إسلام ويب

ومضى الشهر الكريمللشيخ : عبد الرحمن السديس

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مضى شهر رمضان وقد أحسن فيه أناس وأساء آخرون، فهنيئاً للمقبولين فيه، والخسارة والخيبة لمن رد في هذا الشهر الكريم، وإن من علامة قبول الصيام يستمر الإنسان ويستمر على العمل الصالح في بقية أيام العام.
    الحمد لله، أحمده تعالى حمداً يستدعي مزيد الإنعام، وأشكره شكراً يرقى بقائله إلى أسمى مقام.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام، مَنَّ على مَن شاء مِن عباده بحسن الصيام والقيام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله سيد الأنام صلى الله عليه وعلى آله البررة الكرام وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم في التبجيل والإكرام، وسلَّم تسليماً كثيراً على الدوام.

    أما بعد:

    فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، فإنها عروة ليس لها انفصام، وجَذوة تضيء القلوب والأفهام، وهي خير زاد يبلِّغ إلى دار السلام، مَن تحلى بها بلَغ أشرف المراتب، وتحقق له أعلى المطالب، وحصل على مأمول العواقب، وكُفِي من شرور النوائب.

    أيها المسلمون: المستقرئ لتاريخ الأمم والمتأمل في سجل الحضارات يُدرك أن كلاً منها يعيش تقلبات وتغيرات، ويواكب بدايات ونهايات، وهكذا الليالي والأيام والشهور والأعوام، وتلك سنن لا تتغير، ونواميس لا تتبدل: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [النور:44].

    إخوة الإسلام: أرأيتم لو أن ضيفاً عزيزاً ووافداً حبيباً حلَّ في ربوعكم، ونزل بين ظهرانيكم، وغمركم بفضله وإحسانه، وأفاض عليكم من بره وامتنانه، فأحبكم وأحببتموه، وألِفَكم وألِفْتموه، ثم حان وقت فراقه، وقربت لحظات وداعه، فبماذا عساكم مودِّعوه؟ وبأي شعور أنتم مفارقوه؟ كيف ولحظات الوداع تثير الشجون، وتُبكي المقل والعيون، وتنكأ الالتياع، ولا سيما وداع المحب المُضَنَّى لحبيبه المُعَنَّى؟! وهل هناك فراق أشد وقعاً ووداعاً، وأكثر أساً والتياعاً من وداع الأمة الإسلامية هذه الأيام لضيفها العزيز ووافدها الحبيب شهر البر والجود والإحسان، شهر القرآن والغفران والعتق من النيران، شهر رمضان المبارك؟! فالله المستعان!

    عباد الله: لقد شمر الشهر عن ساق، وآذن بوداع وانطلاق، ودنا منه الرحيل والفراق، لقد قُوِّضت خيامُه، وتصرَّمت أيامُه، وأزِف رحيلُه، ولم يبقَ إلا قليلُه، وقد كنا بالأمس القريب نتلقى التهاني بقدومه، ونسأل الله بلوغه، واليوم نتلقى التعازي برحيله، ونسأل الله قبوله.

    أحوال الناس في رمضان

    مضى هذا الشهر الكريم وقد أحسن فيه أناس وأساء آخرون، وهو شاهد لنا أو علينا بما أودعناه من أعمال، شاهدٌ للمشمِّرين بصيامهم وقيامهم وبرهم وإحسانهم، وعلى المقصِّرين بغفلتهم وإعراضهم وشحهم وعصيانهم، ولا ندري هل سندركه مرة أخرى؟! أم يحول بيننا وبينه هادم اللذات ومفرق الجماعات؟!

    ألا إن السعيد في هذا الشهر المبارك مَن وُفِّق لإتمام العمل وإخلاصه ومحاسبة النفس والاستغفار والتوبة النصوح في ختامه، فإن الأعمال بالخواتيم.

    إخوة الإيمان: لقد كان السلف الصالح رحمهم الله يجتهدون في إتقان العمل وإتمامه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون مِن ردِّه، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألـم تسمعوا إلى قـول الله عز وجل: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] ؟ ]] .

    ويقول مالك بن دينار رحمه الله: الخوف على العمل ألا يُتَقَبَّل أشد من العمل.

    وقال فضالة بن عبيد رحمه الله: [[لو أني أعلم أن الله تقبل مني حسنة واحدة، لكان أحب إلي من الدنيا وما فيها ]].

    الله أكبر! هذه حال المشمِّرين! فرحماك ربنا رحماك! وعفوك يا ألله لحال المقصِّرين!

    ألا فسلام الله على شهر الصيام والقيام! سلام الله على شهر التراويح والتلاوة والذكر والتسبيح! لقد مر كلمحة برقٍ أو غمضة عين، كان مضماراً للمتنافسين، وميداناً للمتسابقين.

    ألا وإنه راحلٌ لا محالة فشيعوه، وتمتعوا فيما بقي من لحظاته ولا تضيعوه، فما من شهر رمضان في الشهور عِوَض، ولا كمُفْتَرَضه في غيره مُفْتَرَض، شهر عمارات القلوب، وكفارات الذنوب، وأمان كل خائفٍ مرهوب، شهر العبرات السواكب، والزفرات الغوالب، والخطرات الثواقب، كم رُفِعَت فيه من أكُفٍّ ضارعة؟! وذَرَفَت فيه من دموع ساخنة؟! ووجلت فيه من قلوب خاشعة؟! وتحركت فيه من مشاعر فياضة، وأحاسيس مرهفة، وعواطف جياشة؟!

    هذا وكم وكم يفيض الله من جوده وكرمه على عباده! ويمن عليهم بالرحمة والمغفرة والعتق من النار؛ لا سيما في آخره!

    وقفة محاسبة مع رحيل رمضان

    عباد الله: متى يُغفر لمن لم يُغفر له في هذا الشهر؟! ومتى يُقبل من رُدَّ في ليلة القدر؟!

    أورد الحافظ ابن رجب رحمه الله عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من رمضان: [[يا ليت شعري مَن المقبول فنهنيه، ومَن المحروم فنعزيه ]] .

    أيها المقبولون: هنيئاً لكم، أيها المردودون: جبر الله مصيبتكم، ماذا فات مَن فاته خير رمضان؟! وأي شيء أدرك مَن أدركه فيه الحرمان؟! كم بين مَن حظه فيه القبول والغفران؟! ومَن حظه فيه الخيبة والخسران؟! متى يصلح مَن لم يصلح في رمضان؟! ومتى يصح مَن كان فيه مِن داء الجهالة والغفلة مَرَضان؟!

    ترحَّل الشهر والَهْفَاهُ وانصرما     واختص بالفوز بالجنات مَن خَدَما

    فيا أرباب الذنوب العظيمة: الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة، فمن أُعتق فيها من النار فقد فاز والله بالجائزة العظيمة، والمنحة الجسيمة، أين حَرَق المهتمين في نهاره؟! أين قلق المجتهدين في أسحاره؟!

    فيا من أعتقه مولاه من النار: إياك ثم إياك أن تعود بعد أن صرت حراً إلى رق الأوزار! أيبعدك مولاك من النار وأنت تقترب منها؟! وينقذك وأنت توقع نفسك فيها، ولا تحيد عنها؟! وهل ينفع المفرط بكاؤه وقد عظُمت فيه مصيبته وجل عزاؤه؟!

    فبادروا يا رعاكم الله! فلعل بعضكم لا يدركه بعد هذا العام، ولا يؤخره المنون إلى التمام، فيا ربح من فاز فيه بالسعادة والفلاح! ويا حسرة من فاتته هذه المغانم والأرباح!

    لقد دنا رحيل هذا الشهر وحان، ورب مؤمِّل لقاء مثله خانه الإمكان، فاغتنم -أيها المفرط- في طاعة المنان الفرصة قبل فوات الأوان، وتيقظ -أيها الغافل- من سِنَة المنام، وانظر ما بين يديك من فواجع الأيام، واحذر أن يشهد عليك الشهر بقبائح الآثام، واجتهد في حسن الخاتمة، فالعبرة بحسن الختام.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088977378

    عدد مرات الحفظ

    780301255