إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أحاديث هذه الليلة نسأل الله أن يعيننا عليها، وأن يجعلها من العلم النافع المقرب إليه زلفى.
فالحديث الأول: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان إذا قعد للتشهد وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، واليمنى على اليمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بإصبعه السبابة )، والحديث رواه مسلم، كما قال المصنف رحمه الله تعالى.
وذكر الرواية الأخرى للحديث أيضاً: ( وقبض أصابعه كلها ).
وقد رواه أيضاً: أبو عوانة في مستخرجه، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأحمد .. وغيرهم.
فهذا هو اللفظ، وقد ساق المصنف منه موضع الاختلاف رحمه الله تعالى.
وقد جاء في رواية عند مسلم أيضاً: عن عبد الله بن الزبير في الموضع نفسه أيضاً أنه قال: ( ألقم كفه اليسرى ركبته اليسرى، وكفه اليمنى ركبته اليمنى ) فهذا دليل على أنه وضعها عليها، كأنه ممسك بها، وفي روايات: أنه وضعها عليها وضعاً، كما في رواية الباب، والأمر في ذلك متقارب، وعلى سبيل العموم فقد أجمع العلماء كما ذكره النووي رحمه الله في المجموع : أجمعوا على استحباب وضع اليد على الركبة، أو عند الركبة، يعني: اليمنى عند اليمنى، واليسرى عند اليسرى، سواء وضعها فوق الركبة وألقمها بها أو وضعها فوقها عندها، فهذا قوله وضع يده اليسرى على ركبته اليسرى.
فقوله: (وعقد ثلاثاً وخمسين)، يعني: بيده اليمنى، وهذا فيه إشارة إلى العقود التي كان العرب يستخدمونها، فكانوا يعبرون عن العقود بحركات في أيديهم وأصابعهم متعارف عليها فيما بينهم، وإن كان العلماء يقولون: إن العقد الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم في يده ليس عقد الثلاث والخمسين المعروف عند أهل الحساب، فإن عقد النبي صلى الله عليه وسلم المشار إليه في قوله: (وعقد ثلاثاً وخمسين): هو أنه عليه الصلاة والسلام وضع إصبعه الخنصر والبنصر على راحته، ووضع الإبهام على الوسطى مع اختلاف في صفة وضع الإبهام مع الوسطى، وأشار بإصبعه السبابة، وهذا العقد لا يسمى عند أهل الحساب ثلاثاً وخمسين، إلا على ما ذكره بعضهم، وأشار إليه ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، أن الحساب هذا عند المتقدمين، فالمتقدمون من أهل الحساب يسمون هذه ثلاثاً وخمسين، أما المتأخرون فلا يكون هذا هو العقد عندهم، ولكنه يتكلف له نوع من التأويل، وأصل عقد الثلاث والخمسين كما ذكر النووي في شرحه لصحيح مسلم، وفي المجموع، وكما ذكره أهل الحساب في كتبهم، وفي مصنفات خاصة في رسالة صغيرة هي: حساب العقود، مطبوعة ومتداولة، فيقولون: إن أصل عقد ثلاث وخمسين هو وضع الإصبع الإبهام بجنب المسبحة التي هي السبابة على طرف الراحة أو حرفها أسفل منها، يعني: كأنه هكذا عقد ثلاثاً وخمسين.
والذي نقله الصحابة الآخرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصيلاً لإجمال حديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع الخنصر والبنصر على راحته، ووضع الإبهام على السبابة )، وفي بعض الروايات: ( أنه حلقها بها )، وفي بعضها: ( وضعها عليها )، وقد اختلفوا في أكثر من ثلاث صور، هي تفاصيل لا ندخل فيها.
على أي حال الإصبع أو الأصابع في التشهد -وهذا الكلام كله في التشهد كما هو واضح- لها صفتان رئيسيتان، يتفرع عنهما صفات أخرى، نقتصر منها على الصفتين الرئيستين:
فالصفة الأولى: هي كما ذكرت، وهي المشار إليها بحديث ابن عمر رضي الله عنه: ( وعقد ثلاثاً وخمسين )، وهي: أن يضع الخنصر والبنصر على راحته، ويضع الإبهام على الوسطى، ويشير بالسبابة أو المسبحة، وإنما سميت المسبحة؛ لأنه يسبح بها والسبابة، قيل: لأن الإنسان إذا سب أشار بها إلى من يسب، وقيل: لأنه يسب بها نفسه حينما يستغفر، فإن الاستغفار هو نسبة النقص إلى الذات، فهذا هو الوجه الأول، أو هذه هي الصيغة الأولى.
الصيغة الثانية للأصابع: هي قبض الأصابع كلها، وقد جاء هذا في الموضع ذاته، كما أشرت إليه من صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وهو في الرواية التي سقتها قبل قليل (أنه قبض أصابعه كلها)، فيكون قبض الأصابع كلها الثلاث بما في ذلك الوسطى قبضها أيضاً، ووضع عليها الإبهام أو قريباً منها، وبقيت المسبحة أو السبابة هي القائمة التي يشير بها، وهذه أيضاً فيها أكثر من تفصيل، لكن هذا مجملها ونقتصر على المجمل؛ لأن هذا هو ما ورد بنصوص صريحة واضحة.
وكلا الصفتين واردة في الروايات، كما رأيتم فبأيها عمل الإنسان فقد أصاب السنة، والأولى أن يفعل هذا تارة وهذا تارة، ليكون هذا من جنس السنن التي جاءت على أكثر من صورة، فيستحب للإنسان أن يفعلها حيناً بهذه الصفة، وحيناً بالصفة الأخرى، حتى يصيب السنة بالحالتين، هذا ما يتعلق بقوله: (وعقد ثلاثاً وخمسين).
وفي رواية أخرى عن الإمام مالك، وهي أيضاً نقلت عن الإمام أحمد في بعض مسائله، ونقلت وجهاً عند الإمام الشافعي، كما ذكره النووي في المجموع، أنه يحرك أصبعه للتشهد على الدوام.
فنبقى في القول الأول: وهو الاقتصار على الإشارة، وعدم تحريك الإصبع.
والمسألة فيها على كل حال أحاديث، وقد رأيت أن أعرض لكم هذه الأحاديث بشيء من الاختصار، المسألة فيها كتب، قلت في بعض المسائل والمناسبات: إن فيها قريباً من ثلاثين بحثاً، وأظن أنني لست مبالغاً في هذا الرقم، فقد اطلعت على عدد من الكتب، ووقفت على أسماء عدد آخر منها قد يكون مخطوطاً، وفيها بحوث كثيرة لبعض طلبة العلم المعاصرين، منها ما نشر في بعض المجلات، ومنها ما لم ينشر.
وعلى أي حال: المسألة لا بأس ببحثها، لكن ينبغي أن تبحث في إطارها الطبيعي، ولا يتعدى الأمر ذلك، ولا داعي لاستخدام ألفاظ الخشونة في مثل هذه المسألة، كما ننبه عليه في مناسبات كثيرة، فالمسألة ليست من المسائل الكبار والخلاف فيها قوي وقديم، والجمهور على ترك التحريك، والاقتصار على الإشارة فحسب، وهذا هو الذي تؤيده الأحاديث في صحيح مسلم، ولعل من السابق لأوانه أن نذكر الترجيح قبل أن أسرد لكم الروايات، ولكني أرى أنه سواء ما أقدمه راجحاً أو مرجوحاً أن الأمر لا يستدعي مزيداً من الانفعال، فالأمر إن شاء الله يسير، وأيها فعل الإنسان مجتهداً فقد أصاب إن شاء الله، ولا ينبغي أن يطال البحث في مثل هذه المسائل، تبحث في إطارها المعتاد فحسب
فيما يتعلق بالتحريك جاء فيه أحاديث:
الأول: حديث وائل بن حجر رضي الله عنه، وقد ذكر حديث وائل بن حجر الإشارة بالسبابة، وزاد قوله: ( يحركها )، فهذا اللفظ الآن نص على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بالسبابة يحركها، فعلى هذا كأنه كان يشير بها دائماً ولا يتوقف عن التحريك، وهذه عمدة من قالوا بأنه يشرع للمصلي أن يحرك سبابته دوماً، حتى يسلم من صلاته، هذه الرواية من حديث وائل بن حجر : (يحركها) تفرد بها زائدة بن قدامة عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر رضي الله عنهم، هو حديث وائل كما ذكرت لكم، وهذه الزيادة بلفظ: (يحركها) أخرجها ابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان في صحيحه أيضاً، والبيهقي من طريقه، والنسائي في سننه، وأحمد .. وغيرهم. والبخاري فيما أظن في جزء رفع اليدين .. وغيرهم، وقد أشار ابن خزيمة رحمه الله عقب روايتها، أشار إلى تفرد زائدة بن قدامة بهذا الحرف الذي هو لفظ: (يحركها).
إذاً: تفرد به زائدة بن قدامة، ولا كلام في زائدة، ولكن الكلام في أن زائدة قد خالفه أكثر من خمسة عشر من الرواة الثقات، فلم يذكروا هذا اللفظ، فرووه من نفس الطريق دون أن يذكروا اللفظ: (يحركها)، وكثير منهم أئمة ثقات أثبات، كـشعبة مثلاً، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وزهير بن معاوية، وابن فضيل، وأبي عوانة، وعنبسة بن سعيد وغيرهم، فخمسة عشر خالفوا زائدة، ولم يذكروا هذا اللفظ، رووه بدون هذه الزيادة، فهذه الكثرة تؤكد ما ذهب إليه ابن خزيمة، أو أومأ إليه من أن زائدة قد تفرد بهذا الحرف، وأنه يعتبر شاذاً، وإذا لم يكن هذا هو الشاذ فما هو الشاذ إذاً؟ واحد يتفرد من بين خمسة عشر كثير منهم أوثق منه، فيتفرد بلفظ: (يحركها)، فدل هذا على أن لفظ التحريك شاذ ولا يثبت. هذا أولاً.
ثانياً: وقد جاء أيضاً ما يخالفه ويعارضه من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه بنحو حديث وائل بن حجر، والذي ذكرت قبل قليل، فإنه قال: ( كان يشير بإصبعه إذا دعا لا يحركها )، وكل ذلك المقصود بالتشهد، وقول ابن الزبير أو ما جاء في حديث ابن الزبير أنه لا يحركها، هذا جاء في سنن أبي داود، وأيضاً في سنن البيهقي، ورواه البغوي في شرح السنة، وأيضاً زيادة: (لا يحركها): أشبه بأن فيها تفرداً، فقد تفرد بها زياد بن سعد عن محمد بن عجلان، وكلاهما قد توبع بدونها، يعني: زياد بن سعد خالفه آخرون، فرووه عن محمد بن عجلان بدون زيادة: (لا يحركها)، وكذلك محمد بن عجلان توبع عليها بدون هذا اللفظ: (وهو لا يحركها)، وتابعه على ذلك كثيرون؛ ولهذا حكم أيضاً بعض الباحثين على هذا اللفظ الذي هو لفظ: (لا يحركها) بالشذوذ.
وأود أن أسألكم أيها الإخوة! الآن وقد رأيتم: أيهما أولى بأن يحكم بالشذوذ على لفظ: (يحركها) أو لفظ: (لا يحركها)؟ لفظ: (يحركها)؛ لأنه واحد في مقابل خمسة عشر، أما الآخر فهو دون ذاك، ولكن لا مانع أن يقال: بأنه حتى هذا اللفظ شاذ ومخالف. وعلى أي حال فهما تعارضا فتساقطا، فلفظ: (لا يحركها) أيضاً لا يثبت، ومثله أيضاً حديث ابن عمر رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشير بأصبعه ولا يحركها )، وهذا اللفظ رواه ابن حبان في كتاب الثقات، وقال الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق : إسناده حسن في الجملة .. أو كلمة نحو هذا، إلا أن هذا اللفظ جاء من طريق كثير بن زيد، والرواة خالفوا كثيراً فلم يذكروا ترك التحريك لا إثباتاً ولا نفياً.
إذاً: يبدو أن ذكر التحريك إثباتاً أو نفياً لا يثبت، فإثبات التحريك في قوله: (يحركها)، تفرد به زائدة بن قدامة وخالفه غيره، وإثبات: (لا يحركها) بالنفي من حديث ابن الزبير، تفرد به زياد بن سعد عن محمد بن عجلان، ومن حديث ابن عمر، تفرد به كثير بن زيد وخالفه الأكثرون، فلا يثبت لفظ التحريك إثباتاً ولا نفياً، ويكفينا بدلاً من هذه الروايات التي فيها ما فيها من المقال، وفيها ما فيها من الإشكال، وفيها ما فيها من التعارض، يكفينا الروايات الصحيحة الواضحة التي لا إشكال ولا كلام فيها، مثل: حديث ابن عمر رضي الله عنه، كما في صحيح مسلم، في قوله: ( ورفع إصبعه التي تلي الإبهام فدعا بها )، (ورفع إصبعه)، لاحظ لفظ: (رفع إصبعه التي تلي الإبهام فدعا بها) بحيث نقول: إنه حتى على فرض ثبوت الألفاظ الأخرى، فإنها من تصرف الرواة، والأصل هو هذا اللفظ الذي فيه رفع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه التي تلي الإبهام، وفي رواية: ( وأشار بإصبعه السبابة )، كما في اللفظ الذي ساقه المصنف.
ومثله أيضاً: حديث عبد الله بن الزبير، وهو في صحيح مسلم في الموضع نفسه كما أشرت، وفيه قال: ( وأشار بإصبعه ).
إذاً: نأخذ من مجمل هذه الأحاديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع إصبعه السبابة في التشهد يشير بها، لماذا يرفعها؟ يدعو بها كما قال في حديث ابن عمر : (فدعا بها)، وهذا القدر وارد في الصحيح كما رأيتم، فالاقتصار عليه أولى، وترك تلك الأحاديث المتعارضة، أو حملها عليها كما ذهب إلى ذلك جماعة، فمن نفى التحريك قصد نفي التحريك المستمر، ومن أثبت التحريك قصد التحريك لمناسبة الدعاء، فهذا أيضاً وجه آخر على فرض ثبوت تلك الأحاديث.
إذاً: هذا القدر الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع إصبعه السبابة يدعو بها، وبناءً عليه نقول: يشرع للمصلي في التشهد أن يرفع إصبعه السبابة، ويشير بها عند الدعاء، مثل قوله: (السلام عليك أيها النبي) هذا دعاء، (السلام علينا)، وكذلك عند الشهادة والتوحيد، فهذا ثابت أيضاً ومنقول عن الفقهاء، بل نقل الإجماع على أنه مشروعية رفع الإصبع عند التشهد معروف في مناسبات أخرى أيضاً، فيشير بها أيضاً عند التشهد عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله)، ويشير بها فيما بقي من الدعاء: (اللهم صل على محمد)، (اللهم بارك على محمد)، (أعوذ بالله من عذاب جهنم)، وهذا مذهب الجمهور كما ذكرت لكم قبل قليل.
هذه مسألة كما ذكرت لكم كثر الكلام فيها ولكن هذا مختصر، أرجو أن يكون مفيداً لمجمل الروايات الواردة في المسألة. الذين يقولون بالتحريك يرون أنه يحركها دائماً وأبداً، يرون أنها لا تتوقف أبداً، وإنما تظل الحركة مستمرة.
والمالكية يرون أنه يحركها يميناً وشمالاً لا ينصبها.
وعلى كل حال المسألة كما ذكرت لكم الأمر فيها إن شاء الله واسع، ومن اجتهد في أمر ورآه بالدليل فلا حرج عليه في ذلك، ولا ينبغي أن يكون هذا مجالاً للقيل والقال والجدال وغير ذلك.
فهو من رواية عاصم بن كليب عن أبيه كليب عن وائل يعني: جده، وائل بن حجر رضي الله عنه، كما ذكرت قبل قليل أيضاً، وهذا الحديث رواه أحمد كما أسلفت في مسنده، والطبراني في معجمه، وعبد الرزاق في مصنفه، والحديث عند أحمد والطبراني من طريق عبد الرزاق بن همام صاحب المصنف، وقد رواه عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عاصم بن كليب عن أبيه.
وخالف عبد الرزاق الفريابي فرواه عن الثوري بدون هذه الزيادة (تحريك الإصبع بين السجدتين).
والفريابي نص علماء الجرح والتعديل على أنه مقدم في روايته عن الثوري على عبد الرزاق ونظرائه عند التعارض فهو مقدم عليه، وقد خالفه في هذا الموضع فيقدم عليه، وكذلك رواه ثقات كثيرون عن الثوري، فلم يذكروا هذه الزيادة، هذا فضلاً عن أن الأحاديث الأخرى، كأحاديث عبد الله بن عمر، وأحاديث عبد الله بن الزبير وغيرهما تؤكد أن أصل مسألة تحريك الإصبع إنما جاءت في التشهد الأول والأخير، وبعضها قد يقول: إذا قعد، ويقصد به القعود للتشهد، وبعضهم يقول في الثنتين والأربع. يعني: بعد التشهد الأول، وبعد التشهد الثاني. وبعضهم: يقول يدعو بها، ويقصدون بذلك التشهد، فكأنه أمر مألوف معروف مشتهر في الروايات، ولهذا فلا شك فيما يظهر لي أن رواية تحريك الإصبع بين السجدتين من حديث عبد الرزاق عن الثوري عن عاصم عن أبيه أنها رواية شاذة، قد خولف فيها عبد الرزاق، وكذلك الأحاديث الأخرى الكثيرة تدل على ذلك، وبناءً عليه فإن تحريك الإصبع بين السجدتين لا يثبت له دليل.
بعضهم أخذ هذا من النظر، فقال: إن ما بين السجدتين دعاء، والإصبع يدعى بها. فنقول: الصلاة فيها دعاء كثير، والأولى الاقتصار على ما ثبت، ولو أن إنساناً حرك إصبعه بين السجدتين أخذاً بكلام ابن القيم، أو كلام من يوافقه من فضلاء علمائنا ومشايخنا المعاصرين، فإنه لا حرج عليه في ذلك ولا تثريب، والأمر في هذا واسع، ولا ينبغي أن يشق طلبة العلم في هذا على الناس، أو على غيرهم، المناقشة العلمية لا بأس بها، أما الشد في مثل هذه الأمور فلا ينبغي.
فالأمر إن شاء الله في هذا كله واسع، وقد ثبت: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم يشير بإصبعه في الخطبة حال الصلاة) كما في صحيح مسلم والأمر في هذا لا إشكال فيه إن شاء الله، هذه أهم المسائل الموجودة في حديث ابن عمر رضي الله عنه .
وقال في آخره: ( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو )، متفق عليه، واللفظ للبخاري .
ورواه مسلم أيضاً في صحيحه، كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، ورواه النسائي، وأحمد، والدارقطني وغيرهم، واللفظ الذي أعقب به المصنف، وهو قوله: وللنسائي : ( كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد )، هذا اللفظ رواه النسائي أيضاً في سننه، في كتاب التطبيق، ويبدو أنه في أكثر من باب، لكن في أحد الأبواب، باب كيف التشهد الأول.
وساق فيه هذا اللفظ: ( كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد )، ورواه الدارقطني أيضاً في سننه، وقال الدارقطني عقب روايته: هذا إسناد صحيح، وإنما نص المصنف عليه لقول ابن مسعود رضي الله عنه: (كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد)، فهو ظاهر في فرضية التشهد ووجوبه في الصلاة على كل مصل، فهذا هو اللفظ الذي ساقه المصنف من أجله، وقد أخرجه البيهقي أيضاً في سننه .
وهكذا اللفظ الآخر رواية أحمد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علم عبد الله بن مسعود
وفيه هذه الصيغة من صيغ التشهد، وهي معروفة بتشهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد جاء في بعض الروايات أن ابن مسعود قال: ( كنا نقول هذا والرسول صلى الله عليه وسلم حي، فلما قبض قلنا: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته ).
وقد رواه أبو عوانة في مستخرجه على صحيح مسلم، ورواه الشافعي والنسائي وغيرهم.
وهو أيضاً يحتوي على صيغة أخرى للتشهد وتسمى وتعرف باسم تشهد عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
فهناك صيغة ثالثة: معروفة باسم تشهد عبد الله بن عمر .
وهناك صيغة رابعة: المعروفة باسم تشهد عمر رضي الله عنه.
وهناك صيغة خامسة: معروفة باسم تشهد أبي موسى الأشعري .
وهناك صيغة سادسة: معروفة باسم تشهد عائشة رضي الله عنها.
وكل هذه الصيغ متقاربة في اللفظ ومتشابهة في المعنى، وقد سردها الإمام النووي في الجزء الثالث من المجموع، وسردها أيضاً الشيخ الألباني في كتابه صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أجمع العلماء على جواز التشهد بأي من هذه التشهدات، عن أي تشهد منها تشهد به المصلي أجزأه، وإن اختلفوا في الأفضل من ذلك.
فمثلاً: ذهب الإمام أحمد وأبو حنيفة والثوري وأبو ثور إلى أن الأولى والأفضل للمصلي أن يتشهد بتشهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهو الأول: ( التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ). وذهب الشافعي إلى تشهد ابن عباس وهكذا.
على كل حال المسألة مسألة مفاضلة، وإلا فهم مجمعون متفقون على أن أي تشهد قرأه المصلي في صلاته أجزأته من ذلك.
ومما ينبغي أن ننبه إليه: أنه قد جاء في رواية عن جابر عند النسائي وغيره ذكر البسملة في أول التشهد يقول: (بسم الله، التحيات لله)، من حديث جابر رضي الله عنه، وقد رواه -هذا الحديث- النسائي والبيهقي وهذه الرواية ضعيفة لا تثبت، فذكر البسملة في أول التشهد لا يثبت ولا يصح، بل قد حكم ونص أهل العلم على تضعيفه، وممن ضعفه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، وكذلك البغوي، والنسائي عقب روايته، والبيهقي أيضاً عقب روايته وغيرهم؛ فلا يثبت ذكر البسملة في أول التحيات.
فإن قوله: (التحيات): التحية لها معان منها: الملك.
ومنها: الدعاء بالبقاء.
ومنها: الدعاء بالسلام.
والمقصود بقوله: (التحيات لله)، يعني: أنواع وأصناف التعظيمات هي ثابتة لله تعالى مما يليق بالله تعالى ولا يليق بغيره، فإن الملك الحقيقي هو لله تعالى وحده.
والبقاء والحياة الحقيقية هي لله تعالى وحده، فإنه هو الحي الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يموت، فالإنس والجن يموتون.
وكذلك السلامة، فإن الله تعالى هو السلام الذي له صفات الكمال المنزه عن صفات النقص، وعن جميع العيوب، والذي لا يدركه سبحانه نقص ولا عيب بوجه من الوجوه، فأنواع التعظيمات هي ثابتة لله تعالى، فهذا معنى قوله: (التحيات لله).
(والصلوات)، المقصود بالصلوات: قيل: هي العبادات، وقيل: الدعاء، والأولى أن يؤخذ اللفظ على عمومه، فيكون المقصود بالصلوات العبادات، وأول ذلك الصلوات الخمس.
وكذلك الدعوات، فإنها لله تعالى، فالله تعالى هو المعبود وهو المدعو، وهو المسبح والمحمود في كل حال سبحانه.
(والطيبات) الطيبات أيضاً لفظ عام، فتشمل الطيبات من الأقوال والأفعال، فالله تعالى هو الحقيق بكل طيب، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً )، فالطيبات من الأقوال هي مستحقة لله تعالى، هو مستحقها يثنى عليه بها، ويذكر بها، وكذلك الطيبات من الأفعال، ولهذا أيضاً كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ضمن دعائه: ( تباركت وتعاليت، والخير بيديك، والشر ليس إليك )، وقد سبق أن بحثنا وبينا معنى هذا اللفظ في غير هذا الموضع، فهذا معنى قوله: (الطيبات).
ثم قال: (السلام عليك أيها النبي)، والسلام: دعاء بالسلامة، كما قال الشاعر:
تحيينا السلامة أم بكر وهل لي بعد قومي من سلام
فالسلام: هو الدعاء بالسلامة من الآفات والأمراض والمصائب، والنقائص الدينية والدنيوية، فحين يقول العبد: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) فإنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو له، ومن المعلوم أن الأنبياء يوم القيامة لهجهم ودعاؤهم وهم يعبرون على الصراط، يقولون: ( اللهم سلم سلم )، فإن العبد محتاج إلى الدعاء له بالسلامة، حتى ولو كان نبياً مرسلاً، أو ملكاً مقرباً، فإن الإنسان والعبد لا قوام له إلا بالله عز وجل، ولهذا يدعونه ويسألونه ويرجونه ويخافونه، كما قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57].
( السلام عليك أيها ورحمة الله وبركاته)، ويدخل في ذلك أيضاً الدعاء لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: يدخل ضمن هذا الدعاء بالسلامة من كيد أعدائها الظاهرين والمستترين، والدعاء لسنته عليه الصلاة والسلام بالحفظ والانتشار، وأن يقيض الله تعالى لها من ينشرها، ويعمل بها، ويدعو إليها، ويصبر عليها.
ثم قال: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين): فهو إذا قال هذا دعا لنفسه، ودعا لكل عبد صالح في السماء والأرض، من الملائكة المقربين، ومن عباد الله الصالحين من أهل الأرض، فيدعو لهم.
وقوله: (السلام علينا): يحتمل أيضاً كما قال النووي في المجموع : لم أجد فيه كلاماً لأهل العلم لفظ الجماعة هاهنا: (السلام علينا)، قال: لم أجد فيه كلاماً لأهل العلم، وقد ذاكرت فيه بعض الأكابر، ثم استقر رأينا فيه على أن قوله: (السلام علينا) يشمل المصلي الإمام والمأمومين والملائكة وجماعة .. وغيرهم.
وهذا وجه ذكره النووي، ويحتمل أن يكون الأمر أوسع من ذلك، وأن يكون دعا لنفسه ولكل عباد الله الصالحين، فدعا لنفسه ولمن حوله أولاً بقوله: (السلام علينا) فيشمل ذلك، ثم دعا لكل عباد الله الصالحين، فيشمل كل عبد مؤمن صالح في السماء والأرض.
الجواب: الظاهر أن العقد في التشهد.
الجواب: إذا احتاج إلى ذلك جاز له أن يقرأ فيه.
الجواب: الدعاء الثابت أو الذكر الثابت: ( الحمد لله، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى ).
الجواب: الحكمة قيل: التوحيد، وقيل: إنها مقمعة للشيطان ومذلة له، وقيل: إنها إشارة إلى أنها نوع من تحريك القلب؛ لأن في الإصبع عرقاً مرتبطاً بالقلب، فإذا حركه وعى القلب وتيقظ وأقبل، وقيل أشياء كلها من التماسات العلماء، ليس فيها نص صريح.
الجواب: أرى أن الأمر في ذلك واسع، وأن من قال: (السلام عليك أيها النبي) فلا شيء عليه، فهذا ثابت في حديث ابن عباس وعائشة وجابر وأبي موسى وعمر وابن عمر وغيرهم، وهو مشهور عند الخلف والسلف، ومن قال: (السلام على النبي) ولو في بعض الأحيان، فأيضاً هذا لا بأس من باب التنويع.
الجواب: هذه المسألة تطول، مسألة تعارض الروايات وزيادة الثقة مسألة عويصة، ومشكلة في علم المصطلح لا يتسع المجال لبسطها.
الجواب: هذا لم يرد، رفع الإصبع وهو واقف إذا مر بآية تسبيح أو رحمة أو غير ذلك فهذا لم يرد.
أسال الله تعالى أن يجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أعمالنا أواخرها، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن يتوفانا وهو راضٍ عنا غير غضبان، إنه على كل شيء قدير.
وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فإنه هو الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب الشهادة، الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وهو الحي القيوم، وهو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء عليم، وهو الله مالك الملك، قيوم السماوات والأرض، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، أن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
وأسأل الله تعالى أن يرفع الظلم عن المظلومين في كل مكان، وأن ينقذ إخواننا المسلمين في كل مكان، وأن يفك أسرهم، اللهم فك أسرهم، اللهم فك أسرهم، اللهم ارفع عنهم ما وقع عليهم من الظلم.
اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم بلغهم مما يرضيك آمالهم.
واختم بالصالحات أعمالنا وأعمالهم.
اللهم انتصر لهم من أعدائهم.
اللهم صب بأسك الذي لا يرد على القوم الظالمين، اللهم صب بأسك الذي لا يرد على القوم الظالمين.
اللهم أرنا في الظالمين عجائب قدرتك، اللهم أرنا في الظالمين عجائب قدرتك.
اللهم أقر عيوننا وقلوبنا بنصر الإسلام وأهله، يا حي يا قيوم.
اللهم أقر عيوننا وقلوبنا بنصر الإسلام وأهله، يا ولي الإسلام وأهله.
اللهم يا ولي الإسلام وأهله انصر دينك وعبادك الصالحين.
اللهم انصر كتابك وسنة نبيك، يا حي يا قيوم.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
والحمد لله رب العالمين.
وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر