إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18-19].
أما بعد:
فعندنا في هذه الليلة ثلاثة أحاديث: أولها حديث أبي سعيد ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام )، حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ).
أرجو أن تصبروا قليلاً؛ لأن هذه المسألة فيها شيء من الغموض, مسألة الاضطراب في سند الحديث، ولو لم تضبطوا أنتم الاضطراب على الأقل تفهمون ما معنى الاضطراب الذي يذكر في بعض الأحاديث.
قال الترمذي : وهذا حديث فيه اضطراب, فرواه -هذا الوجه الأول من أوجه رواية الحديث- سفيان الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلاً, يعني: سفيان الثوري روى الحديث عن عمرو بن يحيى عن أبيه, أبوه من هو؟ أبوه يحيى بن عمارة .
إذاً: الوجه الأول في رواية الحديث أو في إسناد الحديث من رواية سفيان الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا مرسل سقط من إسناده أبو سعيد .
قال: ورواه - هذا الوجه الثاني - حماد بن سلمة عن عمرو عن أبيه عن أبي سعيد , هذا الوجه الثاني حماد بن سلمة عن عمرو بن يحيى عن أبيه -وهو يحيى بن عمارة - عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم, هذا الوجه الثاني.
الوجه الثالث: قال الترمذي رحمه الله: ورواه محمد بن إسحاق عن عمرو بن يحيى عن أبيه، قال: وكان عامة روايته عن أبي سعيد، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هذا ثلاثة أوجه: سفيان الثوري -على حسب ما ذكر الترمذي الآن- يقول: عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
حماد بن سلمة يقول: عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم.
محمد بن إسحاق يقول: عن عمرو بن يحيى عن أبيه وكان عامة ما يرويه عن أبي سعيد , وهذه مرحلة وسط، ما ذكر أبا سعيد ولا أهمله, بل أشار إلى أن عامة روايات يحيى بن عمارة عن أبي سعيد .
هذه الأوجه التي ذكرها الترمذي، ثم عقب بذلك بقوله: وكأن رواية الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه أصح وأثبت مرسلاً. إذاً: الترمذي رجح المرسل, هذا كلام الترمذي .
والحديث رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد والدارمي والشافعي وابن حبان والحاكم والبزار وأبو يعلى والدارقطني والبيهقي وغيرهم كثير كثير, وسيأتي ذكر بعضهم.
إذاً: الحديث له عدة طرق أذكرها باختصار فيما يلي:
روى الحديث -كما سبق ذكر بعضهم- حماد بن سلمة وعبد الواحد بن زيد , وهذان روايتهما في عدة مصادر، منها كتاب المحلى لـابن حزم ، حماد بن سلمة وعبد الواحد بن زيد هذان اثنان.
الثالث: عبد العزيز بن محمد الدراوردي، ورواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي عند الترمذي، هي رواية حديث الباب, أشرت إليها قبل قليل, هي موجودة عند الترمذي , ورواها أيضاً الدارمي والحاكم في مستدركه , هذا الثالث: عبد العزيز بن محمد الدراوردي .
والرابع: سفيان الثوري وروايته عند البيهقي .
والخامس: محمد بن إسحاق وروايته عند الإمام أحمد في مسنده .
هؤلاء خمسة، أعيدهم: حماد بن سلمة . الثاني من هو؟ عبد الواحد بن زيد، هذان عند ابن حزم في المحلى . الثالث: عبد العزيز الدراوردي عند الترمذي والدارمي، والرابع: سفيان الثوري عند البيهقي، والخامس: محمد بن إسحاق عند الإمام أحمد في مسنده .
هؤلاء الخمسة يضاف إليهم سفيان بن عيينة عند الإمام الشافعي , فيكونون ستة تقريباً, هؤلاء الستة أجمعوا على روايته بهذا الإسناد عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا موصول أو مرسل؟ عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم, هذا موصول أو مرسل؟ موصول متصل. هؤلاء الستة كلهم رووه بهذه الصورة عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ووافق هؤلاء الستة أيضاً عمارة بن غزية، فإنه روى هذا الحديث -كما عند الحاكم في مستدركه - عن يحيى بن عمارة عن أبيه عن أبي سعيد، يعني: متصلاً مرفوعاً, وإسناد الحاكم صحيح على شرط مسلم كما قال, ووافقه الذهبي , وهو كما قال.
إذاً: هذه سبع طرق كلها تذكر الحديث بالسند المتصل, هذه طريقة في رواية الحديث وسياق إسناده.
الطريقة الثانية: هي رواية الحديث مرسلاً, وهذه جاءت من طرق أيضاً: فرواه سفيان بن عيينة -كما عند أبي داود والشافعي , وهي الرواية التي أشار إليها الترمذي - عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً, هذه واحدة.
وكذلك رواه سفيان الثوري -كما عند أبي يعلي - عن عمرو بن يحيى عن أبيه لم يجاوز به أباه, يعني: لم يذكر: عن أبي سعيد . إذاً: ابن عيينة والثوري رويا الحديث مرة موصولاً ومرة مرسلاً.
قبل أن أذكر الترجيح بين هذين الوجهين أريد أن أقول: هل وضح لديكم الآن الفرق بين الروايتين؟ باختصار -يمكن الواحد ما حفظ الأسماء وما ضبطها- نقول: الحديث جاء بوجهين:
مرة متصلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا رواه سبعة رواة.
ومرة جاء مرسلاً منقطعاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولم يذكر أبا سعيد، وهذا رواه اثنان: الثوري وابن عيينة , والثوري وابن عيينة ما روياه على هذا الوجه دائماً، مرة رووه متصلاً ومرة رووه مرسلاً, هذه واحدة.
الرواية الأخيرة التي هي رواية الثوري ؛ لأن هذا آخر ما ذكرت لكم، أن سفيان الثوري رواه كما في مسند أبي يعلى المطبوع وغيره, معروف هذا نقله عنه الأئمة، رواه سفيان الثوري مرسلاً, وقد خفيت هذه الرواية على الشيخ أحمد شاكر رحمه الله كما في تعليقه على مسند الإمام أحمد، فإنه قال لما ذكر كلام الترمذي والبيهقي في أن سفيان الثوري رواه مرسلاً، قال: أنا أتعجب من الترمذي والبيهقي كيف ذكرا أن الثوري رواه مرسلاً, وأنا ما رأيته مرسلاً للثوري، إنما رأيته مرسلاً من رواية سفيان بن عيينة . فكأنه اختلط عليه سفيان بـسفيان ؛ لأن الثوري اسمه سفيان وابن عيينة اسمه سفيان , يقول: ظن أن ابن عيينة هو الثوري , والواقع يقول: إنه ما رواه الثوري مرسلاً, وقد وهم أحمد شاكر رحمه الله في هذا, فإن رواية الثوري جاءت مرسلة كما ذكرت لكم, وهي في مسند أبي يعلى موجودة, ممكن تراجعون في المطبوع لتتأكدوا منها، حتى نص على أنها مرسلة، قال: لم يجاوز به أباه, يعني: لم يذكر به أبا سعيد الخدري.
أيهما أرجح في نظركم: الرواية المرسلة أو المتصلة؟
هذا الترمذي رجح المرسلة, قال: رواية سفيان أثبت وأقوى, فرجح الرواية المرسلة, وكذلك الدارقطني في العلل رجح الرواية المرسلة, ومثلهم البيهقي .
إذاً: الترمذي والدارقطني والبيهقي رجحوا المرسلة, ولكن الراجح عند أكثر علماء الحديث -وهو الأقوى من حيث دراسة الإسناد- أن الراجح هي الرواية المتصلة , وهذه هي التي أشار إلى تصحيحها البخاري رحمه الله في جزء القراءة خلف الإمام, وكذلك ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في مستدركه والذهبي وابن حزم وابن دقيق العيد والشيخ الإمام ابن تيمية، فإنه قال: إن هذا الحديث صحيح, ومن أعله بالإرسال فكأنه لم يطلع على جميع طرقه, وكذلك ابن التركماني في الجوهر النقي في تعليقه على سنن البيهقي , وصححه من المعاصرين الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي والشيخ الألباني في إرواء الغليل , وهذا هو المعتمد وهو الأقوى، أن الحديث صحيح موصول, يعني: أن السند الصحيح هو عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: خلاصة الكلام أن حديث: ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ) حديث صحيح موصول , وأن قول المصنف هاهنا: (وله علة), ليس بجيد, فإن هذه العلة مدفوعة بما سبق.
الترمذي
-كما أسلفت- كـعلي بن أبي طالب
وعبد الله بن عمرو
وأبي هريرة
وجابر
وأنس بن مالك
وعبد الله بن عباس
وأبي ذر
وغيرهم. وقد سبق ذكر هذه الأحاديث، وذكر من خرجها في أول باب التيمم، إذاً: سبقت هذه الأحاديث في أول باب التيمم. هذه الفائدة الأولى: أن الأرض كلها مسجد إلا ما استثني, كما سيأتي تفصيله لاحقاً إن شاء الله تعالى. الفائدة الثانية في الحديث: منع الصلاة في المقبرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا المقبرة)، ولحديثأبي مرثد الغنوي
الآتي: (الأزهري
وغيره, وأما استخدام الحمام بمعنى الحش -أي: الخلاء، أي: مكان قضاء الحاجة- فهذا اصطلاح عرفي دارج عند الناس, ولكنه غير معروف في اللغة ولا في لسان الشارع. إذاً: المقصود بالحمام هاهنا هو مكان الاستحمام، مكان الاغتسال, وليس مكان قضاء الحاجة، والحديث دليل على منع الصلاة في مكان الاستحمام المعد لذلك, وسوف يأتي الكلام عنه تفصيلاً إن شاء الله تعالى. الفائدة الرابعة: هي شرطية طهارة البقعة للصلاة, وهذا أطلقه كثير من الفقهاء, قالوا: إن هذه الأحاديث تدل على اشتراط طهارة البقعة, والأجود أن نقول: اشتراط إباحة البقعة؛ حتى يدخل فيه كل ما منع من الصلاة فيه, فإن المنع من الصلاة في المقبرة, وفي الحمام, وفي المزبلة, وفي الأرض المغصوبة ليس لأنها نجسة, بل لأمر آخر غير النجاسة كما سيأتي بيانه. إذاً: الأجود أن نقول: اشتراط إباحة البقعة، يعني: أن تباح الصلاة فيها فلا تكون نجسة, ولا تكون مغصوبة, ولا يكون هناك سبب آخر يمنع من أداء الصلاة فيها.وقد رواه البيهقي -كما ذكرت- وقال: تفرد به زيد . يعني: لم يروه غيره, والواقع أن زيداً لم يتفرد به, بل قد رواه غيره, فرواه ابن ماجه وغيره من طريق أخرى ليس فيها ذكر زيد , رواه من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنه, وهذا الإسناد أيضاً فيه ضعف, فإن فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث , وفيه اختلاف كثير، وفيه عبد الله بن عمر العمري، وعبد الله بن عمر العمري هذا فيه ضعف أيضاً , ولذلك قال أبو حاتم -كما في كتاب العلل - قال: وهما جميعاً واهيان. يعني: الإسنادان كلاهما واهٍ, فالحديث ليس له إسناد يثبت, أما الإسناد الأول فهو تالف, وأما الإسناد الثاني فهو ضعيف أيضاً, فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث مختلف فيه, وفيه عبد الله بن عمر العمري وفيه ضعف, فالحديث لا يصح بحال.
وجاء عن عائشة رضي الله عنها في المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل به -يعني: حضرته الوفاة- قال صلى الله عليه وسلم: ( لعنة الله على اليهود والنصارى ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. قالت رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا ) وحديثها متفق عليه.
وقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه نحو ما جاء عن عائشة رضي الله عنها.
ومن الأحاديث الواردة في منع الصلاة على القبور والصلاة بين القبور ما رواه مسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ( إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد, ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك )، ومثل هذه الأحاديث ما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم, ولا تتخذوها قبوراً )، ما وجه الدلالة من الحديث؟
يعني: شبه البيت الذي لا يصلى فيه بالمقبرة, وذلك لما هو مستقر في أذهانهم من أن المقبرة لا يصلى فيها، فأمر بالصلاة في البيوت, وألا تجعل كالقبور لا يصلى فيها, فهذه الأحاديث كلها تدل على منع وتحريم الصلاة بين القبور والصلاة في المقابر.
قال كثير من الفقهاء -كما ذكره الشافعي رحمه الله وغيره- العلة: هي أن هذا الموضع مظنة النجاسة, فإن القبور تنبش ويظهر فيها التراب والصديد ولحوم الموتى ودماؤهم وتختلط بالتراب, وذلك ميتة، هذه الأشياء كلها ميتة, وهي نجسة, فتنجس التربة التي اختلطت بها هذه الأشياء, ذكر ذلك الشافعي في كتاب الأم , وذكره عامة الفقهاء, هذه هي العلة الأولى.
والعلة الثانية -وهي الأقرب والأقوى-: أن ذلك ليس لنجاسة القبور، وإنما لأن هذا يخشى منه أن يؤدي إلى أن تتخذ القبور مساجد, ويخشى أن يؤدي إلى بناء المساجد على القبور, فيأتي الناس إلى قبر فلان العالم أو العابد أو الولي أو النبي فيبنون عليه مسجداً, وقد يؤدي إلى أن يقبر الأولياء والصالحون والعباد والزهاد في المساجد, ثم يتدرج الأمر حتى يعبدوا من دون الله تعالى, ولذلك لعن النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد, ونهى عن ذلك, نهى عن أن يتخذ قبره صلى الله عليه وسلم مسجداً.
إذاً: هذه هي العلة المعتمدة: أن هذا يؤدي إلى اتخاذ القبور مساجد, ويتدرج الأمر إلى عبادة المقبورين والأولياء والصالحين والتقرب إليهم من دون الله, واتخاذهم وسائط وشفعاء، كما حدث في قوم نوح وغيرهم، حيث إن هؤلاء الذين ذكرهم الله - ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر - كانوا قوماً صالحين, فلما ماتوا نسي العلم فعبدوا من دون الله تعالى, هذه هي العلة المعتمدة, ويراجع في هذا المبحث المهم كتاب نفيس للشيخ محمد ناصر الدين الألباني اسمه: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد , فهذا الكتاب مهم في هذا الباب, هذه هي العلة المعتمدة, ومما يرجح أن هذه هي العلة -حسب ما ظهر لي- جمعت أربعة مرجحات لم أجدها مجتمعة في موضع واحد:
المرجح الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبور, (إلى) كما في حديث أبي مرثد الغنوي : ( لا تصلوا إلى القبور ), وما معنى قوله: (لا تصلوا إلى القبور)؟ هل يعني الصلاة عليها.. الصلاة فوقها؟ هل يعني الصلاة فوق القبر؟ لا، إنما يعني أن تجعله بينك وبين القبلة, وهل يلزم إذا صلى الإنسان إلى قبر أن تكون الأرض التي فيها نجسة, فيها أثر من أثر الموتى؟ أبداً, قد تكون أرضاً طاهرةً نقية ليس فيها لا صديد ولا لحوم ولا شيء من أثر الموتى, فالنهي عن الصلاة إلى القبور دليل على أن العلة هي خشية أن يتدرج الأمر إلى عبادة هؤلاء المقبورين, وأقل ما فيه أنه ذريعة إلى الشرك, وأنه تشبه بـاليهود والنصارى , ولذلك يقول أنس رضي الله عنه: [ رآني عمر وأنا أصلي إلى قبر, فقال لي: القبر القبر القبر! قال: فرفعت رأسي أحسبه يقول: القمر -يقول أنس رضي الله عنه: رفعت رأسي أنظر إلى السماء أحسبه يقول: القمر- فقال: أقول: القبر لا تصل إليه ] وهذا الأثر ذكره البخاري تعليقاً, ورواه عبد الرزاق بسند صحيح بتمامه .
إذاً: الصلاة إلى القبر منهي عنها, وهذا يدل على أن العلة تتعلق بخشية تعظيم المقبورين, ولذلك رجح الإمام ابن قدامة في المغني وغيره من الفقهاء رجحوا أن الصلاة إلى القبر -يعني: استقبال القبر- لا تصح, بخلاف الصلاة إلى بقية الأشياء المنهي عن الصلاة فيها, كما لو استقبل الإنسان مثلاً الحمام, أو استقبل مثلاً المجزرة أو المزبلة أو غيرها, فإن الصلاة حينئذٍ صحيحة, أما لو استقبل القبر فإن الصلاة غير صحيحة, رجح هذا ابن قدامة وغيره من فقهاء الحنابلة, قال: لأن العلة إما أن تكون تعبدية فيما يتعلق بالقبر أو خشية اتخاذها مساجد, أو للتشبه بمن يعظمها من اليهود والنصارى , هذا المرجح الأول على أن العلة ليست النجاسة, أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة إلى القبر, وهذا لا مدخل للنجاسة فيه.
المرجح الثاني: جواز صلاة الجنازة في المقبرة, وقد ثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة, من هذه الأحاديث الواردة في صلاة الجنازة: ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه ( أن رجلاً مات, فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه, فقالوا: مات يا رسول الله! فقال: دلوني على قبره, فدلوه عليه, فصلى عليه ) والحديث متفق عليه.
ومنها: حديث ابن عباس -وهو متفق عليه أيضاً- ( أنه مر مع النبي صلى الله عليه وسلم على قبرٍ منبوذٍ -أو: على قبرِ منبوذٍ- فأمهم وصلوا خلفه )، أم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وصلوا خلفه صلاة الجنازة على هذا القبر المنبوذ أو على قبر هذا المنبوذ, والحديث أيضاً متفق عليه, ما معنى قوله: (على قبرٍ منبوذٍ أو على قبرِ منبوذٍ)؟ ما المعنى؟
قيل: المعنى الأول: (منبوذ) يعني: قبر منفرد ليس مع القبور, إنما هو قبر واحد ليس مع المقابر، وعلى هذا تصير (منبوذ) صفة للقبر.
الوجه الثاني: (على قبرِ منبوذٍ) بالإضافة, وحينئذ (منبوذ) صفة للمقبور, فما معنى كونه منبوذاً؟
يعني: ولد زنا, معناه أن أمه لما ولدته ألقته كما تفعل الزانيات عافانا الله وإياكم, إذا ولدت فإنها تلقي بولدها عند باب المسجد, أو في مكان اجتماع الناس حتى يأخذوه, فيكون الرسول عليه السلام صلى عليه إشارة إلى أن هذا بريء, وليس له ذنب, ليس عليه من جرم والديه شيء: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم:37] أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [النجم:38] وكلتا الروايتين وردت.
المهم الشاهد أن الرسول عليه السلام صلى صلاة الجنازة على هذا القبر المنبوذ, فدل على أن صلاة الجنازة تقع على القبر وفي المقبرة ولا تمنع, ولو كانت المقبرة نجسة هل تصلى فيها الجنازة؟ لا تصلى فيها الجنازة, كما هو معروف.
قال الإمام أحمد : ومن يشك في الصلاة على القبر؟! جاءت الصلاة على القبور عن النبي صلى الله عليه وسلم من ستة وجوه كلها حسان, وهذا كان معروفاً عند الصحابة، حتى قال نافع رحمه الله: [ صلينا على عائشة وأم سلمة في وسط البقيع , وكان الإمام أبو هريرة , وحضر عبد الله بن عمر ] وهذا الأثر رواه عبد الرزاق وسنده صحيح , فكان معروفاً عند الصحابة أنهم يصلون على الجنازة في المقابر وبين القبور وعلى القبر للحاجة, كمن تأخر -مثلاً- أو غير ذلك, ولم يكونوا يصلون الجنازة في المسجد كما يفعل اليوم إلا قليلاً, الغالب أن الجنازة تصلى في مكان خاص كان معروفاً عندهم, وقلما يصلى على الجنازة في المسجد كما يفعل الناس اليوم, لكن صلى النبي عليه السلام على سهل بن بيضاء وغيره في المسجد.
ولا يصلى على القبر, فليس معنى الحديث فوق القبر، بل معناه وراء القبر, أي يجعل القبر بينه وبين القبلة, هذا هو المعنى.
إذاً: صلاة الجنازة على القبور تدل على أن العلة هي خشية عبادة المقبورين, وليس لأن الأرض نجسة؛ ولذلك لو صلى الإنسان الفريضة في المكان الذي صلى فيه على الجنازة هل يجوز هذا؟ لا يجوز, إذاً: دل على أن المسألة ما هي بمسألة نجاسة.
المرجح الثالث: أنه لو كانت العلة هي النجاسة لصحت الصلاة في المقابر القديمة جداً, المقابر المتقادمة التي ذهبت آثار الموتى فيها؛ لأن الراجح -كما سبق تقريره في كتاب الطهارة- أن الأشياء النجسة تطهر بالاستحالة, يعني: إن استحالت, فعظام الموتى, ولحومهم, وصديدهم, وآثارهم إذا استحالت مع مضي الوقت الطويل إلى تراب وإلى غيره هل تظل نجسة؟ لا, تصبح أشياء طاهرة, فهي تطهر بالاستحالة, ولذلك لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة , وحدد موضع مسجده الذي بركت فيه الناقة كان فيه قبور للمشركين كما في الصحيحين, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقبور فنبشت, ولم يذكر أنه أمر بإزالة التراب الذي فيها, فدل على أن هذا التراب طاهر, ولو كان نجساً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإزالته وإخراجه.
المرجح الرابع الذي يدل على أن العلة ليست النجاسة، وإنما خشية عبادة الموتى والتشبه بالمشركين، وأنه ذريعة إلى الشرك, وحماية لجناب التوحيد: أن قبور الأنبياء لا تجوز الصلاة فيها, ولا إليها, بتعمد الصلاة إليها, لا يجوز ذلك مع أن الأنبياء طاهرون أحياءً وأمواتاً, وقد أخطأ الزركشي رحمه الله كما في كتابه إعلام الساجد بأحكام المساجد حيث قال: إن الصلاة إلى قبور الأنبياء ليست مكروهة, واحتج لذلك بحجج باطلة, منها: أن جماعة كبيرة من الأنبياء دفنوا في مقام إبراهيم وحول الكعبة, ومنها: أن مسجد الخيف دفن فيه سبعون نبياً, وهذه كلها آثار باطلة لا تصح, ونقول: إذا كانت الصلاة إلى قبور الصالحين والأولياء والعلماء والعباد محرمة؛ فالصلاة إلى قبور الأنبياء بتعمد -يعني: استقبال قبورهم, أو الصلاة في مقابرهم- أشد تحريماً, وأعظم إثماً, وذلك لأن الفتنة بهم أعظم, واحتمال الوقوع في عبادتهم أكبر, وهذا ما يشهد به الواقع؛ فإن كثيراً من الناس قد وقعوا في تعظيم الأنبياء إلى حد عبادتهم, وإعطائهم خصائص ليست لهم، حتى وجدنا من المسلمين من المنسوبين إلى الإسلام من يضفي على النبي صلى الله عليه وسلم خصائص الألوهية، فيدعي أنه يعلم الغيب, ويخاطبه بقوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي عفواً وإلا فقل يا زلة القدم
ولن يضيق رسولَ الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم
فأعطاه أسماء الله تعالى وصفاته وخصائصه التي لا تعطى لغيره, من علم الغيب, ومن أنه يستعاذ به, ويسأل، إلى غير ذلك مما لا يجوز إلا لله تعالى, فالواقع خير شاهد على أن الفتنة بالأنبياء بتعظيمهم وإعطائهم فوق قدرهم أعظم من غيرهم من البشر, ولذلك فإن وجوب حماية قبورهم أعظم.
هذه أربعة أوجه تدل دلالة أكيدة على أن العلة ليست نجاسة القبور كما ذكره أكثر الفقهاء، وإن كانت النجاسة محتملة في بعض القبور, لكن العلة الأصلية هي -كما أسلفت- خشية تعظيم المقبورين, وأن يتدرج الأمر إلى عبادتهم من دون الله تعالى, وأن في ذلك مشابهة لأهل الكتاب الذين اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد, ولذلك ذهب الإمام أحمد في الرواية المشهورة عنه -وهي ظاهر المذهب- إلى أن الصلاة في المقابر لا تجوز ولا تصح بحال, وأن من صلى في المقبرة فإنه يعيد.
وأما الجمهور -وهو رواية عن الإمام أحمد - فقالوا: إن النهي في ذلك للكراهة ما لم تكن المقبرة نجسة, فذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة ورواية عن الإمام أحمد إلى أنّه إذا كانت المقبرة غير نجسة فإن الصلاة فيها جائزة مع الكراهة, هكذا أطلقوا وقالوا, واستدلوا لذلك بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ).
قال الإمام النووي في المجموع : قال أصحابنا -يعني: الشافعية-: ويكره أن يصلي إلى القبر, هكذا قالوا -ما زال الكلام للنووي - هكذا قالوا، ولو قيل: يحرم لحديث أبي مرثد لم يكن بعيداً, أو: لم يبعد.
إذاً: النووي رحمه الله كأنه يميل إلى موافقة الإمام أحمد في الرواية المشهورة عنه بالتحريم, وهذا الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وكثير من العلماء المتأخرين والمعاصرين, وهو الأليق بحماية جناب التوحيد, وسد ذرائع الشرك, ومراعاة تعظيم النصوص؛ فإن الأحاديث صريحة في النهي عن الصلاة بين القبور والصلاة إلى القبور, ولذلك فإن الأقوى والأجود أن يقال بتحريم الصلاة في القبور والصلاة بين المقابر إلا صلاة الجنازة كما سبق.
قال بعضهم: العلة هي النجاسة, وذلك لأن الحمام -وإن كان مكان الاستحمام- إلا أنه قد يقع فيه كثيراً أن يتبول فيه الإنسان, ويستحم بعد ذلك, فربما أصاب بوله مواضع من الحمام, وعلى هذا إذا قلنا: إن العلة هي النجاسة فإنه إذا تيقن طهارته صحت الصلاة فيه, وجازت بلا كراهة, هذا على القول بأن العلة هي النجاسة.
ولكن الاحتمال الثاني: أن تكون العلة أن الحمام مأوى الشياطين, وذلك لأنه مكان خبيث, وهو بيت الشيطان, كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد : بيت الشيطان, وتكشف فيه العورات, ويتبول فيه كثير من الناس, وهو على كل من الأماكن الخبيثة التي تحضرها الشياطين, وتقيم فيها, فالشياطين تكثر الإقامة في الأماكن الخبيثة.
لكن إذا لم يكن الحمام نجساً فإن القول بتحريم أو بطلان الصلاة فيه فيه شيء من البعد؛ لأنه لا يوجد دليل صريح صحيح على النهي عن الصلاة فيه, أما حديث أبي سعيد قوله: ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ) فليس فيه نهي صريح, إنما فيه استثناء, وأنه ليس بمسجد, وهذا قد يحتمل التحريم, وقد يحتمل الكراهة كما سبق.
وعلى كل حال فإن الصلاة من خير ما يتقرب به العبد إلى الله, وينبغي أن يختار الإنسان لصلاته ولعبادته الأماكن التي يكون فيها أقرب إلى الله, وأبعد عن الشر والشيطان, وأبعد أيضاً عن الملهيات.
ويحتمل معنى ثانياً، معنى آخر: وهو المكان الذي تقيم فيه الإبل وتأوي إليه وتبيت فيه, يعني: البيوت التي تأوي إليها الإبل، سواء كانت بيوتاً من الحجارة أو أحواشاً أو غير ذلك كما هو معروف.
ومما يقوي أن المعنى الثاني مراد أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها في مقابل مراح الغنم, المكان الذي تراح إليه الغنم, وتبيت فيه, كما في أحاديث كثيرة, سأذكر بعضها, هذا معنى معاطن الإبل.
وفيما يتعلق بموضوع معاطن الإبل لا مانع أن يقال: إن الأمرين كلاهما مقصود, وإن النهي عام للاثنين، عام للمبارك عند الماء, وللبيوت التي تقيم فيها الإبل.
اختلفوا في ذلك فقال بعضهم: لنجاستها, حيث فيها أبوال الإبل, وأرواثها, وهل هذا صحيح؟
لا؛ لأن الراجح أن أبوال الإبل وأرواثها طاهرة, وكذلك كل ما يؤكل لحمه كما سبق, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بالصلاة في مرابض الغنم، ويقال في مرابض الغنم مثلما يقال في معاطن الإبل ومباركها, فيها أرواثها وأبوالها, فلو كانت نجسة لما أذن بهذا ومنع هذا.
إذاً: العلة الأولى: قالوا: نجاسة أبوال الإبل وأرواثها, وهذا ليس بصحيح.
العلة الثانية: قالوا: لأن كثيراً من الناس يتقون بالإبل إذا بركت فيتبولون, فالغالب أن معاطنها مكان يتبول فيه الناس, ويقضون فيه حاجاتهم, ولذلك جاء عن ابن عمر رضي الله عنه [ أنه بَّرك بعيره مستقبل القبلة, ثم جلس يبول ] يعني: أنه استتر به ليبول، فيكون البعير إذا كان باركاً يكون كالجدار يستتر به الإنسان فيبول فيه, فقالوا: إن معاطن الإبل غالباً ما يكون فيها أبوال الناس وعذراتهم, ولذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها.
وهذا أيضاً غير جيد؛ لأنه غير مطرد وليس بكثير, بل هو قليل, ولا يوجد دليل على أن هذه هي العلة, ولو كانت هذه هي العلة لنهى الرسول عليه السلام عن الصلاة في كل مكان يستظل به الناس لقضاء حاجاتهم.
العلة الثالثة -وهي المعتمدة والقوية-: أن معاطن الإبل هي مأوى للشياطين, أن معاطن الإبل ومباركها وأماكن بقائها ومبيتها مأوى للشياطين, وذلك كما ورد في أحاديث كثيرة ستأتي الإشارة إليها, وهذه العلة هي المعتمدة, وهي الراجحة.
العلة الرابعة التي ذكرها بعضهم: قالوا: لأن الصلاة في معاطن الإبل تنافي الخشوع؛ فإن الإبل يكون لها نفار، تنفر أحياناً, وقد تؤذي من يصلي حولها, وهذه العلة يمكن أن تندرج في العلة الثالثة, يمكن أن نقول: إن عدم الخشوع بسبب أن الإبل خلقت من الشياطين, وبيوتها مأوى للشياطين, فالشيطان سبب في هبوبها ونفورها وإيذائها لمن يكون بقربها.
إذاً: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطن الإبل؛ لأن الإبل خلقت من الشياطين, ولأن بيوتها مأوى الشياطين، ولذلك أيضاً نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء من لحوم الإبل, كما في حديث جابر وسبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( توضئوا من لحوم الإبل ) , وكذلك نجد أن الرسول عليه السلام كما في أحاديث كثيرة ذكر أن القسوة وغلظ القلوب في أصحاب الإبل.
إذاً: العلة في الأمر بالوضوء من لحوم الإبل هي نفسها العلة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من أجلها أن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل في ربيعة ومضر حيث يطلع قرن الشيطان, فالفتن كثيراً تقع منهم وتعود إليهم.
فيما يتعلق بالأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في معاطن الإبل فهي كثيرة جداً, منها:
- حديث عبد الله بن مغفل عند أحمد والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا في مرابض الغنم, ولا تصلوا في معاطن الإبل, فإنها خلقت من الجن, ألا ترون إلى عيونها وهبوبها إذا نفرت) والحديث قال الشوكاني : سنده صحيح, وقال النووي في المجموع : سنده حسن.
- ومن الأحاديث حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه في صحيح مسلم : ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أتصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم, قال: أتصلي في معاطن الإبل؟ قال: لا ) والحديث رواه مسلم .
- ومنها حديث البراء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها خلقت من الشياطين ) والحديث رواه أبو داود , وسنده صحيح .
- ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا في أعطان الإبل ولا تصلوا في مرابض الغنم ) والحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: أحاديث النهي عن الصلاة في معاطن الإبل ثابتة بأسانيد كثيرة من وجوه صحاح, أو من وجوه كثيرة بأسانيد صحاح أو حسان .
النهي عند الجمهور للكراهة كما سبق في موضوع المقابر وغيرها, فالجمهور -أبو حنيفة ومالك والشافعي ورواية عن أحمد أيضاً- أن النهي عن الصلاة في معاطن الإبل للكراهة, وأن الصلاة فيها صحيحة, والأظهر -والله تعالى أعلم- بمقتضى النصوص السابقة أن النهي للتحريم, وأنه لا يجوز للإنسان أن يصلي في معاطن الإبل, وهي مباركها حول الماء أو الأماكن التي تأوي إليها.
قال ابن قدامة رحمه الله في المغني : تصح النافلة في الكعبة, وفوق ظهرها, لا نعلم فيه خلافاً, ثم ذكر كلاماً يدل على أنه لا خلاف في جواز الصلاة على ظهر الكعبة بشرط أن يكون هناك جدار مرتفع يستقبله المصلي على سطحها, هذا الذي لا خلاف فيه, أما إذا لم يكن ثم جدار فإن في المسألة خلافاً.
وقد منع الحنابلة صلاة الفريضة في جوف الكعبة أيضاً، محتجين بقوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] قالوا: فإن المصلي داخل الكعبة لا يكون ولى وجهه شطر المسجد الحرام, ورجح هذا ابن تيمية رحمه الله في الاختيارات , والجمهور على جواز ذلك, وهو الأقوى, أن صلاة الفريضة جائزة في جوف الكعبة كما هي جائزة في غيرها, وذلك لأن الآية عامة في قوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144] عامة في الفرض والنفل, فلو كان الفرض لا يصح لهذه الآية لما صح النفل أيضاً لهذه الآية, وما دام صح أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى النافلة في جوف الكعبة؛ فالأصل أن الفرض كالنفل إلا ما دل الدليل على استثنائه من ذلك.
حرمان الناس من الارتفاق, فإن الإنسان إذا صلى حرم الناس من الانتفاع بهذا المكان الذي ما خصص للصلاة, إنما خصص للذهاب والإياب, فعمل شيئاً في غير محله, فلا ينبغي ذلك لأن فيه أذية للناس, وحرماناً لهم من الارتفاق بشيء هو من المصالح العامة الذي خصص لأمر لا ينبغي صرفه لغيره.
المفسدة الثانية: أنه قد يترتب عليه مرور الناس بين يدي المصلي, فإنه إذا وقف يصلي والناس ذاهبون آيبون, فإنهم قد يمرون بين يديه, فيرتكبون بذلك إثماً, وقد يتسببون في قطع صلاته على القول بأن المرأة تقطع الصلاة، ومثلها إذا كان يمر بين يديه بهيمة كالكلب والحمار, وسيأتي بحث ذلك إن شاء الله في حينه.
المفسدة الثالثة: أنه سبب لقلة الخشوع, أين يستحضر الإنسان صلاته وخشوعه وهذا يأتي وهذا يذهب, وهؤلاء يتحدثون, وهؤلاء يمرون؟! يعني: هناك أشياء كثيرة تلهي المصلي عن صلاته.
المفسدة الرابعة: أن فيه مظنة كبيرة للرياء, سيقول الناس: من هذا الإنسان الذي ما وجد أن يصلي إلا في قارعة الطريق, ما فعل هذا إلا ليقول الناس: ما شاء الله تبارك الله فلان مصلي! فينبغي تجنب قارعة الطريق, اللهم إلا أن تكون هذه القارعة لا يمر الناس منها, أن تكون مهجورة، يعني: طريق مهجورة, أو يكون في وقت لا يمر الناس فيها، في أوقات معروفة لا يمر الناس من خلاله, فحينئذ لا حرج ولا بأس أن يصلي الإنسان فيها.
هناك أشياء أخرى لم تذكر في الأحاديث, ذكر الفقهاء النهي عنها, واستمدوا من أدلة بعضها جيد.
قال أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي والآمدي : لا تصح الصلاة في أرض الخسف. قال ابن تيمية في الاختيارات : وهو قوي, قال: ونص أحمد : لا يصلي فيها. يعني: أن أحمد نص على أن الإنسان لا يصلي في الأرض التي فيها خسف أو عذاب, وإن كان لم يذكر أن هذا حرام, أو أن الصلاة فيها باطلة.
الحادي عشر: الصلاة في الكنيسة إذا كان فيها تصاوير أو تصاليب أو تماثيل, وقد نص كثير من الفقهاء على كراهية الصلاة فيها حينئذ, بل ذهب جماعة من الفقهاء إلى أن الصلاة فيها حينئذ محرمة, وهذا هو اللائق, أن يقال: إن كان في الكنيسة تصاوير أو تماثيل فإن الصلاة فيها محرمة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لما دخل البيت وفيه الآلهة لم يصل فيه حتى أخرجت الآلهة, وأمر بالصور التي فيه فمحيت, فدل على منع الصلاة في الكنيسة إذا كان فيها تصاوير أو تماثيل، التماثيل من باب أولى, ومثله إذا كان في الكنيسة -كما هو واقع النصارى اليوم- موسيقى, فإنهم يستخدمون الموسيقى في عباداتهم, والمسلم لا يجوز له استماعها, وبالتالي لا يجوز له أن يدخل هذه الكنيسة التي فيها الموسيقى, ولا أن يصلي فيها, وإن كان الفقهاء كافة يقولون بجواز الصلاة فيها إذا لم يكن فيها تصاليب ولا تماثيل ولا صور.
ومثله الأماكن المخصصة -مثلاً- لتعليم الموسيقى, هناك معاهد ومدارس للتدريب والتعليم على الموسيقى, سواء للمدنيين أو العسكريين, ولا شك في تحريم الموسيقى, وإجماع العلماء على تحريمها خلفاً عن سلف, وحينئذ فإن الأماكن المخصصة للتدريب عليها وتعليمها أماكن يبارز الله تعالى فيها بالمعصية, وهي أماكن إثم وفجور, والشياطين فيها ذاهبة آيبة غادية رائحة، فلا يصلى فيها.
أو كان الإلهاء بالمناظر، مثلما إذا كان في المكان صور، يعني: مناظر أمام المصلي وكتابات ورسوم وأشكال معينة تخطف بصره وتلهيه عن صلاته, فإنه يكره الصلاة فيها حينئذ.
وبهذه المناسبة نقول: إنه ينبغي تنظيف قبلة المساجد عن اللوحات والأشكال والرسوم والكتابات التي قد تصرف بصر المصلي.
وفي الصحيحين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام, فنظر في أعلامها نظرة, فلما انصرف من صلاته قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى
وأما قوله: (ولا تجلسوا عليها) فإن الجلوس على القبور يحتمل معنيين سبقا في باب آداب قضاء الحاجة.
وهذان المعنيان هما:
الأول: هو الجلوس المعروف, يعني: القعود على القبر.
المعنى الثاني: هو الجلوس لقضاء الحاجة, ولا شك أن الجلوس بذاته منهي عنه ( لا تجلسوا على القبور)، وإذا كان الجلوس منهياً عنه فالجلوس لقضاء الحاجة منهي عنه من باب أولى, وقد وردت فيه نصوص خاصة سبق أن ذكرتها في الموضع المشار إليه.
نسأل الله أن يجعل خير أعمالنا خواتمها, وخير أعمالنا أواخرها, وخير أيامنا يوم نلقاه, وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, وأن يتوفانا وهو راض عنا, اللهم وفقنا لما تحب وترضى, اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة, اللهم ارزقنا علماً نافعاً, وعملاً صالحاً, ورزقاً حلالاً واسعاً, وتوفنا مسلمين, وألحقنا بالصالحين.
سبحانك اللهم وبحمدك, نشهد أن لا إله إلا أنت, نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر