يتمتع، والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نأكل من طيبات ما رزقنا، وقال سبحانه: (( قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))[الأعراف:32]، لكن لا يسترسل الإنسان وراء ذلك طويلاً، فإن الاسترسال وراء اللذة ربما حال بين الإنسان وبين عمل الخير، أو جعله يتعلق بالحياة الدنيا ويطول أمله فيها؛ ولذلك كان عمر بن الخطاب

    رضي الله عنه يكثر أن يستشهد بأبيات من الشعر، يقول: لا شيء مما يرى تبقى بشاشته يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له بأمر ربك لم يعلم بها أحد إلى غير ذلك. وهكذا أيضاً الأئمة، عمر بن عبد العزيز

    رضي الله عنه لما ولي الخلافة وكان الشعراء جرت العادة أنهم يهنئون الملوك بالسلطان والرياسة ويقولون قولاً طويلاً، فتغيرت اللهجة؛ لأن عمر

    رضي الله عنه كان صاحب زهد وإعراض، فجاءه الشعراء يعرضون عليه معاني أخرى: وبينما المرء أمسى ناعماً جذلاً في أهله معجباً بالعيش ذا أنق غراً أتيح له من حينه عرض فما تلبث حتى مات كالصعق ثمة أضحى ضحى من غب ثالثة مقنعاً غير ذي روح ولا رمق يبكى عليه وأدنوه لمظلمة تعلى جوانبها بالترب والفلق فما تزود مما كان يجمعه إلا حنوطاً وما واراه من خرق وغير نفحة أعواد تُشب له وقلَّ ذلك من زاد لمنطلق فلا شك أن الاسترسال وراء اللذة يضر بالإنسان، وأن على المرء أن يداوي قسوة قلبه بتذكر الموت؛ ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة الأمر بزيارة القبور، كما في حديث مسلم

    : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكر بالآخرة ). ولهذا نقول من فوائد الحديث وهي فائدة صحيحة: مشروعية زيارة القبور؛ لأنها من تذكر الموت، بل هي من أعظم ما يؤمر به من تذكر الموت؛ لأن الإنسان يرى الموت بعينه عياناً بياناً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088935559

    عدد مرات الحفظ

    780005892