إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
كلام المصنف رحمه الله تعالى في هذين الحديثين حديث أبي هريرة وحديث وائل بن حجر فيه:
أولاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه ومن خرجه، وأنه أقوى من حديث وائل بن حجر في نظر المؤلف رحمه الله، ثم ذكر حديث وائل بن حجر وهو مما رآه في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه يقدم ركبتيه قبل يديه )، ثم بين رحمه الله وجه الترجيح بقوله: (فإن للأول -يعني: حديث أبي هريرة - شاهداً من حديث ابن عمر رضي الله عنه صححه ابن خزيمة، وذكره البخاري معلقاً موقوفاً).
فكأن هذا تعليل لترجيحه رحمه الله حديث أبي هريرة على حديث وائل بن حجر ؛ لأن لحديث أبي هريرة شاهداً من حديث ابن عمر، فأما حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه )، وفي رواية: (ثم) بدل قوله: (قبل) .
فالمقصود: أبو داود والترمذي والنسائي، وقد أخرجه أيضاً أحمد في مسنده، والدارمي في سننه، والدارقطني والبيهقي في سننهما أيضاً، والطحاوي والبغوي .. وغيرهم من أهل العلم، هذا بالنسبة لتخريجه.
فقد صححه أيضاً جماعة من الأئمة المحدثين، منهم: عبد الحق الإشبيلي صاحب الأحكام .
ومنهم: الإمام السيوطي .
ومنهم: من المتأخرين المعاصرين الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي، وفي تعليقه أيضاً على كتاب المحلى لـابن حزم .
ومنهم: الشيخ الألباني في عدد من مصنفاته، من أبسطها -يعني: أكثرها بسطاً- كتاب إرواء الغليل، فإنه تكلم عن هذا الحديث، هؤلاء صححوه.
وهناك آخرون: جودوا الحديث أو حسنوه، ولم يذكروا فيه تصحيحاً، وهذا مثل الحافظ ابن حجر نفسه رحمه الله، فإنه قال: (إسناده جيد) أما كلامه في بلوغ المرام قوله: (وهو أقوى من حديث وائل بن حجر ) فهل يدل على ثبوت الحديث؟
لا يدل؛ لأن مجرد المقابلة بينه وبين حديث وائل بن حجر لا تدل على ثبوته، فقد يكون الحديث ضعيفاً، ولكنه أقوى من الضعيف جداً مثلاً، وهذا سبق بيانه فيما يقال: (أحسن شيء في الباب) كما يقوله الترمذي وغيره، لكنه صرح في مواضع من التلخيص وغيره بأن إسناده جيد، وكذلك النووي رحمه الله قال: إسناده جيد، وحسن الحديث أيضاً الزرقاني، وبعض المحققين من المعاصرين.
فهؤلاء من ذكرت كـالسيوطي، وعبد الحق الإشبيلي، وابن حجر، والنووي، والزرقاني، والألباني، وأحمد شاكر يمكن أن يقال: إنهم ممن أثبتوا الحديث، الحديث ثابت عندهم، وإن اختلفوا في درجته ما بين الصحة والحسن.
وهذا الحديث هو من رواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن محمد بن عبد الله المعروف بـ( النفس الزكية )، وقد تفرد به كل منهما حسب ما هو مشهور عند طائفة، فتفرد به أيضاً قبل ذلك أصبغ عن الدراوردي، ثم تفرد به الدراوردي عن النفس الزكية فهو حديث غريب، وذكر ذلك ابن عدي، والدارقطني، والبيهقي، والحازمي .. وغيرهم، فأعلوا الحديث بتفرد الثلاثة به، ولكن هذا التفرد ليس بحد ذاته علة يضعف بها الحديث، على ما هو معروف؛ لأن محمد بن عبد الله صاحب النفس الزكية -كما يسمى- هذا ثقة، ولم أطلع في حدود مراجعتي القليلة على أن أحداً جرحه أو ضعفه، فهو ثقة، وقد وثقه النسائي، وابن حبان، وليس لهما معارض فيما أعلم، فلا كلام فيه.
و أما عبد العزيز بن محمد الدراوردي، فإن فيه كلاماً واختلافاً بين علماء الجرح والتعديل، فمنهم من وثقه، كـابن المديني، وابن معين، وحسبك بهما، وكذلك النسائي مع شدته في الرجال، والعجلي والذهبي .. وغيرهم، فهؤلاء وثقوه، وكذلك مما يدخل في هذا: أن الإمام مسلماً رحمه الله قد أخرج له في صحيحه محتجاً به، أما البخاري فأخرج له في الصحيح مقروناً بغيره، فهؤلاء خاصة مسلم يمكن أن يعتبر هذا توثيقاً له.
وضعفه جماعة آخرون كما نقل ذلك عن أبي زرعة، وأبو زرعة قال فيه: سيئ الحفظ، وهذا ليس جرحاً مطلقاً، هو جرح فيما يتعلق بحفظه، فهو مقيد، فكأنه إذا حدث من كتابه -مثلاً- عنده يكون ثقة، وقد صرحوا بهذا أيضاً؛ وكذلك النسائي قال فيه مرة في إحدى الروايات قال: ليس بالقوي.
و العقيلي ذكره في كتابه في ضعفاء الرجال، فهؤلاء ضعفوه، ومن قبلهم وهم أكثر وثقوه، وتوسط في ذلك طائفة من العلماء المحققين، فذكروا أن الحكم على الدراوردي أنه صدوق، فحديثه حسن، إلا إذا حدث من كتب غيره فإنه ربما أخطأ، فيتثبت فيما روى وما ذكر وقرأ، فهذا الدراوردي .
وبناءً على ذلك: فالأقرب أن هذا الحديث حسن الإسناد لحال الدراوردي، حسن لذاته؛ ولكنه يصلح أن يرتقي إلى درجة الصحيح بمتابعاته، كما سيمر شيء منها.
وأشهر من ضعف الحديث وقال بخلافه هو الإمام الفذ ابن قيم الجوزية، وذلك في كتاب زاد المعاد، فإنه أطال النفس في هذه المسألة، وضعف هذا الحديث من وجوه عدة، وكذلك في تعليقه على سنن أبي داود المشهور: بـ( تهذيب السنن ) فإنه ضعفه من وجوه عدة، أظنها نحو سبعة أوجه منها:
أولاً: أن الترمذي قال: هذا حديث غريب، ولم يذكر فيه حسناً، كما أسلفت قبل قليل، ولا شك أن قول الترمذي: (هذا حديث غريب) في الأصل يدل غالباً على ضعف الحديث، فإنه قلما يطلق هذه الكلمة إلا على حديث ضعيف، ولكن هذا ليس بعلة في الواقع، وليس بوجه لتضعيف الحديث؛ لأن قول الترمذي : (غريب) معارض بقول من صححوه أو حسنوه، وهم من ذكرنا، وهم أكثر ممن ضعفوه، هذا وجه.
الوجه الثاني: أن ابن القيم رحمه الله ذهب إلى احتمال انقلاب المتن، قال لعله قد انقلب متنه على راويه، وكأن ابن القيم رحمه الله يرى أن أصل متن الحديث: ( إذا صلى أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع ركبتيه قبل يديه ) ومأخذ بعض الذين ردوا على ابن القيم في هذا شددوا في العبارة في ردهم عليه، وقالوا: إن هذا يؤدي إلى التحكم في الأحاديث، وردها بـ(لعل) وما أشبهها، وفي نظري أن كلام ابن القيم وإن لم يكن قوياً متيناً، إلا أنه لا يستحق مثل هذه الشدة؛ وذلك لأن ابن القيم رحمه الله لما قال باحتمال انقلاب المتن، أخذ هذا من وجوه:
الوجه الأول: يتعلق بالنقل والأثر، يعني: بالروايات والأحاديث؛ وذلك أنه جاء في رواية من حديث أبي هريرة نفسه، حديث الباب كما استظهره ابن القيم : ( إذا صلى أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع ركبتيه قبل يديه )، جاء هكذا في بعض الروايات، ولكنها روايات لا يلتفت إليها، بل إسنادها أقرب إلى أن يكون ضعيفاً جداً، ولا تقوم به حجة؛ وذلك لأن في سنده عبد الله بن سعيد وهو منكر متروك الحديث، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح عن هذا الحديث يعني برواية: ( وليضع ركبتيه قبل يديه ) قال: ضعيف، وهذا أقل ما يستحقه الحديث أنه ضعيف، هذا من جهة النقل أو من جهة الأثر الذي اعتمد عليه ابن القيم رحمه الله.
أما من جهة النظر فهو أقوى، نظره رحمه الله؛ وذلك لأنه قال: إن قوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا صلى أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير )، فحوى كلامه: أن هذا من الرسول صلى الله عليه وسلم نهي عن الخرور على اليدين؛ لأن الإنسان إذا قدم يديه في السجود، فإنه يشبه البعير، فإن أول ما يصل إلى الأرض من البعير يداه، فتكون هيئة الساجد إذا قدم يديه أشبه بهيئة البعير، فقوله: (فلا يبرك كما يبرك البعير)، لو اقتصر على هذا لكان معناه: أنه يقدم ركبتيه قبل يديه، فلما قال: (وليضع يديه قبل ركبتيه) كأن الإمام رحمه الله استظهر أن هذا انقلب على الراوي؛ ولذلك قال باحتمال أن يكون الحديث من المقلوب، ومثل ببعض الأحاديث التي وردت في باب المقلوب، وهي معروفة عند علماء المصطلح.
الوجه الثالث الذي ضعفه به ابن القيم متناً أو سنداً قال: إنه منسوخ، ومن المعلوم أن النسخ يحتاج إلى أمور منها: ثبوت الناسخ، وثبوت تقدمه، وعدم إمكانية الجمع بينهما، والواقع أن الحديث الناسخ، وهو حديث سعد بن أبي وقاص وسيأتي ذكره لا يثبت، بل هو ضعيف معلول.
أما إن قلنا: بأن الناسخ له نحو حديث وائل بن حجر وهو حديث الباب، فهنا يأتي الإشكال في ثبوت الحديث أولاً، ثم في ثبوت تأخره على حديث الباب، وعدم إمكانية الجمع بينهما، فلو ثبت هذا لكان ما ذكره متجهاً، ولكنه لا يثبت، فالقول بالنسخ ليس بقوي أيضاً.
الوجه الرابع الذي ضعفه به رحمه الله: اضطراب المتن، فإنه مرة لم يذكر شيئاً، قال: ( إذا صلى أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ) وسكت، ومرة قال: ( وليضع ركبتيه )، ومرة قال: ( وليضع يديه )، وهذا في الواقع ليس باضطراب؛ لأن الاضطراب عند علماء المصطلح: هو ما إذا جاء الحديث بأوجه متقاربة أو متساوية، ولا يمكن التوفيق بينها، وهذا ليس وارداً هنا؛ لأن الرواية التي ليس فيها ذكر اليدين والركبتين، هذه تحمل على الاختصار.
وأما إذا بقيت رواية: (وليضع يديه قبل ركبتيه) أو (وليضع ركبتيه قبل يديه) فهل هما متساويتان من حيث الصحة؟ لا، ولكن الراجح الرواية التي ساقها المصنف: ( وليضع يديه قبل ركبتيه )، وبناءً على هذا فإنه ليس في الحديث اضطراب في متنه.
الوجه الخامس الذي أعله به: هو التفرد، كما أسلفته عن جماعة.
والواقع: أن الدراوردي -وهو ربما يكون أضعف رجل في السند- وإن يكن ضعيفاً، لكن الدراوردي لم يتفرد بهذا الحديث، بل تابعه عليه عبد الله بن نافع، وروايته عنه عند أبي داود والنسائي والترمذي .
الوجه السادس: أن الإمام ابن القيم رحمه الله قال: إنه ليس للحديث شواهد، وهذا في الواقع لم يذكره تضعيفاً للحديث بقدر ما هو ترجيح لحديث وائل بن حجر عليه، وإلا فعدم وجود شواهد للحديث لا يضعفه، ومع ذلك فإن الحديث له شاهد، أشار إليه المصنف من حديث ابن عمر رضي الله عنه: ( أنه كان -يعني:
الوجه السابع: الذي ضعفه به ابن القيم رحمه الله: أن ركبة البعير ليست في يده، وهذا كأنه رد على من قالوا: إن ركبة البعير في يده.
وقال ابن القيم رحمه الله: إنهم وإن أطلقوا على التي في اليد الركبة، فإنهم أطلقوا ذلك على سبيل التغليب، والواقع: أن ما ذكره ابن القيم هنا متعقب، فإن جماعة من أهل اللغة: صرحوا بأن ركبة البعير في يده، كما ذكر ذلك ابن منظور في لسان العرب، وكما ذكره الأزهري في تهذيب اللغة، وكما ذكره ابن سيده في المحكم، ونحو ذلك أشار إليه ابن حزم في المحلى، كل هؤلاء صرحوا بأن ركبة البعير في يده، هذا ما يتعلق بالحديث الأول.
وبناءً عليه يظهر أن الأوجه التي ضعفه بها ابن القيم رحمه الله أكثرها لا تخلو من مناقشة ومعارضة.
هو حديث وائل بن حجر رضي الله عنه قال: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه ).
وبناءً عليه: ننظر في حال شريك هذا، هل هو ضعيف أم ثقة؟
فأقول: شريك ضعفه جماعة، كـيحيى بن سعيد القطان، والنسائي في رواية عنه، وعبد الله بن المبارك .. وغيرهم.
ووثقه آخرون كـيحيى بن معين، والنسائي في رواية أخرى: مرة قال: لا بأس به، وكذلك العجلي في كتابه الثقات وثقه.
وتوسط في ذلك جماعة، فذهبوا إلى أن شريكاً صدوق كثير الخطأ، وهذا أيضاً إذا كان صدوقاً كثير الخطأ، يكون حديثه حسناً عند قوم، وضعيفاً عند آخرين.
وعلى كل حال، فالذي نخرج به بعد النظر في حال شريك، وقبله النظر في حال عبد العزيز بن محمد الدراوردي، أن أيهما أقوى في نظركم، يعني: من خلال الأقوال التي ذكرتها، شريك أو عبد العزيز الدراوردي؟
الدراوردي، عبد العزيز بن محمد الدراوردي كأنه أقوى وأوثق من شريك، فإذا آلت المسألة إلى المفاضلة بينهما، فلا شك أن حديث الدراوردي، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أقوى من حديث شريك، وهو حديث وائل بن حجر .
منها: حديث أنس رضي الله عنه قال: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم انحط بالتكبير فسبقت ركبتاه يديه ).
وهذا الحديث رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي وابن حزم في المحلى والحازمي في الاعتبار، وفي سنده العلاء بن إسماعيل العطار وهو مجهول، كما ذكر ذلك ابن القيم والبيهقي ..وغيرهما.
فالحديث إذاً ضعيف.
وكذلك ذكر بعضهم لشواهده: حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: ( كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين ) (كنا نضع اليدين) يعني: في أول الإسلام في أول الأمر، (قبل الركبتين، فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين)، وهذا الذي احتجوا به من قال: إن حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تقديم اليدين منسوخ، هو هذا الحديث: حديث سعد، وقد أخرجه ابن خزيمة والبيهقي .. وغيرهما، وفي سنده إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة عن أبيه عن جده؛ ولذلك فإن هذا الإسناد ضعيف جداً.
فأولاً: رواية إبراهيم عن أبيه فيها نظر، وبعض النظر، هذا أولاً.
ثانياً: أبوه متروك، وقال بعضهم: ضعيف، ولعل الضعيف أقل ما يستحق.
ثالثاً: يحيى بن سلمة، وكأنه هو جده الذي روى عنه ضعيف أيضاً؛ ولذلك ضعف الحديث، أعني: حديث سعد بن أبي وقاص : ( كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين ) ضعفه ابن حجر والحازمي والنووي، بل حتى ابن القيم نفسه رحمه الله ضعف هذا الحديث.
وهناك شواهد من فعل الصحابة رضي الله عنهم، كما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه، وعمر بن الخطاب، أنهما كانا يفعلانه، وأسانيدها إن ثبتت وصحت فإنها لا تعزز وتقوي المرفوع، خاصة مع وجود الحديث الآخر، الذي هو حديث أبي هريرة، فلا يعتبر فعل عمر مثلاً، أو فعل ابن مسعود، لا يعتبر شاهداً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو موقوف ولم ينقل أنهما قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، كما نقل في الشاهد الآخر الذي هو حديث ابن عمر شاهد حديث أبي هريرة .
على كل حال: ظهر من هذا أن شواهد حديث وائل بن حجر ليست قوية، وهي أضعف منه على كل حال، فلا يتقوى بها، فيبقى حديث أبي هريرة الأول أقوى من حديث وائل بن حجر، وتكون النتيجة التي توصل إليها المؤلف رحمه الله صحيحة أو غير صحيحة؟ صحيحة: أن حديث أبي هريرة القولي الذي فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي أن يقدم ركبتيه قبل يديه، أنه بشاهده وهو حديث ابن عمر أيضاً، أنه أقوى من حديث وائل بن حجر الفعلي، الذي فيه حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصفة صلاته.
أولاً: هذه المسألة الخطب فيها إن شاء الله يسير؛ ولذلك قال الإمام ابن تيمية رحمه الله في المجلد الثاني والعشرين من الفتاوى ما فحواه: إن العلماء اتفقوا وأجمعوا على أن من قدم يديه قبل ركبتيه أو قدم ركبتيه قبل يديه أن صلاته صحيحة، وإنما اختلفوا في الأفضل.
فكأنه رحمه الله يحكي إجماع العلماء على جواز الأمرين، وأن الخلاف منحصر في الأفضل منهما والأقرب للسنة، هذا كلام ابن تيمية رحمه الله.
ولكن هذا الكلام أيضاً يشكل عليه، أن ابن حزم في المحلى صرح بأنه فرض على المصلي إذا صلى وهوى إلى السجود أن يقدم يديه قبل ركبتيه، ولابد.
ولكن يمكن أن يقال: إن ابن حزم رحمه الله محجوج بالإجماع، وكذلك قوله هذا ليس عليه دليل، فإذا كان أصل المسألة فيها خلاف طويل عريض على ثبوت الحديث وصحته ودلالته .. وغير ذلك، فمن البعيد جداً أن يستخرج منه حكم بالإلزام والفرض، كما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله.
طيب! هذا مدخل نخلص منه إلى أن المسألة ليست من فروض الصلاة، ولا من واجباتها، والأمر فيها إن شاء الله تعالى يسير، ولا أدل على ذلك من اختلاف الصحابة رضي الله عنهم فيها، فهذا عمر وابن مسعود نقل عنهما تقديم الركبتين قبل اليدين، وغيرهما نقل عنهم خلاف ذلك، كما ذكره المروزي في مسائله عن الأوزاعي وسنده صحيح: أن الأوزاعي أبا عمرو إمام أهل الشام كان يقول: ( أدركت الناس يضعون أيديهم قبل ركبهم )، فلا أدل على أن المسألة خفية، وليست ظاهرة من اختلاف الناس فيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعده في زمن الصحابة التابعين وأتباعهم؛ لخفائها وغموضها، وتعارض أدلتها، وقلة الأدلة فيها أيضاً، فيها بالدرجة الأولى حديثان متعارضان، وكل منهما ليس في الذروة العليا من الصحة، كما رأيتم وسمعتم، ولكن لا يمنع هذا من بحث المسألة والنظر فيها، على أنه لا ينبغي أن تكون مجالاً للقيل والقال، والأخذ والرد، والجدل والخصومة، ورفع الأصوات، واختلاف القلوب .. وغير ذلك، أعتقد أن الأمر لا يستدعي كل هذا، وينبغي على طالب العلم أن يتأدب بأدب العلم الذي يحمله، فلا يعطي المسائل أكثر مما تستحق، ولا أعتقد أن مُسْلمَيْن يختلفان في أن مسائل التوحيد الكبار، وقضايا الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، ومسائل تحكيم شريعة الله، ومسائل الولاء والبراء .. وما أشبه ذلك من الأمور الكبار، والمسائل العملية الكبيرة أيضاً كالصلاة، والزكاة والصيام والحج .. وغيرها، أنها لا تقاس بمثل هذه المسألة، فينبغي أن نعطي كل ذي حق حقه، فإن هذا من الحكمة، والله تعالى يقول: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269]، والرسول عليه الصلاة والسلام حشي صدره إيماناً، كما في قصة الإسراء والمعراج.. وغيرها حشي مع الإيمان حكمة.. مملوء حكمة وإيماناً.
المسألة فيها أقوال أشهرها قولان:
فالآن الذي ينظر إلى البعير وهو يبرك، أول ما يصل إلى الأرض مقدمه أم مؤخره؟ مقدمه، يعني: الذي يلي رأسه، فإذا نهى الرسول عليه الصلاة والسلام المصلي عن مشابهة هيئة البعير، كان المصلي الذي يقدم يديه أقرب شبهاً بالبعير في هيئته، لكن أقول: إنه ظاهر لمن تأمله إن شاء الله، لكن الطرف الثاني يعترضون عليه، بأن ركبة البعير في يده كما أسلفت.
على كل حال هذا قول الإمام الشافعي وأبي حنيفة كما ذكرت، ورواية عن الإمام أحمد، وقد رجحه واختاره الإمام ابن القيم في زاد المعاد وتهذيب السنن، واختاره أيضاً من مشايخنا وعلمائنا المعاصرين الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين .
ويمكن أن نقول: هناك قول ثالث، وهو مذهب ابن حزم : ذهب إلى الوجوب كما أسلفت، وأولئك لم يقولوا: بالوجوب، بل يقولون بالأفضلية.
وهناك قول رابع حاول أن يتوسط بين هذه الأقوال: فذهب إلى أن المنهي عنه هو مشابهة البعير، وأن الإنسان لا ينبغي له أن يهوي بسرعة بكل بدنه، بل ينبغي له أن ينزل إلى الأرض بتؤدة وسكينة، سواء قدم يديه أو قدم ركبتيه، وهذا ذكره الشيخ المقبلي من علماء اليمن، ونقله عنه الشوكاني رحمه الله، واعترض عليه هو وغيره بأنه قول لم يسبق إليه.. أو نحواً من ذلك.
كذلك النووي يمكن أن يضاف إليه كأنه في المجموع توقف عن الترجيح بين الأحاديث.
فأقول: إن النظر في النصوص والأحاديث الواردة في هذه المسألة، يخرج منها الناظر بأمرين:
أولاً: أن هناك قدراً متفقاً عليه ومشتركاً بين هذه الأحاديث، قدر متفق عليه وهو النهي عن مشابهة البعير: ( فلا يبرك كما يبرك البعير ) ففيه النهي عن مشابهة البعير.
وهذا قدر مشترك بين حديث أبي هريرة، وبين الأحاديث الأخرى، فهذا القدر المتفق عليه يدل على النهي عن مشابهة الحيوان، ولا شك أن مشابهة البعير قد تكون بأكثر من صورة، فالإنسان الذي يهوي ببدنه كله إلى السجود هذا يشبه البعير، وربما مثله أيضاً الإنسان الذي يهوي بيديه، ويظل جسمه مرتفعاً، يظل ظهره ومؤخرته مرتفعة عن الأرض، فهذا أيضاً يشبه البعير، ولو قال: إنه يعمل بالسنة، فالواقع أن هذا العمل فيه مشابهة للبعير في النظر، لكن لو أن الإنسان هوى إلى الأرض بتؤدة وسكينة وهدوء، ثم لما قارب الأرض قدم يديه، لا يكون في ذلك مشابهة للبعير.
الأولى: النهي عن مشابهة البعير، وهذا متفق عليه، وله شواهد كثيرة تعززه، والنهي عن مشابهة البعير يشمل أموراً:
منها: أن يهوي الإنسان بكليته إلى الأرض جملة، فيبرك بروكاً، يعني: يهوي بسرعة، فهذا يشبه البعير.
ومن صور مشابهة البعير: أن يضع يديه إلى الأرض، وبقية بدنه مرتفع، فيكون في ذلك مشابهة للبعير، وهذا عند التأمل واضح.
هذه المسألة الأولى في الحديث: مسألة عدم مشابهة البعير.
المسألة الثانية: (وليضع يديه قبل ركبتيه)، نقول: هذه مسألة أخرى، والأقرب فيها وضع اليدين قبل الركبتين والله أعلم؛ لأن الإنسان إذا قارب الهبوط إلى الأرض، ثم وضع يديه، لم يكن في ذلك تشبه بالبعير، ولعل التطبيق العملي أمامكم يظهر هذا جلياً يعني، فهذا يضعف أن ما ذكرناه قبل قليل عن ابن القيم رحمه الله من أن المشابهة للبعير هي بتقديم الركبتين.
نقول: نعم، هذا يكون إذا هوى الإنسان من علو وقدم يديه، لكن لو أنه هوى ببدنه كله، فلما اقترب من الأرض قدم يديه، فلا يكون في ذلك مشابهة، ولو قدم ركبتيه لم يكن في ذلك من بأس أو حرج إن شاء الله، وإن كان الأظهر والله تعالى أعلم هو تقديم الركبتين.
الجواب: هذا لا يصح.
الجواب: هذا بحث قديم عندي كتبته لنفسي، يعني: من باب وضع بعض الضوابط والمقدمات للطلبة المبتدئين، الذين يرغبون الكتابة، كتابة بعض البحوث ونحوها، أو حتى إقامة بعض الدروس، واقترح عليّ بعض الإخوان طباعته فطبعته.
الجواب: ابن حجر رحمه الله ما ذكر له شاهداً، وإنما ذكر الشاهد للحديث الذي قواه، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صل على محمد وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر