أما بعد:
الحديث الثاني هو حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني ).
والمصنف نسبه إلى الأربعة قال: أخرجه الأربعة إلا النسائي، واللفظ لـأبي داود، وصححه الحاكم .
وخلاصة الكلام فيما قاله الحافظ ابن حجر في التقريب قال: صدوق يخطئ؛ ولهذا قال الترمذي عقب رواية هذا الحديث: هذا حديث غريب، وهذا يقتضي أن الحديث عند الترمذي رحمه الله ضعيف؛ لأن الغالب أن الترمذي لا يطلق كلمة (غريب) بمفردها إلا على الحديث الضعيف، فإذا قال: هذا حديث غريب، فالغالب أنه عنده معدود في الضعاف.
وهكذا غيره كـأبي نعيم، وكثير من أئمة المحدثين المتقدمين إذا أطلقوا غريباً، فإنما يعنون به الضعيف، وذلك لأن في إسناده كاملاً أبا العلاء وهو كما ذكرت.
وقال الترمذي عقب روايته قال: هذا حديث غريب، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن كامل مرسلاً، فأشار أيضاً إلى علة أخرى فيه: وهي أن الحديث رواه بعضهم مرسلاً غير موصول.
وقد صحح الحديث جماعة، ذكرت منهم: الحاكم والذهبي والنووي، فإنه قال: إسناده جيد.
وهذا الحديث حديث حذيفة رواه أبو داود، ورواه الترمذي في الشمائل، وأبو داود الطيالسي، ورواه أحمد في مسنده، والدارمي، وابن خزيمة وغيره.
وقال الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار قال: إسناده حسن، فإن صح ظن شعبة -لا زال الكلام للحافظ ابن حجر - أن الرجل المبهم هو صلة بن زفر فهو صحيح؛ وذلك لأن في سندهم جميعاً: عن رجل عن حذيفة، قال شعبة : أظنه صلة . يعني: هذا الرجل.
يقول ابن حجر : إن صح ظن شعبة أن الرجل المبهم هذا هو صلة بن زفر فالحديث صحيح، وكأنه يقول: وإن لم يصح فالحديث حسن؛ لأنه نص في البداية على أن الحديث حسن، قال: هذا حديث حسن، فإن صح ظن شعبة فالحديث صحيح، وكأنه حسنه لشاهده؛ لأنه يشهد له حديث الباب، الحديث الأول.
ومما يقوي هذين الحديثين أيضاً: أنه لم يرد فيما أعلم -والله تعالى أعلم- في الدعاء في الجلسة بين السجدتين، إلا هذان الدعاءان في حدود ما اطلعت ووقفت عليه.
فمجموع الألفاظ التي وردت، الآن حديث الباب وردت فيه خمسة ألفاظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول -هذا حديث ابن عباس -: ( اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني )، هذه خمسة ألفاظ وردت، لكن الحديث في المصادر التي أشرت إليها قبل قليل فيه زيادة في الألفاظ، يصل مجموعها إلى ثمانية ألفاظ، انفرد كل إمام أو بعض الأئمة بألفاظ لم ترد عند غيرهم.
فمجموع الألفاظ الثمانية هكذا: ( اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني، وانصرني، واجبرني، وارفعني )، ثمانية ألفاظ، وهذه كلها يشرع أن يقولها الإنسان في الجلسة بين السجدتين.
وقال الترمذي عقب روايته حديث الباب، قال: هكذا روي عن علي رضي الله عنه، ثم قال: وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، يرون هذا جائزاً في المكتوبة والتطوع، يرون هذا جائزاً يعني: مشروعاً أو ماضياً في المكتوبة والتطوع.
حديث مالك بن الحويرث : ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعداً ).
يقول المصنف: رواه البخاري .
وقد رواه أيضاً أبو داود، والترمذي، والنسائي، وأحمد، وابن خزيمة وغيرهم.
الحديث الأول: هو حديث الباب حديث مالك بن الحويرث، وقد قال الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار : هو أشهر حديث في الباب، يعني: في جلسة الاستراحة حديث مالك بن الحويرث.
ومما يميز هذا الحديث أنه لم ترد رواية أخرى في الحديث تعارض أو تعقب على رواية مالك في جلسة الاستراحة، بخلاف الأحاديث الأخرى، فإنها لا تخلو من معارضة كما سيظهر.
الحديث الثاني في جلسة الاستراحة: هو حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه وأرضاه، وفيه قال: ( ثم يرفع )، يعني: يصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يرفع) يعني: من سجوده، من السجدة الثانية، ( ثم يرفع فيقول: الله أكبر، ثم يثني رجله فيقعد عليها معتدلاً، حتى يرجع ويقر كل عظم موضعه )، هذا لفظ حديث أبي حميد رضي الله عنه وأرضاه.
وحديث أبي حميد بهذا اللفظ فيه إثبات جلسة الاستراحة، ورواه جماعة من أهل العلم، منهم الأئمة أصحاب الكتب الأربعة: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ورواه أيضاً الإمام أحمد، وابن خزيمة، والبيهقي، والدارمي وغيرهم، رووه بإثبات جلسة الاستراحة فيه، هذا حديث أبي حميد رضي الله عنه.
وقال الترمذي عنه: هذا حديث حسن صحيح.
وقال النووي في المجموع : هو حديث صحيح على شرط مسلم .
وقال ابن حجر أيضاً في نتائج الأفكار : هذا حديث صحيح، وقد ذكرت أن ابن خزيمة أخرجه وهو يقتضي أنه عنده صحيح أيضاً.
وحديث أبي حميد أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه، بدون هذه الزيادة المتعلقة بجلسة الاستراحة، وعلى كل حال فإن في حديث أبي حميد ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنه إذا قام من السجدة ثنى رجله وقعد عليها، حتى يرجع ويقر كل عظم موضعه، يعني: بإثبات جلسة الاستراحة.
الوجه الثاني: أنه جاء حديث أبي حميد مغفلاً يعني: ساكتاً عن هذا، وقد ذكرت لكم الآن وقلت: إن الحديث رواه البخاري بدون هذه الزيادة.
إذاً: رواية البخاري لحديث أبي حميد ليس فيها ذكر الجلسة، لا نفياً ولا إثباتاً، فهذان وجهان: الوجه الأول: بإثبات جلسة الاستراحة، وقد رواه من ذكرت: الأئمة الأربعة، وأحمد، وابن خزيمة، والدارمي وغيرهم، والبيهقي .
الوجه الثاني: بالسكوت عنها، وقد رواه البخاري وغيره ممن ذكرنا وسواهم أيضاً، بالسكوت عن جلسة الاستراحة.
الوجه الثالث: هو نفي جلسة الاستراحة، جاء وجه ثالث في حديث أبي حميد يدل على نفي جلسة الاستراحة: حيث قال في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بمحضر من الصحابة كما تعلمون قال: ( ثم كبر ) يعني: قام من السجدة الأولى، ( ثم كبر، فجلس وتورك إحدى رجليه، ونصب قدمه الأخرى )، هذا أين؟ في الجلسة بين السجدتين، قال: (ثم كبر)، يعني: قائماً من السجدة الأولى (ثم كبر فجلس)، بين السجدتين، ( فجلس وتورك إحدى رجليه، ونصب قدمه الأخرى، ثم سجد السجدة الأخرى، ثم كبر فقام ولم يتورك )، (ثم كبر) يعني: ناهضاً من السجدة الأولى (فقام ولم يتورك).
ما معنى قوله: (ولم يتورك ) ؟
يعني: لم يجلس مثلما جلس بين السجدتين؛ لماذا سقت الجلسة بين السجدتين؟ حتى تعرف معنى قوله: (يتورك) لأنه في أول الحديث لما ذكر نهوضه من السجدة الأولى قال: ( ثم كبر فجلس وتورك إحدى رجليه )، يعني: قعد عليها وافترشها ونصب قدمه الأخرى، ( ثم سجد السجدة الثانية، ثم كبر فقام ولم يتورك )، يعني: لم يجلس.
وحديث أبي حميد بهذا اللفظ الذي ينفي حصول جلسة الاستراحة، رواه أبو داود في سننه، ورواه الطحاوي، وابن حبان، ورواه البخاري في تاريخه الكبير، وصححه ابن حبان، وأيضاً صححه الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار قال: هذا حديث صحيح.
إذاً: حديث أبي حميد فيه روايتان متعارضتان: إحداهما بإثبات جلسة الاستراحة، وأخرى بنفيها، والرواية الثالثة سكتت، الساكتة يعني: لم يقل فيها شيئاً، لكن المثبتة والنافية بينهما تعارض ظاهر.
الحديث الثالث في جلسة الاستراحة: هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة المسيء في صلاته، وقد رواه البخاري رحمه الله بالأوجه الثلاثة التي سبقت في حديث أبي حميد، فجاء مرة بإثبات الجلسة، ومرة بنفيها، ومرة بالسكوت عنها.
فقد رواه البخاري رحمه الله مرة في كتاب الاستئذان من صحيحه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء: ( ثم ارفع -يعني: من السجدة الثانية- حتى تطمئن جالساً )، هذا في صحيح البخاري، في كتاب الاستئذان هذه مرة.
المرة الثانية: قال أيضاً في صحيح البخاري كتاب الأيمان والنذور قال: ( ثم ارفع -يعني: من السجدة الثانية أيضاً- حتى تستوي قائماً )، مثل قوله: ( حتى تطمئن جالساً )، قال: ( حتى تستوي قائماً )، وهذه فيها نص على عدم وجود جلسة الاستراحة.
والثالثة: أن البخاري روى الحديث في كتاب الصلاة من صحيحه، ولم يذكر ما بعد السجود، لا قيام ولا جلوس.
ومسلم رحمه الله روى الحديث بالأسانيد الثلاثة التي خرجها البخاري بها، ولكنه لم يذكر إلا اللفظ الأخير الذي ليس فيه إثبات الجلسة، ولا نفيها.
إذاً: حديث أبي هريرة في قصة المسيء في صلاته ذكر جلسة الاستراحة مرة، ونفاها مرة أخرى فلم يذكرها، وسكت عنها مرة ثالثة، وهذا أيضاً يعتبر تعارضاً بين الروايتين المثبتة والنافية.
الحديث الرابع هو حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه وهو أيضاً في قصة المسيء صلاته، وليس فيه ذكر الجلسة بل فيه ما يدل على نفيها، فقد أخرجه الإمام أحمد في صحيحه والطبراني في معجمه الكبير، ولفظ الإمام أحمد قال: ( ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم قم ).
والظاهر أن المقصود بالقيام هو القيام إلى الركعة الثانية، أو إلى الركعة الرابعة، ولذلك احتج الإمام أحمد بهذا الحديث على عدم مشروعية جلسة الاستراحة، حيث كان هذا مذهبه أولاً كما ذكره ابن المنذر، ابن المنذر ذكر عن الإمام أحمد أنه احتج بحديث رفاعة بن رافع على ترك جلسة الاستراحة، نقله ابن المنذر عن الإمام أحمد .
وهذا الحديث حديث رفاعة بن رافع رواه الأربعة: أصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم من طرق كثيرة، وكل هذه الطرق ساكت عما بعد السجدة الثانية، لم يذكر القيام ولا القعود، وإنما انفرد بلفظ (قم) الإمام أحمد، والطبراني في معجمه الكبير.
جلسة الاستراحة: هي جلسة خفيفة يسيرة، يفترش فيها رجله اليسرى، وينصب اليمنى بعد الركعة الأولى، وبعد الركعة الثالثة قبل أن ينهض إلى الركعة الثانية، وقبل أن ينهض إلى الركعة الرابعة، ثم ينهض للركعة بعد ذلك، هذه جلسة الاستراحة.
وخلاصة ما فيها قولان:
ورواية عن الإمام أحمد، بل ذكر الخلال أن الإمام أحمد رجع إلى القول بجلسة الاستراحة، يعني: رجع إلى القول بها وبمشروعيتها، وهذا هو اختيار جماعة من علمائنا المعاصرين، على رأسهم سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز كما في رسالته في الصلاة، وتعليقاته على بلوغ المرام وغير ذلك.
والمحدث الكبير الشهير تاج المحدثين في هذا العصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني كما في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها من كتبه، وأدلتهم هي ما سبق أدلة قولية وفعلية، فالأدلة القولية على مشروعية جلسة الاستراحة هي:
حديث المسيء صلاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال له كما في رواية أبي هريرة التي ذكرتها قبل قليل أنها في صحيح البخاري في كتاب الاستئذان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( ثم ارفع حتى تطمئن جالساً )، يعني: جلسة الاستراحة بعد الركعة الأولى، الكلام هذا بعد الركعة الأولى، ولهذا بوب البخاري : باب من نهض إذا كان في وتر من صلاة، يعنى: بعد الأولى وبعد الثالثة.
فهذه هي الأدلة القولية أما الأدلة الفعلية فهي: حديث أبي حميد، وحديث مالك بن الحويرث، فإنها من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله فيما نقله عنه غير واحد قال: أكثر الأحاديث على هذا، نقله عنه الطحاوي وغيره، أن الإمام أحمد قال: أكثر الأحاديث على هذا، يعني على عدم الاستحباب.
الظاهر كما ذكر النووي في المجموع من كلام الإمام أحمد أنه لا يقصد أن أكثر الأحاديث على عدم الاستحباب؛ لأنه ليس هذا هو الواقع، وإنما المعنى أن أكثر الأحاديث سكتت عن جلسة الاستراحة، فلم تذكرها، وليس المعنى: أن أكثر الأحاديث أثبتت عدمها، فإن هذا هو اللائق بعلم الإمام أحمد، وسعة اطلاعه في الحديث، فإن الأحاديث التي نصت على عدم جلسة الاستراحة لا تعدو أن تكون حديثين أو ثلاثة، وليست أكثر الأحاديث، وإنما قصده رحمه الله أن أكثر الأحاديث على هذا، يعني: سكتت عن جلسة الاستراحة، فلم تذكرها، هذا معنى كلامه.
كما احتج الإمام أحمد على عدم مشروعية جلسة الاستراحة بحديث وائل بن حجر، وبحديث المسيء صلاته.
وقد أجاب القائلون بعدم المشروعية على القول الآخر بأجوبة، واحتجوا بحجج منها:
أنها -كما ذكر الطحاوي وغيره- لم تذكر في حديث أبي حميد، ويرد عليه بأنها جاءت في بعض روايات حديث أبي حميد عند غير البخاري، ولو لم ترد في حديث أبي حميد فهذا لا يعني على عدم مشروعيتها.
كما أنهم قالوا من الأدلة على عدم مشروعيتها: أنه ليس لها ذكر خاص، وهذا أيضاً ليس دليلاً على عدم المشروعية، فإنه يمكن أن يقال أولاً: إنها جلسة خفيفة جداً ليس لها ذكر، أو يقال كما ذكر ذلك ابن حجر والنووي وطائفة كبيرة من العلماء: إن ذكرها التكبير، حتى قال النووي : إنه يمد التكبير ويطيله حتى يستوي قائماً، وهذا فيه مشقة كبيرة والله أعلم، لكن قالوا: ذكرها التكبير.
الأمر الثالث الذي احتج به هؤلاء وقالوه، أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها على حين كبر سنه؛ لعلة قامت به؛ لأن مالك بن الحويرث قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره.
ويرد عليهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـمالك بن الحويرث في آخر الحديث: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، ومالك قال: ( ونحن شببة متقاربون )، فهم شباب، ومع ذلك أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلوا كما رأوه يصلي، ولم يستثن صلى الله عليه وسلم من ذلك شيئاً، فدخل في ذلك استحباب الاقتداء به في جلسة الاستراحة.
ومن حججهم عدم ذكرها في أكثر الأحاديث.
فنقول: يستحب أحياناً أن يقوم ولا يجلس جلسة الاستراحة عملاً بهذه الأحاديث، ويستحب أحياناً أن يجلس جلسة الاستراحة عملاً بالأحاديث الأخرى التي أثبتتها، فإذا فعل حيناً وتركها حيناً كان عمل بهذا اللون وبذاك اللون، وليست بعض هذه الأحاديث بأولى أن يؤخذ بها من بعضها الآخر، ولا تعارض بين هذا وذاك، فإن السنن المتنوعة في الصلاة كثيرة، كما سبق في مواضع عديدة.
منها مثلاً: الأدعية التي تقال في الصلاة، أدعية الاستفتاح، أدعية الركوع، إلى غير ذلك من الأشياء التي يمكن أن يقال: إنه يحمل هذا على أنه يعمل هذا مرة ويعمل هذا مرة.
ومن داوم عليها فإنه لا تثريب عليه في ذلك، فإن له حجة في حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه وأرضاه، ومن تركها أيضاً مطلقاً فإنه لا تثريب عليه في ذلك، فإن له سلفاً وهم أكثر العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين، لكن ينبغي أن يتفطن في هذا إلى أمور:
ليس صحيحاً أن نجعل جلسة الاستراحة شعاراً، نقول: هذا يميزنا عن غيرنا، بأننا نحن المتبعون للسنة؛ لأن التميز ليس مطلوباً لذاته، وإنما المطلوب هو التزام الكتاب والسنة، والتميز على المسلمين بغير حق مذموم، والأولى أن الإنسان يدخل في غمار الناس، ولا يتميز عنهم لا بقول ولا بفعل، اللهم إلا أن يكون قولاً أو فعلاً دلت عليه السنة.
أما أن يقول بعض الناس: أفعل هذا وأداوم عليه وأظهره وأتكلم عنه؛ من أجل أن أتميز به عن غيري من الناس، يا أخي لماذا تتميز عن غيرك من الناس؟ هل هذا محمود بذاته؟ قد يكون هذا مجالاً للشهرة والذم، وليس مجالاً للمدح، فإن كان التميز بالتزام سنة هجرها الناس، فأقول: أنا ليس مقصودي التميز، مقصودي العمل بالسنة سواء جلسة الاستراحة أو غيرها.
أما أن أقول: أفعلها وأداوم عليها وأظهرها وأشهرها؛ حتى أتميز بها عمن لا يفعلها، قد يكون من لم يفعلها أيضاً عمل بأحاديث أخرى كحديث أبي هريرة، وحديث رفاعة، وحديث أبي حميد في الروايات الأخرى فيها، فلماذا تتميز عمن فعل سنة أخرى؟
إذاً نقول: حتى لو حافظت عليها، لا تقل: أريد أن أتميز عن الناس، لا، حافظ عليها وأنت تقول: أريد أن ألتزم بسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وإنما أقول هذا لأن هذا داء في البعض:
أحياناً بعضهم يلبس العمامة، تقول لماذا؟ يقول لك: لأتميز عن الناس، لا، ليس المطلوب أن تتميز، بعضهم يرسل شعره يترك شعره يطول، حتى إنه يحج ويعتمر ولا يحلق شعره، تقول: لماذا؟ قال: لأن الداعية لابد أن يتميز.
يا سبحان الله يتميز عمن؟ عن عامة المسلمين، ليس مطلوباً التميز بذلك، التميز عن أهل البدع مطلوب، التميز عن أهل الضلال مطلوب، التميز عن مخالفي السنة مطلوب، التميز عن اليهود والنصارى وأهل الكتاب مطلوب، التميز عن الكفار مطلوب، التميز عن المنافقين مطلوب، أما التميز عن إخوانك المسلمين الذين ليس فيهم عيب ولا ترك للسنة فهذا مذموم، وهو مدعاة إلى الغرور والفخر والخيلاء، وربما يكون سبباً في الرغبة في الشهرة، وحب أن يشار إلى الإنسان بالبنان، ومن أشير إليه بالبنان فلا تعدوه.
فهذا يتفطن إليه؛ لأنه مدخل من مداخل الشيطان على نفس ابن آدم، وقد رأيت هذا بعيني في أحوال ومواضع عديدة.
إذاً: هذه مسألة اعقد عليها الخنصر، أنك إن فعلت السنة هذه، وحافظت عليها تحافظ عليها اتباعاً للرسول عليه الصلاة والسلام، فإن كنت ممن يرى أنها سنة مطلقة تفعل في كل حال، فافعلها في كل حال، ولا تثريب عليك، ومن عابك بين له السنة، فإن أصر فلا تلتفت إليه، لكن تفعلها ليس على سبيل التميز عن الناس، وإنما تفعلها اتباعاً للرسول عليه الصلاة والسلام والتزاماً بقوله: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).
وإن فعلت حيناً وتركت حيناً كما هو الاختيار الآن، فتفعل من باب الجمع بين الأحاديث والعمل بهذه الأحاديث تارة، وبتلك الأحاديث تارة، وأنت تقتفي أثر الرسول عليه الصلاة والسلام هنا، كما تقتفي أثره هناك، وإن تركتها بإطلاق كما هو القول الثالث، فأنت تتركها أيضاً اتباعاً لمذهب جمهور أهل العلم والأحاديث التي أخذوا بها، وإن كان في نظرهم هذا القول هو أضعف الأقوال، أنها ليست مشروعة مطلقاً، هذه مسألة.
المسألة الثانية: أن بعض الناس قد يفاضل على جلسة الاستراحة، فمن رأى أنه لا يجلس جلسة الاستراحة شنع عليه، وقال: هذا تارك للسنة، وهذا كذا، وهذا يوافق الناس، وهذا، بل ربما أدى بالبعض إلى التضليل والتبديع والتفسيق على مثل هذه الأمور.
وأقول يا إخوة! علينا أن نتقي الله تعالى، ولا نتخذ من علوم علمناها عن الرسول صلى الله عليه وسلم مجالاً لتمزيق شمل طلبة العلم والدعاة إلى الله، وأصحاب القلوب المستقيمة، والنفوس الصالحة، والعقول النيرة، وأن تكون هذه الأمور مجالاً للمفاصلة، والعداوة والبغضاء، والكراهية، والتضليل والتفسيق والتبديع، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد رأيت من يوجب جلسة الاستراحة، ولا قائل بوجوبها من أهل العلم مطلقاً، ولا دليل على ذلك، ومن قال بوجوبها كيف يصنع بهذه الأحاديث التي فيها نص على أنه أمر بالقيام وعدم الجلوس للاستراحة.
هل جلسة الاستراحة من الواجبات؟ لا.
هل جلسة الاستراحة من الأركان؟ لا.
هل هي من شروط الصلاة؟ لا.
هل هي من السنن؟ نعم، بإطلاق عند قوم، وبتفصيل أو تقييد عند آخرين.
إذاً: يجب أن نضعها في موضعها الطبيعي، لا نهملها ونغفلها ونقول: هذه أمور قشور لا تلتفتوا لها، لا، أقول: هذه سنة واردة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ونحن الآن قد استغرقنا في دراسة جلسة الاستراحة ما يزيد على ثلث ساعة تقريباً، فلا حرج هذا من مدارسة الإسلام، ومدارسة السنة.
لكن أيضاً نقول: تبقى في إطارها، ليست من أركان الإسلام، ولا من أركان الإيمان، بل وليست من أركان الصلاة ولا من شروطها ولا من واجباتها كل هذا بإجماع العلماء، إنما هي من السنن عند جماعة من العلماء، وهي سنة أحياناً عند جماعة آخرين، وليست سنة عند أكثر أهل العلم، فلا ينبغي أن نتعدى بها هذا القدر.
وهذا الأمر الذي اخترته أنه يفعلها حيناً ويتركها حيناً، هو ظاهر فعل الإمام أحمد، كما في مسائل ابن هانئ فإنه ذكر أن أحمد كان فعلها مرة وتركها مرة.
الجواب: نعم، ورد دعاء: ( اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، اللهم.. ).
وورد دعاء: ( اللهم نقني من الذنوب والخطايا )، هذا ورد، وفيه دعاء آخر لعلي أحضره.
الجواب: نعم، ذكرنا هذا في موضعه في الوضوء مما مست النار.
الجواب: نعم، هو المعروف في الاحتباء أنه يجعل عليه حبوة، يعني: على ظهره، إما حبلاً يشده على ظهره، ويشده على ساقيه من أمام، أو يحتبي بيديه، يعني: يضع يديه أمام ركبتيه، ويشبك أطراف يديه بعضها ببعض.
لكن أشك إن كان هذا هو المقصود بالاحتباء؛ لأن تشبيك الأصابع في الصلاة مكروه، ويحتمل هذا.
الجواب: الله أعلم ذكر، فهي أولى من لا أدري، وإن قال: لا أدري، فلا حرج.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر