أما بعد: فهذا الدرس رقم (159) من أمالي شرح بلوغ المرام، ينعقد في هذه الليلة ليلة الإثنين، الرابع والعشرين من شهر الله المحرم لسنة ألف وأربعمائة وخمس وعشرين للهجرة.
أما اليوم فعندنا ثلاثة أحاديث نحاول أن نأتي عليها:
والحديث الأول منها: هو حديث أبي بكرة رضي الله عنه: ( أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصاً ولا تعد ) هذا الحديث نسبه المصنف للبخاري، وقال: وزاد فيه أبو داود : ( فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف ).
ورواه أيضاً أبو داود -كما أشار المصنف- في كتاب الصلاة, باب الرجل يركع دون الصف.
ورواه النسائي في سننه أيضاً في أبواب الإمامة، باب الركوع دون الصف.
هذه مواضعه في الكتب الستة.
وقد رواه أيضاً ابن خزيمة، وابن حبان، وأحمد، والطيالسي، والبيهقي .. وغيرهم.
وإن كان الحديث في البخاري إلا أن في إسناده إشكالين ذكرهما أهل العلم:
الأول: الوصل والإرسال، هل الحديث موصول، بمعنى: أن الحسن -وهو راوي الحديث عن أبي بكرة هنا- أخذه عن أبي بكرة - الحسن البصري - أم هو مرسل، بمعنى: أن الحسن البصري ذكر أن أبا بكرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحسن لم يدرك هذه القصة، فيكون الحديث على هذا مرسلاً؟
إذاً: يجب أن نلاحظ أنه لو قال الحسن هنا -الراوي عن أبي بكرة - لما يقول الحسن : عن أبي بكرة، أو بالأولى لو صرح بالتحديد، وقال: حدثني أبو بكرة فهو موصول، لكن لو قال الحسن : (إن) مجرد حرف واحد يقلب المعنى، لو قال الحسن : (إن أبا بكرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم..) لكان الحديث مرسلاً؛ لأن الحسن لم يشهد القصة فهو من التابعين، وذلك أن زياداً الأعلم وهشاماً رويا الحديث عن الحسن عن أبي بكرة على أنه متصل، وهكذا جاء في سنن أبي داود عن الحسن : (أن أبا بكرة حدثه) وفي بعض النسخ: (أن أبا بكرة حدث) و(حدث) فيها بعض الإشكال، لكن لما يقول: (حدثه) معناه: أنه روى عنه مباشرة.
وهناك آخرون رووا الحديث عن الحسن مرسلاً، وهذا كثير في السنن والمسند، عن الحسن : ( أن أبا بكرة
المسألة الثانية وهي أعمق من الأولى: هل الحسن أخذ عن أبي بكرة أم لا؟ وهذا فيه اختلاف بين أهل الحديث، فإن منهم من يقول: إن الحسن لم يسمع من أبي بكرة، وهذا مذهب يحيى بن معين، والدارقطني كما في كتاب التتبع والإلزامات له، فإنهم يزعمون أو يرون أن الحسن البصري لم يرو عن أبي بكرة، وبناءً عليه يكون الحديث مرسلاً.
بينما مذهب علي بن المديني شيخ البخاري والبخاري نفسه رحمهم الله جميعاً: أن الحسن سمع من أبي بكرة، وأن مما سمع منه هذا الحديث .. وغيره.
ومما يقوي ذلك: أن الحسن قال: (إن أبا بكرة حدثه)، وكذلك هشام بن حسان روى عن الحسن، قال: (دخلت أنا وأنس بن مالك على أبي بكرة وهو مريض)، فهذا يدل على أنه قد لقيه وأخذ منه، وهذا هو الأقرب والله أعلم.
وبناءً عليه نقول: إن الحديث موصول وليس بمرسل، وأن اجتهاد البخاري رحمه الله في اعتبار الحديث متصلاً، وسياقه في صحيحه أنه رأي صحيح.
ولذلك قال الشافعي رحمه الله عن هذا الحديث، قال: إسناده حسن.
هذه المسألة الأولى، وهي ما يتعلق بسند الحديث.
أبو بكرة رضي الله عنه ما اسمه؟
نفيع بالتخفيف والتصغير، تصغير نافع، نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي , وهو من أهل الطائف، ولكنه عاش أكثر حياته بـالبصرة، ومات بـالبصرة أيضاً سنة اثنين وخمسين للهجرة, وله أخبار وقصص موجودة تبحث في مظانها في كتب التراجم، كـأسد الغابة، والإصابة، والاستيعاب.. وغيرها.
حال، (وهو راكع) جملة حالية، يعني: جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم حال ركوعه، حال كونه راكعاً في الصلاة.
قول النبي صلى الله عليه وسلم له: ( زادك الله حرصاً ولا تعد ) هذا النهي في قوله: (ولا تعد) اختلف الشراح في معناه، فالأقرب: أنه من العود وهو الرجوع، نهاه أن يعود إلى شيء ما، وهذا الذي نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يعود إليه الفعل: هو الإسراع في المشي إلى الصلاة، والسعي إليها، كما جاء في أحديث كثيرة: ( لا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وأنتم تمشون، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا ).
وكذلك نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر آخر وهو الركوع دون الصف؛ لأنه ركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فنقول: إنه نهاه عن الإسراع في المشي؛ لأنه حفزه النفس، وارتفع نفسه وبان عليه، وكذلك نهاه عن الركوع دون الصف, ثم المشي إلى الصف, وقيل: نهاه عن التأخر عن الصلاة حتى يركع الإمام، وهذا ضعيف؛ لأنه لا دليل عليه ولا مناسبة له.
وقيل: إنه قال له: (ولا تعدُ) من العدو بضم الدال، يعني: لا تعدُ لا تسرع، لا تركض.
وقيل: إنها: ولا تُعِد، يعني: ليس عليك أن تعيد الصلاة، بل صلاتك صحيحة.
والراجح المختار هو الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن الإسراع بحيث حفزه النفس، ويحتمل أن يدخل في ذلك أنه نهاه عن الركوع دون الصف.
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: وقد أشرنا إليها في الأسبوع الماضي: مسألة صلاة المنفرد خلف الصف، صلاة الإنسان المنفرد خلف الصف، وهذه المسألة أؤجلها قليلاً؛ لأنه سوف تأتي أحاديث تتعلق بها.
وننتقل بعدها إلى المسألة الثانية التي لا تحتمل التأجيل في حديث أبي بكرة وهي مسألة إدراك الركعة بإدراك الركوع. يعني: لو جاء المأموم والإمام راكع فركع معه هنا يكون فاته من الركعة قراءة الفاتحة، وأيضاً فاته القيام، وأما التكبيرة فيكبِّر، التكبيرة يكبر بالإجماع، وإنما فاته القيام مع الإمام قبل الركوع، وفاتته أيضاً قراءة الفاتحة، فهل يدرك الركعة بإدراك الركوع أو لا يدركها؟
هذه هي المسألة التي سوف نبحثها، وهي مسألة سهلة يسيرة من حيث الوضوح، وسهولة المأخذ والتصور.
فإن جماهير أهل العلم رأوا: أن الركعة تدرك بإدراك الركوع، وأن المأموم إذا جاء والإمام راكع ركع معه، واعتد بتلك الركعة، عدَّها من صلاته، وهذا المذهب المشهور عن الصحابة رضي الله عنهم، كـأبي بكر، وابن مسعود، وزيد، والزبير، وعبد الله بن عمر .. وغيرهم من الصحابة، وهو المشهور عن التابعين أيضاً، ومذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء، بل حكاه إسحاق بن راهويه إجماعاً للعلماء: أنهم أجمعوا على أنه إذا أدرك الركوع فقد أدرك الركعة.
وأحمد رحمه الله قال: ( لم يخالف في ذلك أحد من أهل الإسلام )، وهذه كلمة كبيرة جداً, لما تفكر في صدورها من الإمام أحمد، وهو صاحب الورع والتقوى والعلم والاطلاع على المقالات والمسائل والآراء الفقهية, ومع ذلك يقول: (لم يخالف في ذلك أحد من أهل الإسلام) وروي -كما قلت- عن جمع من الصحابة.
أما أدلة هذا القول فمن أقوى أدلتهم: حديث الباب، فإن أبا بكرة أسرع لإدراك الركوع؛ من أجل ماذا؟ من أجل إدراك الركعة, وهذا أمر بدهي معروف، وكل الناس إنما يسرعون إلى الركوع من أجل إدراك الركعة، لمعرفة أنه إذا نهض من الركوع فقد فاتته الركعة، وكأن هذا كان متقرراً عند الصحابة كلهم رضي الله عنهم.
وقد جاء لهذا الحديث شواهد كثيرة، كما ذكرت من فعل الصحابة، واعتبروا أن إدراك الركعة إدراك للركوع، وهو ظاهر، فقد فعله ابن مسعود رضي الله عنه، وفعله زيد بن ثابت، وفعله جماعة من التابعين, يعني: نقل عنهم، كـعروة، وسعيد بن جبير، وأبي سلمة وعطاء .. وغيرهم كثير، كانوا يجدون الإمام راكعاً فيركعون دون الصف، ثم يلحقون الصف، كما فعل أبو بكرة في هذا الحديث.
وهذا القول بإدراك الركعة أنه يحصل بإدراك الركوع، هو القول الصحيح المعتمد الذائع, الذي يكاد أن يكون إجماعاً عند العلماء السابقين، وعند الأمة في عصورها المتأخرة إلى عصرها الحاضر.
القول الثاني في هذه المسألة: أنه لا يقع له إدراك الركعة بإدراك الركوع، ولا بد أن يقرأ الفاتحة قبل أن يركع، وهذا القول يعتمد على أنه فاته القيام، وفاته قراءة الفاتحة، وأكثر من انتصر لهذا القول وعززه وانتصر له هو الإمام البخاري صاحب الصحيح، فإنه صنَّف فيه كتاباً خاصاً مطبوعاً سماه: القراءة خلف الإمام، وانتحل فيه هذا القول، وحاول أن ينصره ببعض الأقوال وبعض النصوص عن أبي هريرة، وعن عائشة رضي الله عنها، وهي أقوال ونصوص لا تعزز ما ذهب إليه؛ لأنها عمومات في وجوب قراءة الفاتحة، وأنه لا صلاة إلا بقراءتها، وهذا يحمل على من يستطيع أن يقرأها، ولم يرد عنهم نص صحيح صريح بأن من لم يدرك قراءة الفاتحة أنه لا يعتد بتلك الركعة.
وقد ذكر البخاري هذا القول عن شيخه علي بن المديني، وشيخه لم يكن من فقهاء أهل الحديث، وإنما كان ماهراً بالأسانيد والعلل .. وغيرها، أما الفقه في النصوص فشأن آخر.
وكذلك تابع الإمام البخاري بعد ذلك بعض المحدثين، كـابن خزيمة صاحب الصحيح وهو من الشافعية، وكذلك بعض أهل الظاهر، لكن البخاري هو أكثر من أشهر هذا الحديث؛ ولذلك قال ابن عبد البر رحمه الله: (لا أعلم أحداً قال به من فقهاء الأمصار)، وهكذا ابن رجب الحنبلي في شرحه لصحيح البخاري قال: (إنه قول محدث، لا سلف لهم فيه)، وحمل ابن رجب غفر الله له على البخاري حملة قوية شديدة على انتحاله هذا القول، حتى إن ابن رجب رحمه الله يقول: (هذا القول أو مثل هذا القول إنما يحمل عليه الشذوذ عن جماعة العلماء، والانفراد عنهم بالمقالات المنكرة عندهم) ولاشك أن القول غريب، وفيه شيء من الشذوذ عن قول الجماعة، ولكن أيضاً مثل البخاري رحمه الله في جلالته وإمامته، ممن يحتمل له تفرده بمثل هذه الأقوال والمسائل، وابن رجب رحمه الله أيضاً كما تعرفون شرح صحيح البخاري شرحاً عظيماً نافعاً، في كتاب طبع ما وجد منه، وهو اسمه فتح الباري، كاسم كتاب ابن حجر، وهو كتاب مليء بالعلم والتمييز والتحصيل والعلل، وعرض الأقوال .. وغيرها مما لا يوجد في غيره، وفضل البخاري عنده معروف، ولكنه اشتد عليه في هذا الموضع بالنظر إلى غرابة القول الذي ذهب إليه البخاري رحمه الله، وإلا فإن الطريقة التي كانت بين العلماء في الرد والمناقشة كانت فيها سعة وتحمل.
وقد ذكر غير واحد أن الحامل للبخاري رحمه الله على هذا القول، قد يكون شدة مخالفته لأهل الكوفة، فـالبخاري رحمه الله يخالف الأحناف كثيراً، وفي صحيحه كثيراً ما يقول: (وقال بعض الناس) ويقصد به أبا حنيفة أو أصحابه، فيرد عليهم، وهذا كثير لمن تتبع كتاب صحيح البخاري، فـالبخاري كان مولعاً بمخالفتهم؛ ويرى أنهم قد خالفوا النصوص في مسائل, فهو ينتصر للنص.
فما زالت به مخالفته لهم حتى وقع هو في هذا القول لشدة المخالفة؛ لأنهم هم يتوسعون في إجزاء الصلاة من غير قراءة الفاتحة، كما هو معروف من مذهبهم؛ فاشتد هو حتى التزم بهذا القول الذي يبطل ركعة من لم يقرأ الفاتحة، حتى لو كان مأموماً، ولم يدرك موضعها.
إذاً: هذه المسألة، وهي كما ذكرت لك مسألة يسيرة، ونحن ذكرنا أن الكافة من أهل العلم إلا ما ندر يرون أنه إذا أدرك الركوع أدرك الركعة، لكن حتى هؤلاء بينهم اختلافات: بماذا يدرك الركوع؟ فغالبهم يرون أنه يعتد بالركعة, إذا كبر وركع ويمكن أن يختصر التكبيرين: تكبيرة الإحرام، وتكبيرة الركوع بتكبير واحد، فيكبِّر للإحرام ويركع؛ فإذا ركع أجزأته الركعة، حتى لو نهض الإمام قبل أن يسبح هو, أو نهض الإمام قبل أن يطمئن في ركعته فإن ذلك يجزئه. هذا مذهب الأكثرين.
بل منهم من قال: إذا كبر أجزأته الركعة حتى لو نهض الإمام قبل أن يستتم هو راكعاً؛ لأنه لحق الإمام فيكون حكمه حكم المأموم الذي أدرك الصلاة من أولها. لو فاته الركوع لسبب ثم لحق بالإمام بعدما نهض فركع, ثم نهض وتبع إمامه، فإن ذلك يجزئه، وهذه مسائل تفصيلية ليس فيها إشكال على كل حال.
أولاً: حرص الصحابة على الجماعة, هذه أول فائدة كتبتها, حرص الصحابة على صلاة الجماعة، حتى إن أبا بكرة رضي الله عنه استعجل, وحفزه النفس من أجل أن يدرك الركوع مع الإمام، وقد ورد أن هذا كان في صلاة الفجر.
ثانياً: انتباه الإمام لما ينوب المصلين، وأن ذلك ليس شغلاً عن الصلاة.
ومنه تفطن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث لبكاء الصغير، قال: ( إني أدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأخففها شفقة على أمه ). ففيه: انتباه الإمام لما ينوب المصلين.
ثالثاً: حسن التعليم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالدعاء أولاً والثناء على حرصه، بقوله: ( زادك الله حرصاً )، يعني: أنت حريص. هذا أولاً.
ثانياً: ( زادك الله حرصاً ), والداعي من هو؟ هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: ( ولا تعد ). فما غفل النبي صلى الله عليه وسلم -وحاشاه- عن حرص الرجل, وأن الدافع له هو الخير، ولا عن التقدمة بالدعاء الطيب، ولا عن التوجيه والإرشاد لما هو خير وأفضل بقوله: ( ولا تعد ). فهذا فيه حسن التربية والتعليم.
رابعاً: أن الخشوع والأدب في الصلاة مقدم على إدراك الركعة؛ لأن أبا بكرة حفزه النفس وارتفع نفسه، ومثل هذا غالباً لا يكون عنده من الحضور في صلاته ما عند غيره؛ ولهذا في الحديث قال: ( ائتوها وعليكم السكينة ) في بعض الألفاظ، فهذا دليل على تقديم الخشوع في الصلاة على إدراك قدر أكبر منها.
خامساً: أن الحركة اليسيرة في الصلاة لا تبطلها، وهذا نأخذه من أن أبا بكرة رضي الله عنه مشى إلى الصف وهو راكع، ومع ذلك لم يبطل الرسول صلى الله عليه وسلم صلاته، ومشيه هنا لسبب؛ حتى يصاف الناس.
سادساً: المبادرة في التصحيح في وقته المناسب؛ ولذلك يقول الأصوليون: تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
فينبغي أن يكون البيان والتعليم في وقته المناسب، إلا أن توجد حاجة تدعو إلى تأخيره، مثل أن يكون الإنسان غير مهيأ لقبول الموعظة أو التعليم؛ فيؤجله الإنسان إذا تبين أن في ذلك مصلحة.
سابعاً: قد يستدل به على من يرى سقوط الفاتحة عن المأموم إذا تحملها الإمام، وهذا بحثناه في درس مستقل، ورجحنا فيه: أن قراءة الفاتحة لا تجب على المأموم في الصلاة الجهرية إذا جهر إمامه، نعم.
ثامناً: من فوائد الحديث: الدخول مع الإمام على الحال التي هو عليها، إن أدركه راكعاً ركع، أو ساجداً سجد، أو قاعداً قعد، أو قائماً قام، وهذا قد ورد فيه أحاديث عند أبي داود .. وغيره عن أبي هريرة، وعن معاذ بن جبل، وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا أتيتم وأنا على حال، فكونوا على الحال التي أنا عليها )، وإن كانت هذه الأحاديث ضعيفة، إلا أنها تعتضد بمجموعها، وبمثل حديث أبي بكرة .. وغيره، وبمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فما أدركتم فصلوا )، فبعض الناس ينتظر إذا وجد الإمام راكعاً -مثلاً- حتى يقوم، فنقول: الأفضل أن ينضم معه على الحال التي هو عليها.
تاسعاً: من فوائد الحديث: إدراك الركعة بإدراك الركوع، كما ذكرناه مذهب الأئمة .. وغيرهم.
عاشراً: من فوائد الحديث: أنه لا إعادة على من فعل ذلك، ولا بطلان لصلاته، يعني: لو ركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة على ما هو ظاهر.
الحادي عشر من فوائد الحديث: سؤال الإمام أو الشيخ أو الأستاذ عمن فعل كذا، يسأل طلابه .. وغيرهم، وأن هذا ليس فيه تثريب، وتعويد الناس على الأمانة والصدق، يعني: أبو بكرة لم يكن يدري لم السؤال، ربما كان لتوبيخ أو عتاب .. أو غير ذلك، وكثيراً ما يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: من قال كذا؟ من قال كذا؟
الثاني عشر من فوائد الحديث: أنه قد يؤخذ منه وإن كان ليس منصوصاً عليه: سقوط تكبيرة الانتقال إلى الركوع، وهذا مشهور عند الفقهاء، أنه يكفيه تكبيرة الإحرام، وتدخل تكبيرة الانتقال فيها؛ لأنهما واجبان متماثلان في وقت واحد.
هذا انتهينا منه الآن: حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وقلت لكم: إن فيه مسألة كبيرة متعلقة بصلاة المنفرد خلف الصف، وتأتي.
وقد رواه أحمد في المسند في مواضع عديدة, منها: المجلد الرابع (ص:228).
ورواه أيضاً أبو داود في كتاب الصلاة، في الرجل يصلي وحده خلف الصف، تقريباً نفس الموضع الذي روى فيه حديث أبي بكرة إلى جواره.
وكذلك رواه الترمذي في كتاب الصلاة أيضاً، في الصلاة خلف الصف وحده.
ورواه ابن ماجه , وهذا مما لم يشر إليه المصنف وهو من شرطه، فقد رواه ابن ماجه في سننه، باب صلاة الرجل خلف الصف وحده.
وممن روى الحديث البيهقي في السنن , وابن حبان في صحيحه , والطبراني في معجمه , والطحاوي في شرح معاني الآثار , والبغوي في شرح السنة .. وغيرهم.
وهذا الحديث عندنا فيه إشكال، أسأل الله أن يعيننا على تبسيطه وشرحه.
أولاً: صحح الحديث جماعة من العلماء, ذكر المصنف منهم هنا الترمذي أنه حسنه، وابن حبان أيضاً، قال: وصححه ابن حبان، وكذلك ابن خزيمة رواه في صحيحه وصححه، وأحمد وإسحاق بن راهويه قالا عنه: إنه حديث حسن، وابن حزم في المحلى قال: حديث صحيح، والبغوي في شرح السنة كما ذكرت لكم. قال: حديث وابصة حديث حسن، وابن تيمية وابن القيم رحمهما الله صححاه أيضاً، وعبد الحق الإشبيلي صاحب الأحكام الكبرى نقل تصحيح الحديث عن جماعة من أهل العلم.
ومن المعاصرين: صححه الشيخ الألباني , والشيخ أحمد شاكر , والشيخ ابن باز رحمهم الله جميعاً.
إذاً: ثبوت هذا الحديث تصحيحاً أو تحسيناً شهير, وهو الأكثر عند الأئمة.
أما ما يتعلق بمشكلة الإسناد فكنت حريصاً على أن آتي بلوحة، وسنفعل ذلك إن شاء الله في الأسبوع القادم، وأشرح لكم عليها طريقة الإسناد، لكن اليوم لأنه لا توجد هذه اللوحة، فيا ليت تكتبون ولو بشكل مختصر نوع المشكلة الموجودة في الحديث.
الحديث صحابيه هو وابصة بن معبد رضي الله عنه الجهني، هذا الصحابي.
رُوِي عن وابصة من طريقين:
الطريق الأول: رواه عن وابصة عمرو بن راشد، من الممكن أن تضع سهماً إلى اليمين مثلاً: عمرو بن راشد رواه عن وابصة بن معبد .
طيب, عمرو بن راشد هذا ذكره البخاري في التاريخ الكبير، وأبو حاتم الرازي في كتاب الجرح والتعديل، ذكروه وترجموه ولم يذكروا فيه جرحاً ولا تعديلاً، فالعادة أنهم يقولون: سكتوا عنه، وسكوتهم لا يعني شيئاً، لا ينسب لساكت قول، لا يعني تجريحاً ولا يعني توثيقاً، ولكن وثقه ابن حبان كما في الثقات، وكذلك الذهبي في كتاب الكاشف، قال: ثقة، والإمام أحمد -وهذا شيء مهم- نقل عنه أنه قال: ثقة، وابن حزم وثقه.
إذاً: عمرو بن راشد وثقه جماعة، نستطيع أن نذكر منهم مثلاً: أحمد بن حنبل، ابن حزم، ابن حبان، الذهبي.
وهناك آخرون ضعفوا عمراً هذا أو جهلوه. يعني: عدوه مجهولاً، فـالبزار أشار إلى ضعفه, وتابعه على ذلك بعض المتأخرين، كالشيخ الألباني، وكأنهم لم يطلعوا على من وثقوه، والبزار ليس من الأئمة المختصين في شأن الجرح والتعديل.
إذاً: عمرو بن راشد لا إشكال فيه فهو ثقة.
رواه عن عمرو بن راشد هلال بن يساف، ورواه عن هلال بن يساف عمرو بن مرة، فهذا الطريق إذاً يعرف بطريق عمرو بن مرة .
لو أردنا أن نسوق الطريق هذا، نقول: عمرو بن مرة عن هلال بن يساف عن عمرو بن راشد عن وابصة . هذا هو الطريق الأول.
وهذا الطريق رجحه أئمة كبار، كـأبي حاتم الرازي، والإمام أحمد ؛ وذلك لأن عمرو بن مرة عندهم أحفظ من غيره؛ فقالوا: هذا السند هو المعتمد. أحمد بن حنبل، وأبو حاتم الرازي .
الطريق الثاني: عندنا وابصة بن معبد الصحابي رضي الله عنه، رواه عنه زياد بن أبي الجعد، يعني: زياد بن أبي الجعد يكون في رتبة موازية لمن؟ لـعمرو بن راشد .
وزياد بن أبي الجعد ابن حبان قال: ثقة، وابن حجر في التقريب قال: مقبول، أيهم في الميزان أثقل الآن؟ زياد أو عمرو بن راشد؟
عمرو بن راشد . يعني: زياد -وإن كان توبع- هو أقل درجة من عمرو , لكن حصل له متابعة.
طيب. زياد رواه عنه: هلال بن يساف نفسه، يعني: الراوي عن عمرو بن راشد هو الراوي عن زياد بن أبي الجعد .
إذاً: زياد بن أبي الجعد رواه عنه هلال بن يساف، فالحديث على هذا موجود عند هلال بن يساف من كم طريق؟
من طريقين:
الأول: عن عمرو بن راشد، والثاني: عن زياد بن أبي الجعد . هل هذا يقوي الحديث أو يضعفه؟
أحياناً العوام عندنا يقولون: ( الزود أخو النقص)، وهذه لعلها من هذا الباب، فيحتمل أن يكون هلال أخذ الحديث عن زياد وعن عمرو، هذا يحتمل، ويحتمل أن يكون حصل عنده ماذا؟ اضطراب. يسمونه اضطراب, والاضطراب من أسباب ضعف الحديث.
زياد بن أبي الجعد رواه عنه هلال بن يساف، ورواه عن هلال بن يساف حصين بن عبد الرحمن الحميري . هذا الطريق الثاني الذي من الممكن أن تقولوه لنا: حصين بن عبد الرحمن الحميري عن هلال بن يساف عن زياد عن وابصة . هذا هو الطريق الثاني.
إذاً: عندنا سلسلتان الآن، لو كان هناك سبورة كانت واضحة أكثر. لكن إن شاء الله وضحت، يبدو من كلامكم وجوابكم أنها واضحة.
الطريق الثاني: الذي هو طريق زياد بن أبي الجعد، هناك من رجحوه، وممن رجحه الترمذي في صحيحه، لما ذكر سياق الحديث رجح هذا الطريق، وكذلك الدارمي، وقالوا: لأن حصين بن عبد الرحمن لم ينفرد به, بل توبع، تابعه أبو الأحوص .. وغيره، كما ذكر ذلك الترمذي .
إذاً: هذه المشكلة متعلقة بهذا الحديث؛ ولذلك العلماء اختلفوا تقريباً على ثلاثة مذاهب في موقفهم من هذا الحديث.
المذهب الأول: من رجحوا -كما ذكرنا- رواية عمرو بن مرة، عن هلال بن يساف عن عمرو بن راشد عن وابصة التي هي الرواية رقم واحد كما ذكرنا، وهؤلاء مثل: أحمد بن حنبل، وأبي حاتم .
الفئة الثانية: من رجحوا رواية حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف عن زياد عن وابصة . وهذا مثل من؟ الترمذي والدارمي فقط.
الاتجاه الثالث أو الموقف أو الرأي الثالث للعلماء: من أعلُّوا الحديث بهذا الاضطراب، فاعتبروا أن مجيئه من طريقين دليل على عدم ضبط الراوي، وأنه مرة يقول كذا، ومرة يقول كذا، وبناءً عليه ضعفوا الحديث، وممن ضعف الحديث على هذا: البزار، فإنه قد نقل عنه شيء من ذلك, والشافعي، فإن الشافعي في القديم قال: لو صح الحديث لقلت به، أو قال: إن صح الحديث، يعني: توقف في صحة الحديث، ثم فيما بعد أعله بالاضطراب، فكأنه لم يثبت عنده، وهكذا أيضاً البيهقي رحمه الله قال: لم يخرجه صاحبا الصحيح -يعني: البخاري ومسلم- وذلك للاضطراب الحاصل في إسناده، أو الاختلاف الحاصل في إسناده.
إذاً: الحديث وإن كان فيه اضطراب إلا أننا نرجح ثبوته؛ لما ذكرناه عن أكثر الأئمة والعلماء أنهم أثبتوه وصححوه، وبالذات الطريق الأول الذي هو طريق عمرو بن مرة .
قوله: ( يصلي خلف الصف )، واضح أنه كان يصلي فرضاً ومنفرداً، فهو لم يكن يصلي نافلة، ولم يكن مصافاً لغيره، كان منفرداً ويصلي الفريضة, يعني: مؤتماً بالإمام.
قوله: ( فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد ) يعني: أن يعيد تلك الصلاة التي صلى، وهذا قد يدل على بطلان الصلاة الأولى؛ لأنه لا صلاتان في يوم معاً، لا تصلي الظهر مرتين، ولا العصر مرتين، فهذا دليل على بطلان الصلاة الأولى.
وقيل: إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم له بالإعادة ليس أمر وجوب، وإنما هو أمر استحباب، كما ذكره البغوي في شرح السنة .. وغيره. وهذا له وجه؛ لأنه لو بطلت الصلاة لما كان هناك معنى في الاستمرار عليها، يعني: لو بطلت الصلاة لأُمر بأن يقطع صلاته ويستأنفها، فإن من المعروف أن العبادات إذا شرع فيها الإنسان ثم بطلت أنه يستأنفها، إلا الحج والعمرة، فإن الإنسان لو أفسدهما كمن جامع مثلاً بعدما أحرم قبل أن يطوف، أو قبل أن يقف بـعرفة، فإن الحج يفسد, ومع ذلك يؤمر بإتمامه والمضي فيه، أما ما سوى ذلك كالصلاة والصيام .. وغيرها، فإن الإنسان إذا أفسدها أو أبطلها يستأنفها من أولها، ولا داعي لأن يستمر فيها.
المسألة في هذا الحديث هي مسألة صلاة المنفرد خلف الصف.
الحديث فيه عدة فوائد، منها: وجوب المصافة في صلاة الجماعة، وهذا ذكرناه في حديث ابن عباس السابق، يعني: وجوب أن يكون الناس صفوفاً خلف الإمام، وألا يصف كل أحد منهم كيفما اتفق, أو يقفون طوابير وراء الإمام مثلاً! فإن هذا فاسد بالإجماع، وإنما الواجب أن يصفوا صفوفاً خلف الإمام من اليمين إلى الشمال.
كذلك: وجوب المصافة في صلاة الجماعة للقادر على ذلك؛ لأنه أمره أن يعيد؛ فدل ذلك على أنه يجب عليه أن يصف مع الجماعة.
من فوائد الحديث: أمر المنفرد خلف الجماعة لغير عذر بالإعادة، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم.
أيضاً من فوائد الحديث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل .
الأقرب أن مرجع الضمير للإمام أحمد ؛ لأنه في الحديث السابق قال: رواه أحمد، الذي هو حديث وابصة، قال: رواه أحمد، فقوله هنا: (وله) هذا لـأحمد بن حنبل، ويحتمل أن يكون مرجع الضمير لـابن حبان أيضاً؛ لأن حديث طلق رضي الله عنه، كما سماه المصنف، وإن كان لنا اعتراض على نسبته إلى طلق - لكن هذا الحديث رواه أحمد في المسند المجلد الرابع (ص:23).
ورواه ابن ماجه في الصلاة أيضاً في الباب السابق.
ورواه ابن حبان في صحيحه، وابن خزيمة، والبيهقي، والطحاوي .. وغيرهم.
لكن في كل مواضع الحديث بعد التتبع يتبين أن قول المصنف رحمه الله هنا: (عن طلق ) أنه وهم منه، وليس الحديث عن طلق بن علي، وإنما الحديث عن علي بن شيبان، ويقع بينهما لبس أحياناً، فالحديث إذاً هو من طريق ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه، فصحابي الحديث ليس طلقاً، كما ذكره المصنف، ولكنه علي بن شيبان، وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن ذكر طلق وهم من الحافظ ابن حجر رحمه الله.
ملازم بن عمرو الراوي لهذا الحديث صدوق حسن الحديث، وثقه جماعة كـابن أبي شيبة، وابن نمير، وابن حزم .. وغيرهم، وهو روى الحديث عن عبد الله بن بدر، وعبد الله رواه عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان , وعبد الرحمن بن علي أيضاً وثقه ابن حبان والعجلي وابن حزم وأبو العرب التميمي، وقال ابن حجر في التقريب : إنه ثقة، فسند هذا الحديث جيِّد؛ ولذلك صححه الكثيرون على أنه مشهور تضعيفه، إلا أن الذين صححوه أكثر, ممن صحح الحديث: ابن عبد الهادي في التنقيح . قال: إسناده قوي، وابن سيد الناس قال: رجاله ثقات معروفون، أو رواته ثقات معروفون، وأحمد بن حنبل قال: حديث حسن، وابن تيمية قال: وإسناد حديث وابصة السابق مما تقوم به الحجة، وكما ذكرت لكم ابن خزيمة صححه، وابن حبان، والبوصيري في مصباح الزجاجة على سنن ابن ماجه قال أيضاً: إسناده صحيح ورجاله ثقات، فأكثر المحدثين أيضاً على تصحيح هذا الحديث، وبكل حال فهو يصلح شاهداً لحديث وابصة بن معبد، يعني: يقوي أحدهما الآخر.
صحابي الحديث هو علي بن شيبان، وهو صحابي جاء متأخراً إلى المدينة في وفد بني حنيفة؛ ولذلك في نفس الحديث، وهو أحد الستة الذين جاءوا في الوفد، كأن وفد بني حنيفة من أهل نجد كانوا ستة، وكان علي رضي الله عنه معهم، فهو من اليمامة، وبالذات من بني حنيفة من بني سحيم، فهو سحيمي.
هذا ما يتعلق بالحديث وتخريجه، ومسألة الصلاة خلف الصف سوف تأتي.
وقد جاء لهذا الحديث نظائر أخرى وطرق, منها: حديث عن ابن عباس .. وغيره، ولكن كلها طرق واهية لا يفرح بها.
فهذا المعنى لا يلتفت إليه, ولا ينبغي للإنسان إذا لم يجد أحداً أن يجر رجلاً من الصف، بل يصف وحده، وتسقط عنه المصافة للعجز، كما سوف نشير.
وأما اجترار رجل من الصف المقدم فهذه فيها عدة مفاسد:
أولاً: فيها حركة في الصلاة.
ثانياً: فيها ظلم لهذا الرجل المجرور؛ لأنه جاء متقدماً وفي الصف الأول، ثم تجره إلى الصف المتأخر.
وثالثاً: فيها نوع من المنة للناس، والعادة أن النبي صلى الله عليه وسلم يربي المؤمن على الاستغناء عن الناس، وليس الاحتياج إليهم بمثل هذا.
المفسدة الرابعة: أنه يترتب عليها وجود خلل في الصف مكان الرجل الأول يظل فرجة، فإن تراص الناس ترتبت عليه حركة كبيرة جداً لعدد كبير من المصلين في غير طائل، إضافة إلى أن فيها إلزام الغير بما ليس بلازم أصلاً؛ ولذلك لو أن إنساناً جره من ورائه، هل يلزمه أن يستجيب له؟
لا، ليس فيه دليل أنه يستجيب له، بل الأولى والأفضل في حقه ألا يستجيب, وأن يحافظ على مكانه.
فنقول: إن هذا الأمر ليس بسنة ولا يثبت ولا يشرع.
إذاً: هذا القول إذا لاحظت الذين قالوا به تجد أنهم جمع كبير، وهذا يوجب للإنسان أن يتأنى، ليس بلازم أن ترجح هذا القول، لكن تتأنى في مسألة الإنكار والتغيير والتعليم؛ لأن هذه مسائل قديمة، وفيها نصوص مختلفة متعارضة؛ فيتأنى الإنسان ويسمع للأقوال الأخرى ويعدل فيها.
أدلتهم:
أولاً: حديث أنس بن مالك كما ذكرناه في الأسبوع الماضي، وفيه: ( أن المرأة صلت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وحدها ولم يأمرها بالإعادة )، وقالوا: ما جاز للنساء فإنه يجوز للرجال.
وهذا في نظري ليس بقوي هذا الاستدلال؛ لأن وقوف المرأة حينئذ وحدها مشروع قطعاً، وقد بيناه في موضعه، ولولا أنها وقفت وحدها لاضطرت إلى أن تقف مع الرجال، وهذا موقف منهي عنه.
ومن أدلتهم أيضاً: حديث ابن عباس - وقد ذكرناه سابقاً- في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم عن يساره، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بأذنه وأداره عن يمينه؛ فقالوا: كون ابن عباس خلال الإدارة كان منفرداً خلف الإمام، ومع ذلك لم تبطل صلاته، وأيضاً في هذا الاستدلال نظر؛ لأننا نقول: إن وقت الإدارة كان يسيراً جداً، ولا يعد صاحبها منفرداً، فهو أشبه بمن كبر دون الصف, ثم لحق الإمام في الركوع، كما في قصة أبي بكرة .
الدليل الثالث عندهم: حديث أبي بكرة نفسه، فإنه كبر وركع دون الصف, ثم لحق بالإمام، وليس في الحديث نص على أنه أدرك الإمام وهو راكع، وإن كان هذا عند الطبراني، لكن فيه نظر، فـأبو بكرة كبر دون الصف، وقد ورد ما فعله أبو بكرة من فعل غيره من الصحابة، كما أشرت إليه قبل قليل، وهذا قد يجاب فيه، ويقال فيه ما يقال في حديث ابن عباس : أن الوقت كان زمناً يسيراً، فهو بمنزلة أن يقف الرجل وحده قليلاً، ثم يجيء آخر فيصافه، وهذا جائز عند الأئمة.
وقد يعترض على هذا الاستدلال بأمرين:
الأول: التردد في ثبوت الأحاديث، فقد ذكرنا شيئاً من اختلاف العلماء فيها, واضطراب الرواة في سياق أسانيدها.
الاعتراض الثاني: أن يكون نفي الصلاة نفي كمال الصلاة، أي: لا صلاة كاملة أو فاضلة، ولا يلزم أن يكون ذلك معناه نفي الصحة أو الإجزاء.
ودل على وجوب المصافة الأحاديث السابقة، كحديث وابصة، وعلي بن شيبان، هذه تدل على وجوب المصافة.
أما على سقوط المصافة بالعجز فدلت عليها نصوص أخرى, كما في قوله تعالى: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286], وقوله سبحانه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286], فجميع الواجبات- حتى الواجبات المجمع عليها في الصلاة- تسقط إذا عجز الإنسان عنها، مثل: القيام: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238], ومع ذلك لو أن إنساناً عجز عن القيام سقط، والقيام مع القدرة كما هو معروف: ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب).
ولذلك من قواعد الشريعة: أنه لا واجب مع العجز، ولا حرام مع الضرورة، وهذه القاعدة تذكر وتقيد، أنه: لا واجب مع العجز، ولا حرام مع الضرورة.
ويبدو أن القولين الأخيرين أولى بالقبول ولا تعارض بينهما، فنقول:
أولاً: من لم يستطع المصافة سقطت عنه، ولا يجتر رجلاً من الصف, ولا ينتظر حتى يأتي غيره، وإنما يكبر ويصلي وحده وصلاته صحيحة.
وثانياً: لو أنه كبر دون الصف أو دون الإمام، ثم مشى إليه دون أن تكون المسافة بعيدة أجزأه ذلك، أما إن كانت بعيدة فلا يجزئ؛ لأن فيها حركة طويلة في الصلاة.
ولذلك بحث العلماء مقدار الحركة. يعني: ما هو الضابط في أن يكون يسيراً؟ وممن ذكر ذلك العيني في شرح البخاري، فبعضهم قالوا: ما بين الصفين، يعني: كون المسافة بمقدار ما بين الصفين وما بين الفرجتين، وربما يعود الأمر في ذلك إلى أن يكون يسيراً بالعرف، أن يكون يسيراً في عرف الناس.
ومع ذلك فإن هذا هو الأمر الذي نرجحه, وأنه لا يجزئ الإنسان أن يصلي منفرداً خلف الصف طيلة ركعته ولغير عذر، لغير عجز، مع ذلك فإننا نود أن نشير إلى أن القول الأول الذي يجيز صلاة المنفرد خلف الصف قال به كثير من السلف والخلف، ولهم أدلة ومآخذ, وربما يرون أن هذه من المسائل الظاهرة المتكررة التي تمس الحاجة إلى كشفها وبيانها؛ فيحتاج القول فيها إلى أدلة قوية ظاهرة لدعمها وتثبيتها؛ ولذلك كان مالك رحمه الله يرى أنه لا بأس أن يقف الرجل وحده خلف الصف، فيصلي بصلاة الإمام، وهو الشأن عنده، وكأنه يرى هذا عمل أهل المدينة , وهو يحتج به كما هو معروف من مذهبه، فلا يُحرَّج ولا يثرب على من فعل ذلك، فهذا اختيار جماعة من أهل العلم والفقه والإمامة ...
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر