الحديث الأول عندنا حديث أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت شهراً بعد الركوع؛ يدعو على أحياء من العرب، ثم تركه )، متفق عليه.
وقد رووه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد، فكان حقه لو أراد المصنف رحمه الله أن يستقصي في التخريج.. ماذا يمكن أن يقول؟
ما دام روى الحديث البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد ماذا يقول؟
ممكن يقول هكذا: رواه السبعة إلا الترمذي، أو الجماعة إلا الترمذي .
إذاً: رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد، وأيضاً رواه عبد الرزاق في مصنفه، والطحاوي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والبيهقي في سننه، ورواه أبو عوانة في مستخرجه على صحيح مسلم، ورواه البغوي في شرح السنة.
وقد ذكر أهل العلم باللغة، بل وأهل العلم في الشرع، كـابن فارس، والنووي في المجموع وابن القيم في زاد المعاد، والفيروزآبادي في كتابه بصائر ذوي التمييز.. وغيرهم، ذكروا للقنوت معاني كلها تدور حول هذا الأصل الذي ذكره ابن فارس، وهو الطاعة والاستسلام.
فمن معاني القنوت: طول القيام، يسمى قنوتاً، وقد جاء في هذا نص وهو حديث جابر في مسلم : ( أفضل الصلاة طول القنوت )، يعني: طول القيام، وطول الوقوف.
كما أن القنوت جاء بمعنى السكوت والإقبال، وهذا جاء فيه نص وهو ( وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] قال زيد رضي الله عنه: فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ).
قال ابن فارس : قوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238] يعني: السكوت والإقبال على الصلاة، فمعنى القنوت هاهنا: هو السكوت والإقبال على العبادة وعلى الصلاة.
كما إن من معاني القنوت: دوام العبادة واستمرارها، وهذا جاء فيه نص وهو:
وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم:12].
ومما يدل على هذا قوله: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [الروم:26] فإن هذا ظاهر جداً في أن المقصود دوام العبادة والطاعة.
وكذلك من معاني القنوت: الخشوع والدعاء والتسبيح، وكل هذه يصلح لها مثل قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9]، يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ [آل عمران:43]، وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم:12].. إلى غير ذلك، فهذه بعض معاني القنوت.
في قوله: ( قنت شهراً )، والمقصود بقوله في الحديث: ( قنت شهراً )، ما هو المقصود؟ أي: هذه المعاني؟ أي: دعا.
وهذه الأحياء المبهمة في الحديث وردت في صحيح البخاري وغيره على التعيين، فإن هذه القبائل والأحياء التي دعا عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، هي: رعل -بكسر الراء وسكون العين- وذكوان وعصية وبنو لحيان، أربع قبائل دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان في خبر هذه القبائل أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم سبعين من أصحابه، كما هي رواية البخاري، وأربعين كما هي رواية ابن إسحاق، ورواية البخاري أرجح، ويمكن الجمع بينهما بأنهم كانوا أربعين ثم ألحق بهم ثلاثين، فصار المجموع سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل من خيرة أصحابه، من الفقهاء وطلاب العلم، وكانوا يسمون بالقراء، فهذه السرية تسمى سرية القراء، وتعرف عند أهل السير باسم: سرية بئر معونة.
وكان رئيس هذه البعثة التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم هو المنذر بن عمرو من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وفيهم جماعة من كبار الصحابة، كـحرام بن ملحان خال أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيهم عامر بن فهيرة الصحابي الجليل المعروف في قصة الهجرة.. وغيرهم.
فذهبوا إلى المشركين، وكان رئيس المشركين هو عامر بن الطفيل العامري، فلما اقتربوا من هذه القبيلة -قبيلة عامر- قال حرام بن ملحان رضي الله عنه لأصحابه: امكثوا قريباً فأذهب إليهم أنا، فإن رأيت شيئاً أمكن أن تنجوا، وإن سلمتُ كنتم قريباً مني، وكانوا يصلون بالليل، ويحتطبون بالنهار، فلما وصلوا إلى قريب من القبيلة وقفوا وذهب حرام بن ملحان رضي الله عنه إلى عامر بن الطفيل، فقال: هل تؤمنونني حتى أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأشاروا إليه، فبدأ يتكلم ويدعوهم إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم -وأصل القصة كما ذكرت في صحيح البخاري، وتوجد زيادات كثيرة عند أهل السير لم أذكرها- فأشاروا إلى رجل فأتاه من خلفه، فطعنه بالرمح في ظهره حتى أنفذه في بطنه، ففار الدم فاستقبله بيديه رضي الله عنه، ووضعه على رأسه ووجهه، وقال: الله أكبر، الله أكبر، فزت ورب الكعبة، ثم قتل رضي الله عنه وأرضاه، وعدت القبيلة على بقية أصحابه فقتلوهم جميعاً رضي الله عنهم سبعين، ولم ينج منهم إلا رجل أعرج كان على رأس الجبل، فنجا وسلم من هذه المقتلة العظيمة.
وكان عامر بن الطفيل هذا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وهو رجل يبدو غشيماً، فقال: يا محمد! أنت بين ثلاثة أمور، مخير بين ثلاثة أشياء: إما أن يكون لي أهل المدر، ولك أهل السهل، يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، هذه واحدة.
الثانية: أن أكون خليفة من بعدك، أن يكون لي الأمر من بعدك، وإلا فسوف أملؤها عليك خيلاً ورجالاً، أغزوك بألف وألف، فسفهه النبي صلى الله عليه وسلم، وأعرض عنه، فتهدد وتوعد وفعل بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه ما فعل، فابتلاه الله تعالى وأصابه بالطاعون، فطعن هذا الرجل في بيت امرأة من بني سلول، وكانت العرب تزدري هذه القبيلة، أو كان هذا الحي من العرب يزدري هذه القبيلة، فخرج وهو يقول: غدة كغدة البكر، في بيت امرأة من بني سلول، يعني: يحتقر نفسه ويتأسف لما أصابه، فقال: أركبوني، فأركبوه على فرسه فمات عليها عامر بن الطفيل .
وهناك صحابي آخر أيضاً اسمه: عامر بن الطفيل الأسلمي غير هذا، ولكن هذا الرجل الكافر الذي مات كافراً هو عامر بن الطفيل العامري من قبيلة عامر، أما الصحابي الآخر فهو عامر بن الطفيل الأسلمي، وهو راوي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا أسأت فأحسن )، رواه المستغفري في كتاب الصحابة، فيفرق ويميز بينهما، وقد أخطأ من عدهما واحداً، فإن هذا أسلمي وذاك عامري، وهذا صحابي، وذاك مات كافراً بالطاعون كما ذكرت وأسلفت.
ولا شك أن هناك فرقاً واضحاً معروفاً بين عامر بن الطفيل هذا، وبين عامر بن الطفيل الأسلمي.
عرفنا الآن عامر بن الطفيل الأسلمي والعامري، يوجد صحابي آخر قد يشتبه اسمه على بعض الناس، وهو: الطفيل بن عمرو وهذا دوسي من قبيلة دوس من أهل الطائف رضي الله عنه، من قبيلة أبي هريرة، المهم هؤلاء هم الأحياء الذي دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم شهراً، ثم ترك الدعاء عليهم عليه الصلاة والسلام، فهذه هي الأحياء المذكورة في الحديث.
وإسناد هذا الحديث ضعيف، فإن في سنده أبا جعفر الرازي، واسمه عيسى بن ماهان ضعيف، ضعفه أحمد وغيره، وقال علي بن المديني : كان يخلط.
وكذلك قال أبو زرعة : كان يهم كثيراً، صحح بعضهم أن يهَم بفتح الهاء.
وكذلك قال ابن حبان رحمه الله: يحدث عن المشاهير بالمناكير، فبطل الاحتجاج بحديثه.
ونقل الإمام ابن القيم في زاد المعاد عن شيخه الإمام ابن تيمية رحمه الله أنه قال: إسناد هذا الحديث.. ويعني بإسناد هذا الحديث: أبا جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، هذا قصده.
يقول ابن تيمية : إسناد هذا الحديث هو إسناد حديث أبي بن كعب رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172].
قال يعني في هذا الإسناد في هذه الرواية قال: ( كان روح عيسى عليه السلام من بين تلك الأرواح، فبعثه الله تعالى إلى مريم، فلما جاءها أخذته، فحل في فمها، أو فدخل في فمها فحملت ).
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا غلط محض، فإن الذي بعثه الله تعالى إلى مريم هو الملك، كما ذكر وبين سبحانه: أن هذا الملك بشرها بـعيسى، كما في سورة مريم وآل عمران وغيرهما، فإن الملك جاءها وبشرها بـعيسى، وقال: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:19].
فدل على أن المرسل وهو جبريل عليه السلام، غير الغلام الذكي الذي بشرت به، فلا شك بأن هذه الرواية المذكورة عن أبي بن كعب رواية باطلة، ومصادمة لنصوص القرآن الكريم؛ ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله ما قال، وعقب ابن القيم بأن هذا غلط محض.
وقال ابن كثير في التفسير : هذا أثر بين الغرابة والنكارة وكأنه من أخبار بني إسرائيل، وقد وهم الحاكم رحمه الله ثم الذهبي في تصحيح هذا الأثر، كما في المستدرك، فإن الحاكم ذكر الأثر عن أبي بن كعب وصححه ووافقه الذهبي، وهذا وهم وتساهل شديد منهما، فإن الأثر باطل مصادم للنصوص، وكذلك إسناده ضعيف، فيه من؟
أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس وهو سند ضعيف، ولذلك عقب الإمام ابن القيم على هذه القصة حين ساقها بقوله: فلان صاحب مناكير -يعني أبا جعفر - لا يحتج بما تفرد به أحد من أهل الحديث ألبتة.
وهذا الكلام الذي ذكره ابن القيم رحمه الله فيه نظر، صحيح أن أبا جعفر رجل ضعيف، وروايته ضعيفة، سواء روايته في حديث أبي بن كعب، أو روايته في حديث الباب ضعيفة، وكلام الإمام أحمد وابن المديني وأبي زرعة وابن حبان سبق، ولكن قوله: لا يحتج بما تفرد به أحد من أهل الحديث ألبتة، هذا فيه نوع من المبالغة.
فإن الإمام النووي رحمه الله لما ذكر الحديث في كتاب المجموع، ذكر حديث الباب، قوله: ( وأما في الصبح فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا )، ذكر الحديث وصححه رحمه الله، يقول النووي في المجموع : هذا حديث صحيح، رواه جماعة من الحفاظ وصححوه، يقول هكذا.
منهم: أبو عبد الله البلَخي أو البلْخي، ومنهم الإمام الحافظ أبو عبد الله الحاكم في مستدركه .
قال: وممن نص على تصحيحه أبو عبد الله البلخي، وأبو عبد الله الحاكم، والبيهقي، قال الإمام النووي رحمه الله: وقد رواه الدارقطني من طرق بأسانيد صحيحة، فدل على أن كلام ابن القيم رحمه الله في أنه لا يحتج بما تفرد به أحد من أهل الحديث ألبتة، فيه نوع من الإجمال، والواقع أن هناك من يحتج بما رواه وتفرد به، كما ذكر النووي ذلك عن جماعة منهم أبو عبد الله البلخي، ومنهم: الحاكم، ومنهم: البيهقي، ومنهم: النووي نفسه.
والراجح أن حديث الباب: ( لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا )، ضعيف لا يصح؛ لأنه تفرد به أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، وكلام النووي رحمه الله متعقب.
أنس رضي الله عنه، هو صحابي الحديثين السابقين، وهو أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت، إلا إذا دعا لقوم، أو دعا على قوم ).
وكذلك صححه غير ابن خزيمة جماعة، فممن صححه الإمام الحافظ ابن حجر في كتاب الدراية، قال: هذا حديث صحيح، وكذلك صاحب التنقيح قال: سنده صحيح، وهو كما قالوا، فإن سند الحديث جيد.
من هو صاحب التنقيح؟
ابن عبد الهادي، نعم، وهناك كتاب آخر للذهبي أيضاً بهذا الاسم طيب.
أبي بكر
وعمر
وعثمان
وعلي
هاهنا في الكوفة نحواً من خمس سنين )، هذه زيادة، يعني: ( وصليت خلفعلي
هاهنا في الكوفة نحواً من خمس سنين، أفكانوا يقنتون في الفجر؟ قال: أي بني محدث ).وقد رووه أيضاً ابن أبي شيبة، والبيهقي، والطبراني في معجمه الكبير، والطحاوي .. وغيرهم.
والحديث سنده جيد، قال عنه الترمذي رحمه الله: هذا حديث حسن صحيح، وعليه العمل عند أكثر أهل العلم، وكذلك صححه ابن حبان، وقال الحافظ ابن حجر في التلخيص : إسناده حسن، وممن صححه شيخنا الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فإنه قد صحح إسناده، وإن كنت نسيت الموضع الذي وجدت فيه كلامه، فإنني قد راجعت فتاويه المستقلة التي طبعتها مجلة الدعوة، وكنت أظنه فيه، فلم أجد فيه كلامه على الحديث، لكن مر معي أن الشيخ حفظه الله صحح هذا الحديث، والرجوع إلى موضعه يسير إن شاء الله، لكنه لم يتسن لي على كل حال.
وهذا الكلام عن ابن عباس أيضاً، مع أنه ضعيف السند، معترض بأنه صح عن ابن عباس أنه كان يقنت في الفجر أحياناً، لكن هذا ليس معارضاً للرواية عنه لو صحت، فإنه يحمل هذا على حال، وهذا على حال.
وكذلك من شواهده: ما جاء عن أبي مجلز لاحق بن حميد السدوسي من التابعين قال: [ صليت مع ابن عمر رضي الله عنه الصبح، فلم يقنت، فقلت له: لا أراك تقنت؟ -يعني: على سبيل الاستغراب والسؤال- فقال: لا أحفظه عن أحد من أصحابنا ]، أي: لم أر القنوت عن أحد من أصحابي، وسنده حسن، عن أبي مجلز رحمه الله.
وحديث سعد بن طارق عن أبيه رضي الله عنه بشاهديه، يدل على عدم القنوت، فإنه قال: [ أي بني محدث ].
وهو بظاهره يدل على أن سعداً رضي الله عنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبا بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علياً يفعلون ذلك، أي: القنوت، ويمكن الجمع بينه وبين الأحاديث الأخرى بضروب من التوفيق.
إذاً: المسألة المتعلقة بهذه الأحاديث الأربعة: مسألة القنوت في الفرائض، وفيها قولان أو رأيان للفقهاء:
وهو أيضا مذهب ابن مسعود وأصحابه في الكوفة رضي الله عنه، وهو مذهب أبي الدرداء رضي الله عنه، وكذلك نقل عن جماعة من التابعين وأتباعهم والفقهاء، كـالثوري، وأبي حنيفة وأصحابه، وهو مذهب الإمام أحمد أيضاً، وقال الترمذي كما أسلفت: وعليه العمل عند أهل العلم، يعني: عدم القنوت.
وأدلة هؤلاء القائلين بعدم القنوت في النوازل كثيرة:
منها: حديث الباب حديث سعد بن طارق الأشجعي، وأنه قال: (إنه محدث)، يعني: بدعة.
وكذلك ما جاء عن ابن عمر أنه قال: (لا أحفظه).
وكذلك ابن عباس رضي الله عنه قال: (بدعة) كما في الرواية السابقة عنه.
ومن أدلتهم أيضاً: حديث أنس في قوله: (ثم تركه)، فإن ظاهر الرواية يدل على أنه ترك القنوت، فيكون بذلك منسوخاً، كما ذهب إليه طائفة من أهل العلم.
فبذلك استدلوا على عدم القنوت، قالوا: ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في الفجر أو غيرها، لنقل لنا ذلك أصحابه، كما نقلوا لنا مثلاً أنه كان يكبر ويرفع صوته بالتكبير، وكما نقلوا لنا قراءته وجهره بالقراءة حيناً، وإسراره حيناً آخر، بل كما نقلوا أنه ربما جهر في الصلاة السرية، وكما نقلوا لنا صفة صلاته، وكما نقلوا الأركان ونقلوا ترتيبها، ونقلوا جهره بالبسملة أحياناً، وإسراره بها في الغالب.. إلى غير ذلك من أحوال صلاته.
فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في الفرض دائماً وأبداً لكان هذا ينقل لنا بلا شك، ولم يكن أصحابه رضي الله عنهم وهم يسمعونه يقنت ويؤمنون وراءه، لم يكونوا ليتركوا ذلك، ولا ينقلوه إلى من بعده، فهذه أهم حجج هذه الطائفة على أنه لا يسن القنوت في الفرائض.
من أهمها: الرواية الأخرى قوله: ( فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا )، وقد سبق أني قد نقلت لكم أن النووي رحمه الله صحح هذه الرواية، ونقل تصحيحها عن جماعة من الحفاظ، كـالبلخي، والحاكم، والبيهقي .. وغيرهم، ولذلك قال النووي رحمه الله في المجموع: القنوت في الفجر سنة عندنا بلا خلاف، يعني: بلا خلاف داخل المذهب الشافعي، بل نسبه النووي رحمه الله لأكثر السلف، بما في ذلك الخلفاء الأربعة، قال: وهو مذهب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
ولمعارضه أن يقول ماذا؟ لمعارضه أن يقال بالعكس، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يذهبون إلى أن القنوت في الفجر غير مشروع، وهذا فيه هذا الإسناد الصحيح سعد بن طارق عن أبيه قال: (محدث)، يعني: (لم أر النبي عليه الصلاة والسلام، ولا أبا بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علياً يقنتون في الفجر)، فدل على أنهم لا يفعلون، وليس هذا من مذهبهم.
فما ذكره النووي ونسبه للخلفاء الأربعة متعقب.
والراجح بلا شك أنه لا يشرع القنوت في صلاة الفجر، ولا في غيرها من الصلوات، لأدلة:
أهمها: حديث سعد بن طارق في حكمه على أن ذلك محدث.
ومنها: أيضاً حديث أنس : ( ثم تركه )، فإنه يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك القنوت إما مطلقاً، أو لزوال سببه.
ومن أقوى الأدلة أيضاً حديث أنس الآخر، وقد ذكرت تصحيحه عن ابن حجر، وعن صاحب التنقيح ابن عبد الهادي، وغيرهما، حديث أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت، إلا إذا دعا لقوم، أو دعا على قوم )، فهذا دليل على أنه لم يكن القنوت من دأبه، ومن شأنه عليه الصلاة والسلام.
أما القنوت في النوازل فهو موضوع آخر، فالقنوت في النازلة مشروع، القنوت في النازلة وفي المصيبة التي تنزل بالمسلمين، النازلة العامة مشروع، كما ذهب إلى ذلك الإمام أحمد، فإنه سئل فأفتى بالقنوت على الخرمية، وهم أتباع بابك الخرمي، الذين ظهروا بعد المائتين، وكان زعيمهم يدعي حلول روح الإلهية فيه، وأحدث فتنة عظيمة، حتى هزمه الأفشين فقتل نفسه، المهم أن الإمام أحمد ذهب إلى القنوت، قال: [ لو أنهم قنتوا على هؤلاء الخرمية، أو على الروم الذين كانوا يقاتلون المسلمين ].
وكذلك ذهب إلى القنوت في النوازل الإمام أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، وإسحاق من أئمة أهل الحديث.. وغيرهم، فقالوا: يقنت في الفجر على سبيل الخصوص أكثر من غيرها؛ وذلك لأن الفجر فيها طول القراءة، كما هو معروف أطول من غيرها، وكذلك هي في وقت السحر، وهي قريبة من وقت التنزل الإلهي، بل ذهب بعض أهل العلم إلى أن وقت التنزل يمتد إلى ما بعد صلاة الفجر، وكذلك هي الصلاة المشهودة: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] تشهدها ملائكة الليل، وتجتمع فيها ملائكة الليل وملائكة النهار، فلذلك شرع القنوت فيها أكثر من غيرها.
ومثله القنوت في غيرها، كالقنوت في المغرب مثلاً فإن بعضهم يقول: يقنت في الفجر وفي المغرب؛ لأنهما صلاتان جهريتان وهما في طرفي النهار، فيقنت في الفجر وفي المغرب.
بل قال بعضهم: يقنت في كل الصلوات الجهرية: الفجر، والمغرب، والعشاء، والجمعة.
وذهب طائفة من هؤلاء إلى أنه يقنت في كل الفرائض في الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، يعني عند حصول النوازل، ذهب إلى هذا طائفة من أهل العلم، بل قال بعضهم: حتى في النوافل يقنتون فيها، لكن ليس كل نافلة يقنتون فيها.
على كل حال: خلاصة القول الأول: الذي هو مذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة والثوري وإسحاق وجماعة، أنه يقنت عند النوازل في الفجر خاصة وفي غيرها، كصلاة المغرب ذهب إليها جماعة منهم، والعشاء وبقية الفرائض.
واستدل هؤلاء بأدلة: منها: ما رواه مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت في الصبح والمغرب )، فهذا يدل على القنوت في الفجر، كما يدل على القنوت في صلاة المغرب.
ومن أدلتهم أيضاً: ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الفجر والمغرب ) يعني: ليس على نفس حديث الباب، لكن في قصة حديث الباب أنه صلى الله عليه وسلم قنت في الفجر والمغرب.
بل روى أبو داود في سننه، والإمام أحمد في مسنده، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ( قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً، في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، والصبح -يعني: في الأوقات الخمسة- في دبر كل صلاة، إذا قال: سمع الله لمن حمد في الركعة الأخيرة يدعو على حي من بني سليم: على رعل، وذكوان، وعصية، وبني لحيان، ويؤمّن من خلفه )، هذه رواية أبي داود، وأحمد، والحاكم، وسندها حسن، وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي كما أسلفت، وإسناده حسن .
فهذا دل على ثبوت القنوت في الفرائض الخمس كلها، عند حصول النوازل، ولهذا يتبين ما في كلام الطحاوي رحمه الله، فإنه قال في شرح معاني الآثار قال: لم يقل أحد بالقنوت في غير الفجر من الأئمة إلا الإمام الشافعي، فظن تفرد الإمام الشافعي بالقنوت في غير الفجر عند حصول النوازل، وما قاله متعقب، فقد ثبت أن علياً رضي الله عنه قنت في أكثر من صلاة، وعلي رضي الله عنه كان رجلاً محارباً، فاحتاج إلى القنوت، فقنت فأنكروا عليه كما ثبت فقال لهم: (إني أقنت أدعو)، واحتج بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك ذهبت طوائف من الحنابلة.. وغيرهم إلى القنوت في الصلوات كلها، عند حصول النوازل، ومما هو معلوم أنه إذا قنت عند حصول النوازل، فإن الذين يذهبون إلى القنوت أصلاً من باب الأولى أنهم يقنتون في النوازل كالشافعية كما أسلفت، والإمام مالك ومن وافقهم، فإنهم إذا قنتوا في غير النوازل يقنتون في النوازل أيضاً من باب الأولى.
فدل ذلك على أنه يشرع إذا حصل بالمسلمين نازلة عامة مصيبة عامة، كقتال عدو مثلاً أو شدة في السنين والمئونة، وشدة الفقر والجوع.. وما أشبه ذلك من المصائب والكوارث العامة، التي يتضرر بها عامة الناس، فإنه يشرع للمسلمين حينئذ القنوت.
وقد ثبت هذا في حديث أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقنت، إلا إذا دعا لقوم، أو دعا على قوم )، إما أن يدعو للمسلمين بالنصر والغلبة والتفريج، أو يدعو على الكفار بالهزيمة والذل والصغار، وقد صح أن عمر رضي الله عنه كان يدعو كما هو معروف في قنوته، أنه كان يقول: ( اللهم إنا نستعينك ونستهديك إلى قوله: اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق، اللهم عذب كفرة أهل الكتاب، الذين يكذبون رسلك، ويحاربون دونك، ويعادون أولياءك )، ثم يدعو للمسلمين بالنصر والتمكين والثبات، على ما هو معروف، وقد كان جماعة من أهل العلم يجمعون قنوت عمر رضي الله عنه وأرضاه، مع ما ثبت من قنوت النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الحسن : ( اللهم اهدنا فيمن هديت )، يجمعون بينهما، على ما سيأتي بسطه وتفصيله إن شاء الله في الدرس القادم.
إن شاء الله في الدرس الأول من استئناف دروس البلوغ نقرأ حديث الحسن بن علي، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في القنوت؛ وذلك لأنهما يتعلقان بالوتر وأحكامه والقنوت، ورفع الأيدي.. وما أشبه ذلك، وفيه مسائل كثيرة جداً، فأحببت أن أبسطها في ذلك الوقت.
وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير )، وحديث ابن عمر الذي هو شاهد له، حديث أبي هريرة، ووائل بن حجر، وابن عمر، حديث أبي هريرة في مسألة البروك، حديث أبي هريرة : ( فلا يبرك كما يبرك البعير )، وحديث وائل : ( إذا سجد وضع ركبتيه )، وحديث ابن عمر الذي هو شاهد له.
الجواب: على كل حال القنوت إذا وجدت نازلة بالمسلمين، هذا يتبع الترجيح، نسيت أن أقوله فيما يتعلق بالترجيح، فإذا حصل بالمسلمين نازلة عامة يحتاجون فيها إلى القنوت، فإنه يشرع لهم أن يقنتوا، وأكثر ما يكون القنوت في صلاة الفجر للأسباب السابقة؛ ولأنه هو أكثر ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لو قنت الناس في بقية الأوقات الجهرية، فلا حرج في ذلك، كالمغرب والعشاء.
أما الصلوات السرية فإن قنت المأموم والإمام سراً، يعني: أطالوا القيام بعد الركوع بنية القنوت ودعا سراً، فهذا لا حرج فيه؛ لأن الصلاة السرية كل أعمالها سر، بما في ذلك الدعاء والقراءة، فإن قنت سراً، فهذا لا حرج فيه ولا بأس به، ولا بأس أن يطيل الإمام ويقنت بينه وبين نفسه.
وإن جهر وقنت ودعا بالناس، فالحديث صح بذلك حديث ابن عباس الذي ذكرته، وهو سنده جيد، فهو يصلح للاحتجاج به على أنه لا ينكر على أحد قنت في النوازل، في الظهر أو العصر مثلاً، لكن لو قنت سراً أيضاً، خاصة إذا كان الناس يستغربون ذلك ويستنكرونه، فلا بأس بهذا.
الجواب: ابن القيم رحمه الله.
الجواب: صراحة لا أدري من أين هذا، لا أدري، أنا سمعت بعض شيوخنا الأفاضل يقولون هذا، لكن لم يظهر دليل على ذلك، أنه لابد من إذن الإمام، والقنوت عبادة ودعاء، ومن المستغرب أن يكون الدعاء والعبادة في صلب الصلاة يشترط فيها إذن الإمام لهذا.
الجواب: هو الترك هنا ذهب كثير من أهل العلم أنه تركه يعني: ترك القنوت، وقال بعضهم: إنه ترك الدعاء على هذه القبائل؛ لأن بعضهم أسلموا، وقال بعضهم: إنه ترك لعنهم؛ لأنه لعنهم، ثم نزل قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] والترك قد يكون نسخاً، وقد يكون تركاً لسبب، كما ذكرت أثناء الكلام، ومثل ما جاء في القيام للجنازة، فقد ثبت في الصحيح: ( أنه قام ثم ترك )، أو ( قام ثم قعد ).
فذهب بعضهم إلى أن هذا يدل على النسخ؛ لأنه قد يفهم من قول الصحابي النسخ، وليس نصاً في ذلك.
الجواب: إذا كانت نازلة عامة يشرع الدعاء، ولا ييأسوا وإن طالت مدتها.
الجواب: هذا في صحيح البخاري، وفي رواية أحمد : ( فلا صلاة إلا التي أقيمت )، وهو يدل على أنه إذا أقيمت الصلاة والإنسان في نافلة، فإن كان يستطيع أن يتمها خفيفة، ثم يشرع مع الإمام أو بعده بيسير فعل، فإن كانت تفوته تكبيرة الإحرام؛ لأنه لا يزال في أول النافلة، فإن الأولى أن يقطعها وينضم إلى الإمام.
الجواب: نعم أنا أقولها عن نفسي.
الجواب: هذا عجيب، هذا عجيب.
الجواب: لا يظهر لي هذا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر