الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأول أحاديث الليلة هو حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( إن كان الثوب واسعاً فالتحف به ) يعني: في الصلاة.
ولـمسلم : ( فخالف بين طرفيه، وإن كان ضيقاً فاتزر به )، والحديث متفق عليه كما أشار المصنف.
وذكر في أوله قصة، وهي: أن جابراً رضي الله عنه يقول: ( خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأتيته ليلة لبعض أمري فوجدته صلى الله عليه وسلم يصلي، وكان علي ثوب واحد، فاشتملت به وصليت إلى جنبه صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف من صلاته قال: ما السرى يا جابر جابر جابر
وقوله: (إنه خرج لبعض أمره) بينت رواية مسلم أيضاً أن خروج جابر كان بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم له، حيث أرسله مع جبار بن صخر من أجل إصلاح الماء وارتياده للجيش، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصلى إلى جنبه، فلما سلم قال له النبي عليه السلام: (ما السُّرى؟) يعني: ما الذي جعلك تسري وتأتي في هذا الوقت؟ فأخبره الخبر.
ثم قال له عليه السلام: (فما هذا الاشتمال؟) والاشتمال المقصود به في هذا الحديث: المخالفة بين الطرفين، أي: أن جابراً رضي الله عنه -كما بينت رواية مسلم - أيضاً كان عليه ثوب له ذباذب، والذباذب هي الأطراف التي تكون في الثوب، مثل التي تكون في بعض الغتر -مثلاً- وغيرها وبعض لحف النساء في هذا العصر، كان هذا الثوب له ذباذب كانت في أسفله، فلما أراد جابر أن يصلي قلب الثوب والتحف به، يعني: جعله مثل اللحاف على كتفيه وضمه إليه، قال رضي الله عنه -كما في رواية مسلم -: وتواقصت، يعني: لأن الثوب ضيق، كأنه انحنى شيئاً ما حتى يبالغ في الاستتار؛ لأن الثوب قصير لا يغطي جميع بدنه، قال: فتواقصت.
فإذاً: يكون إنكار الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله: (ما هذا الاشتمال) -وهذا كأنه استفهام إنكاري- فيكون إنكاره صلى الله عليه وسلم على جابر أنه التحف بهذا الثوب وخالف بين طرفيه مع أن الثوب كان ضيقاً، مع أن الثوب كان ضيقاً، لو كان واسعاً لا حرج، لكن لأن الثوب كان ضيقاً، فلما التحف به انحنى في صلاته ولم يقم بالاعتدال المشروع المطلوب في الصلاة، فلذلك أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال له مبيناً ومرشداً: ( إن كان الثوب واسعاً فالتحف به ) يعني: كما صنعت ( وإن كان ضيقاً فاتزر به ) يعني: اجعله إزاراً لك تستر به نصفك الأسفل، ونصفك الأعلى لا مانع أن يكون مكشوفاً، هذا معنى الحديث.
وفي رواية مسلم قال: ( إن كان الثوب واسعاً فخالف بين طرفيه، وإن كان ضيقاً فاشدده على حقوك ) ونريد أن نعرف ما معنى رواية مسلم : ( إن كان الثوب واسعاً فخالف بين طرفيه ).
قوله: (فخالف بين طرفيه) الذي أفهم من المخالفة بين الطرفين أن يجعل الطرف الذي على الجانب الأيمن على الأيسر: هكذا، والطرف الذي على الأيمن يجعله على الأيسر: هكذا، والمقصود الإزار الذي يستر البدن كله.
والمقصود من هذه المخالفة: أنها أبلغ في الستر، ومن جهة ثانية: أنها أسلم من جهة أنه لا يحتاج إلى أن يمسك الثوب بيده فينشغل بذلك ويتحرك في الصلاة، فضلاً عن أنه قد يظهر شيء من عورته، فضلاً عن أنه لا يتمكن أن يضع يده اليمنى على اليسرى على صدره في الصلاة، بل يكون مشغولاً بالإمساك بثوبه، فأمره إن كان الثوب واسعاً أن يجعل طرفه الذي على الجهة اليمنى يجعله ينتقل إلى الجهة اليسرى، يصل إلى الجهة اليسرى، والطرف الذي على الجهة اليسرى يجعله يصل إلى الجهة اليمنى.
وذكر ابن السكيت معنىً آخر في هذا في قوله: (إن كان الثوب واسعاً فخالف بين طرفيه): أنه يأتي بالطرف الذي على الجهة اليمنى فيجعله من تحت إبطه الأيسر، يعني: هكذا، ويأتي بالطرف الذي كان على الجهة اليسرى فيجعله من تحت إبطه الأيمن، ثم يأتي بالطرفين أيضاً من أمامه فيعقدهما، وهذا -أيضاً- أبلغ في الستر، لا شك أنه أبلغ في الستر إذا كان الثوب كبيراً وطويلاً بحيث يستطيع الإنسان أن يفعل ذلك.
وأما قوله: (وإن كان ضيقاً فاشدده على حقوك) -كما في رواية مسلم - فالحقو -بكسر الحاء وبفتحها أيضاً: الحِقو والحَقو- هو خصر الإنسان، هو وسط الإنسان.
ومعنى قوله: (فاشدده على حقوك) هو قوله في الرواية الأخرى: (فاتزر به) يعني: غط به السرة وما دونها. هذه ألفاظ الحديث.
أما المسائل المتعلقة بالحديث فسوف تأتي ضمن الحديث الآخر؛ لأن معناهما متقارب.
اللام هاهنا نافية وليست ناهية، والدليل على ذلك بقاء الياء؛ لأنها لو كانت ناهية لقال: (لا يصل أحدكم)، فلما أثبت الياء وقال: (لا يصلي أحدكم) دل على أنه خبر بمعنى النهي، نفي بمعنى النهي، فقوله: (لا يصلي أحدكم) خبر أو نفي، وهو بمعنى النهي، فهو لتوكيد النهي.
وجاء في رواية الدارقطني في غرائب مالك : (لا يصل أحدكم) بحذف الياء، (لا يصل أحدكم)، وعلى هذه الرواية تكون اللام ناهية؛ لأن الياء حذفت.
وجاء عند الدارقطني أيضاً: ( لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد )، وعند الإسماعيلي في مستخرجه على البخاري : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ).
وعلى كل حال على روايات النفي المقصود النهي كما بينت، فالمعنى واحد.
(لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء) والعاتق ما هو؟
العاتق هو الكتف، أو قالوا: هو ما بين المنكب وأصل العنق.
والمنكب هو طرف الكتف ملتقى الكتف بالعضد، هذا المنكب، وأصل العنق هو هذا، والعاتق هو ما بينهما من الكتف، فهذا هو العاتق، وللإنسان عاتقان، ولذلك جاء في الرواية: ( ليس على عاتقيه منه شيء ) هكذا في الصحيح.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء ) هو شبيه بحديث جابر السابق في صفة الصلاة بالثوب الواحد، حيث يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة من صلى في ثوب واحد أن يجعل على عاتقيه شيئاً منه، يأمر من صلى في الثوب الواحد أن يجعل على عاتقيه شيئاً منه قل أو أكثر؛ لأن قوله: (شيء) نكرة يشمل القليل والكثير.
الأولى: مسألة الصلاة في الثوب الواحد، هل يجوز للإنسان أن يصلي في الثوب الواحد أم لا يجوز؟
وأود أن أنبه قبل أن أدخل في تفصيل المسألة إلى أننا حين نقول: في الثوب الواحد ليس المقصود أي ثوب، فالثياب الموجودة في زماننا هذا التي نلبسها الآن إذا كان الثوب ساتراً سميكاً، فلا خلاف في أنه يجوز أن يصلي الإنسان فيه بلا إشكال، ولا أعتقد أن هذا يدخل أصلاً فيما نتكلم عنه الآن، إنما الكلام في ثياب الأقدمين؛ لأنه كان الثوب عند الأولين -كما يبدو من كلامهم ومن الأحاديث الواردة في هذا الباب- أن الثوب لم يكن في الغالب مفصلاً مخيطاً على هذا القدر قدر الأعضاء، إنما في كثير من الأحيان كان الواحد يلبس ثوباً مثل اللحاف، كما قال: (فالتحف به)، وقوله: (فالتحف به) يعني: اجعله لحافاً وملحفة وملحفاً كما يقول أهل اللغة، وهو الدثار الذي يتغطى به الإنسان من البرد وغيره، فلم تكن ثيابهم مفصلة ومضبوطة على قدر الأعضاء، بحيث إذا لبسها الإنسان ستر عورته واطمأن في صلاته، لا، كان الثوب يلبسه الإنسان على بدنه، وربما مع الحركة ينكشف أو يظهر شيء منه أو تبين عورته، فهذا المقصود في الكلام، ولذلك وجد الاختلاف: هل تجوز الصلاة في الثوب الواحد أو لا تجوز؟ وإن كان الخلاف يسيراً كما سيظهر.
أنا أتكلم عن الثوب الساتر، ولذلك اشترطت فقلت: الصفيق؛ لأن هنا يكون عدم إجزائه ليس لأنه ثوب واحد، إنما لصفة أخرى، وهي أنه لا يستر، فهذا موضوع ثان، إنما الكلام في ثوب ساتر، لا خلاف في أنه -سواء كان ثوباً أو ثوبين أو ثلاثة- ليس في هذا مشكلة بالنسبة لثياب الناس في هذا الزمان، إنما ثياب الأولين كانت تختلف كما بينت، ولهذا وجد خلاف يسير في حكم الصلاة في الثوب الواحد على قولين:
واستدلوا بحديث أبي هريرة وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء ) فقالوا: هذا دليل على أنه لا يكفي الثوب الواحد، بل لابد أن يصلي الإنسان في ثوبين أو أكثر.
واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، منها: حديث جابر السابق؛ فإنه صلى في ثوب واحد، قال: (كان ثوباً يا رسول الله!) يعني: رآه ولم يكن عليه غيره فما أنكر عليه السلام أنه صلى في ثوب واحد، هذا دليل، والحديث -كما سبق- متفق عليه.
ومن أدلتهم أيضاً: الحديث المتفق عليه الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة : ( أن سائلاً سأل الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! أيصلي أحدنا في الثوب الواحد؟ فقال له النبي صلى الله وسلم: أولكلكم ثوبان؟ ) يعني: هل كل واحد منكم عنده ثوبان.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (أولكلكم ثوبان) إشارة إلى الحكم، وهو أنه يجوز الصلاة في الثوب الواحد، مع الإشارة إلى ما يلحق الناس من المشقة والحرج لو ألزموا بالصلاة في ثوبين؛ لأن واقع الحال في عهد النبي صلى الله عله وسلم أن أكثر الناس لم يكن عند الواحد منهم إلا ثوب واحد، فلو كلف بألا يصلي إلا في ثوبين لكان في ذلك عليه عنت وحرج ومشقة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (أولكلكم ثوبان؟!) يعني: نعم يجوز أن تصلي في الثوب الواحد؛ لأن أكثر الناس -أو كثير منهم- ليس له إلا ثوب واحد، فلو كلفوا بثوبين لشق ذلك عليهم.
ومن الأدلة على الجواز حديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في ثوب وبعضه عليه وبعضه عليها وهي حائض جالسة إلى جنبه صلى الله عليه وسلم ) والحديث أيضاً في صحيح مسلم .
وعلى كل حال فقول الجمهور هو الصحيح بلا إشكال، والخلاف يسير جداً، ولذلك قال كثير من أهل العلم: خالف في ذلك ابن عمر ثم استقر الأمر على الجواز.
إذاً: الصلاة في الثوب الواحد، يعني: لو فرض أن إنساناً معه قطعة ثوب قطعة قماش ساترة فقط ليس عليه غيرها أبداً، ثم لفها على بدنه وستر بها ما بين السرة والركبة فإن هذا جائز، وهذا يشبه أن يكون إجماعاً بعدما انقرض الخلاف في هذه المسألة كما بينت.
إذاً: المسألة الثانية هي مسألة: ستر العاتق في الصلاة ما حكمه؟ هنا قولان:
واستدلوا بأدلة، منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء ) قالوا: هذا نهي أو نفي يدل على التحريم، تحريم صلاة الإنسان وعاتقاه مكشوفان.
وقالوا: إن هذه الأحاديث مقيدة، فيقيد بها الأحاديث المطلقة كما سبق، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ( أولكلكم ثوبان؟ )... وأحد عاتقيه مكشوف، فلم ير عليه إعادة، فقال: إذاً: هذا رجل أحد العاتقين مكشوف في لحاف ولا يتوشح به أو يصلي في إزار بغير رداء، هذا أيضاً يدل لهم؛ فإن فيه نهياً عن الصلاة في لحاف لا يتوشح به، يعني: يجعله على عاتقيه، ولا يصلي في إزار يستر نصفه الأسفل ولا يستر نصفه الأعلى، هذا القول الأول.
وثانياً: لأنه أبلغ في أخذ الزينة المأمور بها، كما قال الله عز وجل: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31] فهو أفضل من هذه الناحية، وإلا فإن الذي يجب ستره في الصلاة العورة فقط، والعاتقان ليسا من العورة، فلا يجب سترهما بحال، وإنما يستحب ذلك.
ومن أدلتهم التي استدلوا بها على عدم وجوب ستر العاتقين:
أولاً: حديث جابر السابق، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( وإن كان الثوب ضيقاً فاتزر به ) وفي لفظ: ( وإن كان ضيقاً فاشدده على حقوك )، ومعنى ذلك: أن جابراً سوف يصلي وعاتقاه مكشوفان، هذا دليل.
والدليل الثاني أيضاً: حديث عائشة رضي الله عنها -كما أسلفت-: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد بعضه عليه وبعضه عليها وهي إلي جنبه رضي الله عنها )، والظاهر من هذه الحالة أن الثوب لم يكن على عاتقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان قد شده في وسطه، كان إزاراً شده النبي صلى الله عليه وسلم على وسطه.
ومن أدلتهم أيضاً: حديث أبي هريرة السابق: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيصلي أحدنا في الثوب الواحد؟ قال: أولكلكم ثوبان ) والحديث متفق عليه كما أسلفت، ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن الثوب الواحد الذي سئل عنه الرسول صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون واسعاً، ويحتمل أن يكون ضيقاً، وإذا كان الثوب ضيقاً لم يمكن أن يكون على المنكبين، فدل على جواز ذلك.
ومن أدلتهم على الجواز: ما ثبت في الصحيح وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون في الثوب الواحد وقد لا يكون على عواتقهم، من ذلك -مثلاً- ما رواه الشيخان: أن محمد بن المنكدر قال: [ دخلنا على جابر رضي الله عنه وهو يصلي في ثوب واحد ورداؤه على المشجب، قال: فلما انصرف من صلاته سأله سائل- وكأن هذا السائل هو عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت أو غيره، أو قد يكون محمد بن المنكدر نفسه- فقالوا له: رحمك الله! تصلي في ثوب واحد ورداؤك على المشجب؟! فقال: نعم، إنما فعلت ذلك حتى يراني أحمق مثلك فيتعلم، وهل كان لنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثوب واحد؟! أكثرنا لم يكن له في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبان ] وفي رواية أنه قال: [ أردت أن يراني الجهال مثلك ].
إذاً: جابر صلى في ثوب واحد وهو ليس في حال احتياج، وإنما رداؤه معلق على المشجب، والمشجب ما هو؟ المشجب هو عند الأولين خشبة أو ثلاث خشبات تضم إلى بعضها وتعلق عليها الثياب، وفي العصر الحاضر وجدت نفس المشاجب هذه مصنوعة ومجهزة مما يعلق عليه الثياب ويسميه الناس الشماعة، والعرب تضرب المثل بالمشجب يقولون: (فلان كالمشجب حيثما أتيته وجدته)، يعني: إنسان من أي جهة أتيته وجدته، فهو إن جئته في الخير، فهو في خير وفي العلم عالم، وفي الكرم كريم، وفي الجود جواد.. إلى آخره، فلان كالمشجب حيثما أتيته وجدته، هذا هو المشجب، فكان جابر رضي الله عنه قد علق ثوبه على المشجب وصلى في إزار بغير رداء، وقال: أردت أن يراني الجهال فيعلموا أن ذلك جائز ومباح.
وفعل الرسول عليه السلام وفعل جابر وغيره من الصحابة في صلاتهم في إزار بغير رداء ذكر الإمام النووي وغيره أنه يحمل على محملين:
المحمل الأول: أنه كان ليس عليه غيره، وهذا ظاهر كما في حديث جابر الأول.
والمحمل الثاني: أنه لبيان الجواز، كما هو ظاهر جداً في حديث جابر الأخير، أنه لبيان الجواز، وأن الأمر ليس على سبيل الوجوب إنما على سبيل الاستحباب.
الوجه الأول معروف: قالوا: لأن النفل مبناه على التخفيف والتيسير والتسامح في أشياء كثيرة، كما تسومح في شأن القبلة إذا كان مسافراً على راحلته، وتسومح في أشياء عديدة في النافلة، فقالوا: النافلة مبناها على التسامح، ولذلك لا حرج أن يصلى النافلة ولو كان غير مستور العاتق.
ومما استدلوا به قالوا: إن الأحاديث الواردة في الفرض تدل على وجوب ستر العاتقين، وفي النفل تدل على عدم الوجوب، فقالوا: مثلاً: حديث أبي هريرة : ( لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء ) قالوا: هذا محمول على الفرض، أما حديث جابر فهل كان في فريضة أو في نافلة؟ لما جاء وصلى إلى جنب الرسول عليه الصلاة والسلام؟ لا شك أنه كان في نافلة، فقالوا: هذا يدل على أن الفرض يختلف عن النفل، ولا شك أن الأصل أن الفرض والنفل سواء، والتفريق بينهما يحتاج إلى نص واضح جلي في ذلك.
الحديث عزاه المصنف لـأبي داود وقال: صحح الأئمة وقفه، وقد أشرت في الأسبوع الماضي إلى المسألة الموجودة في هذا الحديث، إنما نمر الآن على بعض أمور الحديث باختصار، والمسألة نذاكرها معكم دون حاجة إلى إعادتها.
فالصواب: أن الحديث لا يصح مرفوعاً بحال، وإنما هو موقوف، وقد أخطأ عبد الرحمن بن دينار في رفعه.
وممن رجحوا الموقوف -كما قال المصنف رحمه الله هنا: وصحح الأئمة وقفه- الإمام الدارقطني وابن عبد البر وعبد الحق الإشبيلي وابن الجوزي والمصنف رحمه الله وأبو داود وغيرهم، وهذا هو الراجح بلا إشكال، وهو أن الحديث لا يصح مرفوعاً بحال، بل هو موقوف، لكن حتى الموقوف فيه ضعف، حتى الموقوف على أم سلمة فيه ضعف، فإن في إسناد الحديث محمد بن زيد عن أمه، وأمه في حكم المجهولة، فيبقى الحديث ضعيفاً مرفوعاً أو وموقوفاً، لكن المرفوع ضعيف جداً لا يصح، بل هو غلط، لا يصح المرفوع وإنما الموقوف أصح، ومع ذلك فالموقوف فيه ما فيه كما أسلفت.
(وخمار)، الخمار بينته سلفاً في حديث عائشة، وأنه ما تغطي المرأة به رأسها وعنقها، هذا يسمى خماراً، وأصل التخمير في اللغة: التغطية، أصل التخمير مادة (خَمَرَ) في اللغة: هي التغطية، وسمي الخمار خماراً لأن المرأة تغطي به رأسها وعنقها، وهو ما يسمى عندنا في مجتمعنا بالغدفة، فالغدفة هنا هي الخمار تغطي الرأس والعنق، أو قد يسميها النساء بالطرحة أو بالشيلة أو ما أشبه ذلك، هذا هو الخمار، وليس الخمار هو ما يغطي الوجه، وما هو الدليل على أن ما يغطي الوجه لا يسمى خماراً؟
الدليل أن حديث عائشة السابق: ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) مع الإجماع على أن المرأة لا تغطي وجهها في الصلاة، يعني: إذا لم يكن عندها أجانب، فدل على أن الخمار ليس هو غطاء الوجه باتفاق الناس، وإنما هو غطاء الرأس، الخمار هو غطاء الرأس، ومنه قول الله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]، فتنزل المرأة خمارها -يعني: غطاء الرأس- تنزله على جيبها، والجيب هو فتحة الصدر، ومن هذه الآية أخذ بعض أهل العلم تغطية الوجه، قالوا: لأنها إذا ضربت بخمارها على جيبها فلا بد أن يكون الخمار مغطياً للوجه، يعني: نزل من الرأس إلى فتحة العنق، معنى ذلك أنه نزل من الرأس على الوجه حتى صار يضرب على فتحة العنق كما هو واقع الحجاب في بلادنا ومجتمعاتنا.
القول الأول: قول أبي حنيفة.
أنه لا يجب سترهما، رأي أبي حنيفة ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية -وهو الذي رجحته- أنه لا يجب ستر القدمين في الصلاة؛ للمشقة ولعدم الدليل.
القول الثاني: وجوب الستر، وهو مذهب الجمهور، مذهب مالك والشافعي، والإمام أحمد لا يختلف عنه المذهب في ذلك أنه يجب ستر القدمين، ومن أدلتهم حديث الباب، لكن حديث الباب ضعيف كما ذكرت.
قراءة الباب قراءة جيدة وضبطه؛ لأن هذا مهم في الواقع، يعني: قد يحضر الإنسان لكن إذا ما راجع وضبط يضيع عنه العلم، لابد من المتابعة.
القميص والبرانس أنواع من الثياب، بل مذكورة أسماؤها، يعني: أسماء كثير منها، لكن كان كثير منهم لا يتيسر له ذلك، ولهذا قال: ( أولكلكم ثوبان؟ ) خاصة في أول عهد الإسلام كان هناك فقر وحاجة.
يعني: بعض الثياب التي عندهم كانت أشبه ما تكون بقطعة قماش، حتى كانوا يزرونه أحياناً بشوكة، يعني: يجمعونه ويزرونه بشوكة أو يعقدونه، في صحيح البخاري يقول: ( رأيت الرجال يصلون خلف الرسول صلى الله عليه وسلم عاقدي أزرهم كهيئة الصبيان )، يعني: الثوب محزوم معقود الطرف بالطرف الثاني، حتى قيل للنساء: لا ترفعن رءوسكن حتى يرفع الرجال خشية أن تبدو عوراتهم، يعني: كانوا في حالة من الفقر وقلة ذات اليد بهذه الصفة.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أعمالنا أواخرها وخير أيامنا يوم نلقاك وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتوفنا وأنت راض عنا، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر