عندنا اليوم مجموعة من الأحاديث:
أولها: حديث حذيفة رضي الله عنه، وقوله: ( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فما مرت به آية رحمة إلا وقف عندها يسأل، ولا آية عذاب إلا تعوذ منها ).
الحديث رواه مسلم، الخمسة معروفون هم أصحاب الكتب الستة خلا البخاري، فرواه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تطويل قراءة صلاة الليل.
وفي أوله قصة، فهو أطول مما ذكره المصنف هنا، ولفظ مسلم رحمه الله في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: ( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ) يعني: صلاة الليل، قال: ( فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة ) عند الآية المائة من سورة البقرة، ( ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة ).
وقوله: (في ركعة) يعني: في تسليمة، يقسم السورة بين الركعتين لما تجاوز الآية مائة.
قال: ( ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت: يركع بها ) يعني: يقرؤها في ركعة واحدة ( فمضى فقلت: يركع بها، قال: ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها ).
يعني: أنه صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة ثم النساء ثم آل عمران في ركعة واحدة من صلاة الليل.
قال: حذيفة رضي الله عنه: ( يقرأ مترسلاً إذا مر بآية -وهذا موضع الشاهد- فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ عليه الصلاة والسلام ثم ركع، فجعل يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه صلى الله عليه وسلم نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع عليه الصلاة والسلام، ثم سجد، فكان يقول في سجوده: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده عليه الصلاة والسلام قريباً من قيامه ).
والمقصود بقوله: (فكان سجوده قريباً من قيامه) أي قيام؟ قيامه لقراءة السورة أو قيامه بعد الركوع؟ قيامه بعد الركوع، يعني: أن كل ركن أخف من الذي قبله، لكنه قريب منه، فهذا لفظ الإمام مسلم على سبيل التقريب.
وقد رواه أيضاً أبو عوانة في مستخرجه، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، كما ذكر المصنف: وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
ورواه الطيالسي في مسنده، وفي رواية عند الطيالسي رحمه الله أنه قال: ( فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم -أو قال-: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات )، وكأنه والله أعلم أربع ركعات يعني: بتسليمين، قال: ( فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات يقرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام )، فهذه رواية أبي داود الطيالسي، وقد رواه أيضاً ابن ماجه في سننه، والإمام أحمد في مسنده.
وحديث عوف بن مالك رضي الله عنه رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي في كتابه شمائل النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال الإمام النووي في المجموع : رووه بأسانيد صحيحة، فهو شاهد لحديث الباب، وحديث الباب أيضاً شاهد له.
هذه المسألة ظاهرة في حديث حذيفة، وفي شاهده وهو حديث عوف بن مالك.
وأيضاً لهما شاهد ثالث من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه ( أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ) نحو ذلك، فهذه الأحاديث يؤخذ منها هذه المسألة: وهي هل يذكر ويسأل ويتعوذ في الصلاة أم لا؟
في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
وقال الإمام النووي في المجموع : وقال بمذهبنا -يعني: بجواز ذلك كله في الفرض والنفل- قال: وقال بمذهبنا جمهور العلماء من السلف فمن بعدهم.
وحجة أصحاب هذا القول في مشروعية ذلك وجوازه عدة أمور:
أولها: حديث الباب حديث حذيفة رضي الله عنه، فهو صريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وسأل وتعوذ وسبح الله تعالى.
وكذلك حديث عوف بن مالك، وحديث ابن أبي ليلى، وهما شاهدان لحديث الباب.
قالوا: وإن كان ذلك كله ثابتاً في صلاة الليل وهي نافلة، إلا أنه شاهد للفرض والنفل من عدة وجوه:
الأول: أن الأصل كما سبق مرات: أن ما صح في النفل صح في الفرض والعكس أيضاً، إلا بدليل يخرج ذلك ويستثني، فما دام هذا ثبت في صلاة النافلة فهو أيضاً ثابت في صلاة الفريضة، هذا وجه.
الوجه الثاني: أنهم يقولون: إن قيام الليل كان مفروضاً على النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذهب إليه طوائف من أهل العلم، وقد جاء فيه أحاديث، وإن كان في أسانيدها مقال، فقالوا: دل على أنه يفعل في الفريضة ما يفعل في الصلاة التي هي واجبة؛ لأنها واجبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال طوائف منهم، قالوا: فدل على أنه ليس مخصوصاً بصلاة النافلة، فهذا هو دليلهم الأول حديث الباب وشواهده.
ومن أدلتهم أيضاً على جواز ذلك: ما رواه موسى بن أبي عائشة رحمه الله تعالى، قال: ( كان رجل يصلي فوق سطح بيته أو يصلي فوق بيته، فكان إذا قرأ قوله تعالى: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:40] قال: سبحانك! فبلى، قال: فسألوه عن ذلك، فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ).
وهذا الحديث رواه أبو داود في سننه وسنده جيد، ولا يضير أن يكون ذلك الرجل المذكور فيه مجهولاً غير معروف؛ لأنه صحابي، بدليل قوله: (سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم) وإقرارهم له على ذلك، فدل على أنه مشهور بينهم أن الرجل صحابي، وأنه رأى هذا من فعل النبي صلى الله وعليه وآله وسلم، فهذا دليل على أنه أيضاً يجوز للإنسان أن يسبح الله، ويسأل، ويستعيذ وهو في الصلاة، إذا جاء لذلك مناسبة في القراءة.
ومن الأدلة أيضاً: أنهم قالوا: إن التسبيح والسؤال والاستعاذة كلها أذكار من جنس الأذكار المشروعة في الصلاة، فإن الصلاة إنما هي أذكار من تسبيح واستغفار ودعاء وذكر وقراءة قرآن.. ونحو ذلك، فالسؤال والاستعاذة والتسبيح ونحوها هي أذكار من جنس الأذكار المشروعة في الصلاة، وأدعية من جنس الأدعية المشروعة في الصلاة، فلا حرج على العبد أن يقولها.
وقد جاء في ذلك أيضاً آثار عن بعض الصحابة يمكن أن يستأنس بها:
من ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه [ أنهما كانا يقولان ذلك في الفريضة ] يعني: التسبيح في الفريضة.
وروى أيضاً ابن أبي شيبة عن عمر وعلي رضي الله عنهما [ أنهما كانا يقولان ذلك ] من غير تقييد، كانا يقولان ذلك في الفريضة أو في النافلة أو في الصلاة أو في غير الصلاة أيضاً.
وقد روي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقول: [ سبحانك ] في الصلاة.
فهذه الآثار تعزز أنه يجوز للإنسان أن يذكر الله تعالى ويسأل ويستعيذ في الفرض وفي النفل أيضاً.
وكذلك نسب هذا القول للإمام أبي حنيفة رحمه الله، وكأن الوجه لهذا القول أن الأحاديث الواردة جلها في صلاة الليل، فربما قال بعض هؤلاء، كما حرره طائفة من أهل العلم، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بأصحابه كل يوم ثلاث صلوات جهرية وهي: المغرب والعشاء والفجر.
ويقرأ قراءة فيها تسبيح واستعاذة وفيها ذكر الجنة وذكر النار وذكر الله تعالى .. أو ما أشبه ذلك، ولم ينقل أنهم كانوا يسبحون وراءه، ولا أنه هو عليه الصلاة والسلام كان يسبح أو يسأل أو يستعيذ، فلما صلى معه بعض أصحابه على قلة في ذلك في بعض صلوات الليل، كما فعل حذيفة وعوف بن مالك وغيرهما نقلوا أنه إذا مر بتسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ استعاذ، قالوا: فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك في الفريضة؛ لكان ينقل عنه هذا، خاصة وأنهم يكثرون أن يصلوا خلفه، يصلون خلفه في اليوم ثلاث مرات صلوات جهرية، ويصلي خلفه أمم لا يعلمهم إلا الله عز وجل.
فقالوا: دل هذا على وجود فرق بين الفرض وبين النفل، ولعل هذا الوجه ظاهر لهم، فقالوا: إن الدوافع متوفرة على نقل ذلك لو حصل منه عليه الصلاة والسلام.
الراجح من هذه الأقوال والله أعلم: أنه لا حرج على الإنسان أن يسأل ويستعيذ ويسبح، سواءٌ كان ذلك في الفرض أو في النفل للإمام والمأموم والمنفرد على حد سواء، لعدم الدليل على المنع من ذلك، ولأن هذه أذكار من جنس أذكار الصلاة، ولأنه ما ثبت في النفل ثبت مثله في الفرض إلا بدليل.
أما الوجه الذي احتج به من قالوا بأنه يذكر الله تعالى في النفل دون الفرض، فهذا لا يعني أنه لا يجوز له أن يذكر الله تعالى في الفرض، قد يقال: إنه في النفل مستحب؛ لورود السنة بذلك، أما في الفرض فهو جائز. وهذا وجه إن كان قيل به فهو حسن، وقد سمعت بعض العلماء المعاصرين يقررون ذلك، وهو مأخذ جيد حسن إن شاء الله تعالى.
أما المنع منه فلا وجه للمنع من ذلك، فإن المشهور أن المسألة خلاف استحبابه أو جوازه أو كراهيته، أما التحريم فلا أدري ولا أظن أن هناك قولاً بالتحريم، هذا مبلغي من العلم، والله تعالى أعلم، وفوق كل ذي علم عليم.
وهي إطالة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل، ومقدار ما كان يقرأ به، أنه قرأ البقرة والنساء وآل عمران في ركعة واحدة.
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز للإنسان ألا يراعي ترتيب المصحف العثماني في السور، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ النساء قبل أن يقرأ آل عمران، مع أنها قبلها في المصحف، وقد جاء أحاديث في ذلك منها: حديث ابن مسعود في قراءة النظائر .. وغيرها، وإن كان الأولى للإنسان أن يراعي ذلك، والفقهاء يكرهون ما يسمونه بالتنكيس، وهو عدم مراعاة الترتيب في السور، بل كثير منهم ينصون على تحريمه، لكن الحديث والسنة دلت على أنه ليس بمحرم، وإن كان يستحب للإنسان أن يراعيه في الأعم الأغلب، وهو غالب ما كانت عليه قراءة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: مشروعية الترسل في القراءة وعدم العجلة أو الهذ فيها كهذ الشعر، وأن يقف الإنسان عند آيات القرآن وعبره ومعانيه، يسأل ويستعيذ ويسبح ويتأمل: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
ومنها: مشروعية أن تكون صلاة الإنسان متشابهة متقاربة، فإذا أطال القيام أطال الركوع وأطال السجود وأطال القعود، وإذا اختصر القيام اختصرها أيضاً، بحيث تكون الصلاة متناسبة متقاربة.
وفيه قصة لم يذكرها المصنف رحمه الله، وفيها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته كشف الستارة، والناس صفوف خلف أبي بكر
وهذا لفظ مسلم على سبيل التقريب، وقد روى الحديث أيضاً أبو داود في سننه، والنسائي، والإمام أحمد في مسنده .
والمشهور بفتح القاف وكسر الميم (قَمِن) أو (قمين) والمعنى واحد أي: حري وجدير وحقيق أن يستجاب لكم، أي: أن السجود من مواضع الدعاء التي يرجى فيها إجابة الدعاء.
والأصل: أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر نهياً للأمة من ورائه، ولا يقال بالخصوصية له عليه الصلاة والسلام إلا بدليل، كما سبق تقريره أيضاً في مواضع.
فنهي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع وفي غيره أيضاً هو نهي لأمته، كما في القرآن وهو كثير: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام:56] .. إلى غير ذلك.
فالأصل أن ما نهي عنه النبي عليه الصلاة والسلام فأمته منهية عنه أيضاً، إلا إذا كان ثبت دليل على الخصوصية، وهاهنا في هذا الباب لا أقول: لم يثبت دليل على الخصوصية، بل ثبت دليل على أن هذا النهي له عليه الصلاة والسلام هو نهي لأمته أيضاً من ورائه.
فقد روى مسلم في صحيحه أيضاً عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ( نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ راكعاً أو ساجداً ).
وفي رواية له -أعني لـمسلم - عن علي رضي الله عنه قال: ( نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ القرآن وأنا راكع أو ساجد ). قال رضي الله عنه: ( ولا أقول: نهاكم )، يعني: أن علياً رضي الله عنه من باب المبالغة في التحري والدقة يقول: (نهاني)، ولا أقول: نهاكم أنتم، وليس معنى ذلك أن النهي خاص لـعلي ؛ لأن علياً رضي الله عنه هو فرد من أفراد الأمة، ليس له خصوصية عن سواه، إلا ما ثبت من فضائله ومناقبه، وهذا باب آخر، أما فيما يتعلق بالأحكام الشرعية فهو وغيره فيها على حد سواء.
قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم قال: ( لو قرأ القرآن )، طبعاً بالنسبة للنهي: ( نهيت أن أقرأ القرآن )، وكذلك حديث علي رضي الله عنه، الأصل أن النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود للتحريم، إلا بدليل ولا دليل هنا؛ ولهذا ذهب جماعة من أهل الحديث وأهل الظاهر إلى أن النهي في هذا الموضع للتحريم، وأنه يحرم على الإنسان أن يقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، اللهم أنه يستثنى من ذلك حالة واحدة، وهي الدعاء بالآيات، إذا لم يقصد القرآن، وإنما قصد الدعاء، مثل أن يقول وهو ساجد: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41]، رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا [آل عمران:147]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] .. إلى غير ذلك من الأدعية القرآنية، فيسوقها لا على سبيل القراءة، وإنما على سبيل الدعاء، فهذا لا شك أنه لا حرج فيه.
قال الإمام النووي في تعليقه وشرحه لصحيح مسلم: (لو قرأ القرآن في ركوع وسجود غير الفاتحة كره، ولم تبطل صلاته).
ثم قال: (فإن قرأ الفاتحة ففيه وجهان لأصحابنا -يعني: من الشافعية- أصح الوجهين: أنه كغير الفاتحة يعني: يكره ولا تبطل صلاته، والثاني: أنه يحرم وتبطل صلاته.
إذاً: الإمام النووي رحمه الله نقل عن الشافعية -وهو مذهب كثير من الفقهاء أيضاً- وغيرهم أن قراءة القرآن في الركوع والسجود مكروهة، وليست محرمة، ولا تبطل بها الصلاة، وهناك وجه عند الشافعية أن قراءة سورة الفاتحة بالذات في الركوع أو السجود محرمة، وأنها تبطل الصلاة؛ ولعل ذلك لأن هذه السورة ركن في موضع من الصلاة، فلم يجز أن تكون في موضع آخر غيره، والله تعالى أعلم.
وهذا بطبيعة الحال إذا كان متعمداً، أما إن قرأه سهواً فإنه لا شيء عليه في ذلك ولا يكره.
إذاً: خلاصة ما سبق: لا حرج على الإنسان أن يقرأ القرآن في الركوع والسجود في حالين.
الحال الأولى: إذا أراد به الدعاء ولو كان متعمداً.
الحال الثانية: إذا سها فقرأه في ذلك، والوجه أنه يسجد للسهو حينئذ؛ لأنه ذكر في غير موضعه.
ابن عباس
رضي الله عنه فوائد: منها: النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، والوجه في ذلك أنه للتحريم عند جماعة من أهل العلم، خاصة من أهل الحديث وأهل الظاهر، كما هو مقتضى ظاهر النص، وذهب أكثر الفقهاء إلى أن النهي للكراهة وليس للتحريم. ومن فوائد الحديث: بيان ما يقوله العبد في ركوعه، فقد أرشد الحديث إلى أن الإنسان يقول في ركوعه (سبحان ربي العظيم)؛ لأنه قال: (أبي داود
، وأحمد
، وابن ماجه
، والدارقطني
، والطحاوي
، والبزار
، والطبراني
في معجمه الكبير .. وغيرهم، عن طريق جماعة من الصحابة يصلون إلى سبعة. ففي ذلك رد على من زعم عدم التقييد بالثلاث، كما ذهب إليه الإمامابن القيم
رحمه الله في زاد المعاد .. وغيره. فهذا بعض ما يقال في الركوع وهو: سبحان ربي العظيم، وقد جاء أيضاً كما سيأتي بعد قليل: (النووي
، وكذلك صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإمام العلامة الشيخالألباني
، فإنه قد استقصى هذه الأدعية مع تخريجها، والحكم على أسانيدها. كما أن من فوائد الحديث أيضاً: بيان ما يقوله في السجود، وذلك في قوله: (عقبة بن عامر
رضي الله عنه: (أحمد
وأبو داود
وغيرهما، وسنده حسن. وكذلك جاء في الأدعية في السجود آثار وأحاديث كثيرة، منها: حديثعائشة
الآتي، ومنها حديثعلي
، وهو في قيام الليل .. وغيرها، يراجع أيضاً في المواضع السابقة التي أشرت إليها. وهذه الأشياء أن يقول في الركوع: (سبحان ربي العظيم)، ويقول في السجود: (سبحان ربي الأعلى) سنة عند جمهور العلماء، وهم الثلاثة:مالك
، والشافعي
، وأبو حنيفة
، فالثلاثة يرون أن ذلك سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر ذلك في حديث المسيء صلاته، ولو كان واجباً وفرضاً عليه لذكره له وعلمه؛ لأن البيان لا يؤخر عن وقت الحاجة. وذهب الإمامأحمد
ومن وافقه وهم أيضاً أهل الظاهر وفقهاء أهل الحديث إلى أن ذلك واجب، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم حافظ عليه، وأمر به، وقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (عقبة
: (مسلم
وسننأبي داود
والنسائي
عنأبي هريرة
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الترمذي
بسند صحيح عنأنس
أو عنالنعمان
-نسيت الآن- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (النعمان
أوأنس بن مالك
أنا أشتبه بينهما، لأنه جاء حديث: (النعمان
والآخر عنأنس
، فأظن الحديث الصحيح عنأنس
نعم -والله أعلم- يراجع على كل حال في الأسبوع القادم، يأتينا أحد الإخوة بتحديد الحديث الصحيح الذي هو: (الترمذي
قال: حديث حسن صحيح، دليل على أن العبادة تسمى دعاءً، يعني: سؤال الله تعالى وعبادته وذكره والثناء عليه، كل ذلك يسمى دعاءً، وهذا أيضاً ذكره الله تعالى في كتابه في قوله عز وجل... إذاً: الحديث الصحيح عنالنعمان بن بشير
: (أنس
فهو: (أبي داود
والترمذي
وابن ماجه
عنابن مسعود
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبو داود
وغيره.ورواه أيضاً أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد وأبو عوانة وغيرهم.
وفي هذه المصادر عقب قولها رضي الله عنها: ( أنه كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ) زيادة: ( يتأول القرآن ).
وفي صحيح البخاري كتاب التفسير .. وغيره أيضاً من المصادر، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً بعد أن أنزلت عليه قوله تعالى: (( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ))[النصر:1-3] إلا يقول فيها: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن ).
فالمقصود بتأويله يعني: حصول ما وعد الله تعالى به، وقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة : ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ) هو تأويل وامتثال لقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [النصر:3]، وذلك أن قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [النصر:3] يحتمل معنيين:
إما أن يكون المعنى: احمد الله تعالى؛ وذلك لأن الحمد لله عز وجل يتضمن إثبات المحامد له، وإثبات الكمالات، وهذا هو في معنى التسبيح، فإن الحمد إثبات الكمال، والتسبيح نفي النقص، وإثبات الكمال يتضمن نفي النقص، فهذا معنى.
وبناءً على ذلك فإنه لو قال: الحمد لله لتأول القرآن وعمل بالقرآن، فهذا المعنى الأول.
المعنى الثاني: أن يكون المقصود بقوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [النصر:3] أي: سبح الله تعالى متلبساً بحمده، يعني: تسبحه وتحمده، فلا يتحقق حينئذ الأمر إلا بأن يجمع بينهما، فيقول: ( سبحانك اللهم وبحمدك ) أو ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ) وهذا هو الظاهر من النص في قوله: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [النصر:3] وهو أيضاً الظاهر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ).
منها: بيان هذا الدعاء، وأنه يقال في الركوع والسجود، وهو غير ما سبق: (سبحان ربي العظيم) (سبحان ربي الأعلى).
ومنها: أيضاً مشروعية الدعاء في الركوع، خلافاً للإمام مالك حيث ذهب إلى عدم مشروعيته، فالجمهور يرون مشروعية الدعاء في الركوع لهذا الحديث، وأما الإمام مالك فيذهب إلى عدم مشروعيته مستدلاً بالحديث السابق، وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: ( أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء )، قال: فغاير بينهما، فدل على أن الدعاء محله السجود، وأما الركوع، فإنه يسبح الله تعالى ويعظمه.
ولا شك أن ما ذهب إليه الإمام مالك غير ظاهر، خاصة مع وجود النص، والمنطوق مقدم على المفهوم، فإذا فرض أن ما ذهب إليه مالك هو المفهوم من الحديث السابق حديث ابن عباس، فإن ما ذهب إليه الجمهور هو منطوق حديث عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ) (واللهم اغفر لي) دعاء كما هو معروف.
ومن فوائد الحديث: قيام النبي صلى الله عليه وسلم بحق العبودية لله عز وجل بقدر ما يملك ويستطيع، وسرعة امتثاله لله عز وجل وأمره، مع أن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كما ذكر ذلك في كتابه، ومع هذا كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن ).
وفي بعض الكتب: ( من اثنتين ) وأظن هذا يعني يعدل من الثنتين كما في صحيح البخاري، وفي مسلم قال: ( من اثنتين بعد الجلوس ).
منها: تكبيرة الإحرام، وأنها فرض في الصلاة، وهي ركن كما سبق، وأنها تفعل عن قيام هو الإجماع، فيما يتعلق بصلاة الفريضة لمن كان قادراً على ذلك.
ومن فوائد الحديث: مشروعية تكبيرات الانتقال، وهي التكبيرة المصاحبة للانتقال من ركن إلى آخر، كالانتقال إلى الركوع، أو إلى السجود، أو إلى القعود، أو إلى القيام .. أو ما أشبه ذلك، فهي تسمى: تكبيرات الانتقال، وهي مشروعة بهذا الحديث، كما هي مشروعة أيضاً فيما ثبت من أنه: ( كان يكبر في كل خفض ورفع )، وفي لفظ: ( يكبر إذا خفض، وإذا رفع ) جاء هذا الحديث عن ثمانية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بعضها في صحيح البخاري، كحديث أبي هريرة : ( أنه كان يكبر إذا خفض وإذا رفع ) وبعضه: ( يكبر في كل خفض ورفع ).
وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أن هذه التكبيرات ليست واجبة، ولكنها مندوبة مستحبة، هذا مذهب الجمهور.
وأقوى أدلتهم أنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكرها للمسيء صلاته، ولو كان واجباً عليه لذكرها له، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ومن أدلتهم أو مما يرشح ما قالوه: حديث أبي سعيد، وهو في صحيح البخاري : ( أنه رضي الله عنه صلى فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود، وحين سجد، وحين رفع في هذه المواضع، وكذلك جهر حين قام من الركعتين، ثم قال: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ).
قالوا: فدل على أنه ليس واجباً، يعني: في كل انتقال، إنما يفعل في بعض الانتقالات، أو يفعل في بعض الأحيان.
وكذلك مما استدلوا به ما رواه ابن المنذر عن ابن عمر وعن بعض السلف: [ أنهم كانوا لا يكبرون إلا تكبيرة الإحرام، ثم لا يعودون ]، وكذلك جاء هذا وصح وثبت عن معاوية رضي الله عنه، وقبله عن عثمان بن عفان، وعن كثير من بني أمية أنهم كانوا لا يكبرون في الانتقال.
هذا القول الأول: أن التكبير للانتقال مندوب ليس بواجب.
القول الثاني: أن تكبيرات الانتقال واجبة، وهذا مذهب الإمام أحمد في الرواية المعتمدة عنه، وكذلك مذهب أهل الظاهر وفقهاء أهل الحديث، وذهبوا إلى الوجوب؛ لمحافظة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، كما في صفة الصلاة، ومنها حديث أبي هريرة هذا فإنه يدل على محافظة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لقوله: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة ) مما يدل على تكرر ذلك وحدوثه، مع قوله عليه الصلاة والسلام: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).
أما ما نقل عن عثمان ومعاوية وابن عمر وبعض السلف وبني أمية، فقالوا: إن هذا محمول على عدم جهرهم بالتكبير، وهذا هو اللائق بحسن الظن بهم، ولا دليل على أنهم لا يكبرون مطلقاً، وحتى لو ثبت أنهم لا يكبرون، فإن هذا اجتهاد لهم، وهو غير لازم لغيرهم.
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله: والقول الثاني -يعني: القول الثاني بالوجوب- أظهر من حيث الدليل.
وفي حديث أبي هريرة أيضاً فوائد، منها: مقارنة التكبير للحركة، أو التسميع أيضاً في النهوض من الركوع، إذا قال: (سمع الله لمن حمده)، مقارنة ذلك للحركة بمعنى: أن يبدأ بقوله: (الله أكبر) مع بدئه بالانتقال إلى الركن الذي سوف ينتقل إليه، وليس بلازم أن يقال: إنه ينبغي أن يمتد التكبير أو التسميع مع الحركة، هذا ليس بلازم، ولا دليل عليه، لكن يقارنه في الابتداء، ومع ذلك فإن الأمر في ذلك واسع، ولا ينبغي فيه التضييق على الناس، لأن الله تعالى لم يجعل علينا في الدين من حرج، وهذه الأمور الدقيقة قد تخفى على الكثيرين، والأدلة فيها ليست ظاهرة، وإنما هي اجتهادات والتماسات من بعض الفقهاء، واستخراجات من بعض الألفاظ ومن بعض الرواة.
فنقول: ينبغي مقارنة التكبير للحركة، ومقارنة التسميع للحركة، ولا يلزم أن تنتهي بانتهائها، ولا أن نقول: ينبغي أن تبدأ بابتدائها أيضاً، فالأمر في ذلك إن شاء الله تعالى واسع: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
ومن فوائد الحديث: أن التسميع هو ذكر الانتقال من الركوع إلى القيام بعده، فيقول: سمع الله لمن حمده أثناء هذا الانتقال.
أما الفائدة الرابعة: فهي أن التحميد ذكر الاعتدال، فإذا اعتدل قال: ربنا ولك الحمد، كما سوف يأتي في حديث أبي سعيد بعد ذلك.
ومن فوائده: أن الإمام يجمع بينهما، فيقول: (سمع الله لمن حمده) (ربنا ولك الحمد) خلافاً للإمام مالك رحمه الله، وسوف يأتي لهذه المسألة مزيد بسط وبيان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر