إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قول المصنف رحمه الله تعالى: (باب المساجد).
المساجد: جمع مسجِد بكسر الجيم على الراجح المشهور، وهناك وجه ضعيف بفتحها فيقال: مسجَد، وقد ينطقها بعضهم بإبدال الجيم ياءً فيقولون: مسيد، وهذا موجود عند بعض العامة وفي بعض البلاد، فتحصل على ذلك ثلاثة أوجه: بالجيم المفتوحة، والمكسورة، وبإبدالها ياءً.
والمقصود بالمسجد: هو المكان المهيأ المعد لأداء الصلوات الخمس، فخرج بذلك المصلى، وهو المكان المعد -مثلاً- لصلاة العيد، أو لصلاة الجنازة كما يوجد في بعض الأمصار وكما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مكان مخصص لصلاة العيد، ومكان آخر مخصص لصلاة الجنائز، فهذه تسمى مصليات ولا تسمى مساجد، ومثله: الأربطة أو الرباطات والمدارس والزوايا وغيرها، فإنها ما خصصت وهيئت لإقامة الصلوات، وإنما خصصت إما للسكن أو للدراسة أو لطلب العلم أو لغير ذلك، فهي لا تعطى حكم المسجد إذاً، وقل مثل هذا بالنسبة للمكتبات -مثلاً- وما شابهها.
فالمسجد: هو المكان المهيأ المخصص لإقامة الصلوات الخمس فيه.
ومما يتعلق بفضلها ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها -وفي رواية أخرى: البقاع-، وأبغض البقاع، وأبغض البلاد إلى الله تعالى أسواقها )، فدل هذا الحديث على أن المساجد هي أفضل البقاع عند الله عز وجل، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68]، فاختار المساجد من بين بقاع الدنيا وخصها بالفضيلة.
وأفضل المساجد هو المسجد الحرام ثم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم المسجد الأقصى، وقد جاء في ذلك أحاديث، وكذلك جاء حديث في فضيلة مسجد قباء: ( وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي إليه في كل سبت ماشياً فيصلي فيه ركعتين )، وقد جاء: ( أن من صلى فيه ركعتين كان له كأجر عمرة ).
فاختصاراً للوقت سوف أذكر بعض الأحكام:
وهناك تكلمنا أيضاً عن هذه الأشياء وغيرها مما ذكر بعض أهل العلم أنه لا يصلى فيه، وبينا القول الراجح في كل منها، وكان حق مثل هذه الأشياء أن تذكر أيضاً في باب المساجد، وهكذا يذكرها كثير من الفقهاء في باب المساجد.
والحديث رواه أيضاً -إضافة إلى من ذكر المصنف-: رواه ابن ماجه في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والبزار في مسنده.
وقد رواه الترمذي بإسنادين:
الأول منهما مرسل من حديث عروة بن الزبير : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور ).
والثاني متصل من حديث عروة بن الزبير عن عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببناء المساجد في الدور ).
ثم قال الترمذي : والصحيح الأول، يعني: الحديث المرسل من رواية عروة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذا معنى قول المصنف: (وصحح الترمذي إرساله): أنه صحح الرواية المرسلة التي لم تذكر فيها عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
وقد خالفه في ذلك كثير من أهل العلم فرجحوا المتصل؛ وذلك لأن إسناده قوي صحيح، بل وعلى شرط البخاري ومسلم، وفضلاً عن ذلك فإنه هو الذي رواه أكثر أهل العلم، وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما.
وله شاهدان -أيضاً- مرفوعان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أولهما: حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أنه قال: ( أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتخذ المساجد في ديارنا وأن ننظفها )، وحديث سمرة هذا رواه أبو داود وأحمد في مسنده وسنده صحيح.
والشاهد الثاني: هو من حديث عروة بن الزبير عمن حدثه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نصنع المساجد في دورنا وأن نصلح صنعتها ونطهرها )، وهذا أيضاً رواه أحمد في مسنده.
قد يقول قائل أو يسأل سائل: عروة الآن في الحديث الأخير الذي ذكرته شاهداً يقول: (عمن حدثه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) من الذي حدثه؟ يحتمل -وهو أقرب- أن يكون الذي حدثه عائشة رضي الله عنها.
إذاً: فلماذا ذكرنا الحديث كأنه حديث آخر غير حديث الباب، كأنه شاهد له؟ لأنه في الأول قال: مرسل عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مرسل ما ندري قد يكون عروة رواه عن تابعي آخر ما هو عن صحابي، هذا الأول.
الثاني: عروة عن عائشة، صرح عروة بأنه سمع الحديث من عائشة ، هنا عروة قال: عمن حدثه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهل هذا الحديث مرسل: عروة عمن حدثه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل هو مرسل؟ لا. ليس بمرسل، لماذا؟ لأننا تيقنا أن عروة رواه عن صحابي، فليس فيه إرسال، لم يحذف فيه الصحابي، لكن الصحابي في هذا الحديث مبهم لم يبين من هو؛ ولذلك أهل العلم لا يذكرون هذا الحديث -مثلاً- في مسند عائشة، إنما يذكرونه في مسند بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أو مسند من حدث عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثلما يقول: عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عمن سمع النبي صلى الله عليه وسلم، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كل هذه أسانيد متصلة؛ لأن جهالة الصحابي لا تضر، فكون الصحابي مجهولاً هذا لا يضر.
فالحديث على كل حال صحيح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أصل في بناء المساجد وتنظيفها وتطييبها .
وهناك قول آخر مرجوح وضعيف، وهو أن المقصود بالدور: البيوت المعروفة، وقد يستدل أصحاب هذا القول بأحاديث، مثل ما روى الشيخان من حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه: ( حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه أنكر بصره، وطلب إليه أن يأتي إلى بيته فيصلي في مكان يتخذه مصلى، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليه ضحى وسأله: أين تحب أن أصلي؟ فأشار إلى مكان فصلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم )، وكأنه كان بعض الصحابة رضي الله عنهم يخصصون في بيوتهم مكاناً للصلاة يصلون فيه؛ لكثرة ما يصلون من النوافل وقيام الليل وغير ذلك، وهذا كان معروفاً عندهم والله تعالى أعلم، كما يتبين من بعض الروايات في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك في حديث عتبان وعائشة وغيرهما، ولا بأس في هذا العصر أن يتخذ الإنسان في بيته مكاناً مخصصاً للصلاة، خاصة وقد كثر وجود التصاوير في البيوت، فتخصيص مكان في البيت يكون محفوظاً من دخول الصور فيه يصلي فيه الإنسان ما تيسر له هذا أمر حسن، وله أصل كما في حديث عتبان الذي أشرت إليه.
على أي حال المقصود بالدور -كما ذكرت- على الراجح: الأحياء التي يسكنها الناس والقبائل كما عبر سفيان، كأنه كان كل قبيلة تسكن في حي من الأحياء .
الأولى: فضيلة بناء المساجد، وقد جاء في بناء المساجد نصوص كثيرة، منها الآية الكريمة قوله عز وجل: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]، فإن الإذن بذلك إذن ببنائها ورفع بنائها، ورفع مكانتها، وأن يذكر فيها اسم الله عز وجل.
ومنها ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من بنى لله مسجداً بنى الله له مثله في الجنة )، وهذا الحديث فيه فضيلة بناء المسجد، وأن الجزاء من جنس العمل: فمن بنى لله مسجداً بنى الله تعالى له مثله في الجنة، وهل المقصود هنا بالمثلية أنه مثل المسجد من كل وجه؟
لا. إذاً: إما المقصود بالمثلية هاهنا مثله من حيث إن كلاً منهما بيت، وأما ما عدا ذلك فالأمر مختلف: ( فإن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ [السجدة:17]، قال الله تعالى عن نعيم الجنة: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25].
إذاً: هذا بيت وهذا بيت، لكن شتان بينهما، قال صلى الله عليه وسلم: ( إن جبريل أمرني أن أبشر
وقد شرط صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن يكون بناه لله، قال: ( من بنى لله مسجداً )، يعني: ما بناه رياءً، ولا سمعة، ولا ليمدح به، ولا من أجل أن يكتب أنه بني على نفقة المحسن الكبير أو المتبرع أو المتفضل.. أو.. أو، إنما لوجه الله عز وجل؛ ولذلك يحرص على أن يخفي صدقته حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، وقد جاء في بعض الروايات: ( يبتغي بذلك وجه الله )، لكنها لا تصح، ويغني عنها قوله في رواية الصحيحين: ( من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة ).
وإن كان المسجد صغيراً؟ نعم وإن كان المسجد صغيراً، ولذلك جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة )، تستطيع أن تسجد في قدر مفحص القطاة؟! ما تستطيع أن تسجد، وإنما المقصود في ذلك -يعني: التعبير- ولو كان المسجد صغيراً: ( من بنى لله مسجداً كقدر مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة )، والحديث رواه ابن حبان والبزار والدارقطني وقال العراقي : إسناده صحيح .
وقال بعض أهل العلم: إن الحديث على ظاهرة (كمفحص قطاة)، بمعنى: أن تشارك في بناء مسجد بحيث يكون المبلغ الذي دفعته يغطي قدر مفحص القطاة في المسجد، هنا يبني الله تعالى لك بيتاً في الجنة، وعلى كل حال فقد ورد في فضيلة بناء المسجد، (وأن من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة)، جاء فيها ما يزيد على ثلاثين حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الباب مما يصلح أن يقال: إن الأحاديث فيه أحاديث متواترة، ولم أشأ أن أطيل بذكر هذه الأحاديث فهي معروفة في مظانها، منها: حديث عن عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي ذر وواثلة بن الأسقع وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صنف الإمام الدمياطي جزءاً في الأحاديث الواردة في المساجد سماه: جزء المساجد، صنف الدمياطي جزءاً في المساجد ولا أظنه مطبوعاً، لم أقف عليه مطبوعاً، جمع فيه الأحاديث الواردة في فضيلة المساجد وفضيلة بنائها وما يتعلق بها، كما أن للزركشي كتاباً اسمه: إعلام الساجد بأحكام المساجد، وهو مطبوع في مجلد، وإن كان في الكتاب مآخذ، لكنه كتاب جمع أحكام المساجد، وبعض الأحاديث الواردة فيها.
وفي موضع تنظيف المساجد أيضاً نصوص، منها قوله تعالى: أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36]، فإن من رفع المساجد تنظيفها وإزالة الأقذار والأوساخ عنها.
وأما الأحاديث فقد جاء في ذلك أحاديث عدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها: ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شاباً، ففقدها النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنها -أو عنه-، فقالوا: ماتت يا رسول الله! فقال: هلا كنتم آذنتموني بذلك، فكأنهم صغروا أمرها وشأنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دلوني على قبرها أو قبره. فدلوه عليه -على القبر- فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن هذه القبور مملوءة على أهلها -أو على أصحابها- ظلمة وإن الله تعالى ينورها بصلاتي عليهم )، فدل الحديث على فضيلة قم المسجد وكنسه وتنظيفه، ولذلك فقد النبي صلى الله عليه وسلم هذه المرأة أو هذا الشاب الذي كان يقم المسجد وسأل عنه، وعاتب الصحابة على سكوتهم وعدم إخبارهم النبي صلى الله عليه وسلم بموته، مع أنه مات في ليل وكرهوا أن يزعجوا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
ومن الأحاديث الواردة في هذا الباب ما رواه أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت علي ذنوب أمتي، فلم أر ذنباً أعظم من سورة من كتاب الله عز وجل أو آية حفظها رجل ثم نسيها )، والحديث رواه أبو داود والترمذي في جامعه، وقال الترمذي : حديث غريب، وقد ذاكرت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري - في هذا الحديث فاستغربه.
إذاً: الحديث ضعيف عند الترمذي، وهو أيضاً ضعيف عند البخاري وعند غيرهما من أهل العلم، فيه علتان أو ثلاث علل:
العلة الأولى: الضعف، ضعف بعض رواته: عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد.
والثانية: أن فيه انقطاعاً في موضعين من سنده، فالحديث ضعيف، وأحببت أن أنوه بذلك؛ لأنني وجدت كثيراً من طلبة العلم يستعظمون حفظ القرآن ويتركون الحفظ خشية أن ينسوه بسبب هذا الحديث الضعيف، فيترك بعضهم حفظ القرآن يقول: أخشى أن أقع في ذنب وهو أن أنسى آية أو سورة مما حفظت، فأقول: الحديث -كما سمعتم- ضعيف فيه ضعف وانقطاع، وبناءً على ذلك فإنه ينبغي للإنسان أن يحفظ القرآن ويحرص على أن يذاكره ويراجعه ويتعاهده كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن فاته شيء من ذلك فإنه لا إثم عليه إن شاء الله تعالى.
والشاهد من الحديث -على فرض صحته- هو الأول، أوله قوله: ( عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ).
وفي مصنف ابن أبي شيبة عن يعقوب بن زيد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتبع غبار المسجد بجريدة ).
وكذلك روى ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم : ( أن المسجد كان يرش ويقم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم و
وقد جاء في ذلك أيضاً أحاديث كثيرة، منها ما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما -وسبق- قال: ( بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ رأى نخامة في قبلة المسجد فتغيظ على الناس ثم حكها )، زاد أبو داود في سننه بسند صحيح: ( قال: أحسبه قال: فدعا بزعفران فلطخه به )، يعني: وضع الزعفران مكان هذه النخامة.
ومن ذلك أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه في آخر الصحيح من حديث جابر الطويل، وفيه قال جابر رضي الله عنه: ( أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عرجون ابن طاب -وهو نوع من تمر المدينة، كان في يد النبي صلى الله عليه وسلم عرجون من هذا النخل- فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في قبلة المسجد نخامة فحكها بالعرجون، ثم أقبل علينا فقال: أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟! قال: فخشعنا، فقال صلى الله عليه وسلم: أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟! قال: فخشعنا. ثم قال صلى الله عليه وسلم: أيكم يحب أن يعرض الله عنه؟! فقلنا: لا أينا يا رسول الله؟ -يعني: لا أحد منا يحب أن يعرض الله تعالى عنه- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله تعالى قبل وجهه، فلا يتنخمن قبل وجهه ولا عن يمينه، ولكن عن يساره تحت قدمه، فإن عجلت به بادرة فليقل هكذا. ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه فطوى بعضه على بعض، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أروني عبيراً أروني عبيراً -يعني: ائتوني بعبير- فانطلق غلام من الأنصار يشتد إلى أهله -يسرع يركض إلى بيته- فجاء بخلوق في راحته، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه على رأس العرجون ثم لطخ به على أثر النخامة. قال
والشاهد من الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: (أروني عبيراً)، فجاء الغلام من الأنصار بالخلوق، والخلوق -على هذا- هو العبير، قال الأصمعي : إن الخلوق هو العبير أو العبير هو الخلوق، وهو أخلاط من الطيب تجمع بالمسك.
وقال ابن قتيبة : لا أرى القول إلا ما قاله الأصمعي، يعني: الأصمعي وابن قتيبة يرون أن الخلوق: هو العبير، وهي أخلاط منوعة من الطيب تجمع بالمسك وتخلط به.
وقيل: إن العبير هو المسك ذاته.
فدل الحديثان على مشروعية تطييب المسجد واتخاذ الخلوق أو الطيب فيه، خاصة إذا وجد ما يدعو إلى ذلك، وقد كان عمر رضي الله عنه يجمر المسجد كل جمعة، يعني: يأتي بالطيب أو البخور في كل جمعة، وهذا الأثر رواه ابن أبي شيبة وأبو يعلى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك كان نعيم بن عبد الله يسمى: المجمر، وأبوه كذلك -عبد الله - كان يسمى: المجمر، كلاهما كان يلقب بذلك كما ذكره الحافظ ابن حجر في كتابه في الألقاب، ذكر أن نعيماً وأباه كل منهما يلقب بالمجمر؛ لأنه كان يجمر المسجد، يأتي بالبخور والطيب إلى المسجد؛ ولذلك استحب بعض السلف أن يأتي بالطيب والزعفران إلى المسجد، وقال الشعبي : هو سنة، وقد نقل عن الإمام مالك في ذلك شيء من الخلاف يسير، نقل عنه أنه أنكر تجمير المسجد، أنكر الإمام مالك تجمير المسجد، لم ينكر الطيب كله، إنما المنقول عنه -فيما اطلعت عليه- تجمير المسجد لا غير.
ولا شك أنه ما دام المسجد مطلوباً أن يطيب ويبخر؛ فإن من باب أولى أنه مطلوب إزالة الروائح الكريهة عن المسجد، سواء كانت هذه الروائح من المسجد نفسه، كفرش المسجد أو من دورات المياه المجاورة للمسجد والمغاسل، أو من البيوت المحيطة به والأماكن، أو كانت من المصلين أنفسهم، ويكفي في هذا ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم )، وفي لفظ آخر قال: ( فلا يؤذنا في مسجدنا )، فدل على أنه ينهى عن ذلك لئلا يؤذي المصلين ولئلا يؤذي الملائكة أيضاً، فينبغي صيانة المسجد عن الروائح الكريهة أياً كان مصدرها .
يقول المصنف: متفق عليه.
زاد مسلم : ( والنصارى )، يعني: ( قاتل الله اليهود والنصارى ).
وقد رواه مسلم بلفظين:
أحدهما: كلفظ المصنف سواءً: ( قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )، هذا اللفظ الأول.
ثم ساقه بلفظ آخر وهو: ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ).
فـمسلم رحمه الله ساق الحديث بلفظين: أولهما: كلفظ المصنف سواءً بسواء كلفظ البخاري، والثاني: بلفظ (لعن)، وهو الذي زاد فيه قوله: (و النصارى )، ( لعن الله اليهود والنصارى ).
فقوله: ( قاتل الله اليهود ) يعني: لعنهم، وقد جاء لعنهم على هذا كثيراً في السنة النبوية.
وقيل: إن معناها: قتلهم وأهلكهم، وعلى كل حال هذا كقوله تعالى في شأن المنافقين: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة:30]، ففيها مثلما في الآية.
قال: لأنه قال: ( اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )، والنصارى ليس لهم إلا نبي واحد وهو عيسى عليه الصلاة والسلام.
ويجاب عن هذا الإشكال بأجوبة عديدة، منها:
أن يقال: إن للنصارى أنبياء، لكنهم لم يكونوا رسلاً، كالحواريين ومريم على قول، وهذا ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وإن كان لم يذكر دليلاً له.
وقيل: إن قوله: (اتخذوا قبور أنبيائهم): إنه يدخل فيه الأنبياء والصالحون، فتسامح في ذلك.
وقيل: إنه جعل الصورة العامة، يعني: المجموع مقابل المجموع، فقال اليهود والنصارى، وفي مقابل ذلك قال: (اتخذوا قبور أنبيائهم)، يعني: أنبياء اليهود والنصارى، وعلى هذا لا إشكال، ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النصارى على انفراد ما عبر بذلك، كما في الحديث الذي سوف أشير إليه بعد قليل، حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن
وكلها أجوبة سديدة، خاصة الثلاثة الأخيرة.
الوجه الرابع أن يقال: إن النصارى يعظمون كثيراً من أنبياء اليهود كما هو معروف، وقد يعظمون قبورهم أو يبنون عليها المساجد.
أم حبيبة
وأم سلمة
ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها: مارية وما فيها من التصاوير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل )، وقد رواه مسلم أيضاً في كتاب المساجد، الباب المشار إليه سابقاً.وأم سلمة اسمها هند بنت أبي أمية المخزومية، وهما من أمهات المؤمنين، وقد هاجرتا الهجرتين... المدينة المنورة.
منها ومن أهمها -أيضاً-: حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما، وحديثهما في الصحيحين عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: ( لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: نزل به الموت، احتضر صلى الله عليه وسلم- طفق يطرح خميصة على وجهه -يغطي بها وجهه- فإذا اغتم صلى الله عليه وسلم كشفها وهو يقول: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا )، وإنما قال ذلك صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت تحذيراً لأصحابه أو من بعدهم أن يصنعوا هذا به بعد موته عليه الصلاة والسلام، وهذا دليل على أن هذا حكم باقٍ محكم غير منسوخ.
ومن الأحاديث الواردة حديث عائشة رضي الله عنها وهو في الصحيحين أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا، قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً ).
ومن ذلك أيضاً حديث جندب بن عبد الله -وقد سبق في صحيح مسلم -: ( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )، وقد سبق ذكر طائفة لا بأس بها من هذه الأحاديث قبل قليل، وذكرت هناك الأحكام المتعلقة بهذا الموضوع، مسألة حكم بناء المساجد على القبور، حكم دفن الموتى في المساجد، حكم الصلاة في المقابر، والأقوال في ذلك، والقول الراجح، وسقت ما تيسر من الأحاديث هناك.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين. .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر