الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الحديث الأول الذي لدينا: هو حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلم قيل له: أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا، قال: فثنى رجليه واستقبل القبلة، فسجد سجدتين ثم سلم، ثم أقبل على الناس بوجهه، فقال: إنه لو حدث شيء في الصلاة أنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم ما عليه، ثم ليسجد سجدتين )، متفق عليه.
وفي رواية للبخاري : ( فليتم ثم يسلم ثم يسجد )، وفي لفظ لـمسلم : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام ).
أولها: في كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، وأخرجه في مواضع أخرى بعد ذلك.
وكذلك رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، برواياته كلها، فإن عادة مسلم كما هو معروف يجمع الحديث في موضع واحد، فقد ساق كل روايات الحديث في هذا الموضع، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له.
والحديث رواه أيضاً غير من ذكر المصنف أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وأبو عوانة، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، والبغوي في شرح السنة .
وبناءً على هذا التخريج، يتبين أن الحديث يصح فيه أن يقال بدلاً من قول المصنف رحمه الله: متفق عليه، يصح أن يقال في هذا الحديث: رواه السبعة، فقد ذكر فيمن رواه فضلاً عن الصحيحين أبا داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وهؤلاء هم السبعة، وهذا مما يستدرك على المصنف، فيه نوع من التقصير بشرطه، وكان حقه أن يقال فيه: رواه السبعة.
في الحديث قوله رضي الله عنه: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولم يذكر أي صلاة صلى، فجاءت الصلاة مبهمة، وقد جاء في رواية أخرى عند البخاري رحمه الله أنه قال: ( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر ).
وفي رواية عند الطبراني أشار إليها الحافظ في الفتح، في شرح حديث في كتاب السهو، أنه ذكر أن هذه الصلاة صلاة العصر، ولا شك أن ما في صحيح البخاري أرجح وأولى، فالصواب أن هذه الصلاة صلاة الظهر: ( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سلّم قيل له: يا رسول الله! أحدث في الصلاة شيء؟ ).
ومن الظاهر أن صلاته تلك عليه الصلاة والسلام كان فيها سهو، ولذلك جاء في رواية عند البخاري أيضاً، وهي التي أشرت عليه فيما سلف في كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة، أنه قال من رواية إبراهيم أنه قال: قال إبراهيم : لا أدري زاد أو نقص، يعني صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر قال إبراهيم : لا أدري زاد أو نقص، فأشار إلى حصول السهو وأنه شك فيه إبراهيم، لا يدري أهو سهو في زيادة، أو سهو في نقص، وهذا الشك من إبراهيم مرفوع أيضاً، مما هو يقين عند الرواة الآخرين، بل عنده هو من طرق أخرى: ( أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الظهر خمساً ) فتبين أن السهو كان بزيادة.
أبو بكر
وعمر
، فهابا أن يكلماه )، فهل الأمر كذلك هنا في حديث ابن مسعود : أن أبا بكر وعمر هابا أن يكلما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه غيرهما، أم كلماه هما لقربهما منه، يحتمل أن يكون.إذاً: مبهم، لكن نحن نتحرى هذا المبهم، ندندن حوله، يحتمل أن يكون الأمر كما في حديث ذي اليدين، أن يكون المتحدث من سائر الصحابة، الذين يجرءون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر مما تجرؤ عليه خاصته، ويحتمل أن تكون هيبة أبي بكر وعمر للرسول عليه الصلاة والسلام في حديث ذي اليدين ؛ لما رأوا عليه من أمارات الغضب، وضيق الصدر، فقد ذكر في ذلك الحديث في بعض رواياته قال: ( فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه )، فكان عليه أثر الضيق فلذلك هابا أن يكلماه.
ولكن مما يدفع ذلك: أنه جاء في إحدى روايات مسلم التي أشرت إليها سلفاً، من حديث ابن مسعود نفسه أنه قال: ( فلما انفتل رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: سلم- من صلاته فوشوش الناس )، يعني: بدأ بعض الناس يسار بعضهم ويهمس في أذنه: هل زيد في الصلاة؟ هل نقص أو تغير شيء؟ ( فلاحظ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم أنهم -كما قال ابن مسعود
قولهم هنا: ( أحدث في الصلاة شيء؟ ) يعني: هل زيد فيها؟ هل حصل نسخ أو زيادة في الصلاة، فأصبحت صلاة الظهر خمساً بدلاً من أربع، هذا مصب سؤالهم رضي الله عنهم، وفيه دليل على ثبوت النسخ، وأنه كان واقعاً ومتوقعاً، حيث سألوا عنه رضي الله عنهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما ذاك)، يعني: لم سألتم عن هذا؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم مع أنه سها في الصلاة، إلا أنه لم يشعر بهذا السهو، ولهذا استغرب سؤالهم، قال: (وما ذاك؟) يعني لماذا سألتم؟ هل حدث في الصلاة شيء؟ قالوا له: ( صليت كذا وكذا )، (وكذا وكذا) هذا أيضاً اسم مبهم، ومعناه: صليت الظهر خمساً، يعني: خلاف الحكم أنها أربع ركعات.
قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: ( إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب )، قوله: (فليتحر الصواب) فيها وجهان:
المعنى الأول: أي: يبني على اليقين، يبني على ما استيقن، فيكون حديث ابن مسعود هنا كحديث أبي سعيد الخدري السابق، في قوله: ( فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن )، هذا احتمال أن يكون المقصود بقوله: ( فليتحر الصواب ) فليبن على اليقين.
وهذا هو مذهب الشافعية، ونسبه بعضهم لجمهور العلماء، ورجحه ابن حزم وغيره، وهو إحدى الروايات في مذهب الإمام أحمد، وقالوا: إن الصلاة فرض، فلا يخرج الإنسان منها إلا بيقين، فلا تبرأ ذمة العبد إلا أن يخرج من صلاته بيقين تام، فلا يبني على غلبة الظن مثلاً، بل لابد أن يبني على اليقين، كما قال في حديث أبي سعيد : ( وليبن على ما استيقن ).
فقوله هنا: ( فليتحر الصواب ) كما قال الشافعي وغيره: إنها ألفاظ متعددة في اللغة، مؤداها واحد، فقوله هنا: ( وليتحر الصواب ) كقوله في حديث أبي سعيد : ( وليبن على ما استيقن )، وعززوا ورجحوا هذا بما ذكره الأثرم من طريقه عن الإمام أحمد : أن الإمام أحمد فسر قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا غرار في الصلاة )، بأنه لا ينبغي لعبد أن ينصرف من صلاته إلا على يقين، هذا الوجه الأول.
أما الوجه الثاني: فهو أن معنى قوله: ( وليتحر ) أو ( فليتحر ) أي: ليأخذ بما يغلب على ظنه أنه أقرب للصواب، ويكون هذا فيما إذا كان في نفس الإنسان شيء أرجح من شيء، فليست المسألة مسألة شك مطلق، وإنما هي مسألة ظن، فإذا غلب على ظنه أنه صلى ثلاثاً عدهن ثلاثاً، وإذا غلب على ظنه أنه صلى أربعاً، عدهن أربعاً بحسب ما يغلب على ظنه، وهذا هو ما ذهب إليه جماعة من أهل العلم، كالإمام مالك، وهو أيضاً رواية عن الإمام أحمد، واختاره بعض الشافعية.
وقال ابن حبان في صحيحه كما نقل في الإحسان قال: أما تحري الصلاة فهو أن يشك في صلاته، فلا يدري ما صلى؟ فإذا كان كذلك عليه أن يتحرى الصواب، وليبن على الأغلب عنده، ويسجد سجدتي السهو بعد السلام على خبر ابن مسعود .
قال ابن حبان : أما البناء على اليقين فهو أن يشك المرء في الثنتين والثلاث والأربع، فإذا كان كذلك عليه أن يبني على اليقين، وهو الأقل، وليتم صلاته، ثم يسجد سجدتين قبل السلام على خبر عبد الرحمن بن عوف وأبي سعيد الخدري . ثم قال رحمه الله: سنتان غير متضادتين.
يعني: كأن ابن حبان يقول: لا داعي لأن نضرب هذه السنن بعضها ببعض، بل نقول: كل سنة منهما على انفراد، فإذا كانت المسألة شكاً بنى على اليقين، وإذا كانت المسألة ظناً راجحاً مقابل الوهم المرجوح، فإنه يبني على ما يترجح لديه، على خبر ابن مسعود هذا.
ومما يرجح هذا القول، وأن التحري غير البناء على اليقين روايات الحديث.
فأولاً في الرواية التي ساقها المصنف قوله: ( فليتحر الصواب )، ولا شك أن المسألة إذا كانت بناءً على اليقين، فإنه ليس فيها تحرٍ، وإنما فيها إلغاء الشك، فإذا شك هذه ثلاث أو أربع؟ فإنه يلغي الرابعة التي شك فيها، ويعتبر أنه صلى ثلاثاً فقط، هل هذا يعتبر تحرياً؟ لا، هذا يعتبر إلغاءً للشك وطرحاً له، وبناءً على يقين على خبر أبي سعيد .
أما التحري فهو أمر بخلاف ذلك، مثل: أن يتردد هل هن ثلاث أو أربع، ولكن يغلب على ظنه أنهن أربع؟ فالتحري حينئذ أن يعتبرها أربعاً، فهذا قوله: ( وليتحر ).
وكذلك لو راجعت الحديث في صحيح مسلم، لوجدت في الحديث الألفاظ التالية في بعض طرقه، مثلاً في بعض الألفاظ يقول: ( فلينظر أحرى ذلك بالصواب )، وفي رواية أخرى: ( فليتحر أقرب ذلك للصواب )، وفي رواية ثالثة: ( فليتحر الذي يرى أنه صواب )، لاحظ ( فليتحر الذي يرى أنه صواب )، فلو رأى أن الصواب الأربع، يعني: الأقرب إلى الصواب يتحراها ويعمل بها، فدلت هذه الروايات على أن المقصود بالتحري اختيار ما يغلب على ظنه أنه الصواب.
الوجه الثاني: لفظ البخاري، فإن البخاري قال: ( فليتم ثم يسلم ثم يسجد )، فهو صريح في أن السلام قبل السجود، يعني: من سها في الصلاة وشك يتحرى الصواب، ثم يتم ثم يسلم، ثم يسجد للسهو.
الوجه الثالث من الدلالة أيضاً..
يعني: هذه تدخل في رواية البخاري .
الوجه الثالث: حديث مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد الكلام والسلام ) فظاهره يدل على أن سجود السهو عن زيادة يكون بعد السلام لا قبله.
وربما يضاف إلى ذلك وجه رابع من حيث النظر: وهو أن الزيادة في الصلاة زيادة، فإذ تيقن أنه زاد في الصلاة لم يكن جديراً به أن يجمع في الصلاة زيادتين، بل الأولى أن يسلم، ثم يسجد للسهو بعد السلام؛ لئلا تجتمع في الصلاة زيادتان.
الحقيقة قوله: ( إنما أنا بشر مثلكم )، نص في أن نسيانه في الصلاة من مقتضى طبيعته البشرية، فلابد من وجه قوي في الجمع بين الحديثين.
الجواب الأول أن نقول: الحديث الأول ضعيف كما سبق، وقد رواه مالك في الموطأ بلاغاً، ولم يصح موصولاً بلفظه، فلا يصح الحديث، فلا يعارض به الحديث الصحيح، بل يكون الحديث الصحيح قاضياً عليه، ودالاً على أن متنه منكر، كما إسناده أيضاً.
فالحديث نص في أنه صلى الله عليه وسلم ينسى بمقتضى بشريته، كما ينسى غيره من الناس، ولو صح الحديث لكان هناك وجه للجمع بينه وبينه، لكنه ضعيف على أي حال.
إن كان ترجح عنده النقص وأتمه يسجد قبل السلام، وإن ترجح عنده زيادة يسلم ثم يسجد، يعني: يسجد بعد السلام مطلقاً، ننظر في الحديث، الآن الحديث أمامنا أليس الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالتحري قال: ( فليتحر الصواب ) ؟
طيب يتحرى، فإذا تحرى ماذا يصنع؟ يتم كما في رواية البخاري فيما بقي من صلاته، ثم يسلم ثم يسجد.
إذاً: إذا تحرى الإنسان في صلاته، وبنى على غالب ظنه، سواء بنى على الأقل أو على الأكثر، وسواء بنى على أنه فعل الفعل، أو على أنه لم يفعله، فإنه يسجد للسهو بعد السلام.
مثال: شك هل صلى ثلاثاً أم أربعاً، وغلب على ظنه أنها ثلاث فأتى برابعة، هنا يسجد للسهو بعد السلام.
طيب مثال آخر: شك في الثلاث أو الأربع، فبنى على أنها أربع وجلس للتشهد، فإنه حينئذ يسلم، ثم يسجد للسهو بعد السلام.
مثال ثالث: شك هل سجد السجدة الثانية أم لا وهو جالس؟ فحينئذ نقول: إن غلب على ظنه أنه سجد اعتبر أنه قد سجد فعلاً وأتم صلاته، وسجد للسهو بعد السلام، وإن غلب على ظنه أنه لم يسجد؛ فإنه حينئذ يسجد ويتشهد ويسلم، ثم يسجد للسهو بعد السلام.
والخلاصة: أن كل سجود سهو مبني على التحري، فإنه يكون بعد السلام، وكل سجود سهو عن زيادة كما في فعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا، فإنه يكون بعد السلام.
طيب، إذاً هذه الفائدة العاشرة أو التاسعة: أن سجود السهو إذا كان عن تحرٍ فإنه يكون بعد السلام، سواء بنى على الزيادة على الأكثر أو على الأقل.
هذا حديث أبي سعيد ما فيه تحر، فيه الأخذ بالأقل، الأخذ باليقين، فكأنه فيما يتعلق بالتحري، كأنه اعتبر هذا الشك العارض لا شيء، يعني: الآن واحد شك هذه ثلاث أو أربع، ولكن يغلب على ظنه أنها أربع؟ فكأن الشارع ألغى هذا الشك العارض؛ لأنه شك ضعيف، وعمل بما يغلب على ظنه، وهو أنها أربع، ولذلك قال: تسلم من الصلاة قبل أن تسجد للسهو؛ لأن هذا الشك شك ضعيف، فكأنه لا شك في صلاة، ثم عزز الصلاة بسجدتين بعد السلام؛ ترغيماً للشيطان، ولئلا يدخل في الصلاة بعض الوسوسة.
في الحديث دليل على أن عزوب النية لا يضر، كما ذكره البيهقي ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من صلاته وظن أنه قد انتهى منها، ثم أتمها بعد ذلك بسجدتي السهو.
البخاري قال: ( وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، وليتم ما عليه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين )، وفائدة هذه الرواية لماذا ساقها المصنف وميزها؟ ما هي الفائدة منها؟
فائدة هذه الرواية: النص على أن السجود بعد السلام؛ لأنه نص على قوله: ( ثم يسلم ثم يسجد سجدتين )، أما رواية مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدة السهو بعد السلام والكلام )، فهو أيضاً في الموضع السابق المشار إليه، من كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، بهذا اللفظ الذي ساقه المصنف، وهي رواية مختصرة للحديث، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري .
وقد أخرج هذا الحديث: أبو داود وأحمد وابن خزيمة .. وغيرهم.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صل وسلم على عبدك..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر