إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبدأ بعون الله تعالى بحصة هذه الليلة.
أما بعد:
فنبدأ بالحديث المتبقي من الأسبوع الماضي، وهو حديث ابن عمر رضي الله عنه: ( أن
هذا الحديث رواه أبو داود -كما ذكر المصنف- من طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه، وكذلك رواه الدارقطني في سننه وزاد فيه: ( أن بلالاً بلالاً بلالاً
قال شعراً يتأسف على نفسه:
ليت بلالاً لم تلده أمه وابتل من نضح دم جبينه
وأشار المصنف إلى أن أبا داود ضعف الحديث، والواقع أن أبا داود لم يصرح بضعف الحديث، وإنما رواه من طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، وقال عقب روايته: إنه لم يروه عن أيوب إلا حماد بن سلمة وانفرد برفعه، يعني: لم يروه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا حماد بن سلمة .
ثم ساقه أبو داود أيضاً من طريق آخر عن نافع نفسه عن مؤذن لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه -اسمه: مسروح - أنه (أذن قبل الفجر، فدعاه عمر وأمره أن يعود فيصيح: ألا إن العبد قد نام ألا إن العبد قد نام، فذهب وصاح)، قال أبو داود : وهذا أصح.
إذاً: أبو داود لم يصرح بأن الحديث المرفوع ضعيف، إنما ساق الحديث الموقوف على عمر، وأن القصة وقعت له مع مؤذنه مسروح، ساقها وقال: إنها أصح من الرواية المرفوعة.
وكما تلاحظون فإن رواة الحديث حفاظ ثقات أثبات، حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر حسبك به، ولذلك قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: رواته ثقات حفاظ، لكن اتفق الأئمة على أنه موقوف، وأن حماداً أخطأ في رفعه، ثم ذكر رحمه الله من الذين صرحوا بأن حماداً أخطأ في رفعه، ذكر علي بن المديني وأحمد بن حنبل والبخاري وأبا داود والترمذي والدارقطني والأثرم وغيرهم، وأبو حاتم الإمام المشهور محمد بن إدريس الحنظلي الرازي -وليس المقصود به ابن حبان - وكذلك الذهلي، كل هؤلاء صرحوا بأن حماداً أخطأ فرفعه، والصواب: أنه موقوف، وحسبك بهؤلاء الأئمة الجهابذة، ولذلك فإن الراجح أن الحديث ضعيف موقوف، لكن صحيح أن القصة وقعت لـعمر مع مؤذنه مسروح.
وقد حاول بعض العلماء تصحيح الحديث لأن ظاهر إسناده السلامة، ومن أكثر من حرص على ذلك أبو الفضل الغماري أحمد بن محمد الصديق، وهو عالم مغربي في الحديث من المعاصرين، له كتاب اسمه: الهداية في تخريج أحاديث البداية، خرج فيه أحاديث بداية المجتهد، وتصدى لهذا الحديث فنصره نصراً مؤزراً، لكنه لم يصنع شيئاً؛ لأنه ماذا نصنع بـأبي الفضل أحمد الغماري مقابل عشرة من الجهابذة يستنزل بهم المطر من السماء وأئمة فحول أفذاذ؟! لا يصنع مع هؤلاء شيئاً، ولذلك فإن الصواب ما ذهب إليه الأئمة السابقون من أن الحديث موقوف، هذا فيما يتعلق بدرجة الحديث من حيث رفعه.
أما من حيث متن الحديث فإن في متنه -أيضاً- بعض الغرابة والنكارة، وذلك لأن من المعلوم أن بلالاً رضي الله عنه كان يؤذن بليل، كما في حديث ابن عمر السابق: ( أن بلالاً
وهذه مسألة متعلقة بحديث ابن عمر هذا، كما هي متعلقة بحديث ابن عمر وعائشة الذي قبله: ( إن
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فذهب الإمام أحمد ومالك والشافعي والأوزاعي وإسحاق -ونسبه الحافظ ابن حجر للجمهور وهو كذلك- إلى أنه يشرع الأذان الأول لصلاة الفجر خاصة قبل دخول وقتها.
وحجتهم في ذلك ظاهرة، وهي حديثا ابن عمر وعائشة في أن بلالاً يؤذن بليل، يعني: قبل الفجر، وأن العلة أنه (لينبه نائمكم ويرجع قائمكم)، هذا القول الأول.
والقول الثاني في المسألة: هو قول أبي حنيفة ومحمد وسفيان، قالوا: لا يشرع الأذان الأول في صلاة الفجر؛ وذلك قياساً على سائر الصلوات، فقالوا: كما أنه ليس لصلاة الظهر -مثلاً- أو العصر أو المغرب أو العشاء أذان أول قبل الوقت؛ فكذلك لا يشرع لصلاة الفجر أذان أول قبل دخول الوقت.
وقياسهم هذا سبق نظائره وأن الأصوليين يسمونه قياساً فاسد الاعتبار، وهو القياس في مقابلة النص؛ لأن القياس إنما يكون على النص، يقاس على النص ما لم يذكر، أما أنه إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، فلا يقاس مع ورود نص صحيح صريح في ذلك.
وقد ذكر بعضهم قولاً ثالثاً في المسألة ونسبه لبعض أهل الحديث، وهو أنهم يقولون: إن كان في المسجد مؤذنان فلا بأس أن يؤذن أحدهما الأذان الأول، وإن لم يكن إلا مؤذن واحد فإنه لا يؤذن الأذان الأول، قالوا: لأنه إذا كان المؤذن واحداً وأذن قبل الوقت فقد يلتبس هذا على الناس، فيظنون الوقت قد دخل وهو لم يدخل، وهذا القول ضعيف كسابقه؛ لأن الالتباس مرفوع بالتثويب.
فإذا قلنا: إن المؤذن يثوب -سواء قلنا: يثوب بالأذان الأول أو بالأذان الثاني- إنه يثوب في أحد الأذانين فإن التثويب يدفع اللبس الحاصل، فيعلم الناس أن هذا الأذان هو الأول أو الثاني لوجود التثويب أو عدم وجوده فيه.
والقول الراجح في هذه المسألة أن الأذان الأول لصلاة الفجر مشروع، وكان واقعاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان يؤذن بلال بليل، فالراجح أن الأذان الأول لصلاة الفجر مشروع.
ورواه مسلم أيضاً في كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن.
ورواه أيضا أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، فهو من الأحاديث التي يصح أن يقال فيها: رواه الجماعة، أو: رواه السبعة على اصطلاح المصنف، فقد رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وأحمد، وهم السبعة، وكذلك رواه مالك في موطئه وغيرهم.
وبناءً عليه قال النووي وغيره: لو لم يسمع النداء لا يتابعه ولو علم أنه يؤذن، كما إذا كان به صمم -مثلاً- أو كان بعيداً ورأى المؤذن على المنارة ويداه في أذنيه وهو يلتفت يمنة ويسرة، فإنه حينئذ لا يتابعه ما لم يسمعه، هكذا قرر النووي ونقله جماعة من العلماء موافقين له.
وفيما قرره رحمه الله بعض النظر؛ لأن تعليق الحديث بالسمع باعتبار الغالب، وإلا فإن الأظهر -والله تعالى أعلم- أنه إذا علم أنه يؤذن وميز جمل الأذان بعضها من بعض فإنه يتابعه، سواء علم ذلك عن طريق السمع أو عن طريق غيره، كما إذا كان عنده رجل يتابع المؤذن وهو يسمع هذا الرجل مثلاً، أو أعلمه رجل بأن المؤذن الآن يكبر أو يتشهد أو ما أشبه ذلك فإنه يتابعه.
إذاً: السمع ليس شرطاً، وإنما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم باعتبار الغالب، هذا الذي ظهر لي.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ( النداء ) المقصود بالنداء الأذان؛ لأنه دعاء إلى الصلاة، وهذا اسمه في كتاب الله تعالى، كما قال تعالى: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة:9]، وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة:58]، والمقصود بذلك الأذان؛ لأنه دعاء إلى حضور الصلاة.
وهل يدخل في ذلك الإقامة؟
الأظهر نعم، تدخل في ذلك الإقامة؛ لأنها نداء للقيام إلى الصلاة، وهي أذان كما في الحديث المتفق عليه: ( بين كل أذانين صلاة )، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم أذاناً، وقد ذهب جماعة كثيرة من الفقهاء من الحنابلة والشافعية وغيرهم إلى أنه يشرع للإنسان أن يتابع المقيم كما يشرع له أن يتابع المؤذن.
( فقولوا مثلما يقول المؤذن )، قوله: (فقولوا) يدل على أن المطلوب القول، وأنه لا يكفي -مثلاً- أن يمر الإنسان معاني الأذان على قلبه أو في صدره، بل إن المطلوب منه أن يقول بلسانه مثل ما يقول المؤذن.
وكذلك قوله: ( مثلما يقول ) دليل على أن المتابع يشرع له أن يقول كقول المؤذن سواءً بسواء كلمةً كلمة حرفاً حرفاً دون تغيير، وهذا فيه تفصيل يأتي بعد قليل إن شاء الله تعالى.
وكذلك قوله: ( مثلما يقول )، دليل على أن المتابعة للمؤذن تكون في القول فقط وليس في الهيئة والحركات، فهل يشرع -مثلاً- للمتابع أن يرفع صوته كما يرفع المؤذن صوته؟ كلا، هل يشرع له أن يضع إصبعين في أذنيه؟ كلا، هل يشرع له أن يلتفت في الحيعلتين على فرض أنه يقولهما أو على القول بأنه يقولهما؟ كلا، إنما يشرع له أن يقول مثلما يقول المؤذن فقط، أما الصفة والحركات فإنه لا يتابعه فيها.
وظاهر الحديث أيضاً يدل على أنه يتابع المؤذن على أي حال كان، وفي هذا أيضاً تفصيل يأتي بعد قليل.
أترك المسائل الفقهية المتعلقة بالحديث إلى أن ننتهي من الحديثين اللذين بعده؛ لأن المسائل فيها -تقريباً- واحدة.
ثم ساقه البخاري من طريق آخر، وفيه ( أن معاوية
وكذلك رواه النسائي وغيرهما، رووه مفصلاً ( أن معاوية
وأما الحديث الثالث فهو حديث مسلم عن عمر رضي الله عنه، وقد ساقه المصنف في المعنى مختصراً، والحديث في مسلم بتمامه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر؛ فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، فقال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة )، هذا لفظ الحديث: ( من قلبه دخل الجنة ).
وفي هذه الأحاديث الثلاثة حديث عمر رضي الله عنه في ذكر قول: (لا حول ولا قوة إلا بالله) بدلاً من (حي على الصلاة حي على الفلاح)، هو أصح حديث ورد في هذا الباب مع حديث معاوية .
وقد ورد لهما شواهد لكنها شواهد ضعيفة، من طريق أبي رافع عند البزار وأحمد والطبراني في معجمه الكبير، ومن طريق نوفل بن الحارث بن عبد المطلب عند الطبراني في الكبير، وفي إسنادهما عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف
فيبقى أصح ما في أيدينا حديث عمر وحديث معاوية رضي الله عنهما، وهما كافيان في هذا.
المسألة الأولى: الحكمة في إبدال الحيعلة بـ(لا حول ولا قوة إلا بالله)، كما في حديث معاوية وعمر، الحكمة في إبدال (حي على الصلاة حي على الفلاح) بـ(لا حول ولا قوة إلا بالله)، والحكمة في ذلك -كما ذكرها الطيبي وابن القيم وغيرهما من أهل العلم-: أن حي على الصلاة نداء ودعاء من المؤذن للناس، فهي بمعنى: هلموا وتعالوا وهيا إلى الصلاة، فيناسب أن يصوت بها المؤذن.
أما المستمع فليس مؤذناً ولا منادياً، وإنما هو منادى ومدعو ومأمور بالمجيء إلى الصلاة، فكان من المناسب أن لا يقول الكلمة نفسها، بل أن يستعين بالله تعالى على إجابة هذا الدعاء والنداء، بأن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ومعنى (لا حول ولا قوة إلا بالله): (لا حول) يعني: لا تحول لا انتقال لا حركة من حال إلى حال إلا بالله، لا انتقال من الغفلة إلى الذكر إلا بالله، ولا انتقال من الفجور إلى الإيمان إلا بالله، ولا انتقال من المعصية إلى الطاعة إلا بالله، ولا قوة على فعل الطاعات والقربات من الصلوات وغيرها إلا بالله تعالى، بالاستعانة به جلا وعلا.
فمناسبة قول المستمع (لا حول ولا قوة إلا بالله) ظاهرة جداً.
القول الأول: أنه يجب عليه أن يجيب المؤذن ويقول كما يقول، وهذا مذهب الحنفية والظاهرية، ونسبه الطحاوي إلى قوم من السلف، واختاره ابن وهب من المالكية، أنه يجب على المستمع أن يجيب المؤذن، ورجح هذا بعض أهل الحديث.
واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن)، فهذا أمر، وقد سبق مرات أن الأمر يقتضي الوجوب إذا لم يوجد قرينة تصرفه عن ذلك، فقالوا: يجب أن يقول المستمع كما يقول المؤذن.
الدليل الثاني: ما رواه أبو عوانة والنسائي عن أم حبيبة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان عندها فسمع المؤذن قال مثلما يقول حتى يسكت )، قالوا: فمحافظة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا في كل حال دليل على وجوبه، وإن كان في هذا الاستدلال نظر، لكن على أي حال هذا هو القول الأول.
القول الثاني: هو أن متابعة المؤذن مستحبة وليست واجبة، وهذا مذهب الجمهور، واستدلوا بأدلة، أو أتوا بصوارف عديدة تصرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب.
الصارف الأول منها: ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أغار على قوم يغير عند الفجر، فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار، وإنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً ينادي: الله أكبر الله أكبر، فقال عليه الصلاة والسلام: على الفطرة، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال عليه الصلاة والسلام: خرجت من النار، قال: فنظروا فإذا هو راعي معزى ).
فالحديث يدل على عدم وجوب متابعة المؤذن؛ لأن ظاهر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتابع المؤذن ولم يقل مثلما قال، بل قال: ( على الفطرة )، ثم قال: ( خرجت من النار ).
وفي الاستدلال بهذا الحديث نظر من وجوه:
أولاً: هل يشترط في متابعة المؤذن أن يجهر الإنسان بالمتابعة؟ كلا، بل لعل السنة الإسرار؛ لأن هذا من الأذكار التي يسن إخفاؤها، فلا يمنع أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم تابع المؤذن لكن سراً فلم يسمعه أنس، ولذلك لم ينقله.
ثانياً: على فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وتابع وجهر يحتمل أن أنساً لم ينقل هذا؛ لأنه من الأمور المعروفة والتي ورد فيها نصوص كثيرة، فليس ثمة حاجة لأن ينقله أنس، وقد سبق معنا في أكثر من موضوع -منها في مبحث الأذان للمنسية والفائتة- أن عدم ذكر الشيء لا يعني عدم حصوله، فقد يقع ولكن لا يقوله الراوي، إما غفلة أو نسياناً أو اختصاراً أو اكتفاءً بأن غيره نقله أو ما أشبه ذلك، إذاً: هذا الدليل لا يقوى كثيراً على صرف الحديث عن الوجوب.
لكن ظهر لي صوارف أخرى الله تعالى أعلم بها، لكن ظهر لي أنها تقوى وقوية في هذا، من تلك الصوارف أن العلماء اختلفوا أصلاً في وجوب الأذان كما سبق بحثه، وسبق أن الراجح أن الأذان فرض كفاية، فإذا كان الأذان فرض كفاية؛ فمن البعيد أن تكون متابعة المؤذن فرض عين على كل أحد، هذا من الصوارف.
ومن الصوارف أيضاً: أن هذا ذكر ليس في صلب عبادة من العبادات، ليس كالذكر الذي في الركوع أو السجود أو القيام في الصلاة مثلاً، بل هو ذكر عام، والغالب أو المعتاد أن الأذكار العامة إنما تشرع استحباباً لا وجوباً، كما يشرع عند ابتداء الوضوء أن يقول: بسم الله، وعند الانتهاء أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وعند دخول المسجد، وعند الخروج منه، وعند وعند.. أشياء كثيرة؛ الأذكار مستحبة لكن ليس شيء منها واجباً.
أيضاً من الصوارف أننا لا نعلم دليلاً يدل على وجوب استماع الأذان، وإذا لم يجب أن يستمع للأذان فمن البدهي أنه لا يجب المتابعة؛ لأن المتابعة فرع عن الاستماع والسماع، فلو أن إنساناً -مثلاً- علم أنه ينام وقت الأذان بحيث لا يسمع المؤذن، لم يكن في هذا حرج عند أحد من أهل العلم، لا يقول له: يجب أن تكون يقظاً لتسمع المؤذن مثلاً، مع أن بإمكانه أن يكون كذلك.
ويمكن أن يجعل من الصوارف أيضاً: حديث مالك بن الحويرث، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما ) أو في لفظ: ( فليؤذن لكما أحدكما وليؤمكما أكبركما ).
فإن هؤلاء وفدوا على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت إقامتهم عنده أياماً معدودة محدودة، وربما -بل هو الغالب- أنهم لم يسمعوا الأحاديث التي فيها الأمر بمتابعة المؤذن، والرسول صلى الله عليه وسلم كان في مقام البيان والتفصيل لهم، فأمرهم بالأذان والإقامة وحدد من الذي يؤذن ومن الذي يؤم، ولم يأمرهم بمتابعة المؤذن، فدل على عدم وجوبه.
وبناءً على ذلك فإن القول الراجح هو قول الجمهور بالاستحباب، وأن متابعة المؤذن لا تجب.
ومسألة متابعة المؤذن في جميع الكلمات فيها أقوال كثيرة استطرد بذكرها الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في التمهيد، وكذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وأذكر أهم هذه الأقوال ثم أسرد الباقي بسرعة؛ لأنها ليست من الأهمية بمكان.
أهم الأقوال المشهورة في ذلك: أن من أهل العلم من قال: يتابع المؤذن في كل شيء من (الله أكبر الله أكبر) إلى قوله: (لا إله إلا الله)، بما في ذلك الحيعلتان، فيقول المتابع للمؤذن مثله: حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح.
واستدل هؤلاء بأدلة.. يمكن أن تعلقوا تعليقة خفيفة، نعود إلى المسألة السابقة مسألة حكم متابعة المؤذن، من أدلة الأولين من أطرف ما مر معي -وفي الواقع أنني لا أذكر أين مر معي- أن بعضهم استدلوا على وجوب متابعة المؤذن -هذه تعليقة بين قوسين- بعضهم استدلوا على وجوب متابعة المؤذن بما رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر -قالوا: وما العذر يا رسول الله؟ قال: خوف أو مرض- لم يقبل الله منه تلك الصلاة التي صلاها )، وفي حديث: ( فلم يمنعه من إجابته عذر )، والحديث رواه أيضاً ابن ماجه .
فقالوا: هذا دليل على وجوب متابعة المؤذن.
وهذا الاستدلال ليس بحسن؛ لأن المقصود من اتباع المؤذن وإجابته الذهاب إلى الصلاة، فإذا قال: (حي على الصلاة) تسير إلى المسجد وتمشي لتؤدي الصلاة، هذا المقصود، فهو حديث يورد في وجوب صلاة الجماعة، والدليل على ذلك:
أولاً: أنه قال: ( فلم يمنعه من اتباعه عذر )، وأي عذر يمنع الإنسان من أن يتابع المؤذن فيقول مثلما يقول، ولو كان أسيراً أو حسيراً أو كسيراً أو سجيناً أو على أي حال، هذه واحدة.
الأمر الثاني: أن في الحديث (قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض)، وهل الخوف أو المرض يمنع الإنسان من متابعة المؤذن؟! كلا.
الأمر الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يقبل الله منه تلك الصلاة التي صلى )، وهذا شيء عظيم، يعني: حتى الذين يقولون بوجوب متابعة المؤذن وأن يقول مثلما يقول هل يرون أنه إذا لم يتابع فصلاته باطلة؟ كلا، فدل هذا على أن المقصود بالحديث متابعة المؤذن يعني الذهاب إلى المسجد وصلاة الجماعة، وليس بسبيل من موضوع متابعة المؤذن فيما يقول.
نعود إلى المسألة التي نحن فيها وهي متابعة المؤذن في الجمل، فأقول:
القول الأول: أنه يتابع المؤذن في كل شيء حتى في الحيعلتين، واستدل هؤلاء بحديث أبي سعيد، فإنه عام: ( إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن )، قالوا: لم يستثن من ذلك شيئاً.
ومن أدلتهم أيضاً: حديث أم حبيبة عند النسائي وأبي عوانة -وقد سقته قبل قليل-: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان عندها فسمع المؤذن قال مثلما يقول حتى يسكت )، فقولها: ( قال مثلما يقول ) يدل على الإطلاق والعموم، دلالته على المقصود ظاهرة.
ومن أدلتهم أيضاً: ما رواه ابن عمر رضي الله عنه: ( أن ناساً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إن المؤذنين يفضلوننا، فقال عليه الصلاة والسلام للسائل: إذا سمعت المؤذن فقل مثلما يقول، ثم سل تعط )، والحديث رواه أبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم، وفيه النص على أن السامع يقول كما يقول المؤذن دون استثناء، هذا القول الأول وهذه أدلتهم.
القول الثاني: أنه يقول كما يقول المؤذن إلا في الحيعلتين (حي على الصلاة حي على الفلاح) فإنه يقول عوضاً عنها: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا هو المشهور عن الجمهور، هو مذهب الحنابلة والشافعية ورواية عن مالك وجمهور أهل العلم، أنه يقول كما يقول إلا في الحيعلتين فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
واستدل هؤلاء بأدلة منها حديث معاوية، حديث الباب في صحيح البخاري وسبق ذكر لفظه، وأن في الرواية الأخرى التي ساقها البخاري أنه (كان إذا سمع قول (حي على الصلاة)، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله)، هذا الدليل الأول.
والثاني حديث عمر عند مسلم، وقد سبق بيان لفظه، وهو صريح أيضاً في أنه إذا قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله.
من الأدلة أيضاً -وإن كانت ضعيفاً- حديث أبي رافع وحديث نوفل بن الحارث، وفيهما كما في حديث معاوية رضي الله عنه، وكما في حديث عمر أنه عند الحيعلتين يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، لكنهما ضعيفان.
وأيضاً استدلوا بما سبق من حيث النظر ومن حيث المعنى، فقالوا: إن الحيعلة دعاء ونداء، والمستمع منادى وليس منادياً، فكان الأولى والأجدر به أن يستعين بالله تعالى على إجابة الدعاء والنداء، فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا القول هو الراجح؛ لأن فيه جمعاً بين الأدلة، فهذا القول أدلته خاصة، أما أدلة القول الأول فهي عامة، والخاص مقدم على العام كما سبق مراراً، نعمل الخاص في مجاله، ثم نعمل العام فيما عدا ذلك.
فنقول: حديث أبي سعيد وحديث ابن عمر وحديث أم حبيبة : ( فقولوا مثلما يقول ) تعمل في جميع جمل الأذان إلا الحيعلتين، وحديث عمر رضي الله عنه ومعاوية وما أشبههما يعملان في مجالهما الخاص الذي هو في (حي على الصلاة حي على الفلاح)، فهي أحاديث خاصة، والخاص -كما هو معروف عند الأصوليين- مقدم على العام، ولذلك كان هذا القول هو الراجح.
القول الثالث في المسألة: أن الأمر بالخيار، إن شاء الإنسان قال هذا وإن شاء قال هذا، ويمكن أن يقول هذا مرة وهذا مرة، فمرة إذا سمع (حي على الصلاة) يقول: حي على الصلاة، ومره أخرى إذا سمع (حي على الصلاة) يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وهذا اختاره ابن المنذر، وكأنه جعل الأحاديث الواردة في هذا الباب مثل الأحاديث الواردة في صيغ الأذان كأذان عبد الله بن زيد وأذان أبي محذورة، ومثل الأحاديث الواردة في صفة وصيغ الإقامة إقامة عبد الله بن زيد وإقامة أبي محذورة، ومثل الأحاديث الواردة في صلاة الخوف وأدعية الاستفتاح وألفاظ التشهد وغيرها من الأذكار المنوعة التي يعمل بكل منها.
ولكن مما يعكر على هذا القول أن حديث عمر مفصل وكذلك حديث معاوية، وفيه أنه يستبدل لفظاً بلفظ، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم في متابعة الإمام: ( وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد )، فهو دليل على أن المأموم لا يقول: سمع الله لمن حمد، وإنما يقولها الإمام والمنفرد، والمأموم يقول: ربنا ولك الحمد إلى آخر الذكر، دون أن يقول: سمع الله لمن حمده.
فهذه مثلها، المؤذن يقول: (حي على الصلاة) وغيره يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
القول الرابع في المسألة: وهو قول منسوب لبعض المتأخرين من الأصوليين، قالوا: يجمع بينهما؛ لأن علماء الأصول يقولون: إذا أمكن الجمع بين العام والخاص فإنه يجمع بينهما، فلذلك قالوا: يجمع المتابع بينهما، فإذا سمع (حي على الصلاة) قال: حي على الصلاة ثم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ووراء ذلك اختلافات أخرى: لا يتابع المؤذن إلا في الشهادتين فقط؛ لقول النبي صلى الله عيه وسلم: ( إذا سمعتم المؤذن يتشهد ) كما في حديث عائشة وسعد بن أبي وقاص .
وبعضهم قالوا: لا يتابعه إلا في التكبير والتشهد ثم يقف، وبعضهم قالوا: يتابعه في التكبير والتشهد ثم يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ثم يقف.. إلى غير ذلك من الأقوال التي أهمها الأربعة الأولى، وأرجحها أنه يتابعه في كل شيء، إلا في (حي على الصلاة حي على الفلاح) فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
بعضهم يقول: فقل: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا أحسن، لكن أيضاً لم يرد ما يدل عليه، وإنما هو قياس على قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله عند الحيعلة، والقياس في العبادات لا يصلح.
وبعضهم يقولون: يقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة خير من النوم.
والأصوب من ذلك كله: أن من سمع (الصلاة خير من النوم) يقول مثله: الصلاة خير من النوم، بدليل حديث أبي سعيد : ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول )، وقد سبق أن هذا عام يعمل في كل مجال إلا ما ورد النص باستثنائه وهو الحيعلتان، ومثل حديث ابن عمر وحديث أم حبيبة وغيرهما، فيقول: الصلاة خير من النوم كما يقول المؤذن.
وأيضاً ما دام قلنا: إنه يتابع في الإقامة فأقول كما يقول المقيم، إذا قال المقيم: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة؛ فماذا يقول من يتابعه؟ طرداً للقاعدة السابقة يقول: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، هذا هو الصحيح أيضاً، لحديث أبي سعيد وابن عمر وأم حبيبة وسبقت، أقول مثلما يقول.
وقال بعض الفقهاء -بل كثير منهم-: يقول: أقامها الله وأدامها، وهذا ورد فيه حديث لكنه ضعيف لا يحتج به، وقد سبق بيان حاله.
وبعض العامة يضيفون: أقامها الله وأدامها، اللهم قنا شر الحسرة والندامة، وهذا لا أصل له.
إذا سمعه يتابعه وإذا لم يسمعه لا يتابعه، على أي حال المسألة موطن اجتهاد؛ لأنه ليس فيها نص إلا عموم النصوص السابقة، لكن قد يقال: إن الترجيع ليس مقصوداً به الإسماع والأذان كما هو ظاهر جداً؛ فإن المؤذن إذا رجع يخفض صوته جداً لا يكاد يسمعه إلا من حوله، وليس المقصود بالشهادتين الأذان والإسماع ورفع الصوت؛ ولذلك يتجه أن يقال: لا يتابعه بترجيعه، فإن سمعه وقال مثلما يقول فالأمر في ذلك واسع، بل حسن؛ لأن الترجيع لا يعدو أن يكون: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
وقد صحت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم -وهي كثيرة جداً- في قوله: ( من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه ... ) فلا حرج في ذلك.
الحالة الأولى: أن يكون الإنسان في حال قضاء الحاجة، كما إذا كان في الخلاء في الحمام أو في حال معاشرته لأهله، يجامع أهله، فمثل هذا يكره له أن يقول كما يقول المؤذن، ولعل مما يستأنس به في الكراهية التي نص عليها كثير من أهل العلم: ما ورد في أبي داود بسند صحيح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عليه رجل فلم يرد عليه حتى أتى الجدار، فتيمم ثم رد عليه السلام، وقال: كرهت أن أذكر الله وأنا على غير طهر ) .
فيدل على أنه من باب الأولى أنه إن كان متلبساً بالحدث -يعني: أثناء الحدث- فإنه يكره له أن يذكر الله تعالى على هذا، بل ينزه اسم الله عز وجل عن ذلك، وفي هذا تنزيه وتخليص وتعظيم لله تبارك وتعالى، وهو الأليق بالإنسان، هذه هي الحالة الأولى.
الحالة الثانية: أن يكون في الصلاة فرضاً أو نفلاً ثم يسمع المؤذن، فهل يتابعه أم لا يتابعه؟
لا شك أن المستقر في أذهاننا أنه لا يتابعه قولاً واحداً، لكن المسألة فيها في الواقع اختلاف كثير وفيها تفصيل:
فبعضهم قالوا: يتابعه مطلقاً في الفريضة والنافلة فيقول مثلما يقول.
وبعضهم قالوا: يتابعه مطلقاً إلا في الحيعلتين، حي على الصلاة حي على الفلاح، فلا، بل يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وذلك لأن الحيعلة خطاب للمخلوق فهي مبطلة للصلاة ولا تجوز، لأنه إذا قال: حي على الصلاة كأنه يقول للناس: هيا أو تعالوا، ومن قال للناس تعالوا وهو يصلي فإن ذلك مبطل لصلاته إذا لم يكن جاهلاً أو ناسياً.
وبعضهم قالوا: يتابعه في النفل دون الفرض.
وبعضهم قالوا: يتابعه إلا إن كان في قراءة الفاتحة، فإن الفاتحة يشترط فيها الموالاة، فلا يقطعها بمتابعة المؤذن.
وقد اختلف كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في ذلك، في الاختيارات مال إلى مشروعية متابعته في النافلة، وفي مجموع الفتاوى بين أن الأقوى -وهو قول الجمهور- أنه لا يتابع المؤذن.
والأقوى عندي أنه لا يتابع المؤذن في الفرض مطلقاً، أما في النفل فالأمر واسع، ولكن الأولى أن لا يتابعه أيضاً، وإن كان ذلك جائزاً، والسبب في ذلك أن الأذان ذكر طويل ليس مثل (الحمد لله) لمن عطس، كلمة واحدة وتنتهي، بل هو ذكر طويل، فكونه ينشغل عن صلاته بمتابعة المؤذن إلى أن ينتهي، في ذلك نوع من الانشغال عن الصلاة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث زيد بن ثابت -: ( إن في الصلاة لشغلاً )، وكذلك جاء عن ابن مسعود .
فكونه ينشغل عن الصلاة بمتابعة المؤذن هذا ليس أولى من أن ينشغل بالصلاة عن متابعة المؤذن، هذه هي المسائل الثلاث أو الأربع التي تتضمنها تلك الأحاديث الثلاث.
جعلنا الله وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين وآله وأصحابه أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر