أما بعد:
حديث علي رضي الله عنه قرأناه في الأسبوع الماضي، هو أيضاً فيما يقال بين التكبير والقراءة، دعاء الاستفتاح، وفيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان إذا قام إلى الصلاة ) المصنف رحمه الله ذكره مختصراً، وتمام الحديث كما في مصادره، والتي منها صحيح مسلم كما عزاه إليه المصنف رحمه الله تعالى: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك ) هذا هو لفظ الحديث تقريباً، كما رواه مسلم في صحيحه، لا بأس من إعادته؛ لأن الإعادة مهمة باعتبار أننا سوف نستدرك على المصنف رحمه الله بعض ما ذكر.
الحديث رواه مسلم في صحيحه عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان إذا قام إلى الصلاة -هكذا- قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، -أو من المسلمين فيها هذه روايتان- اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك ) .
المصنف رحمه الله في هذا الموضع كما في بلوغ المرام : قال: رواه مسلم، وفي بعض رواية له: (إن ذلك في صلاة الليل)، وهذا القول من المصنف رحمه الله، قوله: (في رواية له: إن ذلك في صلاة الليل) يشبه قوله رحمه الله في فتح الباري، فإنه لما ذكر الحديث في الفتح ذكر أحاديث الاستفتاح، قال: وورد فيه حديث: ( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً ) عند مسلم، كذا قال، لكن قيده بصلاة الليل، فوافق ما في فتح الباري ما في بلوغ المرام، أن المصنف زعم أن مسلماً قيد الحديث بصلاة الليل، وهنا قال: في رواية له، وهذا -والله تعالى أعلم- كأنه لا يصح، ولذلك تعقبه شيخنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في الموضعين، فأما في فتح الباري فإن ابن باز حفظه الله علق على هذا الموضع بقوله: هذا وهم من الشارح رحمه الله، يعني: المصنف، وليس في رواية مسلم تقييد الحديث بصلاة الليل، وكذلك في هذا الموضع، لما وصل إلى شرح هذا الموضع في بلوغ المرام قال -ومن نسخته نقلت- قال حفظه الله: لم أجد هذه الرواية في صحيح مسلم، والظاهر أنها غير موجودة.
ومما يؤكد أن الوهم حادث من الحافظ رحمه الله في زعمه، أن مسلماً قيد الحديث بصلاة الليل في بعض رواياته: أن الحافظ ابن حجر نفسه، ذكر الحديث في كتابه الفذ الكبير نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار، وهو كتاب طبع منه جزآن وبقي أجزاء لم تطبع، لكنه محقق في رسائل ماجستير، حققها مجموعة من طلبة العلم، في القسم الخاص الذي حققه الشيخ عبد الله الدوسري، الجزء الثاني صفحة سبعمائة وخمس وتسعين، إلى ثمانمائة وأربع، يعني ما يزيد أو ما يقارب عشر صفحات خصصها المصنف نفسه لهذا الحديث، حديث علي بن أبي طالب، ولم يذكر فيه هذا، مع أنه استقصى في التخريج، لم يذكر أي رواية تقيد الحديث بصلاة الليل، بل أكثر من هذا أنه ذكر رواية للبيهقي في تقييد هذا الحديث بالصلاة المكتوبة، قال: (كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة)، وليس تقييده بصلاة الليل، فدل على أنه مقيد بصلاة الفريضة في بعض الروايات، ولكن ليست رواية مسلم .
وقد وقع فيما يشبه هذا الوهم الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، فإنه لما تكلم على الاستفتاح وذكر أحاديثه، قال عند حديث علي رضي الله عنه: إن المحفوظ من حديث علي أنه في صلاة الليل. وهذا المحفوظ لم أقف له على أثر، ولم يذكره الحافظ ابن حجر رغم استقصائه التخريج وغيره، لم يذكروا شيئاً يدل على أن حديث علي إنما هو في صلاة الليل، فهذا يقيد ويستدرك، والله تعالى أعلم.
قوله: (وجهت وجهي) أي: قصدت بعبادتي الله تبارك وتعالى رب العالمين، فالوجه يقصد به العمل، أو الجهة الاتجاه للشيء أو القصد، كما قال أو أنشد سيبويه في الكتاب:
أستغفر الله ذنباً لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل
وكذلك قال أمية بن أبي الصلت ضمن قصائده:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذباً زلالا
أيضاً الآية نفسها.
فقوله: (وجهت وجهي) أي: قصدت بعبادتي وأسلمت نفسي لله تبارك وتعالى.
وقوله: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) أي: أنشأهما وخلقهما وأبدعهما على غير مثال سبق.
(حنيفاً) هذا حال من حيث الإعراب، والحنيف عند أكثر أهل العلم معناه: المائل، المائل عن الشرك إلى التوحيد، وقال الأزهري وغيره: الحنيف هو المستقيم، فمعنى (حنيفاً) أي: مستقيماً على التوحيد، والمعنى واحد، فهو مائل عن الشرك، مستقيم على التوحيد.
(وما أنا من المشركين) المشرك كما قال النووي : هو الكافر، سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو دهرياً أو زنديقاً أو ملحداً .. أو غير ذلك، فكلهم يسمون مشركين، وبعضهم فرق بين المشرك والكافر من حيث خصوص كل منهما بنوع من الأنواع، وإن كانوا كلهم كفاراً ومشركين في الحقيقة أيضاً، فهم كفار باعتبارهم ستروا الحقيقة والفطرة: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] وهم مشركون أيضاً باعتبار أنهم عبدوا الشياطين من دون الله تعالى: بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ:41] كما قال الله تعالى، أي: الشياطين بطاعتهم.
(ونسكي) النسك، ذكر فيه المفسرون أوجهاً كثيرة كلها تدور حول معنى العبادة، وسائر ما يقرب إلى الله عز وجل، فبعضهم قال: الذبائح، وبعضهم قال: النسك هو العبادة، وبعضهم قال غير ذلك، ومدار الأقوال كلها على أن المقصود بالنسك كل ما يتقرب به إلى الله تعالى، من الذبح والحج وسائر العبادات.
قوله: (ومحياي ومماتي) هذه يجوز فيها ثلاثة أوجه: ومحياي ومماتي، بفتح الياءين، ويجوز السكون فيهما: ومحياي ومماتي، ويجوز فيها إسكان أحدهما وتحريك الأخرى: ومحياي ومماتي لله رب العالمين، وأيضًا يجوز الوجه الرابع: وهو ومحياي ومماتي لله رب العالمين، وهذه قراءة الجمهور، بتحريك الثانية وإسكان الأولى.
والمقصود بقوله: (ومحياي ومماتي) أي: حياتي وموتي لله رب العالمين، والمعنى في كون الحياة والموت لله، إما أن يكون المقصود أن المتصرف في الحياة والموت هو الله تعالى، فهو الذي يحيي ويميت، وإما أن يكون المقصود أن المسلم يعترف بأن حياته وموته هي لله تعالى، من حيث إنه صرف حياته لله في الطاعة والعبادة، وامتثال ما أمر، وترك ما نهى، وعد موته لله تعالى، فهو يشهد أن لا إله إلا الله ويموت مؤمنا بالله معترفاً به، ويموت وهو يعلم أن مصيره إلى الله تعالى.
أو يكون المعنى: (مماتي لله) بمعنى: أن مصيري بعد الموت لله، وثمة قول أذكره منذ قديم ولم أقف عليه، يعني: لما راجعت في هذا الموضع واحتجت إليه لم أجده في المصادر، فليراجع ويبحث عنه، وهو أن بعضهم قال: إن المقصود بالموت هنا النوم، فيكون المقصود بقوله: (محياي ومماتي) أي: صحوتي ونومي لله رب العالمين، وهذا أيضاً معنى لطيف إن كان قال به أحد من أهل العلم، وإن لم يكن قال به أحد، فإن النوم داخل في قوله: (ومحياي) فإن النوم جزء من الحياة، وهو يتوافق مع قول معاذ رضي الله عنه: (إنني أقوم وأنام، وأحتسب في نومتي كما أحتسب في قومتي) فيكون المؤمن يحتسب نومه لله عز وجل، طاعة واستعانة على العبادة، وتقوياً على القيام والذكر .. ونحو ذلك.
وقوله: (لا شريك له) هذا توكيد لقوله: (لله رب العالمين).
(وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له, وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين أو من المسلمين) والمقصود: أول المسلمين من هذه الأمة، أو المعنى: أول المبادرين إلى الامتثال، ويكون محمولاً على المبالغة في ذلك، والرواية ثابتة: (وأنا أول المسلمين)، ولا بأس أن يقولها الإنسان، وليس يعني بها أنه أول المسلمين من حيث الوجود، لا، ولكنه أول الممتثلين، أي: كأنه يبالغ في سرعة الامتثال، حتى كأنه من أول المبادرين إلى الطاعة والإسلام.
(وسعديك) أي: مساعدة لأمرك بعد مساعدة، واتباعاً ومتابعة لدينك بعد متابعة.
القول الأول منها: أن المقصود أن الشر لا يتقرب به إليك، وإنما يتقرب إلى الله تبارك وتعالى بالطاعات، والخير والبر والإحسان .. ونحو ذلك، وأما الشر فإنه يباعد العبد عن ربه لا يقربه إليه، وهذا القول هو مذهب كثير من أهل العلم، مذهب الخليل بن أحمد والنضر بن شميل وهما من أئمة اللغة، وهو كذلك مذهب إسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وابن خزيمة، والأزهري، الأزهري أيضاً من أئمة اللغة، وأما يحيى بن معين، وإسحاق بن راهويه، وابن خزيمة فهم من المحدثين.
القول الثاني في تفسير قوله: (والشر ليس إليك) أن هذا من باب أن الشر لا يضاف إلى الله تعالى على سبيل الانفراد، وإن كان الجميع خلقه، فمثلاً: لا تقول مخاطباً الله عز وجل: يا خالق القردة مثلاً، وإن كان الله خالق كل شيء، وهو خالق القردة والكلاب والخنازير والهوام والعقارب .. وغيرها مثلاً، لكن لا تقل: يا خالق كذا وكذا من الأشياء المكروهة؛ لما في ذلك من سوء الأدب، وإن كانت كل هذه الأشياء من خلقه.
والمقصود لا تقولها لغير مناسبة، أما لو قالها الإنسان لمناسبة، فالله أعلم أن هذا لا يكون فيه حرج، مثل: لو أراد أن يستجير من شر بعض هذه الهوام مثلاً، فلجأ إلى الله تعالى وناداه؛ لأنه خالقها، فإنه يدعوه أن يقيه شرهاً مثلاً، هذه مناسبة تجعله -وليس من سوء الأدب- أن يناديه بهذا، لكن لو أطلق ذلك، فإنه لا ينبغي له أن يقوله على سبيل الإفراد، وإن كان الله تعالى خالق كل شيء.
المعنى الثالث أو التفسير الثالث: أن المقصود بقوله: (والشر ليس إليك) أن الشر لا يرفع إلى الله تعالى، وإنما يصعد إليه الكلم الطيب، والعمل الصالح، كما قال عز وجل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10].
والمعنى الرابع وهو مشهور عند العلماء المتأخرين: أن الشر الموجود في الخلق، ليس شراً بالنسبة إلى الله تعالى، ليس شراً محضاً وإنما هو شر بالنسبة إلى بعض الناس دون بعض، وإنما خلقها الله تعالى لحكمة عظيمة، فهو خلقه لحكمته البالغة، ولو تأمل المخلوق فيما خلقه الله تبارك وتعالى، لوجد فيه عين الحكمة، وعين الصواب، حتى الأشياء كخلق الشياطين مثلاً، وخلق النار، وخلق الهوام .. وغير ذلك، فإن العبد إذا تأمل فيه أدرك فيه كثيراً من الأسرار، والحكم السابغة البالغة العظيمة في خلق الله تعالى لهذه الأشياء.
فإذاً: يكون هذا ليس شراً محضاً، وإنما هو شر بالنسبة إلى بعض المخلوقين دون بعض. هذه أربعة أوجه.
وذكر النووي وجهاً خامساً: قال: هو كقول بعضهم: فلان إلى بني فلان. يقصدون أن وجهه وسره إليهم. وهو وجه كأنه يدخل في بعض ما سبق، أما الأوجه الأربعة الأولى فهي أكثر ظهوراً.
(تباركت وتعاليت): (تباركت) معناها: استحققت الثناء والمدح، أو معناها: ثبت الخير عندك، أو معناها: بورك الخلق بذكرك وذكر اسمك ودعائك؛ وذلك لأن البركة في أصلها هي الخير الكثير الطيب الثابت المستقر.
فقولك: (تباركت): إما أن يكون معناها أنك استحققت يا رب المدح والثناء.
وإما أن يكون المعنى ثبت الخير عندك.
أو يكون المعنى أن المخلوقين إذا ذكروك بوركت أيامهم ولياليهم، وأسعدوا ووفقوا.
وهذه المعاني أيضاً ليست متعارضة، فلا مانع أن تكون كلها مقصودة وداخلة في هذا الدعاء.
والثاني: ما جاء في حديث عمر وأبي سعيد، وسأتحدث عنه بعد قليل.
والثالث: ما جاء في حديث أبي هريرة، وسأتحدث عنه أيضاً، وجاء فيها أحاديث أخرى كثيرة، حتى إن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله في كتابه صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر منها ثنتي عشرة صيغة من صيغ الاستفتاح، وكلها صيغ ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، يدعو الإنسان بهذه أو تلك، لا يجمع بينها إنما يدعو بأحدها، ولا فرق فيها بين الفرض والنفل، ومن قال بالتفريق بينها، فعليه الدليل، ومن ذلك مثلاً حديث الباب، فإن الحافظ رحمه الله زعم أن مسلماً قال: (إنه في صلاة الليل) في بعض الروايات، وكذلك ابن القيم كما أسلفت، قال: إن المحفوظ أنه في صلاة الليل، والواقع أن ابن خزيمة والبيهقي رويا بسند صحيح الحديث مقيداً بالصلاة المكتوبة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة، قال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات ... ) إلى آخر الدعاء. فهذا يرد على من زعم أن ذلك في صلاة الليل، فدل على أنه أحد مواضع الأدعية، التي يستحب للعبد فيها أن يدعو بعد تكبيرة الإحرام، وقبل قراءة الفاتحة، وقد سبق في بعض هذه الدروس أن ذكرت أن مواضع الدعاء في الصلاة سبعة، ولعلنا نستذكرها على عجل:
أولها: هذا الموضع، بعد تكبيرة الإحرام وقبل قراءة الفاتحة.
الموضع الثاني: في القراءة، إذا مر بآية عذاب استعاذ منه، وإذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله، والتأمين يدخل في القراءة، فالدعاء في القراءة سواء بالتأمين أو بالسؤال أو بالاستعاذة.
الموضع الثالث: القنوت قبل الركوع، وقد ثبت هذا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
الموضع الرابع: الركوع.
الخامس: بعد الرفع من الركوع، خاصة إذا قنت أيضاً.
السادس: السجود.
السابع: في الجلسة بين السجدتين.
الثامن: في آخر التشهد، فتكون المواضع سبعة، قابلة للزيادة إلى ثمانية أيضاً, إذا اعتبرنا ما قبل الركوع موضعين: للقراءة واحد، وللقنوت قبل الركوع آخر.
ومثله أيضاً الدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، كما في الصحيح: ( علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً -وفي رواية: كبيراً- وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم ) وأمثال ذلك في دعوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة.
وفي الحديث الآخر في الصحيحين، حديث أبي سعيد : ( من يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله ) ففي ذلك إشارة إلى أن العبد يمكن أن يتكلف الأخلاق الحسنة، حتى يرزقها، ولا يكتفي فقط بأن يمرر هذا الدعاء على لسانه، بل يعين على نفسه، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام لـربيعة بن كعب : ( أعني على نفسك بكثرة السجود ) فيدعو، ومع الدعاء يعزز هذا الدعاء، ويصدق هذا الدعاء بأن يتكلف التخلق بالأخلاق الفاضلة، وضبط النفس عن الأخلاق السيئة، حتى يرزقه الله تعالى حسن الخلق، (ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه).
ونص الحديث: أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة سكت هنيهة، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي، بالماء والثلج والبرد ) .
(سكت هنيهة) قبل أن يقرأ.
وهذا الحديث لعلي فيما يتعلق بالحديث الذي قبله، حديث علي بن أبي طالب نسيت أن أذكر الموضع الذي رواه مسلم فيه، أو أنني ذكرت موضعه، أظن أني نسيت أن أذكر الموضوع الذي رواه مسلم فيه، وحديث علي رضي الله عنه رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
وقد رواه البخاري في كتاب الأذان، باب ما يقول بعد التكبير.
ورواه مسلم أيضاً في كتاب المساجد، باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام وبين القراءة.
وقد رواه أيضاً أبو عوانة في مسنده، وأبو داود، والنسائي، والدارمي، وابن ماجه، وأحمد .. وغيرهم.
(سكت) ما المقصود بالسكوت أيها الأحبة؟ (إذا كبر للصلاة سكت هنيهة) ما هو السكوت هنا؟
المقصود بالسكوت هنا عدم الجهر، وإلا فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يسكت بمعنى لا يتكلم ألبتة، كان يقرأ الدعاء الذي ذكره سراً، وأبو هريرة يعرف أنه لم يكن يسكت سكوتاً مطلقاً، ولذلك قال: (ما تقول؟) فعرف أنه يقول، ولكنه لا يجهر وإنما يسر، وليس في الصلاة ولا في غيرها -والله تعالى أعلم- من العبادات تعبد بالسكوت المطلق، لم يتعبدنا الله تعالى بالسكوت المطلق فيما أعلم وأذكر، وهذا ذكره أيضاً ابن رجب في جامع العلوم والحكم في غير موضع، وذكره غيره من أهل العلم: أن الله تعالى لم يتعبدنا بذات السكوت، وإنما قد يكون هناك تعبد أحياناً بإسرار في الدعاء، أو جهر به في أحوال أخرى.
فقوله: (سكت) معناه: أنه أسر، وقد عرف أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يسكت سكوتاً مطلقاً، وإنما كان يسر؛ ولهذا قال: ما تقول؟ ما الذي أدرى أبا هريرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول؟
يحتمل أن يكون عرف ذلك من تحرك شفتيه بالدعاء، ويحتمل أن يكون عرف ذلك من اضطراب لحيته، كما في صحيح البخاري : ( أنهم سألوا خباباً
قوله في الدعاء: (اللهم باعد بيني) يعني: أبعدها عني وأبعدني عنها، فهي مفاعلة بين الطرفين، والمعنى: اجعل بيني وبينها كبعد ما بين المشرق والمغرب، وإنما اختار المشرق والمغرب؛ لأنهما لا يلتقيان أبداً، فكأن المعنى: لا ألقى ذنوبي وخطاياي أبداً، فإن كانت هذه الذنوب والخطايا التي سأل الله المباعدة عنها، من الذنوب التي وقعت وحصلت، فالمقصود باعد بيني وبين عذابها وعقوبتها، المعنى: اغفرها لي وامحها عني، فلا أجازى بها أو أعاقب بها، وإن كانت من الذنوب التي لم تقع، فالمقصود اعصمني واحفظني منها، فلا أقع فيها، ولا مانع أن يكون كلا الأمرين مراداً في هذا الدعاء.
( كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي ) أيضاً التنقية من الخطايا -والله تعالى أعلم- تشمل ثلاثة أمور فيما ظهر لي:
الأول: مغفرة الذنوب السالفة.
الثاني: العصمة مما لم يقع فيه.
الثالث: هو أن يطهر الله تعالى قلب العبد من أثر المعصية أو الذنب، فإن للمعصية والذنب ظلمة وسواداً في القلب، تظهر على الوجه أيضاً، ترى وجوه العصاة -والعياذ بالله- كأنما أغشيت قطعاً من الليل مظلماً، فإذا دعا العبد بالتنقية من الذنوب والخطايا، كان ذلك دعاء بأن يخلصه الله تعالى من أثر الذنوب والخطايا في نفسه، في قلبه، في شعوره، في عواطفه، في أخلاقه، وكلنا -لأننا خطاءون- نعرف آثار الذنوب، وكيف تقيدنا وتغلنا وتؤثر في راحتنا، في تعاطينا لأمورنا، في معاملتنا .. في أشياء كثيرة جداً، فيدعو العبد ربه بالسلامة من أثر هذه الذنوب.
وقوله: (اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) هذا تعبير عن غاية المحو والإزالة، فإن الثوب الذي توارد على غسله من دنسه الماء والثلج والبرد، لا يبقى فيه أثر للدنس ألبتة، ويحتمل أن يكون ذكر الثلج والبرد إشارة إلى مقابلة الحرارة الناتجة عن المعصية بالبرودة، التي هي موجودة في الثلج والبرد، فيقابل حرارة الذنب ببرودة الثلج والبرد، فتطفئه نارها حينئذ.
منها: مشروعية الدعاء كما سلف، قال الحافظ ابن حجر : خلافاً للإمام مالك .
والفائدة الثانية: مشروعية الدعاء في الصلاة، حتى بما لم يرد في القرآن، قال الحافظ ابن حجر أيضًا في الفتح : خلافاً لـأبي حنيفة .
ومن الفوائد: ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إظهار الذل والعبودية لله جل وعلا، على ما كان عليه من طول العبادة، كان يقوم في الليل حتى تتورم قدماه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك كان يدعو فيقول: (نقني من خطاياي)، (باعد بيني وبين خطاياي)، وفي دعاء علي بن أبي طالب الذي رواه قبل قليل ما سمعتم.
فتبارك الله الذي وهب رسوله صلى الله عليه وسلم من كمال العبادة ما وهبه، ثم وهبه من كمال التواضع والذل والإخبات، والانكسار لله عز وجل ما لا يقوم حتى في نفوس كثير من الناس، الذين أسرفوا على أنفسهم وفرطوا، فنسأل الله تعالى ألا يجعلنا ممن جمعوا إساءة وأمناً، إساءة في أعمالهم، وأمناً من مكر الله عز وجل.
ومن فوائد الحديث: ما كان عليه الصحابة من تتبع أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم، يظهر ذلك في فعل أبي هريرة رضي الله عنه، حين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟)
أما مسلم فقد روى هذا الحديث في كتاب الصلاة، يعني: في موضع ليس متوقعاً أن يكون فيه، وقد تقفز عليه عين القارئ فلا تقع عليه.
رواه مسلم في كتاب الصلاة، باب حجة من قال: لا يجهر بالبسملة، وقد رواه عن عبدة عن عمر : أنه كان يجهر بهذا الدعاء ويقول: ( سبحانك اللهم وبحمدك ) أنه كان يجهر به.
وقول المصنف رحمه الله هنا: (رواه مسلم بسند منقطع) ذلك أن مسلماً روى هذا الحديث من طريق عبدة، وعبدة هو ابن أبي لبابة، عبدة بن أبي لبابة عن عمر، وعبدة لم يدرك عمر رضي الله عنه، وإنما قيل: إنه روى عن عبد الله بن عمر .
وقيل: إنه رأى عمر ولم يسمع منه، وإنما سمع من ابنه عبد الله، ولذلك كان الحديث منقطعاً، ولكن روى الحديث الطحاوي في شرح معاني الآثار من طريق عمرو بن ميمون الأودي [ أنه صلى مع عمر بـذي الحليفة صلاة الظهر، فدعاء بهذا الدعاء وجهر به ] ورجاله ثقات.
للحديث شاهد بل شواهد، منها حديث أبي سعيد الخدري وهو الآتي بعده، ومنها حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه، وقد رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم وصححه، والدارقطني، وقد ضعف حديث عائشة أبو داود، وضعفه أيضاً الترمذي والبيهقي، وصححه أو حسنه بعض أهل العلم، قال العراقي : رجاله ثقات، وكذلك الحافظ ابن حجر في التلخيص قال: رجاله ثقات، ولكنه منقطع، أو قال: فيه انقطاع، ويعني بذلك: انقطاع إسناد الحديث بين أبي الجوزاء وبين عائشة رضي الله عنها، فإن أبا الجوزاء هو الراوي عن عائشة، وهو لم يسمع منها، فـالحافظ قال: رجاله ثقات، ولكن فيه انقطاع.
والحاكم قال: هو صحيح على شرط الشيخين، وتعقبه الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار بقوله: ليس على شرط واحد منهما، ليس على شرط البخاري، ولا على شرط مسلم أيضاً.
للحديث شاهد أيضاً من حديث ابن مسعود، ومن حديث أنس، وقد ذكرهما البيهقي وضعف إسنادهما.
الإمام أحمد قال: أنا ذهب إلى ما روي عن عمر، يعني: يرى الإمام أحمد أن يستفتح المصلي صلاته بعد التكبير، بقوله: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)، يقول: [ أنا أذهب إلى ما روي عن عمر، ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الاستفتاح كان حسناً ]، يعني: يرى الأمر واسعاً، ولكنه يفضل هذا الاستفتاح.
الإمام ابن القيم رحمه الله كأنه فسر كلام الإمام أحمد، ورجح هذا الاستفتاح في زاد المعاد من عشرة وجوه، أهمها ما يلي، بعضها وجيه، وبعضها قد يكون فيه مناقشة والله أعلم:
أولها: جهر عمر رضي الله عنه به، وما جهر به عمر إلا ليعلمه من وراءه من الصحابة والتابعين، وجهره به يسمعه غيره من الصحابة، ويقرونه عليه.
ثانياً: أن هذا الدعاء أو الذكر مشتمل على أفضل الكلام بعد القرآن: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) هذا أفضل الكلام بعد القرآن، فهذا الدعاء مع تكبيرة الإحرام مشتمل على أفضل الكلام بعد القرآن.
ثالثاً: أن هذا الدعاء والذكر أخلص في الثناء على الله تعالى، فإنه مشتمل على ألوان الثناء من التسبيح، والتحميد، والتكبير، والتهليل، بخلاف غيره من الأدعية؛ فإن فيها الدعاء وليس الثناء، والأفضل الثناء ثم الدعاء.
الرابع: أنه قال: إن هذا الدعاء أو الذكر جاء في صلاة الفريضة، كما في حديث عمر هنا، أما غيره من الأدعية فقال عامتها في صلاة الليل، وهنا قال: إن حديث علي المحفوظ أنه في صلاة الليل، وفي هذا نظر كما أسلفت.
الخامس من الأوجه أنه قال: إن هذا الذكر إنشاء للثناء على الله تعالى، متضمن للإخبار عن صفات الكمال لله عز وجل، وأما قوله: (وجهت وجهي) فهو إخبار عن العبودية، فقرن بينه وبين حديث علي، وفضله على حديث علي، لماذا؟ لأنه قال: إن قوله: (سبحانك اللهم وبحمدك) هذا إنشاء للثناء على الله.
وقوله: (وجهت وجهي) هل هو إخبار للثناء أو هو إخبار عن اعتراف العبد بالعبودية؟ هو اعتراف بالعبودية، قال: والثناء خير أو أفضل من الإخبار عن العبودية.
الوجه السادس أنه قال: إن من قرأ هذا الثناء يكمله، بخلاف من قرأ غيره من الأدعية، فإنه يقتصر على بعضه، فمثلاً: من قرأ الدعاء الوارد في حديث علي فإنه قد لا يكمله، بل يقتصر على أوله ويترك باقيه، وذكر أوجهاً أخرى في ذلك.
حديث عمر الآن له شواهد، منها: حديث أبي سعيد، وحديث عائشة، وابن مسعود، وأنس .
هذا الحديث بشواهده ثابت بلا شك، صححه ابن خزيمة، والحاكم، والذهبي وافق الحاكم على تصحيحه، والعراقي قال: رجاله ثقات، وحسنه الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار، أو حسن بعض طرقه، وأخذ به جماعة من فقهاء الصحابة، كـأنس، وجابر، وابن مسعود، وعمر رضي الله عنهم، واختاره جماعة من الفقهاء المتبوعين، كـأحمد، وأبي حنيفة، وسفيان، بل إن الترمذي رحمه الله لما ذكر الحديث نسبه لأكثر أهل العلم، كما سوف يأتي.
الحديث رواه أبو داود في سننه، من طريق جعفر بن سليمان الضبعي، وغير أبي داود أيضاً، هذا سند الحديث من طريق جعفر بن سليمان الضبعي عن علي بن علي الرفاعي عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد، ولا بأس بكتابة الإسناد حتى نعرف العلة إن كان فيه.
وقد رواه أبو داود في سننه وقال: وهذا الحديث يقولون: هو عن علي بن علي عن الحسن مرسلاً، الوهم من جعفر . فعرفنا معنى كلام أبي داود، يقصد بـعلي بن علي : علي بن علي الرفاعي وهو أبو إسماعيل اليشكري .
وقوله: (الوهم من جعفر )، يعني بذلك: جعفر بن سليمان الضبعي .
وكذلك رواه الترمذي، وقال عقب روايته: وفي الباب عن علي وعائشة وابن مسعود وجابر وجبير وابن عمر، وكأنه يقصد بالباب يعني: باب الاستفتاح عموماً، أعم من أن يكون هذا الدعاء بذاته، لكن يقصد أنه روي الاستفتاح بهذا وغيره عن هؤلاء، وإلا فإنني لا أعلم أن علياً رضي الله عنه روي عنه هذا الاستفتاح بذاته، وقد يكون ذلك، لكن على الأقل لم أطلع عليه، والعادة أن الترمذي يقصد بالباب، يعني: باب الاستفتاح في هذا الدعاء أو في غيره.
قال الترمذي : وحديث أبي سعيد أشهر، حديث في الباب، وقد أخذ قوم من أهل العلم بهذا، ثم بعد قليل أشار إلى أنه مذهب أكثر أهل العلم، أن أكثر أهل العلم أخذوا بهذا الدعاء، قال: وتكلم قوم في إسناد حديث أبي سعيد، كان يحيى بن سعيد يتكلم في علي بن علي، أو قال: يضعف علي بن علي . هذا كلام الترمذي، ونسب أيضاً الترمذي رحمه الله إلى الإمام أحمد أنه قال: حديث أبي سعيد لا يصح.
والنسائي روى الحديث في سننه الكبرى والصغرى وسكت عليه، قال الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار : سكت عليه، وسكوته يقتضي أنه لا علة له عنده، يعني: كأن الحديث عند النسائي ليس له علة.
ورواه أيضاً أحمد، وابن ماجه، والدارقطني، والدارمي، وعبد الرزاق، والطبراني، والبيهقي، وحاصل كلام البيهقي في كتاب السنن الكبرى، وفي كتاب الخلافيات أيضاً، حاصل كلام البيهقي : أن حديث علي : ( وجهت وجهي للذي فطر السماوات ) أرجح من حديث الباب في الاستفتاح من قوله: (سبحانك اللهم وبحمدك)؛ وذلك لأن حديث علي مخرج -يقول البيهقي - في الصحيح، بخلاف حديث الباب، فإنه وإن كان له طرق كثيرة، إلا أنه لا يخلو شيء منها من مقال.
هذا ملخص كلام البيهقي، ونحوه أيضاً كلام ابن خزيمة في صحيحه.
وقد قال العقيلي في كتاب الضعفاء: روي الحديث بأسانيد حسان غير هذا.
إذاً: يتلخص أن الحديث إجمالاً -يعني: الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك)- أنه صححه طائفة كثيرة من أهل العلم، لعلنا نستذكرهم حتى نجمع ما تفرق، عموم أهل العلم الذين حسنوا أو صححوا الاستفتاح بـ (سبحانك اللهم وبحمدك) سواء من حديث عمر، أو من حديث أبي سعيد .. أو غيرهما وهم:
الحاكم ووافقه الذهبي، هذان اثنان.
الترمذي وقال: أشهر حديث في الباب.
سكوت النسائي يقتضي أنه لا علة له عنده.
العراقي قال: رجاله ثقات.
ابن خزيمة خرجه.
ابن حجر حسن عدداً من أسانيده.
صححه ابن حبان.
كدت أن أقع في نكتة ينسبونها، يقال: إن مدرساً من مدرسي مادة الجغرافيا سأل الطلاب قال لهم: ما هي عاصمة أسبانيا ؟ فأقام أحد الطلاب، فقال له: ما أدري، قال: أصبت؛ لأنه ظنه يقول: مدريد . فأنا حسبت الأخ يقول: العقيلي، وهو يقول: ابن القيم، حسبته يقول: العقيلي، فكدت أن أصوبه فيما قال.
العقيلي ذكرت أنه قال: روي بأسانيد حسان غير هذا، يعني: غير هذا الإسناد، جيد.
حديث أبي سعيد بذاته سقت إسناده قبل قليل عند الأئمة، عند أبي داود، والترمذي، والنسائي، وأحمد .. وغيرهم، أنه من رواية علي بن علي الرفاعي عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري، وعلته عند من ضعفوه هو علي بن علي الرفاعي، وعلي بن علي الرفاعي هذا هو أبو إسماعيل اليشكري، والواقع أنه لا يعل الحديث بمثله، فإنه وإن تكلم فيه يحيى بن سعيد كما سبق من جهة القدر، فقد اتهمه بأنه يقول في القدر، يعني: عنده بدعة القدر، إلا أن أكثر الأئمة أثنوا عليه، فمثلاً: الإمام أحمد يقول: لم يكن به بأس، ابن معين، وأبو زرعة وثقاه، أبو حاتم سأله ابنه عن علي بن علي ؟ فقال: لا بأس به، يحتج بحديثه، وكذلك النسائي قال: لا بأس به، ومثله البزار، وابن حجر أيضاً كل هؤلاء قالوا: لا بأس به، فمعنى هذا أن أقل أحوال حديثه أن يكون حسناً .
أما بقية رجال الحديث فهم ثقات، قال الحافظ ابن حجر : وسائر رواته رواة الصحيح، يعني: بقية رواة الإسناد رواة الصحيح.
هذا الكلام الذي سقته يبين لكم ما في كلام النووي من المؤاخذة، وسوف أسوق لكم كلام النووي الآن؛ لتكتشفوا ماذا في كلام النووي، النووي لما ساق الحديث في كتاب الأذكار في الأدعية التي تقال عند الاستفتاح، ساقه وذكر أسانيده عن عائشة .. وغيرها، ثم ساق حديث أبي سعيد الذي هو موضع البحث الآن، ساقه وقال: ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، والبيهقي من حديث أبي سعيد وضعفوه.
هل في هذا الكلام مؤاخذة أم لا؟ نعم، إذاً: قوله: وضعفوه، يشكل عليه أولاً: أن النسائي لم يضعفه، بل سكت عليه، وسكوته يقتضي أنه ليس له عنده علة، طيب. هذه واحدة.
ثانياً: كذلك الترمذي ما ضعفه، وإنما قال: هذا أشهر حديث في الباب، ونقل تضعيفه عن بعض أهل العلم، الإمام أحمد ويحيى بن سعيد، لكنه لم يضعفه من قبل نفسه.
ثالثاً: البيهقي لم يضعفه أيضاً، وإنما قارن بينه وبين حديث علي، وخلص إلى أن حديث علي هو أصح؛ لوروده في الصحيح، وربما يحمل كلام البيهقي على شيء من التضعيف، لقوله: لا يخلو شيء منها من مقال.
أبو داود أشار قوله: إنه روي مرسلاً، والوهم من جعفر، هذا قد يحمل على أنه تضعيف. من هو الرابع الذي بقي الآن؟
قلنا: أبو داود، والترمذي، والنسائي، أنا نسيت ابن ماجه، أسقطت ابن ماجه، نعم، ابن ماجه كما قال الحافظ ابن حجر لم يتكلم على حديث كعادته.
إذاً: كلام النووي في قوله: (وضعفوه) متعقب بأنهم لم يضعفوه في الواقع، اللهم كلام أبي داود قد يحمل على تضعيفه.
الترمذي نقل تضعيفه عن أحمد ويحيى، وقال: هو أشهر حديث في الباب، النسائي سكت عليه، ابن ماجه كذلك سكت عليه، البيهقي قال فيه ما قال.
الظاهر أن قوله: (وضعفوه) يعود إليهم، فإن قصد ضعفوه، يعني: ضعفه أهل العلم فهذا باب آخر. طيب. الحديث فيما يتعلق بدعاء الاستفتاح انتهى الكلام فيه، يعني عرفنا ما فيه وثبوته.
فسر العلماء كما فسر الزمخشري في كتابه الفائق في غريب الحديث (الهمز) بأن نقل أو رفع هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الهمز بالموتة) وهي الجنون، الموتة نوع من الجنون، (والنفخ بالكبر، والنفث بالشعر).
هذا التفسير ذكره الزمخشري مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، تعقبه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي وقال: أخطأ الزمخشري في رفعه هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما حصل للزمخشري وهم في ذلك؛ بسبب أن أبا داود وابن ماجه رويا الحديث عن جبير بن مطعم وفيه قال: [ والهمز الموتة، والنفث الشعر، والنفخ الكبر ]. فظن الزمخشري أن هذا مرفوع، والواقع أنه مدرج.
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: وقد بينت رواية ابن ماجه أنه كلام عمرو بن مرة .
ويبدو أن في كلام الشيخ أحمد شاكر شيئاً. والله أعلم، وأن هذا التفسير جاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح، ولكنه مرسل، حتى من غير طريق جبير الذي ذكره في أبي داود وابن ماجه .. وغيرهما، أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً بسند صحيح مرسل، أنه فسر هذا التفسير .
فأما قوله: (من همزه) فالهمز كما سبق هو نوع من الجنون، وكأنه عبر عن هذا بأنه نوع من النخس من الشيطان للإنسان، بإصابته بالجن.
وأما النفث بالثاء فهو الشعر، والمقصود بذلك بلا شك الشعر المذموم، الذي يحتوي على أمور سيئة، مثل أن يكون ذماً للخير وأهله، أو هجاء، أو سخرية بالناس، أو إثارة، أو شتيمة، أو تعرضاً للأنساب، أو غزلاً قبيحاً مذموماً فيه تشبيب وتعريض بالنساء، ومبالغة في أوصافهن، وإثارة للشهوات .. وما أشبه ذلك من الأشعار القبيحة المذمومة، وليس المقصود بذلك الشعر على إطلاقه، ولذلك البخاري رحمه الله روى في صحيحه في كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه، ثم روى بسنده عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( إن من الشعر حكمة ) وساق بسنده عن جندب رضي الله عنه أيضاً: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسير يوماً فعثر فقال: هل أنتِ إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
فساقه البخاري لبيان أن من الشعر ما يستملح ويستحسن ويمدح، وكذلك ساق البخاري بسنده حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل قال صلى الله عليه وآله وسلم: وكاد أمية
في أحاديث أخرى طويلة في هذا الباب.
المقصود إشارة إلى أن الشعر الذي يستعاذ منه وهو من الشيطان هو الشعر المذموم، وكان معروفاً عند العرب أن الشيطان له شعر، ولذلك كان أحدهم يقول:
إني وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
قال: شيطانه مذكر، ولذلك يأتي شعره شديداً قوياً.
ويقول شاعر معاصر:
شيطان شعري زارني
إلى آخر القصيدة التي تراجع في موضعها في ديوانه الذي هو بعنوان: لافتات .
أما قوله: (من همزه ونفخه ونفثه) ونفخه، فالنفخ: هو الكبر؛ وذلك أن الشيطان قد ينفخ في الإنسان، فيكبر في عين نفسه ويعظم ويزدري الآخرين ويحتقرهم، ولا يرى لهم فضلاً ولا منزلة، فيدعوه هذا إلى بطر الحق، وغمط الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( الكبر بطر الحق، وغمط الناس ) فلا يغمط الناس إلا من استكبر في نفسه، يغمطهم حقوقهم، ولا يعرف لذي فضل فضله.
الأحاديث الثلاثة فيها دعاء الاستفتاح، وقد ثبت صحة إسناده، فيشرع أن يدعو به الإنسان ولو بعض الأحيان.
الجواب: لا بأس، إذا جاز الدعاء بها في الصلاة، فأن يدعو بها خارج الصلاة فهو جائز من باب أولى، وهي أولى أن يدعو الإنسان بها، عن أن يدعو بدعاء من قبل نفسه، قد يكون فيه ما فيه، وقد يكون مخالفاً للمشروع.
الجواب: لا أعلم دعاءً مقيداً بصلاة الليل حتى لو جاء، بعض الأدعية جاء بأنه كان يقول بها في صلاة الليل، لكن حتى وإن جاء في صلاة الليل، إلا أن هذا لا يعني أنه لا يقال إلا في صلاة الليل، فالأصل أن ما جاز في الفرض جاز في النفل، فلأن دعا به النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل، جاز للعبد أن يدعو به في صلاة الليل، أو في غيرها من النوافل أو في الفريضة.
ماذا ذكر مالك عن ابن عمر ؟ لا، ليس معلقاً بل مسنداً، ما ذكره مالك عن ابن عمر جاء مسنداً بسند متصل صحيح، ورواه البخاري أيضاً عن مالك من طريق مالك كما أسلفنا، نعم.
هذه عندي من الحجج التي سوف نأتي بها إن شاء الله في حينها، إذا بحثنا مسألة قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية بالنسبة للمأموم.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر