الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
اليوم عندنا ثلاثة أحاديث تقريباً، هي أربعة لكن نأخذ منها ثلاثة ...
الحديث الأول حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: ( احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة مخصفة، فصلى فيها فتتبع إليه رجال فصلوا بصلاته، -وفيه قال:- أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة )، والحديث كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى: متفق عليه.
وكذلك رواه مسلم رحمه الله، في كتاب المسافرين، باب استحباب صلاة النافلة في بيته.
ورواه أيضاً أبو داود في الكتاب نفسه، في باب فضل التطوع في البيت.
والترمذي في الباب نفسه، أيضاً في الصلاة، باب التطوع في البيت.
والنسائي في كتاب الإمامة.. وغيرهم، رواه جماعة من أهل العلم، كالإمام أحمد في مسنده، والبيهقي في سننه، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما.. وغيرهما.
هذا اللفظ الذي ساقه المصنف رحمه الله، لم أجده بحروفه في شيء من هذه المراجع، لكن أقرب الألفاظ إلى لفظ المصنف، هو ما ذكره البخاري رحمه الله في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله تعالى، فإن البخاري رحمه الله قال فيما يرويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيرة مخصفة، أو حصيراً، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيها، فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته، ثم جاءوا ليلة فحضروا، وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحصبوا الباب، فخرج إليهم صلى الله عليه وسلم مغضباً، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما زال بكم صنيعكم حتى خشيت أن تفرض عليكم، فصلوا أيها الناس في بيوتكم -أو قال: (فعليكم بالصلاة في بيوتكم) هذا لفظ- فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة ).
هذا أقرب لفظ لما ساقه المصنف رحمه الله، هذا ما يتعلق بتخريج الحديث.
قولها رضي الله عنها: ( احتجر رسول الله صلى الله عليه وسلم )، بالراء، وفي رواية للبخاري : (احتجز) بالزاي، والمعنى متقارب، أي: أنه احتجر ذلك، أي: جعله حجرة، أي: حوطه عليه الصلاة والسلام.
وقوله: (احتجز) بالزاي أي: جعله حاجزاً بينه وبين الناس.
والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك حتى يصلي فيه، فيكون هذا الحصير الذي احتجزه النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله كالحائط، يكون ذلك سترة له في صلاته، ويمنع التشويش عليه صلى الله عليه وآله وسلم.
قوله: (حجرة)، وفي رواية: (حجيرة)، والحجيرة: تصغير حجرة، وأيضاً هذا في صحيح البخاري جاء في بعض الألفاظ بالزاي: (حجزة) وهو كما سبق.
وقوله: (مخصفة) هاهنا، أي: أنها من خصف، والخصف: هو بفتح الخاء والصاد: هو ما يتخذ من الخوص، سواء كان من خوص النخل أو غيره، يسمى خصفاً، والفرش الذي يصنع من الخوص، ويقعد عليه يسمى خصفاً، وهذا لا يزال معروفاً عند العامة إلى اليوم.
وقولها رضي الله عنه في حديث الباب وفي رواية البخاري : (فتتبع إليه رجال) هكذا: تتبعوا إليه، وأصل التتبع هو الطلب، والمعنى: أنهم طلبوا موضع النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا إليه؛ ليصلوا بصلاته.
وفي رواية لـمسلم رحمه الله قالت: ( حتى اجتمع إليه ناس )، وهو يبين المعنى، وجاء في لفظ في حديث عائشة رضي الله عنها، وهو بمعنى الحديث هذا، أنها قالت: ( فثاب إليه رجال )، والخطابي رحمه الله رواه بلفظ: ( فآب )، وفي رواية: ( فثار )، والمعنى واحد: (ثاب) و(آب) و(ثار)، ثاب وآب معناهما متقارب، أي: رجع، وثاروا أي: قاموا إليه وجاءوا، والمعاني هذه كلها تدور حول أنهم اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلوا بصلاته.
المقصود جنس الرجال، ويخرج من ذلك: النساء بدليل قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن )، فقوله: (وبيوتهن خير لهن) دليل على أن المرأة صلاتها في بيتها أفضل، سواء في ذلك النافلة أو ماذا؟ أو المكتوبة، أما إن قالوا له: ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )، فهو الرجل خاصة.
هذا رقم واحد مما يستثنى.
ورقم اثنين مما يستثنى: تحية المسجد، وذلك؛ لأنها إنما تفعل بمناسبة الدخول إلى المسجد، والبقاء والمكث فيه، وإن كان في هذا نظر، من حيث إن المقصود والله تعالى أعلم الصلوات التي تصح في البيوت وفي المساجد، فيقال: إنها في البيت أفضل، أما تحية المسجد فقد لا يتصور أن يقال: إنها في البيت أفضل؛ لأنها لا تشرع أصلاً إلا بمناسبة أو سبب دخول المسجد، ولكن عدها بعض أهل العلم مما يستثنى من حديث الباب.
ثالثاً: صلاة الجنازة، إن قلنا: إنها مما تشرع لها الجماعة فهذا شيء، ومع ذلك صلاة الجنازة ما كانت تصلى في المسجد إلا أحياناً، الغالب أنها كانت تصلى خارج المسجد، لكن من المعلوم أنها ليست في البيوت؛ لأنها داخلة فيما تشرع له الجماعة.
الثالث: ما يشرع لمناسبة البقاء في المسجد، كصلاة ركعتين بعدما تطلع الشمس قدر رمح، في حق من جلس في المصلى بعد صلاة الفجر، حتى تطلع الشمس، وقد جاء في هذا أحاديث سبقت.
الرابع مما يستثنى: صلاة العودة من السفر عند القائلين بها، ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى المسجد، فيصلي فيه ركعتين ) كما في حديث كعب بن مالك، وهو حديث متفق عليه.
الخامس: ركعتا الطواف، فإن السنة أن تصلى في المسجد خلف المقام، كما جاءت في ذلك أحاديث قولية وفعلية عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس مما يستثنى: الصلاة في مسجد قباء، وكذلك الصلاة التي نقلها ابن عمر وغيره: ( أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء كل سبت ماشياً، فيصلي فيه ركعتين ).
أيضاً مما يستثنى من ذلك ذكره جماعة: التنفل قبل صلاة الجمعة، سواء قبل الزوال أو بعده، فقد جاء في الحديث الذي في الصحيح قال: ( من جاء المسجد يوم الجمعة ثم صلى ما كتب له ... )، فهذا ظاهر أن المقصود في المسجد لمشروعية المبادرة إلى الصلاة، كما في الحديث المتفق عليه: ( من راح في الساعة الأولى.. ) .. إلى آخر الحديث، فالتنفل يوم الجمعة قبل الزوال أو بعده مما يستثنى أيضاً.
كم صارت المستثنيات؟
سبعة أنواع.
كذلك صلاة النوافل في الحرم المكي أفضل، ثم الحرم المدني، وهذا أيضاً يدخل فيما يستثنى فيما يتعلق بالحرم، خاصة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد المدينة، ومسجد مكة، إن قلنا: إن الفضيلة خاصة بالمسجد، فينبغي أن يقال: إن الصلاة فيه أفضل، وإن قلنا: إن الفضيلة عامة، كما هو الأقرب وعليه تدل النصوص، أن الفضيلة عامة لكل الحرم، فحينئذ تكون الصلاة في البيت إذا كان داخل الحرم أفضل من الصلاة في المسجد.
أقول: إن الحديث فيه صلاة النافلة في البيت، وصلاة النافلة في البيت فيها ثلاثة أمور:
أولها: المستثنيات من ذلك، وقد ذكرناها.
أولها: أن ذلك أبعد عن الرياء، وأخفى عن الأنظار، وأقرب إلى تحقيق الإخلاص لله جل وتعالى.
السبب الثاني: أن ذلك يكون سبباً في طرد الشيطان من المنزل؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح: ( إن الشيطان لا يقرب البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ).
السبب الثالث: أن ذلك يكون سبباً لنزول الملائكة في البيت، ونزول الرحمة، وأن يشمل الأهل والأطفال، ومن في المنزل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم وغيره عن أبي موسى : ( مثل البيت الذي يذكر فيه الله والبيت الذي لا يذكر فيه الله مثل الحي والميت ).
السبب الرابع: لئلا يكون في ذلك تشبيه للبيوت بالقبور؛ ولهذا جاء في حديث ابن عمر المتفق عليه: ( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً ) أي: كهيئة القبور لا يصلى فيها، فيكون في ذلك إبعاد للبيوت عن أن تكون على هيئة القبور التي يتجنب الناس الصلاة فيها. هذا فيما يتعلق باختيار البيت لصلاة النافلة.
أما كونها لا تقام في المسجد، فقد ذكر بعضهم، كما نقله ابن أبي شيبة عن حذيفة وغيره: أن من أسباب كراهية النافلة في المسجد، أو تفضيلها على الأقل في البيت على المسجد؛ لئلا يتفرق الناس بعد أن اجتمعوا، فهم اجتمعوا على صلاة الفريضة، فإذا صلوا النافلة فرادى في المسجد ترتب على ذلك تفرقهم، وهذا فيه غرابة؛ لأن مؤداه أن تكون الصلاة القبلية التي قبل الفريضة أن تكون مشروعيتها مطلقاً في المسجد أفضل؛ لأن الأمر متعلق بما بعد الفريضة.
وأيضاً: هذه العلة لم يرد فيها نص يعتمد عليه.
بل صرح بعضهم بأنه يكره أن يصليها في المسجد، نقله ابن أبي شيبة عن حذيفة رضي الله عنه.
بل جاء عن بعضهم التصريح: بأن بعض النوافل لا تجزئ إلا في البيت، كما نقله عبد الله ابن الإمام أحمد في المسند (فإنه سأل أباه عمن يقول: إن راتبة المغرب لا تجزئ إلا في البيت؟ فقال له أبوه: عمن هذا؟ من الذي يقول هذا؟ قال له: محمد بن عبد الرحمن -يعني: ابن أبي ليلى - فقال الإمام أحمد : ما أحسن هذا، أو قال: ما أحسن ما قال، أو: ما أحسن ما نقل) على حسب ما جاء في اللفظ، جاء فيه الشك، فالمهم أن الإمام أحمد استحسن هذا؛ وذلك لأنه جاء في أحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى راتبة المغرب: صلاة البيوت: ( جاء إلى بني عبد الأشهل وهم يصلونها بعد الصلاة، فقال: هذه راتبة البيوت، وقال: صلوها في بيوتكم )، فكان محمد بن أبي ليلى وبعض السلف يسمونها: صلاة البيوت، ويرى بعضهم أنها لا تجزئ إلا أن يصليها في بيته.
بل نقل الإجماع على ذلك الإمام النووي رحمه الله، قال: ولا خلاف في هذا عندنا، ومعنى كلامه: أي: عند الشافعية، وهذا لا إشكال فيه، لا إشكال في نقل إجماع الشافعية على ذلك، لكن الأمر أن ابن العربي رحمه الله المالكي نقل الإجماع، ومثله ابن عبد البر نقل إجماع العلماء، فـابن العربي يقول: لم يختلف أحد من أهل العلم في ذلك، وابن عبد البر يقول: إنهم مجمعون على أن صلاة النافلة في البيوت أفضل. هذا القول له، والصواب أنه لا إجماع، ولكن هذا مذهب الجمهور.
أدلتهم:
أولها: حديث الباب وهو صريح: ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )، وهو مطلق يدل على أن الصلاة في البيت أفضل، ويستثنى من ذلك المكتوبة بنص الحديث، ويستثنى منه ما سبق بدلالة أحاديث ونصوص أخرى، وفي بعض ألفاظ الحديث: ( خير صلاة المرء في بيته )، والمعنى واحد.
الدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الراتبة في بيته، وهكذا معظم النوافل، فالرواتب القبلية والبعدية، وما بعد الجمعة، وراتبة الفجر.. وغيرها، كلها جاء في أحاديث كثيرة جداً لا يمكن حصرها، أنه صلى الله عليه وسلم كان يصليها في بيته، حتى الركعتان اللتان كان يصليهما بعد العصر لما فاتته راتبة الظهر، كان يصليهما في بيته، كما جاء في حديث أم سلمة وغيرها.
الدليل الثالث: حديث ابن عمر وقد ذكرته قبل قليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا أيها الناس اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً ) أي: اجعلوا بعض صلاتكم في بيوتكم، وقد يقال: إن هذا البعض المقصود به ماذا؟ النوافل؛ لأن الصلاة نوعان: فرائض، ونوافل، فالفرائض في المسجد، والنوافل في البيوت، وهي بعض الصلاة.
الدليل الرابع: حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل في بيته نصيباً من الصلاة؛ فإن الله تعالى جاعل من صلاته في بيته خيراً )، والحديث رواه مسلم وأحمد وأهل السنن.
(فإن الله تعالى جاعل من صلاته في بيته خيراً)، خيراً بإزالة الشياطين.. بنزول الرحمة.. بنزول الملائكة.. بتعليم الأهل.. بتعليم الأطفال.. إلى غير ذلك من ألوان الخير. هذه بعض أدلتهم.
هي أول صلوات النهار؛ ولهذا كانت صلاة العصر هي الصلاة الوسطى، فهذا إشكال.
الجواب عما نقل عن الإمام أحمد رحمه الله فيما ظهر لي أن يقال: إن الإمام أحمد رحمه الله كان حفياً بالنصوص، وقافاً عندها، كما نقل عنه هذا في مسائل كثيرة جداً مما اختلفوا فيه، فكان يقول بمقتضى النص فيما ورد النص فيه، ولا يطرده فيما عدا ذلك، فمثلاً نقل عنه رأيه في سجود السهو: هل هو قبل السلام أو بعد السلام؟ فكان يقول: إنه بعد السلام فيما ورد فيه النص، وفيما عدا ذلك فهو قبل السلام؛ لأن هذا هو الأصل في الصلاة، أنها قبل السلام، ويقول: إنه بعد السلام فيما ورد فيه النصوص، مثلما جاء ذلك في حديث أبي هريرة وحديث ابن مسعود .. وغيرهما، وهكذا هاهنا، فلعله قال: إن راتبة الفجر وراتبة المغرب أنها تفعل في البيت؛ لأنه جاء في ذلك نص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعلهما في المنزل، أما راتبة الظهر فلم يرد فيها بخصوصها نص، فقد يقال بذلك، والله تعالى أعلم.
والقول الراجح هو القول الأول: أن السنة فعل النوافل المطلقة كلها في البيت؛ لعموم حديث الباب وأدلته، وعدم وجود ما يعارضها مما قال به الآخرون، وهذا هو الأصل.
البخاري
. فهو دليل أيضاً -وهذه فائدة ثانية- على مشروعية صلاة التراويح جماعة في المساجد في رمضان، وقد جاء في ذلك أحاديث تذكر في بابها. الفائدة الثالثة: جواز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة، أي: أن تدخل معه بعدما كبر للصلاة منفرداً، وتنوي الائتمام به، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في الصلاة منفرداً، ثم تتابع إليه هؤلاء الرجال وثابوا إليه، فصلوا بصلاته عليه الصلاة والسلام، وهكذا جاء في حديثابن عباس
في قيام الليل: (ميمونة
خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمالبخاري
بوب عليه رحمه الله، وذلك -غضب النبي صلى الله عليه وسلم- لأنه خشي أن تفرض عليهم؛ ولهذا قال : (مسلم
عنالزهري
: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابن عمر
: (الحسن
-كما رواهالبخاري
تعليقاً- لو كان بينهم وبينه نهر أو شارع، إذا كانت الصفوف متصلة والصوت مسموعاً، وكان يرى الإمام أو يرى من يصلي بصلاته. هذه بعض فوائد حديث الباب.ورواه مسلم في كتاب الصلاة، باب القراءة في صلاة العشاء.
وظاهر صنيع المصنف حينما قال: متفق عليه، أنه لم يخرجه السبعة، والواقع أن الحديث أخرجه السبعة: أخرجه أيضا أبو داود في كتاب الصلاة، باب إمامة من يصلي بقوم، وقد صلى تلك الصلاة.
وكذلك الترمذي، باب ما جاء في الذي يصلي الفريضة، ثم يؤم الناس بعدما صلاها.
والنسائي في كتاب الإمامة، باب اختلاف نية الإمام عن المأموم.
وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، باب من أم قوماً فليخفف.
وأحمد رحمه الله تعالى في مسنده . فحق هذا الحديث أن يقال فيه: أخرجه الجماعة أو أخرجه السبعة، وكذلك أخرج الحديث كثرة من أهل العلم، كـابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي، والحميدي، والشافعي، وأبو يعلى، والبغوي، والطيالسي، والطحاوي، وابن أبي شيبة .. وغيرهم.
الحديث فيه قصة، قصة الحديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه، وتأخر بهم في صلاة العشاء ثم صلى، وكان معاذ معاذ معاذاً معاذاً
( قال: إنما نحن أصحاب نواضح، وإنما نعمل بأيدينا ) أي: أننا نتعب من العمل في المزارع وفي غيرها في النهار. ( فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ
هذا ما يتعلق بتخريج الحديث.
وقد يكون مقصوده ومعنى كلامه: لا تبغضوا الله تعالى إلى العباد، أي: حببوا الله تعالى إلى عباده بتيسير الطاعة والعبادة والإيمان، ورفع الحرج والمشقة عنهم، قد يكون هذا أو ذاك.
معاذاً
كان يصلي بهم له نافلة ولهم فريضةمعاذ
مع النبي صلى الله عليه وسلم هي الفريضة، وصلاته بقومه هي النافلة، وجاء ذلك بإسناد صحيح عندالبيهقي
.. وغيره: (معاذاً
مما يلقى منه، ولم يكن هذا غيبة، وهو أحد المواضع الستة التي تستثنى من الغيبة، كما نظمها بعضهم: الذم ليس بغيبة في ستة. السابعة: مشروعية تأخير العشاء، إذا لم يشق ذلك على الناس؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء يومئذ، وأخرهامعاذ
رضي الله عنه، وكذلك كانمعاذ
يؤخر صلاة العشاء؛ لأنه يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إذا انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته ذهبمعاذ
إلى قومه فصلى بهم تلك الصلاة. والفائدة الثامنة: مشروعية إمامة الأقرأ، أن يؤمهم أقرؤهم لكتاب الله، وهذا سوف يأتي في مجلس قادم إن شاء الله؛ لأنهم ما كانوا ينتظرونمعاذاً
حتى يعود من صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي بهم وهو متنفل؛ إلا لأنه أقرؤهم لكتاب الله عز وجل. التاسعة: جواز صلاة المرء الفريضة منفرداً لحاجة؛ لأن ذلك الرجل الأنصاري صلى الفريضة منفرداً؛ لماذا صلاها منفرداً؟ للمشقة عليه؛ لأنه كان رجلاً متعباً، فكان فلاحاً يعمل طول النهار بناضحه، ويعمل بيده، وتأخر في انتظاره لـمعاذ
؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام تأخر تلك الليلة في الصلاة، ثم جاءمعاذ
متأخراً بعدما كاد صبره أن ينفد، ولما كبرمعاذ
رضي الله عنه كمل الناقص على هذا الرجل بأنه شرع في سورة البقرة، فلم يجد هذا الرجل بداً من أن ينوي الانفصال، ويكمل لنفسه، ففيه دليل على جواز صلاة المرء الفريضة منفرداً، إذا كان ذلك لحاجة، والدين كله جاء باليسر والتخفيف، ورفع الحرج والأُصُر عن الناس، فينبغي أن تفقه ذلك وتعلمه. الفائدة العاشرة وهي فائدة نفيسة وإن كانت ظاهرة بدهية: أن ترك الجماعة من علامات النفاق؛ لأن الصحابة لما رأوا هذا الرجل انفرد وأكمل لنفسه، ماذا قالوا له؟ سألوه: هل أنت نافقت؟ فكان مستقراً عندهم أن ترك الجماعة من علامات النفاق، فنفى ذلك عن نفسه: (أحدها: كتاب الأذان، باب حد المريض أن يشهد الجماعة.
والموضع الثاني: في كتاب الأذان نفسه أيضاً، باب إنما جعل الإمام ليؤتم به.
وكذلك أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر.
وأخرجه أيضا النسائي في كتاب الإمامة، باب الائتمام بالإمام يصلي قاعداً.
وأحمد، وأبو عوانة، والدارمي، والطحاوي، والبيهقي، والحميدي، وابن حبان، وابن خزيمة، وعبد الرزاق .. وغيرهم.
طيب، اللفظ الذي ساقه المصنف تقريباً هو لفظ مسلم رحمه الله تعالى في الموضع الذي ذكرت، كتاب الصلاة، باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر، هو اللفظ الذي ساقه المصنف.
طيب، والغريب أن القرطبي رحمه الله شرح صحيح مسلم على ما هو معروف، فأنكر هذا اللفظ، أنكر أن يكون جاء في شيء من الصحيح: ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلس إلى يسار أبي بكر
وكذا الشافعي استدل به على النسخ، قال: هذا الحديث ناسخ لقوله: ( وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين )؛ لأن هذا كان في مرض موته صلى الله عليه وسلم، وقد صلى قاعداً، وصلى الناس خلفه قياماً، فدل ذلك على نسخ الحديث السابق: ( وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين )، ووافق الشافعي على ذلك جماعة، ربما يقال: إنهم كثير من أهل العلم. سبق وسلف ذكر ذلك.
المقصود: أن هذا اللفظ الآن لفظ عائشة صريح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عن يسار
إذاً: الإمام عن يسار المأموم، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم في موقف الإمام، عن يسار أبي بكر، وأبو بكر كان في موقف المأموم عن يسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا نص؛ لأنه في لفظ عائشة هنا نص: (عن يمينه) صححوها، يعني المعنى واضح.
وفي لفظ آخر في صحيح مسلم قال: ( وكان النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس، و
وفي لفظ ثالث لـمسلم أيضاً قالت: ( فكان
فعلى هذا الناس يستدلون بفعل أبي بكر على فعل النبي صلى الله عليه وسلم، الإمام هو النبي عليه الصلاة والسلام، مثل ما جاء في الحديث الذي مضى معنا: ( ائتموا بي، وليأتم بكم من خلفكم ) أي: يعلم ماذا عمل الإمام من خلال ما يراه من فعل الناس.
وهذه الألفاظ السابقة كلها فيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام، وهو قاعد طيب، وأن أبا بكر كان مأموماً رضي الله عنه، إنما كان يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والناس يستدلون بفعله على فعل النبي عليه السلام، وقد احتج بهذا من قال بنص الحديث: ( إنما جعل الإمام ) كما سبق.
الاعتراض الأول: أنه جاء في عدد من الروايات الأخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأموماً، وأن أبا بكر كان هو الإمام، نقيض ما قررناه الآن في الروايات السابقة:
من ذلك: ما روته عائشة نفسها: ( أن
الحديث الثاني أيضاً: الذي فيه: أنه صلى الله عليه وسلم كان مأموماً، وكان الإمام أبا بكر : ما رواه ابن خزيمة في صحيحه، عن أبي داود الطيالسي، بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( من الناس من يقول: كان
وكذلك أخرج ابن المنذر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف
إذاً: النقل عن عائشة نفسها اختل، وكما اختلف الناس عنها اختلفوا عن غيرها، فقد جاء النقل عن غيرها من الصحابة:
فقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه: ( أن
أما أنس فحديثه يدل على: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو المأموم، وأن
ولذلك أعجبني ما قاله ابن خزيمة رحمه الله تعالى قال: إن الأحاديث التي وردت بالأمر، بأن يصلي المأموم خلف الإمام قاعداً إذا قعد، لم يختلف فيها ولا في صحتها ولا في سياقها، أما صلاته صلى الله عليه وسلم قاعداً خلف أبي بكر فقد اختلف فيها، هل كان إماماً أو مأموماً؟ وما لم يختلف فيه لا ينبغي تركه في المختلف فيه، نعم اختلف الصحابة رضي الله عنهم، فاختلف من بعدهم، وإن كان ينبغي أن نقول من باب الأمانة العلمية: إن أكثر الروايات تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام، وأن أبا بكر كان مأموماً. هذا الاعتراض الأول.
الاعتراض الثاني: أنه جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالجلوس .. أنه التفت إليهم فوجدهم قياماً، فأمرهم بالجلوس، فجلسوا، وهذا جاء في حديث عن جابر : ( أنهم صلوا خلف النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد، و
الاعتراض الثالث: أن في الحديث النص على أن ذلك كان في صلاة الظهر في حديث عائشة الذي هو أصل حديث الباب في صحيح البخاري ومسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إليهم في صلاة الظهر، و
وبناء عليه نقول: من جمع بين الروايات المختلفة بتعدد القصة، فإن ذلك مرجوح.
الاعتراض الرابع، وهو من أحسن ما قيل في المسألة، وينبغي أن يضاف إلى القول الذي رجحناه في الأسبوع الماضي: ما ذكره الحافظ في فتح الباري : أن بعضهم جمع بين القصتين: بأن الأمر للجلوس إذا جلس الإمام لعذر كان للندب، وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم قيامهم خلفه في مرض موته كان لبيان الجواز، فعلى هذا من أم غيره قاعداً لعذر كان من خلفه مخيرين بين القيام والقعود، وإن كان القعود في حقهم أولى وأفضل؛ لثبوت الأمر به في أحاديث كثيرة، ولكثرة الأحاديث الواردة في ذلك، وعدم وجود ما يعكر أو يشكل عليها، وهذا قول جيد كما أسلفت.
الاعتراض الخامس على من قالوا بالنسخ: أن يقال: ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم فعلوا ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته، فلو اعتقدوا أنه منسوخ ما فعلوه، ومن أصح ما ورد عن الصحابة في تطبيقهم لهذه السنة أربعة نصوص:
أولها: رواه عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح كما قال الحافظ : عن قيس بن قهد بالقاف المنقوطة بثنتين، قيس بن قهد رضي الله عنه: ( أن إماماً لهم اشتكى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فكان يؤمنا وهو جالس، ونحن جلوس ).
الرواية الثانية: ما رواه أيضاً ابن المنذر بسند صحيح عن أسيد بن حضير : ( أنه كان يؤم قومه فاشتكى، فخرج إليهم بعد شكواه، فأمروه أن يصلي بهم، فقال: إني لا أستطيع أن أصلي بكم قائماً، فاقعدوا، فصلى بهم قاعداً، وهم قعود ).
الثالثة: ما رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن جابر : ( أنه اشتكى، فحضرت الصلاة، فصلى بهم جالساً، وصلوا وراءه جلوساً ).
والربع: عن أبي هريرة أنه أفتى بذلك، وسنده عنه صحيح.
فهذه الروايات الأربع تدل على أنه كان معروفاً عند الصحابة، معمولاً به في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته.
وبناء عليه لا حجة في هذا الحديث -حديث الباب- لمن قال بنسخ الأمر بالجلوس خلف الإمام.
الجواب: لا ينفصل عنه إذا كان يقوم بواجبات الصلاة، أما إن كان يخل بالصلاة فينفصل عنه ويكمل لنفسه.
الجواب: أقول: بإمكانه أن يجلس في المسجد بحيث لا يستعجل، فيظن أنه قام مستعجلاً، ويصلي الراتبة في بيته.
هذا سؤال حول صلاة الجماعة، وهمَّ الرسول عليه السلام بتحريق المتخلفين، وحديث عبد الله بن أم مكتوم .
وهي بعض الأدلة التي ذكرناها في الأسبوع الماضي.
الجواب: نعم هذه من فوائد الحديث، هذه من الفوائد.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صل وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر