الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
رقم هذا الدرس: (175) من أمالي شرح بلوغ المرام، وهذه ليلة الإثنين السادس والعشرون من محرم (1426هـ).
ونبدأ مباشرة في الأحاديث، ونعتذر عن التأخير في الأسبوع الماضي لأسباب وظروف خاصة، الحديث الذي عندنا لا زلنا في كتاب صلاة الجمعة، عندنا الحديث رقم: (454) وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والذي يقول له: أنصت ليست له جمعة ).
قال المصنف: رواه أحمد بإسناد لا بأس به، وهو يفسر الحديث الثاني الذي هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين مرفوعاً: ( إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت ).
البحث الأول: ما يتعلق بتخريج الحديث والحكم على إسناده.
فهذا الحديث الذي هو حديث ابن عباس رضي الله عنه رواه الإمام أحمد كما ذكر المصنف في المسند مسند عبد الله بن عباس، ورواه الطبراني أيضاً في معجمه الكبير، وابن أبي شيبة في المصنف وغيرهم، والهيثمي في كتابه مجمع الزوائد نسبه إلى البزار ومن ذكرنا الإمام أحمد والطبراني وذكر أن فيه مجالد بن سعيد، وهكذا هو في سند من ذكرنا، فإن في إسناده مجالد بن سعيد، ومجالد بن سعيد هذا ضعيف عند أكثر العلماء، وإن كان وثقه النسائي في رواية، لكن أكثر علماء الجرح والتعديل على تضعيفه وهو مشهور، إذاً: سند هذا الحديث ضعيف.
وقول المصنف رحمه الله: (بإسناد لا بأس به) فيه شيء من النظر، إلا أنه ربما كان المصنف -وهو ابن حجر - يقصد تعزيز وتقوية الحديث بشاهده، فإن للحديث شاهداً ذكره ابن حجر في الفتح في جامع حماد بن سلمة عن ابن عمر موقوفاً، الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح يقول: له شاهد قوي -يعني حديث الباب- في جامع حماد بن سلمة عن ابن عمر موقوفاً، فكأن المصنف يقويه بشاهده، لكنه هنا قال: بسند لا بأس به.
والواقع أنه ضعيف.
وشاهده أيضاً لا يشهد للمرفوع، وإنما يشهد لوقفه وأنه لا يرفع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وزد على ذلك أن في متن الحديث شيئاً من الغرابة.
والمصنف رحمه الله هنا قال: وهو يفسر حديث أبي هريرة في الصحيحين.
فأنت حينما تتأمل في اللفظ النبوي وتتأمل في السياق الضعيف الذي ذكره المصنف عن ابن عباس تحس أن بينهما فرقاً، فهو هنا يقول: الذي يتكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً، وهذا الوصف لم يأت في القرآن إلا في شأن اليهود : مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5]، فأن يأتي في مساق إنسان من المؤمنين وقع في خطأ، فهذا فيه شيء من الغرابة في المتن والنكارة، فإذا كان السند بالضعف الذي ذكرنا والمتن فيه هذا الضعف أيضاً، ومما يزيده ضعفاً أن الحديث الذي ساقه المصنف وفسره به ليس فيه هذه اللفظة وإنما فيه ذكر اللغو فقط، وهذا يشهد لجانب من الحديث: أنه إذا قال له: أنصت، فقد لغا، لكن قضية أنه كمثل الحمار يحمل أسفاراً هذه ليس لها ما يشهد، بل وجود الحديث في الصحيحين بدونها يدل على نكارتها وغرابتها.
يقول: (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً) الأسفار: جمع سفر، وهو الكتاب العظيم، وقد جاء ذكره في القرآن كما ذكرنا، وأشار إلى تشبيهه بأنه كالحمار يحمل أسفاراً، منطلقه من أن الحمار يحمل هذه الكتب ولا ينتفع بها، فالذي يحضر الخطبة ولا يستمع إليها يكون فيه وجه شبه -على فرض صحة الحديث أو على أنه من كلام ابن عمر رضي الله عنه أو ابن عباس- وجه الشبه أنه يحمل المنفعة ولا يستفيد منها:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
(والذي يقول له: أنصت)، يعني: يستنصته ويطلب منه السكوت (ليست له جمعة) .
ومعنى قوله: (ليست له جمعة) أنه يفوته أجر صلاة الجمعة، وليس المقصود: أن صلاته باطلة بالاتفاق، فإنه لا يطلب منه أن يعيد الصلاة ولا أن يصليها ظهراً، وإنما المقصود: أن أجر الجمعة الزائد الوارد في الأحاديث مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( غفر له إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ) فهذا لا يدركه الأجر؛ لأنه لغا وتكلم والإمام يخطب.
وأما مسألة الحديث وحكم الإنصات فسوف نأتي إليها في الحديث الذي بعده.
ورواه جماعة من علماء الحديث كـابن خزيمة في صحيحه وابن حبان ومالك في موطئه والدارمي، وأهل السنن كـأبي داود وابن ماجه، ورواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والنسائي في سننه الكبرى والبيهقي وغيرهم، كلهم رووه في كتاب الجمعة، باب الإنصات، وخرجه الإمام أحمد في مسنده والطبراني وغيرهم.
(أنصت والإمام يخطب فقد لغوت) هنا قوله: (فقد لغوت) يعادل قوله في اللفظ الآخر: (ليست له جمعة).
واللغو يطلق في اللغة العربية على عدة معان، يطلق على الكلام الزائد الذي ليس له فائدة، يقال: هذا الكلام لغو ليست له فائدة، وهو كثير عند العلماء، حتى إنهم يطلقون على الألفاظ والحروف الزائدة أنها لغو، وقد يطلق اللغو على الكلام الفاحش الذي فيه تعد أو سب، فيقال: هذا من لغو الحديث ولغو القول.
واللفظ يحتمل الأمرين معاً، والأقرب أن يحمل على الثاني، أن المقصود أنه تكلم بكلام في غير محله.
وقد يكون من معاني اللغو هنا: الإلغاء، يعني: أنه ألغى أجره وذهب فضل الجمعة بالنسبة له.
المسألة الأولى: حكم كلام الإنسان والإمام يخطب إذا كان يسمع الخطبة، ما هو حكمها؟
فهذه المسألة اختلف العلماء فيها على قولين:
وإنما المنهي أن يتكلم الإنسان لجاره القريب، أو مثلما تجدد في الوسائل المعاصرة يتكلم من خلال الهاتف الجوال أو غيره فهذا محرم، وهذا مذهب جمهور أهل العلم، هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد، وهو المذهب القديم أيضاً للإمام الشافعي، وهو مذهب الأوزاعي إمام أهل الشام، ومذهب ابن حزم، ومذهب جمهور الأئمة من السلف والخلف وأهل الحديث، بل قال ابن عبد البر: إنه لا يعلم خلافاً بين أهل العلم في وجوب الإنصات للخطبة. هذا هو القول الأول وهو المشهور.
أدلة هذا القول كثيرة، فمن القرآن: قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، وقد ذكرنا في غير موضع أن الإمام أحمد رحمه الله وغيره قالوا: إن هذه الآية نزلت في خطبة الجمعة، بل نقل القرطبي الإجماع على أنها نزلت في خطبة الجمعة، وفيها قوله سبحانه: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204] فقالوا: هذا أمر بالاستماع والإنصات ونهي عن الكلام، فدل على وجوب الإنصات للخطيب، وقد ذكر هذا الطبري والقرطبي وغيرهم.
ومن الأدلة على ذلك ( إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب؛ فقد لغوت ).
فالنبي صلى الله عليه وسلم بين أنه من تكلم لصاحبه حتى لو أنه يستنصته، يعني: يأمره بالإنصات، يأمره بمعروف أو ينهاه عن منكر فإنه يكون قد لغا وقال ما لا ينبغي له، وفوت أجر الجمعة عليه، وهذا دليل على التحريم، وهذا من أقوى أدلة الوجوب ومن أقوى أدلة الجمهور، وهو من الأدلة التي يصعب تأويلها أو صرفها عن ظاهرها، والحديث كما ذكرنا متفق عليه.
أيضاً من الأدلة: أحاديث في معنى حديث الباب، مثل قصة أبي بن كعب رضي الله عنه: ( وكان يستمع هو و
ووجه الدلالة من الحديث واضح:
أولاً: فوات أجر الجمعة.
وثانياً: أنه سمى قوله لغواً: (ليس لك من جمعتك أو من صلاتك إلا ما لغوت)، فسمى فعله لغواً كما سماه في هذا الحديث.
وأيضاً ورد عند أبي داود وأحمد وأهل السنن وغيرهم، وهو حديث حسن صححه النووي رحمه الله والعراقي والألباني وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يحضر الجمعة ثلاثة: رجل حضرها يلغو وهو حظه من الجمعة -يعني: اللغو والكلام والقيل والقال- ورجل حضرها يدعو الله تعالى، فإن شاء منعه، وإن شاء أعطاه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت، ولم يتخط رقاب الناس ولم يؤذ أحداً، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وفي ذلك يقول الله عز وجل: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160] ) يعني: يوم واحد -وهو يوم الجمعة- بعشرة أيام، الأسبوع وزيادة ثلاثة أيام.
وهناك أدلة كثيرة في هذا الباب، منها حديث الباب الذي ذكره المصنف الآن عن ابن عباس، وقد ذكرنا أن فيه ضعفاً وهو مجالد باللام، ما هو مجاهد، مجالد بن سعيد، لكن قد يستدل بالحديث على أنه من قول ابن عباس رضي الله عنه، ومثله ما هو مروي عن ابن عمر كما ذكره ابن حجر في الجامع، وهناك آثار عن ابن مسعود وغيرهم في هذا الباب.
وقد يستدلون أيضاً بالمعقول وبالنظر، يقولون: لأن الجمعة ركعتان والخطبة خطبتان، فقامت الخطبتان مقام الركعتين، فإذا كان الكلام في الصلاة حراماً فكذلك الكلام في الخطبة هو أيضاً حرام.
وهذا فيه نظر؛ لأن الواقع أن الصلاة لو تكلم فيها لبطلت، بينما الخطبة لا تبطل وإنما يبطل الأجر الزائد كما ذكرنا، ولكن يتعزز هذا بما أشرنا إليه.
هذا في النهي عن كلام الإنسان مع صاحبه أو مع غيره، لكن لو تكلم في مخاطبة الإمام لحاجة أو خاطبه الإمام لحاجة، فهذا لا يدخل في الخلاف، بل هو ثابت في أحاديث كثيرة جداً، مثل حديث أنس المتفق عليه في قصة الرجل الذي جاء وقال: ( يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا، ثم جاء في الجمعة الثانية، وقال: يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يمسكها عنا ) كل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يدعو.
وكذلك الحديث المتفق عليه من حديث جابر في قصة: ( الرجل الذي دخل المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، قال: صليت يا فلان؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما ) وسيأتي هذا الحديث.
والمقصود الشاهد فيه واضح أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه.
وقصة أيضاً الرجل الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: ( متى الساعة؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما أعددت لها؟... ثم قال: أنت مع من أحببت ) إلى آخر الحديث المعروف، هذا كان في خطبة الجمعة.
أيضاً: هناك أمثلة كثيرة وعديدة تدل على هذا المعنى، ولكن هذا لا يعني أن يخاطب الإنسان الإمام بأي قضية، إلا أن يكون لذلك سبب أو يكون له مصلحة أو اعتبار، أو يكون الإمام يخاطبه ابتداءً.
إذاً: القول الأول القول بالتحريم، وهو مذهب الجمهور.
وهذا مذهب الشافعي في الجديد، خلافاً لمذهبه القديم، وهو المختار عند أصحابه والصحيح، وهو أيضاً رواية عن الإمام أحمد، وقد نقل عن بعض السلف كـعروة بن الزبير والنخعي وسعيد بن جبير وإبراهيم بن مهاجر والشعبي وأبي بردة .
والظاهر لي والله أعلم: أن هذا النقل عن السلف ليس نقلاً لقول في عموم خطبة الجمعة أنه يجوز الكلام، وإنما كان في عصرهم خطباء يطيلون الخطبة ويتكلمون فيما لا فائدة منه، مثلما كان الحجاج يخطب على المنبر ويتكلم في أمور كثيرة وقد يلغو في خطبته، فكان منهم من يرى عدم الإنصات لمثل هؤلاء الخطباء، ولا يعني ذلك أنه يرى أنه لا يجب الإنصات لكل خطيب، فيكون هذا حكماً أو قولاً خاصاً في حالة معينة وليس في كل خطبة، ولكن من الفقهاء من نقل عن هؤلاء ممن ذكرت وغيرهم أنهم يرون الإنصات ليس بواجب وإنما هو سنة.
واستدلوا بأدلة:
القسم الأول من هذه الأدلة: ما ذكرناه قبل قليل من الأحاديث التي فيها مخاطبة الإمام، مثل مخاطبة الرجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن ذلك أيضاً: مخاطبة عمر رضي الله عنه لـعثمان لما جاء متأخراً، وهو في صحيح البخاري فقال له عمر : ( لماذا تأخرت؟ قال: ما هو إلا أن سمعت النداء فتوضأت وجئت، قال
ومثل ذلك حديث جابر في قصة الرجل الذي قال له: ( أصليت؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين )، ولهذا أمثلة كثيرة.
فهم أخذوا من الخطاب بين الإمام والمأموم أن ذلك يدل على أن الاستماع للخطبة ليس بواجب، وهذا -كما ذكرت- فيه نظر؛ لأنه في حال خاصة في مخاطبة تتعلق بالإمام والمأموم، وليست في حديث الناس بعضهم مع بعض.
إذاً: هذا استدلالهم الأول على عدم الوجوب، وقد بينا ما في هذا الاستدلال من الضعف.
من استدلالهم أيضاً على عدم الوجوب، قالوا: إنه لو كان الاستماع للخطبة واجباً لكان إبلاغ الصوت فيها للناس واجباً، فلما لم يجب الإبلاغ برفع الصوت دل على أن الاستماع ليس بواجب، ونحن نقول: إن هذا بحسب القدرة، فلو كان الإنسان في مقدوره أن يبلغهم من غير مشقة، سواءً بصوته أو بالوسائل الممكنة؛ لكان ذلك واجباً، أما إذا لم يتيسر أو لم يكن ممكناً فإنه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
إذاً هذا هو القول الثاني، وأدلته كما تلاحظون أدلة ضعيفة.
ولذلك نقول: القول الراجح هو ما ذهب إليه جمهور العلماء من وجوب الاستماع والإنصات للخطبة، وسيأتي مزيد من تفصيل لهذه الجزئية مثلاً مسألة ضمن هذه المسألة الكبرى مسألة صغرى، طيب.
وطبعاً: سبب الخلاف هنا واضح؛ أنه هل الأمر متعلق بالوقت ودخول الخطيب، أو متعلق بالاستماع للكلام نفسه، فهذه المسألة فيها عدة أقوال، أبرزها قولان:
القول الأول: أنه يحرم عليه الكلام، حتى ولو كان لا يسمع الخطيب فإنه يجب عليه أن ينصت ولا يتكلم، وهذا تقريباً مذهب الأكثرين، فهو مذهب أبي حنيفة ومالك وهو القديم من مذهبي الشافعي، وهو المذهب المعتبر عند الحنابلة، واختاره ابن حزم وغيره.
وأدلة هذا القول بأنه يجب عليه الإنصات حتى لو كان لا يسمع الخطبة: عموم ما سبق من الأدلة على تحريم الكلام والإمام يخطب؛ لأنهم قالوا: إن الأمر متعلق بكون الإمام يخطب سواء سمعته أو لم تسمعه.
وقد يقولون أحياناً: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأمرين:
الأول الإنصات كما في الآية الكريمة: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204] فأمر بالإنصات، وأمر بالاستماع، فإذا تخلف أحدهما لم يتخلف الآخر، فإذا تخلف الاستماع لكونه لا يسمع الخطيب لا يتخلف الإنصات بأن يجب عليه السكوت، وقد ورد مثل هذا المعنى عن عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
القول الثاني: أنه يجوز له أن يتكلم إذا كان لا يسمع الخطيب؛ وهذا قال به بعض الأحناف، وهو القول الصحيح عند الشافعية ورواية عن الإمام أحمد .
واستدلوا بالأدلة السابقة التي تدل على جواز الكلام في الخطبة للسامع مثل الكلام بين الإمام والمأموم، والكلام بين الخطيب وبعض الناس، وقد سبق أن ناقشناه وبينا أنه لا دلالة فيها.
كما استدلوا بوجه له حظ من النظر، وهو: أن المطلوب هو الاستماع للخطبة، فقوله سبحانه وتعالى: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204] الإنصات هنا ليس مقصوداً لذاته، ولا يوجد في الشرع أمر تعبد بالإنصات فيه لذاته، وإنما الإنصات لغرض، مثل الإنصات لاستماع القرآن أو لاستماع الخطبة أو لما أشبه ذلك، أما صمت مطبق فلا تعبد فيه بالشرع.
وقالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (والإمام يخطب) يشير إلى قضية سماع الخطبة والإنصات لها، فإذا ذهب السماع ولم يعد الإنسان قادراً على ذلك، فإنه بمقدوره أن يتكلم.
هذا هو إذاً القول الثاني.
مسألة الترجيح بين هذين القولين:
في نفسي تردد، والذي أراه: أنه إن كان حديث الإنسان يمكن أن يحدث تشويشاً على غيره ممن يسمعونه فهو يكون ممنوعاً حينئذ.
وبناءً عليه نقول: الكلام في لغو وباطل في هذا الوقت المبارك وفي المسجد، أقل ما يقال فيه أنه مكروه، لكن لو كان المقصود بالكلام الكلام الذي له حاجة مثل: تشميت العاطس، أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو رد السلام على من سلم، وهم لا يسمعون هذا الخطيب مطلقاً، أما إن كانوا يسمعون بعض الصوت وينقطع عنهم أحياناً، أو كان الإنسان لا يسمع لعارض؛ لكونه مثلاً ثقيل السمع؛ فهذا لا إشكال في أنه لا يجوز له أن يتكلم؛ لأنه يؤذي نفسه ويؤذي غيره، إنما الكلام فيما لو انقطع الصوت بشكل تام ولم يعد أحد يسمع هذا المتحدث أو الخطيب.
فهنا نقول: الكلام الذي يكون من جنس رد السلام وتشميت العاطس وذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهو جائز، وربما يكون الصمت في هذه الحالة ليس له ثمرة.
يعني: حتى لو كان يسمع الخطيب هل يرد السلام على من سلم؟ وهل يشمت العاطس إذا حمد الله فيقول له: يرحمك الله؟ هذه المسألة فيها تقريباً أربعة أقوال نختصرها:
القول الأول: وهو قول الأكثرين من الحنفية والمالكية ووجه عند الشافعي ورواية عن أحمد : أنه يحرم حينئذ رد السلام ويحرم تشميت العاطس ويجب الإنصات، واستدلوا بما ذكرنا: ( إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت ) فقالوا: إن هذا الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن الأمر بالمعروف يكون لغواً، فغيره مما هو من السنة مثل تشميت العاطس أو رد السلام أو سواه أولى بأن يكون لغواً حال كلام الخطيب، وكذلك قصة أبي ذر مع أُبي كما ذكرناها قبل قليل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سماه لغواً وهو كان يسأل عن أمر من العلم.
إذاً: هذا دليل على أن هذه الأعمال حتى ولو كانت مشروعة في الأصل إلا أنها ممنوعة حال الخطبة.
وقد يستدلون ببعض الأدلة من المعقول، مثل: أن تشميت العاطس يترتب عليه ترك الاستماع المفروض والإنصات، وإذا كان الاستماع واجباً والتشميت سنة، فلا يقدم السنة على الواجب.
القول الثاني: أنه يجوز ذلك، يعني: يجوز أن ترد السلام على المسلِّم سراً ولا تعلن ذلك أو ترفع صوتك به، ويجوز أن تشمت العاطس أيضاً.
وهذا قول عند بعض الأحناف كـأبي يوسف واختاره الطحاوي أيضاً، ووجه عند الشافعية ورواية عند الإمام أحمد، وهو الصحيح عند الحنابلة عند أصحاب الإمام أحمد أن ذلك جائز، واختاره ابن حزم .
وأدلتهم واضحة، منها مثلاً: حديث أبي هريرة المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حق المسلم على المسلم ست.. وذكر منها: رد السلام ) ومثله حديث جابر وحديث البراء بن عازب المتفق عليه، وذكر رد السلام من حق المسلم على أخيه، وكذلك تشميت العاطس، فقالوا: هذا حق أوجبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون واجباً في حال الخطبة وفي غيرها.
ومن الأدلة أيضاً: ما ذكرناه قبل قليل من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: ( أصليت يا فلان؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين ) فخاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بأداء تحية المسجد.
وقد يجاب على ما ذكر بأن حق المسلم على المسلم هذا عام، لكنه لا يكون في حال الخطبة كما لا يكون في حال الصلاة أيضاً، فإن الخطبة لها حكم ولها حال خاص، والإنسان الذي سلم كان ينبغي ألا يسلم؛ لأنه يدخل والإمام يخطب، والذي عطس هل نقول: كان ينبغي له ألا يعطس؟
كان ينبغي له ألا يرفع صوته بالحمد؛ لئلا يجعل من حوله ربما ينشغلون عن الخطبة أو يردون عليه بتسميته أو تشميتهم.
القول الثالث في المسألة: أن ذلك يحرم على من يسمع الخطبة ويجوز لمن لا يسمعها كما ذكرناه قبل قليل، وهذه أيضاً إحدى الروايات في مذهب الإمام أحمد .
القول الرابع: أنه لا يجوز رد السلام ويجوز تشميت العاطس.
وهنا ما هو الفرق؟ هذا قول ضعيف كما يقول القفال في حلية العلماء قال: هذا ليس بشيء، قول ضعيف، لكن نريد أن نعرف لماذا فرقوا بين رد السلام وبين تشميت العاطس؟
قالوا: لأنه بالنسبة للسلام اختياري، يعني كان ينبغي ألا يسلم، أما العطاس فهو أمر خارج عن إرادته.
المختار في هذه المسألة: ألا يرد السلام، وألا يشمت العاطس حال الخطبة.
مثلما ذكرنا، الإنصات واجب، ورد السلام الأصل أنه واجب، ولكن لو أن إنساناً سلم عليك وأنت تصلي لا ترد عليه السلام، وإنما ورد أنه قد يرد بالإشارة بيده، ثم إن هناك واجب الوقت وهو الإنصات، وأما رد السلام فهو ليس واجب الوقت، وإنما هو في غير الوقت، فيقدم ما هو واجب الوقت من الإنصات للخطيب وما فيه من الحكم الملابس للموقف.
ما يتعلق بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أيضاً هذه المسألة فيها قولان:
القول الأول: أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم سراً إذا ذكره الإمام أو الخطيب، وهذا قول أبي يوسف من الحنفية، وهو قول الحنابلة، واختاره الإمام ابن تيمية رحمه الله وغيره.
ومما يستدل به على ذلك: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سراً لا تشغل عن سماع الخطبة، بل هي من التفاعل مع الخطيب، كما أنه إذا ذكر الله تعالى فقال المستمع: سبحانه، فإن هذا لا يخل بالخطبة ولا يضر بها، بل هو جائز في حال الصلاة كما في حديث حذيفة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته كان إذا مر بآية تسبيح سبح، وإذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب استعاذ )، فهذا لا يؤثر في الخطبة واستماعها، بل هو من كمال الإنصات وكمال الاستماع أحياناً.
وثانياً: مما يستدل به على ذلك أن الخطيب نفسه قد يطلب هذا إلى الناس، فإن العادة جرت أن الخطيب على منبره يقول: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، فهنا أمرهم وذكرهم بأمر الله تعالى لهم بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيسن لهم حينئذ أن يصلوا ويسلموا عليه، وهذا لا يضر بالخطبة ولا يخل بها. هذا القول الأول.
القول الثاني: أنه لا تجوز الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حال الخطبة بل يجب عليه الإنصات، وهو قول للحنفية.
وألحقوا الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بتشميت العاطس ورد السلام على المسلِّم، وقالوا: إنها كحال الصلاة.
وقالوا: إن إحراز فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ممكن في كل وقت، فلا يتعين في الخطبة.
والراجح هو القول الأول: أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سراً جائزة، وابن تيمية رحمه الله حكى ما يشبه الاتفاق على ذلك، ولكن الواقع أن الخلاف في المسألة معروف، وإنما نقول: الراجح أنه يشرع لمستمع الخطبة أن يصلي ويسلم على الرسول عليه الصلاة والسلام.
طبعاً إذا كان لا يسمعه فهذه حالة ممكن أن نقول: إنها من الحالات التي يقع فيها استثناء.
فقد استثنى بعض الفقهاء ما إذا انقطع صوت الخطيب وصار لا يسمعه بالمرة.
وأيضاً استثنى طائفة منهم -كما ذكرنا- ما إذا كان الحديث بين الخطيب وبين غيره من الناس، هذه حالتان، في حالات غيرها؟
يعني: التصحيح أو التصويب للإمام إذا أخطأ، هذا يدخل في مخاطبة الإمام كما ذكرنا قبل قليل.
والتأمين يدخل في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
ونريد أنه إذا كان الخطيب يتحدث الآن، يعني: إنقاذ مسلم من هلكة كمثال، لو أن إنساناً يوشك على هلاك مثلاً ويحتاج إلى إنقاذ؛ هل يتوقف ويقول: خشية أن يخل بنظام الخطبة؟ لا، فإن حفظ حياة الإنسان في مثل هذه الحالة واجب، مثل لو رأى إنساناً يوشك أن يسقط في بئر أو أن تلدغه عقرب أو حية أو ما أشبه ذلك، فهنا ليس بحرام، بل هو واجب إذا لم يتم التنبيه إلا به، وهذا أمر معروف ويكاد أن يكون محل اتفاق.
يعني: عندما نقول: (الخطبة)، هل نعني بها ما دام الخطيب يتحدث، أو نعني منذ أن يصعد المنبر إلى أن ينزل منه؟ السكتات التي تكون قبل الخطبة وبعد الخطبة ما حكمها؟
هذه فيها ثلاثة أقوال:
الأول: أنه يجوز الكلام في الحالين، يعني: قبل الخطبة وبعدها، وهذا مذهب بعض الحنفية والمالكية وأكثر الحنابلة وجماعة من السلف والشافعية طبعاً، أنه يجوز الكلام قبل الخطبة وبعد الخطبة.
واستدلوا بأدلة فيها ذكر الاستماع وفيها ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والإمام يخطب)، مثل حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على أبواب المساجد يكتبون الأول فالأول -يعني: من الناس- فالأول كالمهدي بدنة، ثم بقرة، ثم كبشاً، إلى قوله صلى الله عليه وسلم: فإذا خرج الإمام طووا صحفهم وجلسوا يستمعون الذكر ) فقالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (جلسوا يستمعون الذكر) دليل على أن الأمر متعلق بالاستماع، فإذا لم يكن هناك استماع -يعني لم يبدأ الخطيب بالكلام أو انتهى منه- فالأمر في ذلك واسع.
كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي معنا في قوله: (والإمام يخطب) فإنهم قالوا: إن المقصود بالخطبة هنا: أنه قد بدأ بالخطبة، فما قبل الخطبة لا يعد منها، وما بعدها أيضاً لا يعد منها، والأمر عندهم موقوف على بداية الخطبة.
وقد ورد في هذا آثار عن الصحابة رضي الله عنهم: ( أنهم كانوا في زمان عمر يصلون الجمعة حتى يخرج عمر، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون قال بعضهم: جلسنا نتحدث، فإذا سكت المؤذن وقام عمر يخطب أنصتنا فلم يتكلم أحد ).
ولذلك كان ابن شهاب الزهري رحمه الله يقول: ( خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام )، (خروج الإمام) يعني: صعوده على المنبر أو دخوله إلى المسجد يقطع الصلاة، لا يستأنف الإنسان أو يبدأ بنافلة، (وكلامه يقطع الكلام)، فإذا بدأ بالكلام سكت الناس، وابن قدامة يقول: هذا دليل على شهرة هذا الأمر عند السلف وأهل المدينة وغيرهم.
وكذلك دليلهم من المعقول مثلما ذكرناه قبل قليل: أن الأمر متوقف على الاستماع والاستفادة من الخطبة، فإذا لم تكن الخطبة بدأت لم يكن هذا الحكم قد بدأ فعلاً.
إذاً هذا هو القول الأول: أنه يجوز الكلام قبل الخطبة قبل بدايتها ويجوز بعد نهايتها.
القول الثاني: أنه لا يجوز الكلام في الحالين، لا قبل بداية الخطبة ولا بعد نهايتها، وهذا مذهب أبي حنيفة .
واستدلوا بنفس الأدلة السابقة لكن بطريقة أخرى، مثلاً قال الدليل الأول: ( فإذا خرج الإمام طوت الملائكة صحفها وجلسوا يستمعون الذكر ) قالوا: إن الأمر هنا متعلق بطي الصحف، فإذا طويت الصحف كأن الأمر بدأ ووجب على الناس الإنصات.
وكذلك قوله مثلاً: (والإمام يخطب) اعتبروا أن هذه حال تشمل الخطبة منذ صعود الإمام إلى نزوله، وليس فقط الخطبة حال الكلام.
القول الثالث: أن ذلك مكروه قبل الخطبة وبعدها، وليس بمحرم.
والذي نختاره هو القول الأول: أن ذلك جائز ما لم يؤذ أحداً أو يفضي إلى أذية من حوله؛ لأن رفع الصوت في المسجد أصلاً قد يكون فيه إشكال، حتى رفع الصوت بالقرآن أحياناً إذا كان يؤذي من حولك كان ممنوعاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض ) والحديث عند ابن ماجه وغيره، وسنده جيد، لكن إذا لم يترتب على ذلك شيء فنقول: الأصل فيه الجواز.
فيها عدة أقوال، أهمها:
أنه يجوز الكلام بين الخطبتين، وهو قول أبي يوسف من الحنفية، وهو قول الشافعي ووجه عند الحنابلة، واستدلوا بما سبق من الأدلة التي ربطت الموضوع بحال الخطبة.
وهناك القول الثاني: بأن ذلك محرم ولا يجوز، وهو قول أبي حنيفة والمالكية ووجه عند الحنابلة، واعتبروا أن سكوت الخطيب بين الخطبتين هو وقت يسير ولا مجال فيه للحديث، وإذا بدأ الناس في الحديث فإنه قد يستمرئونه ويستمرون معه.
والذي نراه في مسألة الكلام بين الخطبتين مثل المسألة التي قبلها: أن الكلام بين الخطبتين جائز، لكن إذا بدأ الإمام وجب السكوت، والكلام الذي نقول بجوازه هنا من جنس الذكر والتسبيح ورد السلام وتشميت العاطس وما أشبه ذلك، أما الكلام الذي يفضي إلى مفسدة فهو ممنوع في هذا المكان وفي غيره.
إذاً: عندنا الآن حديث ابن عباس رضي الله عنه وحديث أبي هريرة أتينا على ما فيهما من المسائل.
كذلك الدعاء بين الخطبتين جيد، وقد ورد في غير ما حديث أن هذا من مواطن الإجابة، وأنه قد تكون هو الساعة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها: ( لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله من خير الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وقال: هي ما بين أن يدخل الإمام إلى أن تقضى الصلاة ) وهذا الحديث صحيح، فيكون هذا محل دعاء، وكما أن الخطيب وهو قاعد على المنبر يدعو، فكذلك المأموم كونه يدعو في هذا الوقت لا بأس بذلك.
من فوائدها: وجوب الإنصات للخطبة يوم الجمعة، هذه فائدة واضحة في الحديثين.
ومن فوائدها: أن الإنسان في حال الخطبة لا يأمر ولا ينهى، حتى المتحدث لا تأمره بالإنصات، وإنما يمكن أن تشير إليه بالإشارة أو تسكته بيدك أو بفمك دون أن تتكلم بلسانك.
ومن فوائد الحديث: فضل صلاة الجمعة والإنصات لها.
ومن فوائده: أن من تكلم فاته أجر الجمعة، كما قال: (فقد لغوت)، وقال: (ليست له جمعة)، من تكلم فاته أجر الجمعة، وقد علم أنه يفوته أجرها لكن يكون أدرك الصلاة، ولهذا ليس عليه أن يقضي الجمعة بالاتفاق.
فقد أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الجمعة، باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين، وكذلك مسلم في كتاب الجمعة، باب تحية المسجد والإمام يخطب.
ورواه أيضاً أهل السنن، ورواه ابن خزيمة في صحيحه والدارمي وابن ماجه وابن أبي شيبة وغيرهم.
منها قوله: (دخل رجل) وهذا يسمى كما أسلفنا من المبهمات، يعني: (دخل رجل)، أو أن رجلاً سأل، والعلماء عنوا بها وصنفوا فيها كما صنف فيها الخطيب البغدادي : الأنباء المحكمة في الأسماء المبهمة، وغيره، وعني كثير منهم بتتبعها.
هنا: من هذا الرجل الذي دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب؟ جاء في رواية أنه جابر نفسه، ففي بعض الأحاديث أن جابراً قال: ( لما قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: يا جابر
وقد جاء في روايات عديدة: أن هذا الرجل هو سليك الغطفاني، وجاء النص عليه أنه هو الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له: ( أصليت؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين ) فهذا هو الرجل.
والمقصود قوله: (صليت) هنا لا شك أن المقصود بالصلاة هنا هي تحية المسجد، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وإن كان بعضهم تكلف وقال: إنه قد يكون المقصود أنه ترك فريضة مثلاً أو ترك صلاة الفجر أو غيرها، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وإنما الصواب أن المقصود بالصلاة صلاة تحية المسجد.
وقوله: (والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب) أيضاً، المقصود بالخطبة هنا خطبة الجمعة على الصحيح، مع أن كل وقوف على المنبر وكلام يعد خطبة، ولكن جاء في الحديث النص: (والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة) وإلا لكان هناك احتمال كبير أن تكون هذه خطبة من خطب النبي صلى الله عليه وسلم العادية الوعظية التي في غير يوم الجمعة.
وقوله: (قم فصل ركعتين) هذا يؤكد أن المقصود تحية المسجد.
فإذا دخل الإنسان والإمام يخطب فهل يصلي تحية المسجد أو لا يصلي؟
المسألة فيها أقوال:
القول الأول: أنه يستحب له أن يصلي تحية المسجد.
وبالمناسبة تحية المسجد سبق أن بحثنا فيها وخلصنا -بإيجاز- إلى أن حكم تحية المسجد في الأوقات العادية هو الاستحباب، الذي رجحناه وهو مذهب الجمهور، وهو المشهور عن الأئمة الأربعة: أن تحية المسجد سنة مستحبة وليست بواجبة. وهذا بحث في وقته وبين لماذا صرفت الأدلة عن الوجوب، لوجود حالات جاء فيها ناس وجلسوا عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمرهم بالقيام.
إذاً: القول الأول هو: استحباب تحية المسجد حتى لو دخل والإمام يخطب، وهذا مذهب الشافعي وأحمد وجماعة من السلف كـإسحاق وسفيان بن عيينة ومكحول وأبي ثور وغيرهم، وجماعة من الأحناف أيضاً كـمحمد بن الحسن وغيره، والظاهرية كـابن حزم، وحكاه ابن حزم عن جمهور أئمة السلف وأهل الحديث.
أدلة أصحاب هذا القول على استحباب تحية المسجد حديث الباب وما كان في معناه، وقد ورد عدة أدلة لعلي أعرض لها بعد قليل، كلها فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الداخل أن يصلي ركعتين، مثل قصة جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (صل ركعتين) وقصة سليك الغطفاني وغيرها.
القول الثاني: أنه يكره للإنسان إذا دخل المسجد حال الخطبة أن يصلي ركعتين والإمام يخطب، وهذا مذهب مالك -كما قلت- وأبي حنيفة، فهو تقريباً مذهب مشهور، يعني: اثنين من الأئمة المتبوعين إضافة إلى جماعة من السلف والأئمة كـالليث والثوري وقتادة والنخعي وشريح ومجاهد وعطاء وعروة والزهري وسعيد بن عبد العزيز وغيرهم، وسوف أعرض لأدلتهم على الكراهة بعدما أذكر بقية الأقوال باختصار.
القول الثالث: أنه يحرم أن يصلي تحية المسجد والإمام يخطب، وهذا ذكره الإمام أبو بكر بن العربي المالكي صاحب أحكام القرآن ، وكأنه يشدد في مذهبه، فمذهبه الكراهة ولكنه انتقل هو إلى أشد من الكراهة وهو التحريم.
والقول الرابع هو: التخيير بين فعل التحية وتركها.
وسبب الخلاف واضح: وهو التعارض بين الاستماع للخطبة الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في مثل حديث الباب (السابق)، وبين صلاة ركعتين كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة وغيره: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس)، وأيضاً في حديث جابر هنا في قصة الرجل، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (قم فاركع ركعتين)، فهذا هو سبب الخلاف في المسألة.
لكن القائلون باستحباب الصلاة حال الخطبة استدلوا بحديث جابر هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (قم فصل ركعتين)، وهذا أقوى حديث لهم؛ لأنه كما يقول العلماء: نص في مورد النزاع.
يعني: الآن الخلاف وارد، لكن إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أفتى ذلك الرجل وقال له: (قم فصل ركعتين) دل هذا على أن هذا يرفع النزاع، ويدل على أنه يستحب للإنسان أن يصلي ركعتين حتى لو دخل والإمام يخطب، والحديث كما ذكرنا حديث صحيح.
وقد ورد مثل هذا عن محمد بن قيس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يصلي ركعتين وأمسك عن الخطبة صلى الله عليه وسلم حتى انتهى من صلاته)، وهذا الأثر ذكره ابن أبي شيبة في مصنفه.
وأيضاً قالوا: لأنه لو دخل المسجد في وقت نهي لاستحب له أن يصلي ركعتين، فكذلك إذا دخل في وقت دخول الخطيب وكلامه، ولذلك قال الإمام النووي عند حديث: (إذا جاء أحدكم المسجد والإمام يخطب) قال: هذا نص -وهذا كلام جيد للإمام النووي رحمه الله- قال: هذا نص لا يتطرق إليه التأويل، ولا أظن عالماً يبلغه ويعتقده صحيحاً فيخالفه.
وهكذا ابن حزم رحمه الله يقول: هذا أمر لا حيلة لمموه فيه ولله تعالى الحمد! وهذا لا يعجبنا من ابن حزم رحمه الله أنه وصف العلماء بالتمويه، فحاشا أمثال الإمام مالك في جلالته وديانته وتقواه، وأتباعه أيضاً من الفقهاء والعلماء! ولكن جبل الله العباد على أن كل واحد ينظر إلى المسألة من زاوية معينة، وكما سوف أذكر لكم بعض أدلتهم؛ ليس لاعتقاد صوابها، ولكن حتى نتعلم على التعاذر وعدم الاستعجال في رد الأقوال.
الذين قالوا بكراهية التحية حال الخطبة استدلوا بأدلة:
منها: قول الله تعالى في القرآن: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204] كما ذكرنا، وأنها نزلت في خطبة الجمعة، فقالوا: إن الاستماع والإنصات ينافيه الكلام بمجرده، فكيف إذا كان كلاماً ومعه أيضاً فعل.
يعني: لو أنه تكلم وقلنا بمنع رد السلام ومنع تشميت العاطس وما أشبه ذلك، فكيف إذا تكلم وهو يتكلم في صلاته، منصرفاً عن الخطيب بتسبيح وذكر وقرآن يخصه هو، فهذا فيه نوع من المشاغلة.
وأنت عندما تتأمل هذا النص وهذا الاستدلال تجده قوياً أو ليس بقوي؟ فيه قوة، لكن الذي يحكم هذه المسألة أن المسألة فيها نص، وهو حديث جابر: (أصليت يا فلان؟ قال: لا. قال: قم فاركع ركعتين)، وإلا لو عريت المسألة عن هذا النص لكان القول بعدم صلاة ركعتين هو الأقوى، فهذا هو الدليل الأول.
ومن أدلتهم أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي قبله: (إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت) فقالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم منع من كلمة هي أمر بمعروف أو نهي عن منكر يقولها أحدنا لصاحبه لئلا يتشاغل عن الخطبة، فأن ينشغل بصلاة ركعتين بقيامها وقعودها وركوعها وسجودها؛ أن هذا أولى بالامتناع.
وورد عن ابن عمر رضي الله عنه أثر أنه قال: [ إذا دخل الرجل والإمام يخطب فلا صلاة ولا كلام ].
ونقول: هذا اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنه على فرض صحته عنه، فإن في صحته عنه نظراً؛ فإن فيه أيوب بن نهيك وهو منكر الحديث .
كما استدلوا بآثار عن بعض الصحابة ذكرها ابن أبي شيبة في مصنفه عن جماعة من الصحابة -كـعبد الله بن الزبير- والسلف والتابعين، في ترك تحية المسجد حال الخطبة.
والمالكية على وجه الخصوص استدلوا بعمل أهل المدينة؛ لأن عمل أهل المدينة من أصول الإمام مالك؛ أنه العمل الذي وجد عليه أهل المدينة تواطئوا عليه يرى أنهم أخذوه عن الصحابة والسلف، ولذلك فهو من أصوله كما هو معروف.
على كل حال! هذه المسألة ذكرنا فيها الأقوال ولا نطيل بذكر الأقوال الأخرى، وحججهم في رد الحديث، وإنما المقصود أن نشير إلى أن المسألة فيها أربعة أقوال:
استحباب صلاة ركعتين، وهذا هو الذي نرجحه لصراحة الحديث وقوته وصحته.
والقول الثاني: كراهية ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، وذكرنا أدلتهم.
القول الثالث: تحريم هذا، وهو مذهب ابن العربي.
القول الرابع: هو أن ذلك على التخيير، وكأنه تقابلت عنده الأدلة.
منها: استحباب تحية المسجد، بل قد يستدل به لمن قال بالوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يصليها حال الخطبة، ولكن الواقع أنه لا وجوب؛ لأنه ورد في حالات عديدة أن أناساً دخلوا، مثل حديث البخاري : ( الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً، فجاء ثلاثة نفر فوجد أحدهم فرجة فقعد، والآخر قعد إلى جنبهم والثالث انصرف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أوى إلى الله فآواه الله، والثاني استحيا فاستحيا الله منه، وقال عن الثالث: أعرض فأعرض الله عنه )، وتوجد أحاديث كثيرة ومتعددة تدل على أن تحية المسجد سنة. وهذه هي الفائدة الأولى.
ومن فوائد الحديث: استحباب تحية المسجد حال الخطبة، كما هو نص في الباب.
ومن فوائد الحديث: استحباب تحية المسجد حال وقت النهي، والمسألة أيضاً فيها خلاف؛ لأن: ( النبي عليه السلام نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس ) وهذه أحاديث متفق عليها ومشهورة، بل صحيحة وكثيرة جداً، وأمر بالصلاة فأيهما يقدم؟ فنقول: الأولى أن تقدم الصلاة (تحية المسجد)، والتطويل هنا ليس هذا موضع البسط فيه، لكن الحديث دليل على استحباب تحية المسجد حتى في وقت النهي. هذه ثلاث فوائد.
ومن فوائد الحديث أيضاً: استدل به بعضهم على أن المسجد يكون شرطاً للجمعة؛ لأن الحديث فيه ذكر الجمعة وفيه تحية المسجد، وهذا الاستدلال ليس بقوي على هذا الباب؛ لأن هذا أمر وقع، لكن أن تكون الجمعة لا تؤدى إلا في مسجد هذا فيه نظر، يعني: لو أنهم لم يكن عندهم مسجد وصلوا الجمعة في فناء مقارب للمسجد وما أشبه ذلك فإن ذلك جائز.
ومن فوائد الحديث أيضاً: أن تحية المسجد لا تفوت بالقعود اليسير، يعني: لو أن الإنسان جاء وقعد ناسياً أو لغير ذلك، ثم ذكر أو ذُكر فإنه يقوم ويقضيها، كما في قصة هذا الرجل الذي جلس ثم أقامه النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة ركعتين.
ومن فوائد الحديث: وجوب الإنصات للخطبة والاستماع إليها، ولهذا الصحابة كان من شدة التزامهم أن الواحد منهم يترك تحية المسجد حرصاً على الإنصات للخطبة.
هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر