إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً فجاءت برجل فربطوه بسارية من سواري المسجد.. ) الحديث متفق عليه.
وعنه رضي الله عنه: ( أن عمر رضي الله عنه مر بـحسان ينشد في المسجد فلحظ إليه، فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ) متفق عليه.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله عليك، فإن المساجد لم تبن لهذا ) رواه مسلم.
وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك ) رواه النسائي والترمذي وحسنه.
أما أحاديث اليوم فسنأخذ منها ثلاثة أحاديث.
الحديث الأول منها هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً فجاءت برجل فربطوه في سارية من سواري المسجد )، والحديث -كما يقول المؤلف- متفق عليه.
أما هذه الترجمة فعليها مآخذ: (باب: الاغتسال وربط الأسير أيضاً في المسجد):
المأخذ الأول: أن الاغتسال ليس له مدخل في الباب الذي أوردها فيه، وهو كتاب الصلاة، فإن اغتسال الكافر إذا أسلم هذا الحكم يتعلق بباب الاغتسال في كتاب الطهارة، فإدخاله وإقحامه في كتاب الصلاة مما يلفت النظر، هذه واحدة.
الثانية: أنه قال: وربط الأسير أيضاً في المسجد، هذه الترجمة لها علاقة بكتاب الصلاة وبموضوع الصلاة والمساجد، لكن قوله: (وربط الأسير أيضاً في المسجد)، هذه يلاحظ عليها أنها مكررة مع الترجمة التي قبلها؛ لأن البخاري قال في الباب الذي قبله: (باب: الأسير أو الغريم يربط في المسجد)، وذكر فيه حديث أبي هريرة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ( إن عفريتاً من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي، فأردت أن آخذه فأوثقه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكم، ثم ذكرت قول أخي سليمان: (( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ))[ص:35] فتركته، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم خاسئاً ).
ففي الحديث ربط الأسير في المسجد، ربط الأسير في المسجد، ولذلك في الترجمة التي عندنا الآن قال: (وربط الأسير أيضاً في المسجد)، يعني: كأنها ترجمة مكررة مع التي قبلها، هذا مأخذ آخر على الترجمة.
المأخذ الثالث: أنه جاء في بعض الروايات في صحيح البخاري قال: (باب) ثم ساق حديث ثمامة بن أثال، ولم يذكر لا باب الاغتسال إذا أسلم، ولا ربط الأسير في المسجد، قال: (باب)، ثم ساق الحديث، ولم يذكر مسألة الاغتسال ولا ربط الأسير.
الوجه الرابع: أنه عند الإسماعيلي ترجمة: (باب: دخول المشرك المسجد)، وساق فيه حديث ثمامة بن أثال رضي الله عنه، فكأن هذه الترجمة من وضع بعضهم أضافها إلى صحيح البخاري أو إلى صنيع الإمام البخاري، كأنها كذلك وإن كان لا يمكن الجزم والقطع بهذا.
وأما مسلم رحمه الله فإنه قد روى الحديث في صحيحه : كتاب: الجهاد، باب: ربط الأسير وحبسه، والحديث رواه أبو داود والنسائي وغيرهما.
( وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فتُرك، فلما كان من الغد مر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما عندك يا
هذه هي قصة ثمامة بن أثال، وقصة ربطه في سارية من سواري المسجد.
وعلى كل حال فهو لم يهاجر حتى يكون ممن قبض على ثمامة بن أثال .
وقوله: ( فجاءت برجل ) كما في الرواية التي ساقها المصنف هاهنا لم يذكر الرجل، ولكن عُرف من القصة أن هذا الرجل هو ثمامة بن أثال بن النعمان بن مسلمة الحنفي، وهو سيد من سادات بني حنيفة، وفاضل من فضلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
في حكم دخول الكافر للمسجد أقوال عديدة، ذكر القرطبي في التفسير في تفسير قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] أنها خمسة أقوال، ويمكن تلخيص هذه الأقوال في قولين:
إذاً: يختلف رأي أبي حنيفة عن رأي الشافعي ومن وافقه في أن أبا حنيفة يجيز حتى دخول الحرم لليهود والنصارى، بخلاف المشرك الوثني فإنه لا يجوز له دخوله.
ولذلك يمكن أن نقول إجمالاً: إن رأي أبي حنيفة قريب من رأي هؤلاء، وكأن البخاري رحمه الله يميل إلى هذا القول بجواز دخول الكفار للمسجد، ولذلك بوب في صحيحه : (باب: دخول المشرك المسجد)، وساق فيه حديث ثمامة بن أثال -حديث الباب- مختصراً، فكأنه رحمه الله يميل إلى هذا.
وفي كلام ابن القيم في أحكام أهل الذمة ما يدل على أن هذه رواية في مذهب الإمام أحمد أيضاً.
ولأصحاب هذا القول أدلة، منها:
أولاً: حديث الباب، حديث أبي هريرة في قصة ثمامة رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أن يربط في سارية من سواري المسجد، كما في بعض الروايات: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به أن يربط )، وحتى لو لم تثبت هذه الرواية فإن النبي صلى الله عليه وسلم مر به ثلاث مرات، كل ذلك وهو يقرهم على ربطه في المسجد، فهذا من إقراره صلى الله عليه وسلم، وهو دليل على الجواز.
وأما قوله في آخر الحديث في الليلة الثالثة: ( أطلقوا
وفي رواية: ( أنه أمر بذلك عليه الصلاة والسلام )، ولم يكن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليفعلوا ذلك إلا وهم يعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم الرضا به والإقرار.
وثمامة ماذا كان دينه؟ مشركاً وثنياً، ولهذا لما قالوا له: ( صبوت؟ قال: لا، ولكني تبعت دين محمد صلى الله عليه وسلم )، فكأنه ما عد الشرك ديناً، الشرك الذي كان فيه قبل أن يسلم ما عده ديناً؛ لأن الصابئ: هو الذي انتقل من دين إلى دين آخر، فقال: (ما صبوت)، يعني: ما انتقلت من دين إلى دين، إنما انتقلت من الشرك وعدم الدين إلى الدين الحق، وهو الإسلام، هذه أحد الأوجه في معنى قوله: (صبوت)، هذا الدليل الأول.
الدليل الثاني: وفي الواقع أنني لم أر من استدل به منهم، لكنني أعتقد أنه يصلح دليلاً لهم، وهو ما ذكرته قبل قليل في رواية البخاري في الأسير يربط في المسجد: أن أبا هريرة ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن عفريتاً من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي، فأردت أن أوثقه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، ثم ذكرت دعوة أخي سليمان فتركته، قال: فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم خاسئاً )، ما وجه الدلالة من هذا الحديث على جواز دخول الكافر أو المشرك إلى المسجد؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يربط الشيطان في سارية من سواري المسجد، حتى يصبحوا وينظروا إليه كلهم، ولم يمنعه من ذلك إلا أنه تذكر دعوة أخيه سليمان.
فدل هذا على جواز ربط الكافر الوثني المشرك أو غيره في المسجد.
لو قال لنا قائل: إن الشيطان يدخل في المسجد أصلاً بدون إذن المؤمنين ولا رضاهم ولا موافقتهم فكيف يحتج بهذا؟! فماذا نقول، ماذا نجيب على ذلك؟ نقول: صحيح أن الشيطان يدخل في المسجد كما ورد في أحاديث كثيرة، لكن إرادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يربطه إلى سارية من سواري المسجد هذا أمر زائد على مجرد الدخول؛ لأنه إن ربطه النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن بمستطيع أن يخرج من المسجد وينفك من ربط النبي صلى الله عليه وسلم حتى يصبحوا، فكون الشيطان يستدام مربوطاً في المسجد دليل على جواز ذلك، ومن باب أولى: أنه يجوز أن يربط فيه المشرك أو الوثني أو غيرهما، فهذا مما يصلح -والله تعالى أعلم- دليلاً لهم.
من الأدلة أيضاً: قصة الأعرابي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام، وهي في الصحيح، الذي ربط بعيره، ثم قال: أيكم محمد؟! والقصة في البخاري وغيره، وفيها: أن هذا الرجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام وأركان الإسلام، وأسلم بعد ذلك، فكان وقت دخوله مشركاً، ومع ذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة، ولم يخرجوه من المسجد.
ومن الأدلة على ذلك أيضاً: ما رواه أبو داود عن أبي هريرة : ( أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ) وكأن ذلك في قصة الرجل والمرأة اللذين زنيا من اليهود فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شأنهما يحتكمون إليه، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم الدخول.
ومن الأدلة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُنزل بعض الوفود في المسجد )، بعض الوفود من الكفار الذين يأتون للسؤال عن الإسلام أو لغير ذلك من الأغراض، كان يُنزلهم في المسجد، ومن الوفود التي أنزلها النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد: وفد نجران .. نصارى نجران، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنزلهم في المسجد، وكذلك وفد ثقيف أنزلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، وهذه كلها معروفة عند أهل السير، ولو كان إنزالهم في المسجد محرماً لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أن عدداً من المشركين كانوا يترددون على المسجد ويدخلون عليه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكر عليهم، كما حدث لـأبي سفيان : دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، وكذلك قصة عمير بن وهب الجمحي الذي جاء من أجل أن يغتال الرسول صلى الله عليه وسلم ويقتله، فإنه دخل عليه وهو في المسجد.. إلى غير ذلك من الأحداث المعروفة المشهورة في السيرة.
فمن مجموع هذه الأدلة قالوا: إنه يجوز للكافر، وثنياً كان أو كتابياً أن يدخل المساجد مساجد المسلمين، إلا المسجد الحرام بـمكة فإنه لا يجوز دخوله؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28] على خلاف في المسجد الحرام ما هو؟ أهو الحرم كله، أم المسجد، أم مكة؟
ولهم في ذلك أدلة: منها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28].
وجه الاستدلال بهذه الآية: قالوا: إن الله تعالى نبه على العلة بقوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، وهذه العلة مصاحبة للمشرك في كل حال، فدلت على منعه من دخول المسجد، سواء كان المسجد الحرام أو غيره.
حتى قال ابن العربي رحمه الله: إن الاقتصار على منعه من المسجد الحرام بحجة قوله عز وجل: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ [التوبة:28] جمود على الظاهر، يقول: جمود على الظاهر؛ لأن الله تعالى نبه على العلة من المنع بقوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، وهذه العلة تقتضي منعهم من المسجد الحرام ومن غيره من المساجد.
وكذلك مما استدلوا به قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]، فإنهم قالوا: إن رفع المساجد وحفظها وتكريمها يقتضي منع الكفار من دخولها.
واستدل القرطبي لهم بما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول أو القذر )، والكافر والمشرك -يقول القرطبي - لا يخلو من شيء من ذلك، وفي الواقع يتضح لي جيداً أن وجه الاستدلال بهذا الحديث ليس بظاهر.
ومما استدلوا به ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إني لا أُحل المسجد لحائض ولا جنب )، ما وجه الاستدلال بهذا الحديث؟
وجه الاستدلال أنهم قالوا: هذا من قياس الأولى؛ أنه إذا منعت الحائض ومنع الجنب من دخول المسجد فإن الكافر من باب الأولى؛ وذلك لأن الكافر نجس بنص القرآن: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، وأما الحائض والجنب فإنهما طاهران بنص الحديث؛ وذلك في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن المؤمن لا ينجس )، فقالوا: إذا مُنع الحائض والجنب من دخول المسجد فإن الكافر من باب الأولى، هذا وجه.
الوجه الثاني في استدلالهم بالحديث أن الكافر غالباً يكون جنباً؛ لأنه لا يغتسل من الجنابة.
ومن أدلتهم: ما روي: ( أن أبا موسى كتب كتاباً إلى عمر فقرئ عليه في المسجد، وجاء أبو موسى، فطلب عمر الكاتب، فقال: يا أمير المؤمنين! إنه لا يدخل المسجد، قال ولم؟ قال: إنه نصراني )، وقد ذكر ابن القيم وغيره هذه القصة، وقال: دل على أن ذلك كان مشتهراً عند الصحابة؛ أن الكافر لا يدخل المسجد.
فهذه بعض الأدلة على تحريم دخول الكافر للمساجد.
وقد أجاب هؤلاء عن حديث ثمامة وما شابهه بأجوبة غير ناهضة:
منها: أن بعضهم ادعى النسخ؛ ادعى أنها منسوخة، ولا شك أن دعوى النسخ -كما سبق مراراً- تفتقر إلى معرفة المتقدم من المتأخر، وإلى أنه لا يمكن الجمع بينهما، يتعذر الجمع بينهما، فدعوى النسخ لا تصح.
وكذلك قال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم بإسلام ثمامة ، وهذا غريب! كيف يعلم بإسلامه ويربطه في المسجد ويسأله ثلاثة أيام: ما عندك فلا يخبره أنه مسلم؟! وحتى لو علم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه باطناً فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم بالباطن، إنما كان يحكم صلى الله عليه وسلم بالظاهر.
وقال بعضهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يتألفه بذلك حتى يرى المسلمين ويرى صلاتهم فيستأنس بذلك ويكون هذا سبباً في إسلامه. وقيل غير ذلك من الأجوبة.
بالمناسبة: حديث: ( لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ) ضعيف وسبق معنا الحديث، فلا يحتج به، ما أدري أنا نوهت بهذا أو فاتني.
على أي حال الفرق بين الكافر والجنب: هو أن الجنب يمكن له أن يتطهر ويدخل المسجد، بخلاف الكافر فإنه لو اغتسل بماء البحر فإنه نَجس، حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ولذلك الحائض تمنع من دخول المسجد على اختلاف بين أهل العلم، لكن الأقرب منعها من دخول المسجد، بعضهم قال: لأنها قد تلوث المسجد بدمها، وبعضهم قال: لعدم طهارتها في تلك الحالة، يعني: لوجود الحدث عليها الموجب للغسل، ولذلك لو استثفرت عندهم وتحفظت وأمن تلويث المسجد فمع ذلك لا يجوز لها دخول المسجد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة -كما في صحيح مسلم -: ( إن حيضتك ليست في يدك ) ( لما أمرها أن تناوله الخمرة -الفراش الذي يقعد عليه- قالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك ).
على كل حال الحائض لا تدخل المسجد لعدم الحاجة إلى ذلك، وهذا هو الراجح فيما يظهر.
إلا المسجد الحرام لا يدخل، لا يقرب المسجد الحرام أي نعم، وإن كان مبحث المسجد الحرام قد يأتي بشكل مفصل، فالآن قيدوا أنه يجوز دخولهم؛ في عامة المساجد للحاجة والمصلحة..
وهذا هو القول الأول، أما الترجيح بين مذهب أبي حنيفة ومذهب الباقين فلعله يأتي له مناسبة أوسع من هذه إن شاء الله تعالى.
ورواه مسلم في كتاب الفضائل، باب فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه
وفي الموضعين -يعني: في الصحيحين- إضافة إلى هذه القصة: أن حسان رضي الله عنه بعدما قال لـعمر ما قال، قال: ( قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم التفت حسان أبي هريرة أبا هريرة حسان أبو هريرة
وهذا فيه فائدة عزيزة وإن كانت لا تتعلق بالمساجد، لكنها نافعة، وهي الجزء المرفوع من الحديث الذي أسنده حسان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك أبو هريرة رضي الله عنه: ( أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ حسان
أولاً: قوله في حديث الباب: (حسان )، هو حسان بن ثابت أبو عبد الرحمن أحد شعراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من الأنصار، وله فضائل هذه إحداها.
وقوله: (يُنشِد) بضم الياء، وكسر الشين، يُنشِد من الإنشاد، أنشد يُنشِد أي: يقرأ أو يتلو أو يقول الشعر، وسيأتي الفرق بينها وبين يَنشُد بفتح الياء وضم الشين، فهاهنا تضبط بضم الياء وكسر الشين يُنشِد، (يُنشِد شعراً)، أي: يقوله ويقرؤه.
وقوله رضي الله عنه: (فلحظ إليه عمر)، أي: نظر إليه، وفي بعض الروايات (شزراً) يعني: بطرف عينه، وهذه النظرة من عمر رضي الله عنه ما هي؟ نظرة إنكار واستغراب، وكان عمر رضي الله عنه رجلاً مهيباً، فكان نظره يخيف، ولذلك عمر هل قال شيئاً لـحسان ؟ ما قال شيئاً، لكن حسان عرف الموضوع، فقال: ( قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك )؛ لأنه عرف أن النظرة هذه أبلغ من أي تعبير، فكان رجلاً مهيباً، فهذا معنى قوله: (لحظ إليه).
وقوله: (من هو خير منك) هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الجزء المرفوع الذي سقته ولم يسقه المصنف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أجب عني) أي: رد على المشركين ما يعيبون به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
و(روح القدس) هو جبريل عليه الصلاة والسلام.
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلـوا إلا أغنٌّ غضيض الطرف مكحول
إلى قوله يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدده فخاف منه:
نُبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمولُ
لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم أذنب وقد كثرت في الأقاويل
وقال:
كل خليل كنت آمله لا ألهينك إني عنك مشغول
ثم انتقل بعد ذلك إلى مدح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
إن الرسول لنور يُستضاء به مهندٌ من سيوف الحق مسلول
والقصيدة طويلة وهي من أجمل شعر كعب رضي الله عنه، وقد جاء في روايات عديدة -وإن كان بعضهم ضعفها وأعلها- لكن جاء في روايات متعددة أنه أنشدها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد.
إذاً: هذا مما يدل على جواز إنشاد الشعر في المسجد.
ومما يدل على جوازه أيضاً: ما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينصب لـ
من الأدلة كما ذكرت ما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينصب لـ
ومنها ما رواه الترمذي وأحمد عن جابر بن سمرة قال: ( شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة في المسجد وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية فيضحكون، وربما تبسم النبي صلى الله عليه وسلم )، والحديث قال الترمذي : حديث صحيح.
وأصل الحديث في صحيح مسلم في خبر بقاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر مع أصحابه فيتذاكرون أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم صلى الله عليه وسلم حتى تطلع الشمس حسناً أو حسناء، على كل حال هذه الرواية فيها زيادة: (أنهم يتناشدون الأشعار ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية).
ولا شك أن الأشعار ثابتة في الجاهلية منقولة، لكن الذين ينكرون الشعر الجاهلي هم ينكرون السنة أيضاً، فلا يعتبرون ولا يعتدون بها، هذه الأحاديث تدل على إنشاد الشعر في المسجد.
أما إنشاد الشعر مطلقاً بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو باب آخر باب واسع، فيه كتب قديمة وحديثة مصنفة في الأشعار: الإسلام والشعر وما قيل بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الحافظ ابن حجر عقب الحديث: وفي الباب عن جماعة من الصحابة وفي أسانيدها مقال، يعني: كأنه لا يثبت شيء منها خلا هذا الحديث، أو قال: وفي المعنى.
جمع العلماء بينها بأوجه:
منهم من قال بالنسخ كما هي العادة، أن حديث النهي ناسخ لأحاديث الإذن والجواز، وهذا القول قول ضعيف لا دليل عليه، ولا يكاد أن يوجد قائل به إلا واحد من الفقهاء ذكره -فيما أظن- الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وأنكر عليه ذلك.
الوجه الثاني من الجمع بين هذه النصوص والروايات: أن يقال بأن أحاديث الإذن دالة على الجواز، وأحاديث النهي دالة على الكراهة، فيكون إنشاد الشعر في المسجد جائزاً مع الكراهة.
والوجه الثالث: أن يقال: إن إنشاد الشعر في المسجد جائز بلا كراهة بشروط:
الشرط الأول: أن لا يكون من الشعر البذيء الفاحش الذي يكون قوله في المسجد مخلاً بحرمة المسجد ومكانته، فإن الكلام البذيء ممنوع في المسجد نثراً كان أو شعراً، فيشترط أن يكون الشعر غير فاحش ولا بذيء، وهذا الشرط ينبغي أن يُفهم في إطاره؛ لأنه إن صحت قصة كعب بن زهير فإن فيها نوعاً من الغزل العفيف اللطيف الذي لا يخرج عن حدود المعتاد؛ لأن من عادة العرب والشعراء في الجاهلية أنهم كانوا يبدءون قصائدهم بالغزل، ثم ينتقلون إلى أغراضهم، ولم يكن الغزل على وجهه حقيقة، إنما كان غرضاً من أغراض الشعر يبدءون به بحكم جريان العادة بذلك لا أكثر، وحين نقول: أن يكون الشعر ليس فيه فحش ولا تفحش فإن هذا لابد منه.
وبناء عليه فإن إنشاد الشعر الفاحش البذيء في المسجد لا يجوز على سبيل الاستحسان له.
الشرط الثاني -وقد نص عليه جماعة من أهل العلم أيضاً-: ألا يكون غالباً، يعني: ألا يكثر إنشاد الشعر في المسجد حتى كأن المسجد أصبح مثل الأسواق التي كان العرب يتناشدون فيها الأشعار في الجاهلية، أو قل: مثل النوادي الأدبية، أو مثل بعض المجمعات التي يتنادى لها الشعراء من كل مكان، مثل المربد الذي كان يقام في العراق وغيره؛ يجتمع إليه الشعراء من كل مكان ويلقون فيه القصائد والأشعار في كل فن وغرض، هذا لا يسوغ ولا يصلح، ولهذا روى البخاري في صحيحه قوله عليه الصلاة والسلام: ( لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً وصديداً خير له من أن يمتلئ شعراً )، وقد بوب البخاري على هذا الحديث (باب: ما يكره أن يكون الغالب عليه الشعر).
وهذا هو الذي عليه الأئمة؛ عليه كلام البخاري : (باب الشعر في المسجد)، والشافعي، والنسائي كذلك بوب في سننه بنحو ذلك، والنووي -كما في المجموع - وابن حجر وغيرهم.
إذاً: الفرق بين (يَنشُد ويُنشِد) أن الذي يَنشُد هو الذي يطلب، أما الذي يُنشِد فهو الذي يُعرِّف، هذا الفرق بينهما.
والضالة -يَنشُد ضالة-: الضالة: جمعها ضوال، وهي تطلق على الحيوان خاصة، على ما فقده الإنسان من إبل أو بقر أو غنم أو نحوها من الحيوان خاصة، أما إن كانت من غيرها فإن الغالب أنها تسمى لقطة أو لقيطاً أو ضائعاً أو ما أشبه ذلك.
وقد جاء مثل ذلك -مثل حديث الباب- عن بريدة في صحيح مسلم : ( أن رجلاً نشد في المسجد، فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا وجدت، إن المساجد لم تبن لهذا ).
قال الترمذي : وعليه بعض أهل العلم، وهو مذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وهو الصحيح. انتهى كلام الترمذي .
أقول: وهو الصحيح عند الشافعية: أنه يُمنع نشد الضالة في المسجد، ويدخل في ذلك المنع من البيع والشراء والإيجار والاستئجار ونحوها، يحتمل المنع التحريم ويحتمل الكراهة،
وفي المسألة وجه آخر أن ذلك جائز من غير كراهة، وهو قول ضعيف في مذهب الشافعي .
سبب المنع: إشغال الناس، وأن المساجد لم تبن لهذا، ورفع الأصوات بذلك.
وغفر الله تعالى لي ولكم.
واللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر