وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لينتهينَّ أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم ).
والحديث رواه مسلم رحمه الله في كتاب الصلاة، (باب النهي عن رفع الأبصار إلى السماء في الصلاة).
ومثله ما رواه مسلم في صحيحه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم )، فزاد في هذه الرواية: ( عند الدعاء في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم ).
ومن شواهده أيضاً ما رواه ابن ماجه وابن حبان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا ترفعوا أبصاركم إلى السماء ) يعني: في الصلاة.
ومن شواهده أيضاً ما رواه الطبراني في معجمه الكبير عن كعب بن مالك وأبي سعيد الخدري بمعنى حديث الباب.
فهذه خمسة شواهد: حديث أنس، وحديث أبي هريرة، والثالث حديث ابن عمر، والرابع كعب بن مالك وأبي سعيد الخدري .
خمسة شواهد كلها جاءت في سياق النهي عن النظر إلى السماء حال الصلاة.
وفي إحدى روايتي مسلم قيد ذلك بالدعاء ( عند الدعاء ).
والخطف: هو الأخذ بسرعة، خطف الشيء: يعني أخذه بسرعة، كما قال الله عز وجل: يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ [البقرة:20]، قال: فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ [الحج:31] يعني: تأخذه على عجل، تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ [الأنفال:26] يعني: يأخذونكم بسرعة.
فقوله: (أو لتخطفن أبصارهم) يعني: لتأخذن أبصارهم بسرعة فلا يعود إليهم البصر ويصبحون عمياناً.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (أو لتخطفن أبصارهم) فسره العلماء بأحد تفسيرين:
الأول: قالوا: إن هذا وعيد من النبي صلى الله عليه وسلم على من يرفع بصره إلى السماء وهو يصلي، وعيد شديد؛ حتى إنه اشتد قوله في ذلك صلى الله عليه وسلم، كما في رواية البخاري : ( فاشتد قوله في ذلك ) وهدد من فعل هذا الفعل المنكر -وهو أنه يرفع رأسه إلى السماء- هكذا -وهو يصلي- هدده بأنه: إما أن ينتهي عن هذا الفعل ويتوب، وإما أن يخطف بصره فلا يعود إليه.
هذا وعيد؛ ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا العمل محرم، بل بالغ ابن حزم فقال: إنه مبطل للصلاة، كما سوف تأتي الإشارة إليه.
ويحتمل -وهذا هو المعنى الثاني- أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: (أو لا ترجع إليهم) وفي رواية: (أو لتخطفن أبصارهم) هو من باب الخشية فعلاً على بصر المصلي؛ وذلك لأن الملائكة تتنزل في حال الصلاة، كما سبق في درس الأسبوع الماضي أن على يمين المصلي ملكاً، فالملائكة تتنزل في حال الصلاة، وكما ثبت في الصحيحين في قصة أسيد بن حضير ( لما كان يقرأ القرآن في صلاة الليل فتنزلت الملائكة حتى جال في الفرس جولة فخشي أن تطأ ابنه يحيى أبا يحيى أبا يحيى
إذاً: يكون المعنى الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم خشي على من يرفع بصره إلى السماء وهو يصلي أن تبهر أنوار الملائكة الأبرار الذين يتنزلون على المصلين، أن تبهر بصره وتخطفه بنورها فلا يعود إليه بصره، ولاشك أن المعنى الأول هو الأقوى، والمعنى الثاني ذكره بعضهم، ذكره الداوودي ونقل عن أبي مجلز من التابعين.
والأول أقوى، ويقويه رواية البخاري : ( اشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم ).
المسألة الأولى: هل هذا النهي مقيد بحال الدعاء، أم أنه شامل للصلاة كلها؟
الروايات في هذا على وجهين: من الروايات ما جاء مطلقاً في الصلاة من غير تخصيص بحال من أحوال الصلاة، وفي بعض الروايات أن ذلك مقيد بحال الدعاء، كما في رواية مسلم عن أبي هريرة ؛ فإنه قال: ( لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم ) فقيده بالدعاء، وبقية روايات مسلم والبخاري وابن ماجه وابن حبان والطبراني ليس فيها تقييد بالدعاء ولا في غيره، بل فيها نهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة، فهل هذا النهي خاص بحال الدعاء أو عام في الصلاة كلها؟
الأظهر أن هذا عام في كل أحوال المصلي، سواءٌ كان في دعاء أو في قراءة قرآن أو في غير ذلك؛ فإن المصلي لا يشرع له، بل هو منهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة، سواء كان يدعو أو يقرأ القرآن أو ما شابه ذلك.
رجحت أن النهي عام حال الصلاة لعدة أوجه:
أولها: أن الخاص كما هو معروف هو أحد أفراد العام فيدخل فيه، وتأكيد النهي عن شيء لا يفيد أن النهي لا يشمل غيره، بل نقول: إنما خص النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء في الصلاة لسبب، وهو: أن الغالب أن رفع البصر إلى السماء يكون حال الدعاء، يعني: فعل الناس؛ ولذلك تلاحظون مثلاً أن الناس في رمضان عند القنوت غالباً ما يرفعون أبصارهم إلى السماء، بل كثير منهم يفعلون ذلك؛ لأنه إذا حصل اجتماع القلب على الله عز وجل وحصل في القلب ذل وانكسار ورغبة ملحة ولهفة وافتقار؛ فإن الإنسان أحياناً -وهو لا يشعر- يرفع بصره إلى السماء ليدعو، فيكون تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم للدعاء ليس لأن الحكم مقصور عليه، لكن لأنه هو الذي يحدث غالباً من الناس أنهم يرفعون أبصارهم عند الدعاء، وهذا الخاص هو أحد أفراد العام فيدخل فيه ويكون النهي عنه وعن غيره، هذه واحدة.
الثانية: أن معظم الروايات جاءت مطلقة في الصلاة من غير تقييد بحال الدعاء.
والثالثة: أن المعنى -والله تعالى أعلم- يليق بأن يكون النهي عن رفع البصر في الصلاة كلها، لماذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة؟ لماذا نهى عن ذلك؟
أولاً: فيه التفات عن القبلة أو انصراف عن القبلة، فهو يشبه الالتفات؛ لأن المصلي مأمور باستقبال الكعبة في صلاته، فإذا رفع بصره إلى السماء كأنه التفت عن القبلة، فهو كمن التفت ذات اليمين أو التفت ذات الشمال من هذا الوجه، هذا سبب.
وهذا السبب هل هو خاص بحال الدعاء أو عام في الصلاة كلها؟
عام في الصلاة كلها، فالمصلي في كل الصلاة مأمور باستقبال القبلة.
الأمر الثاني: أنه ينافي كمال الخشوع والأدب مع الله عز وجل؛ فإن العبد الذليل المفتقر إلى الله عز وجل مطرق الرأس مطأطئ نظره في موضع سجوده، هذه صفة الخاشع الذليل، أما الإنسان الذي يرفع بصره هكذا فهذه صفة الإنسان السيئ الأدب المعرض عن صلاته.
وقد يقال بالسبب الثالث، وهو: خشية أن تخطف أبصارهم أنوار الملائكة، وإن كان هذا فيه ضعف.
فالمعنى يدل على أن النهي في الصلاة كلها حال الدعاء وفي غيره من الأحوال.
أما في غير الدعاء -يعني: في الأحوال العادية- فلا حرج على الإنسان أن ينظر إلى السماء، وقد جاء في أحاديث كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع بصره إلى السماء، منها حين كان ينتظر تحويل القبلة كان ينظر إلى السماء: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144] هذه حالة.
وأيضاً: حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في غزوة بدر رفع يديه صلى الله عليه وسلم، لكن لا أعلم أنه كان يرفع بصره إلى السماء.
أيضاً: رؤيته في أول الوحي جبريل عليه الصلاة والسلام في الأفق في صورته التي خلق عليها.
أيضاً: أنه ( كان حين يقوم من آخر الليل يقرأ الآيات العشر من آخر سورة آل عمران ثم ينظر في السماء ويقول: ويل لمن قرأها ولم يتفكر ).
أيضاً في حالات أخرى.
كما كان يشير بإصبعه إلى السماء: ( اللهم هل بلغت؟ ).
وحديث ( فرفعت رأسي فإذا ملك الجبال ).
هناك حديث أبي الدرداء، وكذلك حديث نقل عن جماعة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم ( رفع بصره إلى السماء وقال: هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدرون منه على شيء )، حديث زياد بن لبيد الأنصاري، وله شاهد من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
إذاً: رفع البصر إلى السماء في الأحوال العادية ليس بمكروه ولا ممنوع، بل جائز ليس هناك كلام عنه.
الكلام في حال الصلاة انتهينا منه أيضاً، في غير الصلاة إذا كان الإنسان يدعو، إذا كان يدعو في غير الصلاة هل يكره له رفع بصره إلى السماء أم لا يكره؟ في هذا خلاف، كرهه قوم منهم شريح كما ذكره ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما، قالوا: إنه يكره للإنسان في الدعاء في غير الصلاة أن يرفع بصره.
والأكثرون من أهل العلم على جوازه، والراجح أنه جائز؛ لأن القائلين بالكراهة لا دليل معهم في الدعاء خارج الصلاة.
ذكر بعضهم الإجماع على كراهة ذلك، كما ذكره ابن بطال، الإجماع على أنه يكره أن ينظر الإنسان إلى السماء وهو في الصلاة.
وجمهور الفقهاء على أن هذه الكراهة للتنزيه، أنه يكره ولا يحرم.
وذهب الظاهرية إلى أنه للتحريم، وهذا ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى، أن النهي يكون للتحريم، تحريم النظر إلى السماء حال الصلاة، ولم يظهر لي ما هو الصارف الذي يصرف الحديث عن التحريم مع أن فيه النهي المؤكد باللام والنون المشددة، وتهديد من التفت ونظر إلى السماء في صلاته أن يخطف بصره أو لا يرجع إليه، اللهم إلا أن يكون الصارف عن ذلك -وهو صارف متجه- أن يكون الصارف عن النهي عن الالتفات في الصلاة، سبق في حديث عائشة أنها قالت: ( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ).
( اجلس غدر؛ فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان ) فهذه قصة سياق عائشة رضي الله عنها للحديث.
وقوله: (وهو يدافعه الأخبثان) الأخبثان هما: البول والغائط، ويحمل عليهما ما كان مثلهما، كمدافعة الريح مثلاً؛ فإنها بمعنى مدافعة البول والغائط .
والسر في المسألة -والله تعالى أعلم- أن مدافعة الإنسان للحدث تمنع حضور قلبه في الصلاة وإقباله عليها وخشوعه فيها، وتجعله مهتماً بإنهائها بأسرع وقت حتى يذهب لقضاء حاجته، وفي أثناء صلاته لا يكون مقبلاً عليها لأنه مشغول، وقد سبق بيان أن من أسباب الخشوع أن يزيل الإنسان كل ما يشغله عن الصلاة، فهذا هو السر في المسألة.
ومكروهة تحريماً -يعني: حرام- عند الظاهرية، وهي رواية في مذهب الإمام أحمد ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
ومما استدل به الظاهرية على أن النهي للتحريم ما رواه أصحاب السنن -رواه أبو داود والترمذي - عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث لا يحل لأحد أن يفعلهن: لا يحل له أن يؤم قوماً فيخص نفسه بالدعاء دونهم، ولا أن ينظر في قعر بيتهم بغير إذنهم، فإن فعل فقد خانهم -وفي رواية: فإن فعل فقد دخل- ولا أن يصلي وهو حاقن حتى يتخفف )، وهذا الحديث عن ثوبان له شاهد عند أحمد في مسنده عن أبي أمامة رضي الله عنه، وله شاهد عند أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظ أبي هريرة : ( ولا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصلي وهو حقن حتى يتخفف )، والحديث حسن بمجموع طرقه .
وقد روى أهل السنن أيضاً -وهذا يؤكد مذهب الظاهرية والرواية عن الإمام أحمد، أو يصلح دليلاً لهم- رووا عن عبد الله بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أراد أحدكم أن يذهب إلى الخلاء وأقيمت الصلاة فليبدأ بالخلاء )، والحديث قال الترمذي : حديث حسن صحيح، ورواه أيضاً أحمد في مسنده .
والأولى في هذه المسألة أن يقال بالتفصيل في ذلك: فإن كانت مدافعة الأخبثين على الإنسان شديدة بحيث إنها تلهيه عن صلاته وتشغله عنها وتدعوه إلى الإسراع فيها إسراعاً يخل بخشوعها، وربما بدره الحدث وسبقه فإنها لا تجوز حينئذ ولا يصح أن يصلي وهو على تلك الحال، وإن كانت المدافعة يسيرة بحيث إن الإنسان يحتملها ولا تضره لا في صحته ولا في صلاته فإنها مكروهة حينئذ، والصلاة معها جائزة وصحيحة.
المسألة الأولى: لو كان الإنسان يدافعه الأخبثان بحيث لو قضى حاجته خرج الوقت في آخر الوقت، يقول: الآن أنا متوضئ لو صليت أدرك الوقت، لكن لو ذهبت لقضاء الحاجة ثم الوضوء لخرج الوقت، فهل نقول له: صل لإدراك الوقت، أو نقول: اقض الحاجة ولو خرج الوقت؟
القول السديد -إن شاء الله- في هذا أن يقال: فيه تفصيل: فإن كانت المدافعة شديدة بحيث تضره في صحته وتؤثر في طمأنينته في الصلاة وتمنعه من حضور القلب فإننا نقول: يقضي الحاجة، ثم يتوضأ ويصلي ولو خرج الوقت، أما إن كانت خفيفة ويحتملها فيصلي ثم يقضي حاجته بعد ذلك.
الصحيح أنه يقال له في الحالتين: اقض حاجتك، وما دام ليس معك ماء فإنك تتيمم، والسبب في ذلك ظاهر؛ لأن صلاته وهو حاقن حكمها على أقل الأحوال أنها مكروهة، لكن صلاة المتيمم إذا لم يجد معه ماء صحيحة، ليس فيها كراهة، فنقول له: تقضي الحاجة ثم تتيمم ولا شيء عليك في ذلك، فالتيمم قد أذن الله تعالى به لمن لم يجد الماء.
ورواه مسلم في كتاب الزهد، (باب: كراهة التثاؤب وتشميت العاطس)، ونحو ذلك في كتاب الزهد.
ورواه الترمذي في جامعه وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري ومن حديث جد عدي بن ثابت .
قال الترمذي : وقد كره قوم من أهل العلم التثاؤب في الصلاة، وقال إبراهيم : إني لأدفع التثاؤب بالنحنحة، جاء في بعض نسخ الترمذي في الصلاة: ( إني لأدفع التثاؤب في الصلاة بالتنحنح ).
الوجه الثاني: أن الإنسان إذا تثاءب ففتح فمه دخل فيه الشيطان، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر قال: ( فإن الشيطان يدخل )، فنسبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشيطان؛ لأنه بسببه ولأنه يفرح به ويرضى ويسر به ( التثاؤب من الشيطان ).
(فإذا تثاءب أحدكم) قوله: (فإذا تثاءب) في بعض الروايات في مسلم : ( فإذا تثاوب ) بالواو، وهذه هي الدارجة في لهجتنا العامية، نقول: تثاوب يعني: تثاءب. فهي لغة عربية صححها جماعة من أهل اللغة، والرواية الثالثة: (تثأب) بدون مد، (تثأب) على وزن تفعل بدون مد، وقد صحح قوم أيضاً هذه الرواية.
وأصل التثاؤب أو التثأب مأخوذ من: تثأب الرجل إذا كسل واسترخى؛ وذلك لأن التثاؤب الذي هو خروج الهواء وفتح الفم يكون بسبب الكسل والاسترخاء .
وقوله عليه الصلاة والسلام: (فليكظم ما استطاع) (فليكظم)، هذا من الكظم وهو الإمساك، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاسترسال مع التثاؤب، وأمر أن يكظم الإنسان ما استطاع هاهنا، فإذا لم يستطع فإنه يمسك بيده على فيه، ومعنى الكظم: هو أن يمسك فمه فلا يفتحه ويدفع التثاؤب مهما قدر وإن وجد سببه، كما قال الله عز وجل: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84]، وقال: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كظم غيظاً ) يعني: وجد سببه في نفسه ثم دفعه، فالمعنى أنه إذا أراد أن يتثاءب يمنع نفسه ولا يفتح فمه بقدر ما يستطيع، فإذا غلبه فإنه يغطي فمه.
أولاً: أن الشيطان يدخل، كما سبق أن ذكرت في رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإن الشيطان يدخل )، جاء ذلك في حديث أبي هريرة وفي حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فليكظم ما استطاع؛ فإن الشيطان يدخل )، ومعنى قوله: (يدخل) إما أنه يدخل في جوف الإنسان، فقد جاء في الحديث أنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإما أن المعنى أنه يدخل أي: كأنه يكون قد هيمن على الإنسان حينئذ وتملكه بحثه على الكسل والفتور والاسترخاء وكثرة الأكل المفضي إلى كثرة النوم وقلة العبادة وقلة الخير وطلب العلم، فهذا وجه.
الوجه الثاني: أن الشيطان يضحك من الإنسان، ولذلك جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة ( أن الإنسان إذا تثاءب فقال: (ها) ضحك الشيطان )، بعض الناس إذا تثاءب يظهر منه صوت، يقول: (ها) بتثاؤبه، فهذا إذا فعله ضحك منه الشيطان، ولماذا يضحك الشيطان؟ يضحك لأنه بلغ من الإنسان ما يريد، وأظهر من الإنسان ما لا يليق ظهوره من خلقته، فإن فتح الفم وظهور فم الإنسان وطرف حلقه من الأمور التي لا تليق بالمروءة والإنسانية، فإذا فعلها الإنسان ولم يكظم ولم يغط فمه سر الشيطان بذلك.
والسبب الثالث: لأن الإنسان إذا قال: (ها)، فإنه كأنه تخلى عن طبيعته الإنسانية وتشبه بالحيوانات، فهو يشبه الكلب الذي يعوي؛ ولذلك جاء في رواية عند ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وليكظم ما استطاع ولا يعوي )، فكأنه شبه الصوت الذي يخرج من المتثائب بعواء الكلب أو غيره من الحيوانات، وهذا الذي يفرح به الشيطان؛ لأن تشبه الإنسان بالحيوان مما يفرح له الشيطان.
أولها: الكظم كما في حديث أبي هريرة وأبي سعيد .
الثاني: أن يغطي فمه كما في حديث أبي سعيد، أن يمسك فمه بيده، ونحو أن يضع ثوبه أو غترته على فمه أو شيئاً من ذلك حتى لا يظهر شيء من فمه.
والثالث: هو ألا يقول: (ها)، ولا يظهر منه صوت عند التثاؤب.
الصواب: أن التثاؤب مكروه في كل حال في الصلاة وفي غيرها، ولكنه في الصلاة أشد كراهية، ولذلك يستحب للإنسان أن يدفعه في الصلاة، وإذا لم يدفعه يستحب له أن يغطي فمه، وهذه الحركة في الصلاة -حركة تغطية الفم باليد أو بطرف الثوب أثناء الصلاة- ما حكمها، من أي أنواع الحركة؟ من الحركة المستحبة، فيمكن أن تعتبر مثالاً للحركة المستحبة في الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، وقد أمر بعض السلف بأن يمسك المتثائب عن القراءة في الصلاة؛ لأنه إذا صار يقرأ القرآن وهو يتثاءب فإنه يغير الحروف والمعاني ويغير مخارج الحروف.
وأسند ابن أبي شيبة في مصنفه عن مجاهد وعكرمة والمشهورين من التابعين أنهم أمروا من تثاءب في الصلاة أن يمسك عن القراءة حتى ينتهي من تثاؤبه.
ما معنى قوله: لا يتمطى؟ يتمطى ما معناها؟
معناها بلهجتنا الدارجة: يتمغط، وهي من الحركة التي يفعلها الإنسان حين يكون قائماً من النوم أو ما أشبه ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر