إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها الإخوة! في هذه الليلة عندنا حديثان بقيا من أبواب المساجد، ثم مراجعة عامة سريعة للباب كاملاً ... رضي الله عنه يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( عرضت علي أجور أمتي، حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ) قال المصنف: رواه أبو داود والترمذي واستغربه، وصححه ابن خزيمة.
قال الترمذي عقب روايته: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد ذاكرت فيه محمد بن إسماعيل -يعني البخاري - فاستغربه أيضًا، وقال: لا نعرفه إلا من حديث المطلب بن عبد الله بن حنطب . هذا هو الراوي عن أنس، المطلب بن عبد الله بن حنطب .
قال -يعني البخاري -: ولا نعرف للمطلب بن عبد الله سماعاً عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا قوله: حدثني من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: المطلب بن عبد الله بن حنطب روايته عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الغالب مرسلة، فإنه لم يسمع من أحد منهم إلا رواية واحدة، وهي قوله: حدثني من شهد خطبة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الترمذي: وسمعت عبد الله بن عبد الرحمن -وعبد الله بن عبد الرحمن هذا هو الإمام الدارمي فيما أعلم- يقول: لا نعرف للمطلب رواية عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً: الدارمي وافق البخاري على ما ذكر، قال الدارمي : وأنكر علي بن المديني أن يكون المطلب سمع من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى الكلام الذي أورده الترمذي عقب الحديث.
وقد أعلّ جماعة من العلماء هذا الحديث بثلاث علل:
الأولى: قالوا: إن في الحديث رجلاً اسمه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وعبد المجيد هذا مختلف فيه، والواقع أنه من خلال مراجعة أقوال أئمة الجرح والتعديل فيه يبدو أن الأكثرين من العلماء على توثيقه، خاصة في روايته عن ابن جريج، وقد روى هذا الحديث عن ابن جريج، فحكم جماعة بأنه ثقة خاصة في حديثه عن ابن جريج، وإن كان قد رُمي بالإرجاء، وهذه بدعة كما هو معروف، لكن الصحيح قبول روايته إذا لم يكن أمرًا متعلقًا ببدعته، إذاً: العلة الأولى هي عبد المجيد ضعفه بعضهم والأكثرون على توثيقه، فهذه العلة مندفعة.
العلة الثانية هي ابن جريج، وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي، وهو ثقة أيضًا لكنه مدلس، كما ذكر ذلك الإمام أحمد وابن حبان ويحيى بن معين، بل قال الدارقطني رحمه الله: تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس، لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح. إذاً: ابن جريج مدلس وتدليسه قبيح أيضًا؛ فإنه لا يدلس الحديث إلا إذا كان سمعه من المجروحين من الرواة الضعفاء، أما إذا سمع من ثقة فإنه يقول: حدثني فلان، لكن إذا سمع من مجروح فإنه قد يطوي اسمه ويرويه بالعنعنة أو نحو ذلك، فهذه عله قوية في الحديث. وقد رواه ابن جريج بالعنعنة.
العلة الثالثة: الانقطاع بين المطلب بن عبد الله بن حنطب وبين أنس بن مالك رضي الله عنه فإنه كما سبق لم يروه عنه.
الموضع الأول: ابن جريج ؛ لأن تدليسه احتمال الانقطاع كبير فيه كما ذكرت، والثاني المطلب بن عبد الله بن حنطب عن أنس رضي الله عنه.
الأولى: مسألة تنظيف المسجد وكنسه وإخراج القمامة منه؛ لقوله: ( حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ) وهذه المسألة مرت معنا في أول حديث في باب المساجد، وهو حديث عائشة : ( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب ).
والمسألة الثانية في حديث الباب: هي مسألة حفظ القرآن وعدم الغفلة عنه، والحديث في هذا الباب -كما رأيتم- ضعيف.
وقد ذكر المجد وغيره أنه أخرجه الجماعة أيضًا، وكذلك أخرجه مالك في الموطأ، وأخرجه ابن أبي شيبة والأثرم من طريق أبي قتادة رضي الله عنه بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعطوا المساجد حقها، قالوا: وما حقها يا رسول الله؟ قال: أن تصلي ركعتين قبل أن تجلس )، أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه والأثرم .
لهذا الحديث سبب ذكره مسلم رحمه الله في صحيحه من طريق أبي قتادة قال: ( دخلت المسجد فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا بين ظهراني الناس، قال: فجلست، فقال لي: أصليت ركعتين؟ قلت: لا، قال: ما لك جلست؟ قلت: رأيتك يا رسول الله جالسًا والناس جلوس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (فلا يجلس) يعني الجلوس للقعود في المسجد، لكن لو جلس لصلاة ركعتين وهو جالس، يعني: لو جلس بنية أن يصلي تحية المسجد وهو جالس هل في هذا من حرج؟ لا حرج فيه؛ لأنه من المعلوم أن أداء النافلة وهو جالس جائز، فلو جلس بنية صلاة تحية المسجد وهو جالس لم يكن في ذلك من حرج، ولم يكن مخالفًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مرتكباً لنهيه.
قوله عليه الصلاة والسلام: (حتى يصلي ركعتين) هذا العدد (ركعتين) له مفهوم قلة لا مفهوم كثرة، بمعنى: أن قول النبي عليه الصلاة والسلام: (حتى يصلي ركعتين) يعني: أنه لا يجزئه من تحية المسجد إلا ركعتان، فمثلاً: لو دخل والإمام يصلي الجنازة هل يجزئ هذا عنه تحية المسجد؟ لا يجزئه، ولو صلى سجدة للشكر في المسجد هل تجزئه؟ لا تجزئه، لو صلى سجدة للتلاوة هل تجزئه؟ لا تجزئه، لو صلى الوتر ركعة هل يجزئه؟ لا يجزئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى يصلي ركعتين)، لكن لو صلى أربعاً، هل في هذا من حرج؟ لم يكن في هذا من حرج، ولهذا قال أهل العلم: له مفهوم قلة لا مفهوم كثرة، يعني: لو صلى أكثر من ركعتين جاز له ذلك، المهم أن يصلي ركعتين فصاعدًا.
في المسألة قولان معروفان:
وأدلتهم على الاستحباب حديث الباب، فإنه فيه الأمر بصلاة ركعتين، وقالوا: هناك صوارف كثيرة تدل على أن هذا الأمر ليس للوجوب.
من هذه الصوارف التي صرفت الأمر عن الوجوب وصرفت النهي عن التحريم، منها: حديث ضمام بن ثعلبة -وهو في الصحيحين- لما ( سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما أوجب الله عليه؟ قال: خمس صلوات، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع )، فدل على أنه لا يجب في ذمة المكلف شيء من الصلوات إلا الصلوات الخمس، إلا ما أوجبه على نفسه بالنذر، هذا الصارف الأول.
الصارف الثاني: السبب الذي ذكرته لحديث الباب، وهو أن أبا قتادة دخل والنبي صلى الله عليه وسلم جالس والناس حوله جلوس فجلس، ومع ذلك لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالقيام، وإنما قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)، ولم يرد أنه قال لـأبي قتادة : قم فاركع ركعتين مثلاً.
أيضًا من الصوارف حديث ابن عباس في بعث معاذ إلى اليمن قال: ( فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ) جلوس الخطيب قبل الخطبة.
ومن الصوارف ما رواه أبو داود والنسائي عن عبد الله بن بسر ( أن رجلاً جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فتخطى رقاب الناس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اجلس فقد آذيت )، والحديث قال الحافظ ابن حجر في التلخيص : ضعفه ابن حزم بما لا يقدح فيه. وقد ذكره الطحاوي -هذا الحديث- من الصوارف التي تدل على عدم وجوب تحية المسجد؛ وذلك لأن الظاهر -والله أعلم- من حال هذا الرجل أنه جاء يتخطى رقاب الناس ليتقدم إلى موضع أو ما أشبه ذلك، هذا هو الظاهر، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون صلى في ناحية من المسجد، والاحتمال وارد، لكن الأقرب أنه لم يصل، وأنه جاء داخلاً لم يجلس ولم يصل فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالجلوس ولم يأمره بالصلاة، فهذا من الصوارف أيضاً.
ومن الصوارف حديث أبي واقد الليثي في قصة ( الثلاثة الذين جاءوا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه، فأما أحدهم فجلس إلى الحلقة، وأما الآخر فلم يجد مكانًا فجلس إلى جواره، والثالث انصرف، فقال: هذا آوى إلى الله فآواه الله، والثاني استحيا فاستحيا الله منه، والثالث أعرض فأعرض الله عنه ) ولم يذكر أنهما صليا.
من الصوارف أيضاً، أنه نقل جماعة من أهل العلم الإجماع على أن المحدث حدثًا أصغر يجوز له دخول المسجد والمكث فيه، ولو كانت تحية المسجد واجبة لكان الوضوء لها واجباً؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فلما أجمع العلماء على أنه يجوز للمحدث حدثًا أصغر أن يدخل المسجد وأن يمكث فيه، ونقل الإجماع على ذلك جماعة من الفقهاء؛ دل على أن تحية المسجد ليست بواجبة.
من الصوارف التي استدلوا بها آثار عن جماعة من الصحابة، أنهم كانوا يجلسون في المسجد ولا يصلون، فقد جاء عند ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم رحمه الله قال: (كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون، ورأيت ابن عمر رضي الله عنه يفعله)، وكذلك جاء عن نافع عن ابن عمر (أنه كان يمر في المسجد ولا يصلي فيه)، وإن كانت هذه الآثار ليست صريحة في أنهم جلسوا، ففيها احتمال أنه مر ولم يجلس، وكذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هناك احتمال أنهم يدخلون ثم يخرجون قبل أن يجلسوا، فحينئذ لا يكون في مثل هذه الآثار دليل، ومثل ما رواه حنش قال: (رأيت سويد بن غفلة يمر في مسجدنا، فربما صلى وربما لم يصل)، وعن خالد بن أبي بكر قال: (رأيت سالمًا -وأظنه سالم بن عبد الله - يدخل في المسجد حتى يخرج من الخوخة فلا يصلي فيه)، ومثل ما رواه حماد بن زيد عن جابر بن زيد قال: (إذا دخلت المسجد فصل فيه، فإن لم تصل فاذكر الله تعالى فإنها صلاة) هذه الصوارف.
هذه بعض الصوارف.
وأدلة القائلين بالوجوب عديدة، منها: حديث الباب، فإنه أمر، والأمر يقتضي الوجوب، كما في بعض روايات البخاري ومسلم : (إذا دخل أحدكم المسجد فليصل ركعتين قبل أن يجلس)، وفي رواية أخرى نهيٌ: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس) دليل على تحريم الجلوس، هذا الدليل الأول.
ومن أدلتهم أيضًا على الوجوب قصة سليك الغطفاني -وهي في الصحيحين، وإن لم يكن مسمى في جميع الروايات-: ( أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أصليت يا فلان؟ قال: لا، قال: قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما )، فهذا دليل -أولاً- على الأمر في قوله: (قم فاركع ركعتين)، والمقصود بالركعتين هنا هما تحية المسجد، وكذلك هناك وجه آخر للاستدلال بهذا الحديث، وهو أن استماع الخطبة واجب، فكونه انشغل عن استماع الخطبة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له به دليل على أن هذا الأمر الآخر واجب أيضًا، هذا وجه من أوجه استدلالهم بالحديث، وما حدث لـسليك الغطفاني حدث للنعمان بن قوقل -كما في الطبراني في الأوسط من حديث جابر رضي الله عنه- ( أنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فأمره أن يقوم فيصلي ركعتين )، وأيضًا رواه الطبراني في الأوسط أنه حدث لـأبي ذر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( قم فاركع ركعتين )، فهذه بعض أدلتهم على الوجوب.
أما حديث الصلاة حال دخوله والإمام يخطب؛ فإن للعلماء فيه كلاماً كثيرًا جدًا، لا يتسع المجال لذكره في أجوبتهم على الحديث، وهناك أجوبة قوية منها: أنه جاء في بعض الروايات ما يدل على أن دخول الرجل كان والنبي صلى الله عليه وسلم بين الخطبتين قاعد، ( جاء والنبي صلى الله عليه وسلم جالس على المنبر ) هكذا جاء في روايات عديدة، وفي بعضها: ( فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتم الرجل صلاته ) فهذه من الأجوبة، ومنها: أنه يحتمل أن يكون هذا قبل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حال الخطبة: ( إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت، ومن لغا فلا جمعة له )، وهذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب باتفاق العلماء.
فأجابوا بأجوبة عديدة، وإن لم تكن كل هذه الأجوبة كافية، إلا أننا نقول: من دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب فإنه يستحب له أن يصلي ركعتين، لماذا يصلي ركعتين؟ لأن هذه ورد فيها نص خاص، ولا شك أنه إذا جاء النص بطل القياس، فنقول: هذه فيها نص خاص عن النبي صلى الله عليه وسلم لا نحتاج معه إلى استخدام العقل في القياس أن هذا واجب وهذا واجب وأيهما يقدم أو يؤخر، فيها نص خاص وهو أن تصلي ركعتين إذا دخلت والإمام يخطب، لكن فيما عدا ذلك يبقى الأمر على ما هو عليه، ولا يدل هذا بالضرورة على الوجوب.
وقيل: لا تتدارك هذه الصلاة بل تفوت، وهذا منقول عن جماعة من الشافعية أيضاً، إذا جلس انتهى وقتها ولا يستدركها، ويحتمل أن يقول بعض الفقهاء -كما نقله المحب الطبري -: إن قبل القعود وقت فضيلة، وبعد القعود وقت جواز، ويحتمل أيضًا أن تكون قبل القعود أداءً، وبعد القعود قضاءً، والأقوى من الأقوال في مسألة القضاء وعدم القضاء أنه: إن لم يطل الفصل استحب له التدارك؛ فإن طال الفصل فلا يستحب له ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر