إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
عندنا في هذه الليلة أحاديث، لكننا سنقتصر منها على حديثين؛ نظراً لوجود أثر الرشح عندي، وإني كنت متردداً في إلقاء هذا الدرس، لكن عزم الله تعالى لي وأنا في الصلاة على أن نستثمر هذا المجلس، وألا يكون مسعاكم إلى المسجد وخطواتكم أن تعودوا دون أن تخرجوا بفائدة، ولو كانت محدودة، وإن كنتم إن شاء الله مأجورين على كل حال، وحسب المسلم أن يكتب له أجر ممشاه إلى بيت من بيوت الله، وإلى مجلس من مجالس الذكر والعلم، نسأل الله أن يجعلنا مخلصين.
الحديث الأول: حديث الحسن بن علي رضي الله عنه قال: ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت )، رواه الخمسة كما يقول المصنف، وزاد الطبراني والبيهقي بعد قوله: ( إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت )، وزاد النسائي من وجه آخر في آخره: ( وصلى الله تعالى على النبي ).
ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب قيام الليل، وهو موجود في المختصر المطبوع مختصر قيام الليل لـمحمد بن نصر المروزي، كما رواه أيضاً البيهقي في سننه في مواضع، وابن خزيمة كما في صحيحه أيضاً، وابن حبان كما في الإحسان، وكما في موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان.. وغيره.
والحديث سنده صحيح، وقد صححه جماعة من أهل العلم، فمن صححه فيمن ذكرنا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم كما في المستدرك، وكذلك قال الإمام النووي في كتابه المجموع شرح المهذب قال: هذا حديث صحيح، وكذلك الحافظ العراقي في تخريجه للإحياء إحياء علوم الدين المغني عن حمل الأسفار في الأسفار قال: إسناده صحيح، وكذلك الحافظ ابن حجر في كتابه نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار، قال: هذا حديث حسن صحيح، وكذلك صححه من المعاصرين الألباني وغيره من المحققين أيضاً، فتصحيحه معروف مشهور، وممن يدخل فيمن أثبتوا الحديث الإمام الترمذي، فإنه حسنه كما في سننه، وكذلك أبو علي البكري في كتابه الأربعين .
وعلى كل حال لا كلام حول ثبوت الحديث، وصحة إسناده، والزيادة التي ذكرها المصنف في قوله: ( ولا يعز من عاديت ) عزاها المصنف للبيهقي، وعزاها للطبراني فهي موجودة عند الطبراني في المواضع المشار إليها سابقاً من معجمه وفي كتاب الدعاء له، وهي أيضاً بالإسناد عند ابن أبي شيبة وابن أبي عاصم في كتاب السنة، وكذلك رواه من طريق آخر الإمام ابن منده في كتاب التوحيد وهو مطبوع.
وله طريق آخر من رواية هشام بن عروة، وهذا عند ابن أبي عاصم كما أشرت في كتاب السنة له، من طريق هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن الحسن، وهذا الإسناد لا كلام فيه، ولكنه ذكر في أوله قال الحسن رضي الله عنه: ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول إذا فرغت من قراءة الوتر -أو إذا فرغت من قراءتي في الوتر- اللهم اهدني )، وزاد في آخره أيضاً، قال: ( لا منجى منك إلا إليك )، وهذا مما لم يذكره المصنف، وقد رواه الحاكم أيضاً في مستدركه أيضاً، والبيهقي، وقال الحاكم : حديث صحيح على شرط الشيخين، وقال الشيخ الألباني في كتابه إرواء الغليل : إسناده حسن، يعني: إسناد الحاكم ورجاله ثقات، رجال البخاري غير الشعراني، قال الحاكم : ثقة لم يطعن فيه بحجة، فلعله لذلك حسن إسناده الألباني، واقتصر على تحسينه ولم يصحح؛ لأن فيه الشعراني هذا تكلم فيه، لكن الصواب مع من حسنوا حديثه، فخلاصة الكلام في حديث الباب أنه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه علمه الحسن بن علي في دعاء القنوت في صلاة الوتر، كما ذكر.
وهذا يرشد إلى أن الإنسان إن صلى منفرداً دعا بهذا الدعاء على صيغة الإفراد: ( اللهم اهدني )، فإن صلى إماماً في جماعة، فإنه يدعو بصيغة الجمع، فيقول: ( اللهم اهدنا )؛ لأنهم يؤمنون خلفه، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أمّ قوماً فخص نفسه بالدعاء دونهم فقد خانهم )، فيجب عليه أن يدعو بلفظ الجمع: ( اللهم اهدنا فيمن هديت )، إذا كان إماماً.
وقال بعضهم: كلا، بل كان يدعو بها في النوازل وهذا أصح، ولفظها: ( اللهم إنا نستعينك ونستهديك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق ).
فقوله: ( اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد )، معنى (نحفد) من الحفد وهو الإسراع في المشي، أي: نسارع في طاعتك، وخدمة دينك، فهي تشبه قول الملبي: (لبيك اللهم لبيك) يعني: (لبيك) فيها معنى الإقامة على الطاعة والثبات عليها، من لبَّ بالمكان إذا أقام.
وهذا (الحفد) فيه معنى الإسراع في طاعة الله تعالى، واتباع مرضاته.
وقوله: ( وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق ).
قوله: (ملحق) جاء بالوجهين:
الوجه الأول: بكسر الحاء (ملحِق): ( إن عذابك الجد بالكفار ملحِق )، يعني: أن من نزل عليه عذابك الشديد، ألحقه عذابك بالكفار، لاحظ المعنى: (إن عذابك الجد بالكفار ملحِق) يعني: من نزل عليه عذابك يا ربِّ الشديد، فإنه يلحقه بالكفار، فهو بالكفار ملحق.
والوجه الثاني: (ملحَق) بفتح الحاء، فيكون المعنى عليه: أن عذابك الشديد نازل بالكفار لا محالة، ومصيب لهم طال الزمن أم قصر، وكأن هذا المعنى أقرب وأظهر، وحتى على رواية الكسر (ملحِق) جائز: أن يكون المعنى: هو أن عذابك الشديد لاحق بالكفار، ونازل بهم لا محالة، فالله تعالى لا يرد بأسه عن القوم الظالمين .. المجرمين.
ثم كان عمر رضي الله عنه -وهذا دعاؤه- يعقب ذلك بالدعاء على كفرة أهل الكتاب، فكان يقول: ( اللهم عذب كفرة أهل الكتاب، الذين يصدون عن سبيلك، ويحاربون أولياءك )، وهذا الحديث أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي، ومحمد بن نصر المروزي، وسنده صحيح كما ذكر ذلك البيهقي في سننه والألباني .. وغيرهم.
فالاقتصار على ما ورد أولى، خاصة أن فيه نفس عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي سوف أسوقه الآن، من الشدة على الكافرين، والرحمة بالمؤمنين، والرغبة في اجتماع كلمتهم.
فمن ألفاظ الحديث الواردة في بعض طرقه، وهو صحيح كما سوف أذكر، أنه كان يقول: ( اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن الكفرة الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل الأرض بهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا ترده عن القوم المجرمين ).
وهذا اللفظ الذي سقته أخيراً، قال فيه الحافظ ابن حجر في كتاب نتائج الأفكار قال: هذا موقوف صحيح. يعني: على عمر، انتهى كلام ابن حجر .
في سنده ابن جريج، وابن جريج وإن كان ثقة إماماً إلا أنه مدلس، وقد عنعن في هذا الحديث، فلعل تصحيح ابن حجر لهذا الإسناد لعله بالنظر إلى طرقه، فإنه جاء من طرق كثيرة ثابتة إجمالاً.
وكذلك رواه عبد الرزاق بسند حسن كما ذكر الحافظ قال: وزاد: ( اللهم عذب الكفرة، وألقِ في قلوبهم الرعب، وأنزل عليهم رجسك وعذابك ) وجاء في آخره كما ذكرته وسقته قبل قليل: ( اللهم عذب الكفرة، الذين يصدون عن سبيلك، ويحاربون أولياءك ).
وهذا القدر الذي هو: ( اللهم عذب الكفرة ) لم يكن من الموقوف على عمر رضي الله عنه، بل صح به الإسناد مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد معركة أحد : ( أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: اجمعوا فجمعهم وصفهم صفوفاً، ثم رفع يديه ودعا بهم بنحو هذا الدعاء ). الذي ذكرته
وقد جاء هذا بسند صحيح من حديث رافع بن مالك الزرقي، وهو صحابي، ورواه البخاري في الأدب المفرد، والطبراني في المعجم الكبير، والنسائي في كتاب عمل اليوم والليلة، وهو مجلد مطبوع مستقل عن السنن الكبرى، وكذلك رواه الحاكم في مستدركه، وقال الحافظ ابن حجر : سنده صحيح، فهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعني: قوله (اللهم عذب الكفرة)، وعمر رضي الله عنه دعا به.
القسم الأول: ما نقله من مصحف أبي بن كعب، وهو ما يسمى بـ(سورة الحفد): ( اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحِق )، وكذلك: ( اللهم إنا نستعينك ونستهديك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك ).
هذا أخذه عمر عن مصحف أبي أو عن أبي، وكان يدعو به.
القسم الثاني من الدعاء: دعاء عمر، هو دعاء على كفرة أهل الكتاب، ودعاؤه للمؤمنين بالمغفرة، وإصلاح ذات البين، ونصرتهم على عدوه تعالى وعدوهم، وإنزال بأسه تعالى بالكافرين، فهذا من عمر رضي الله عنه ذاته، فهو موقوف عليه رضي الله عنه، وإنما قاله عمر -والله تعالى أعلم- في قنوت النازلة، ليس في قنوت الوتر، إنما قاله في قنوت النازلة؛ ولذلك دعا على كفرة أهل الكتاب؛ لأن عمر رضي الله عنه كما هو معروف في خلافته، تحركت الجيوش الإسلامية إلى بلاد الشام .. وغيرها، تقاتل كفرة أهل الكتاب وتقارعهم؛ فلذلك دعا عليهم بهذا الدعاء، فكان يؤيد بعث الجند بهذه الدعوات التي يدعو بها، ويؤمن خلفه المسلمون.
وهذا مشروع عند العلماء، واقتصر على ذكر قول واحد من أقوالهم، وهو قول الإمام ابن تيمية، فإنه قال في كتاب الفتاوى (في الجزء الثالث والعشرين) قال: (إن عمر رضي الله عنه لما حارب كفار النصارى قنت عليهم القنوت المشهور: ( اللهم عذب كفرة أهل الكتاب ..) )، ونص الشيخ الإمام ابن تيمية ظاهر في أن عمر إنما قال هذا الدعاء في قنوت النازلة، قال: (فـعمر قنت لما نزلت بالمسلمين نازلة)، والكلام لـابن تيمية فـعمر قنت لما نزلت بالمسلمين نازلة، ودعا في قنوته دعاءً يناسب تلك النازلة.
جاء هذا الحديث في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي وأبي يعلى والنسائي رواه في كتاب النعوت له من السنن الكبرى، ورواه ابن ماجه، ورواه عبد بن حميد كما في المنتخب، وهو مطبوع، ورواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده على مسند أبيه، ورواه الحاكم في مستدركه، وصححه ووافقه الذهبي على ذلك، وكذلك قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب، وهو صحيح كما قال الحاكم وأقره الذهبي بلفظ: ( أنه كان يقول في آخر وتره )؛ ولذلك قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في نتائج الأفكار : هذا حديث صحيح.
فقال بعضهم: إن قوله (في آخر الوتر) يعني: في آخر سجدة من الوتر.
واحتجوا لذلك كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: ( لما وقعت يدها على قدم النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فسمعته يقول وهو ساجد: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك )، فعلى هذا يكون قول علي رضي الله عنه في هذا اللفظ: (أنه كان يقوله في آخر وتره) يعني: في آخر سجدته من سجود الوتر، هذا الاحتمال الأول.
الاحتمال الثاني: أن يكون صلى الله عليه وسلم قاله في آخر الدعاء، في آخر القنوت يعني، وهذا هو ظاهر اللفظ في قوله (في آخر وتره) يعني: في آخر القنوت، وهذا هو الذي ذهب إليه الإمام أبو داود، كما يدل عليه تبويبه لهذا الحديث، فإنه ترجم عليه وأورده في باب القنوت في الوتر، بعد ما ذكر حديث الحسن بن علي حديث الباب، فدل على أن أبا داود يذهب إلى أن هذا الدعاء يقال في آخر القنوت من صلاة الوتر، ووافقه على هذا جماعة من الأئمة المصنفين في تراجمهم، كـابن ماجه في سننه، وكذلك الطبراني في كتاب الدعاء.
وقريب من هذا والله أعلم اختيار الإمام الترمذي، فإن الترمذي قال في سننه بعدما خرج حديث الحسن، الذي سقته قبل قليل، قال: وفي الباب عن علي . وكأنه يشير إلى هذا الحديث، الذي هو حديث علي رضي الله عنه أنه يقول: ( اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك )، فقوله: (وفي الباب) يعني: في باب الدعاء من القنوت، فهذا يرجح أن رأي الترمذي كرأي أبي داود وابن ماجه والطبراني أن هذا يقال في آخر دعاء القنوت.
والوجه الثالث: أن بعضهم قال: إن هذا الدعاء يقال عقب السلام من الوتر، وهذا هو ظاهر اختيار الإمام النووي في كتاب الأذكار، فإنه قال: إنه يقال بعد السلام من الوتر.
والأرجح -والله تعالى أعلم- من هذه الأقوال، أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا الدعاء في آخر القنوت من صلاة الوتر، وكان يقوله في سجوده أيضاً، فهو من الأدعية المشتركة، أو من الأذكار المشتركة، التي تقال في القنوت، وتقال في السجود، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقوله في سجوده في قيام الليل، كما في حديث عائشة في صحيح مسلم، كما أسلفته.
أما الحافظ ابن حجر، فإنه ذهب إلى اختيار أنه يقال في آخر السجود من القنوت، جمعاً بين الروايتين، وهذا له وجه، والأولى أن يقوله في القنوت، ويقوله أيضاً في السجود.
وحكم النووي على هذه اللفظة، أو على هذه الزيادة بأنها حسنة أو صحيحة، وهو متعقب، بل سندها ضعيف أو منقطع، وهي رواية شاذة؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر : هذا حديث أصله حسن، يعني: أصل حديث الحسن بن علي ثابت، هذا كما سبق، بل أصله صحيح؛ لكن هذه الزيادة -يعني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا السند- غريبة لا تثبت؛ لأن عبد الله بن علي هذا أحد رجال الإسناد، وهو الراوي عن الحسن لا يعرف. هذا كلام الحافظ ابن حجر .
وعلى احتمال أن يكون هو عبد الله بن علي بن الحسين بن علي، فالإسناد منقطع؛ لأنه لم يدرك جده، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن عبد الله بن علي في الإسناد، هو ابن الحسين بن علي، كما ذكر ذلك المزي وغيره.
فعلى أن يكون هو ابن الحسين بن علي فالسند منقطع، هذه هي العلة الأولى، فهو إما فيه جهالة أو انقطاع، ومع ذلك ففي الحديث علة أخرى أشار إليها الحافظ : وهي الشذوذ، فإن الراوي في هذا الحديث يحيى بن عبد الله قد خولف في ذلك، فرواه غيره مثل: إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير، روياه ولم يذكرا فيه هذه الزيادة، فروياه على خلاف ما رواه يحيى .
لكن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الوتر ثابتة عن كثير من السلف، فقد ثبت عن معاذ بن الحارث الأنصاري، وهو صحابي رضي الله عنه: ( أنه كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في قنوته )، ومثله أبي رضي الله عنه وأرضاه، وقد ذكر ذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء، وكذلك رواه الحافظ ابن حجر في كتاب نتائج الأفكار بإسناده، وقال ابن حجر : وهذا موقوف صحيح، يعني: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم موقوفة على معاذ بن الحارث، وأبي بن كعب رضي الله عنهما.
وكذلك أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتابه قيام الليل عن الزهري، وعن أيوب السختياني قالا: [ إنهم كانوا يفعلونه ]، يعني الزهري وأيوب يتكلمان عن السلف من الصحابة وكبار التابعين رضي الله عنهم، وسند هذه الرواية صحيح، سند رواية الزهري، وسند رواية أيوب السختياني كلاهما صحيح.
إذاً: من الثابت عن السلف، أنهم كانوا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر صلاة الوتر.
مثل: محل القنوت وهل هو قبل الركوع أو بعده؟ وسنمر عليها عاجلاً وذلك ثابت؛ ولهذا كان أهل الحديث لأخذهم بكل ما ورد، كما نقل عن الإمام أحمد .. وغيره، يقنتون، أو يبيحون القنوت قبل الركوع وبعده، فذلك ثابت، وإن كان بعد الركوع أكثر، ولكنه ثابت قبل الركوع أحياناً في صلاة الوتر، وفي قنوت النازلة؛ وكذلك رفع اليدين في القنوت، فهو ثابت من حديث عمر عند البيهقي، وسنده صحيح.
وكذلك رفع اليدين في النازلة ثابت أيضاً:
ورفع اليدين في الدعاء عموماً متواتر كما سبق الحديث عنه، أما مسح الوجه باليدين فمختلف فيه، فيه أحاديث اختلف فيها العلماء، منهم من حسنها، كـالترمذي، ومنهم من ضعفها، والأولى: أنها لا تثبت، ولا يشرع للإنسان أن يمسح وجهه بيديه، لكن لو فعل لا نقول: إن هذه بدعة، ولا ينكر عليه؛ لأنه جاء فيها أحاديث أثبتها بعض أهل العلم.
كما سبق قبل قليل: ( اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك )، وفعله الصحابة رضي الله عنهم منهم: عمر وأبي ومعاذ بن الحارث .. وغيرهم كما سبق في الروايات، فهو ثابت.
وقول مالك : إنه لم يجد أحداً يفعله من هؤلاء، محجوج بمن وجده من الأئمة، فهي إحدى الروايات عن الإمام مالك في بدعية القنوت، والصحيح الذي عليه الجماهير أن القنوت سنة، سواء قنت طوال العام، أو قنت حيناً وترك حيناً، أو قنت في النصف الثاني من الشهر .. إلى غير ذلك، الأمر في ذلك واسع.
هو حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا دعاءً ندعو به في القنوت من صلاة الصبح ) ثم ذكر الدعاء السابق، دعاء الحسن : ( اللهم اهدنا فيمن هديت .. )، إلى آخره، لكن ذكره هنا بلفظ الجمع، والمصنف رحمه الله اقتصر على القدر الزائد في حديث ابن عباس .
ولكن المصنف أشار إلى ضعف الإسناد، قال: وفي سنده ضعف، والحديث رواه البيهقي في سننه في كتاب الصلاة، باب دعاء القنوت، ثم ذكر اللفظ الذي ساقه المصنف، وذكر: ( اللهم اهدنا فيمن هديت .. )، إلى قوله: ( تباركت ربنا وتعاليت )، وسبب الضعف الذي ذكره المصنف، أو أشار إليه أن في سند الحديث ابن جريج، كما في سند البيهقي، وهو مدلس وقد عنعن، وفي بعض الكتب الأخرى وجدتها ابن خديج، فلا أدرى أهو خطأ مطبعي، أو أنه مختلف في ذلك الراوي.
وأيضاً من أسباب الضعف: أن ابن جريج أو ابن خديج يرويه عن ابن هرمز، قال في بعض الطرق عند البيهقي : عبد الرحمن وفي بعضها قال: عبد الله، وابن هرمز هذا ليس هو الأعرج، وإنما هو عبد الرحمن بن هرمز المكي، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب، فإنه ذكره تمييزاً؛ لأنه ليس من رجال الكتب الستة، وأشار إليه، فـالحافظ رحمه الله في تهذيب التهذيب ذكر ابن هرمز تمييزاً، وقال: إنه يروي عنه ابن جريج أو ابن خديج، ويروي هو عن ابن بريد .. وهكذا في إسناد البيهقي رحمه الله، أو ابن يزيد، ثم قال الحافظ ابن حجر في التهذيب : أخرج حديثه محمد بن نصر المروزي في قيام الليل، والحاكم في كتاب القنوت والبيهقي من طرق، وهو مجهول، فتبين بذلك: أن السند ضعيف، علته ابن هرمز هذا وهو المكي، وهو مجهول كما ذكر الحافظ رحمه الله تعالى.
هذا وأسأل الله تعالى أن يجمعنا على خير، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر