من أشهر القصص الموضوعة في شأن الأذان قصة
بلال رضي الله عنه، والتي جاءت عن طريق
أنس، ومن أقدم من رأيت ذكرها
ابن عساكر في تاريخ دمشق؛ ذكر في ترجمة
إبراهيم بن محمد والذي جده
أبو الدرداء الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه.
وفي هذه القصة: (أن بلالاً رضي الله عنه لما ذهب إلى الشام -كان ذهب للغزو- نام ذات ليلة فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: يا بلال ! ما هذه الجفوة، كان بلال أبطأ عن زيارة المدينة، فاستيقظ بلال فزعاً مذعوراً خائفاً، وذهب إلى المدينة من ليلته، قال: فلما دخل المسجد جاء إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -هكذا تقول الرواية المكذوبة-، دخل على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكب عليه يلثم تربه ويقبله، ثم جاءه الحسن والحسين فقام إليهما يقبلها ويبكي، فقال له الحسن والحسين : يا بلال ! أذن لنا كما كنت تؤذن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما كان عند السحر صعد بلال في المسجد في الموضع الذي كان يؤذن فيه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر.. فلما وصل إلى قوله: أشهد أن لا إله إلا الله ارتفع الضجيج والبكاء وارتجت المدينة به، فلما قال: أشهد أن محمداً رسول الله لم يبق أحد إلا صاح وبكى، حتى خرجت العواتق من خدورهن، وخرج الناس يقولون: هل بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فما رئي يومئذ أكثر باكياً ولا باكية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومئذٍ..).
وهذه القصة على أنها قصة عاطفية ومثيرة إلا أنها قصة موضوعة، وفي إسنادها محمد بن أبي الفيض، ولذلك قال الشوكاني عن هذا الحديث: (لا أصل له)، كما في الفوائد المجموعة، وقبله قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان: بيّن الوضع، هذا الحديث بيّن الوضع، وهو ظاهر جداً أنه مكذوب ملفق من وجوه عديدة:
فأولاً: قضية أن بلالاً يأتي إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيقبله ويلثمه، وحاشاه من ذلك، لم يكن هذا الأمر من دأب الصحابة ولا من دأب الجيل الأول، بل كانوا على شدة محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتقون كل أمر أو فعل يمكن أن يؤدي إلى الشرك، وإنما هذا حدث في المتأخرين من الرافضة والمتصوفة وأمثالهم، هم الذين كانوا يعكفون على القبور ويطوفون حولها ويتمسحون بها ويلثمون ترابها، أما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فكانوا منزهين عن ذلك، وكانوا أكثر الناس تجريداً وتوحيداً، وأبعد الناس عن الشرك ومظانه، هذه واحدة.
الأخرى: أنه لا يحفظ هذا الأثر والنقل إلا من هذا الطريق الذي فيه هذا الراوي الضعيف جداً، وهو محمد بن أبي الفيض ولا عبرة بروايته.
الوجه الثالث: أن بلالاً رضي الله عنه نقل كثير من أهل السير كالحافظ ابن حجر في الإصابة وابن عبد البر في الاستيعاب، وغيرهم ممن ترجم له، وكذلك ابن أبي شيبة في مصنفه ذكر مجموعة من الآثار في بعضها: أن بلالاً رضي الله عنه لم يؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر أراد بلال أن يذهب إلى الشام ليجاهد مع المؤمنين هناك، فقال له أبو بكر : بل تبقى وتكون عندي، فقال بلال لـأبي بكر رضي الله عنهما: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لوجه الله فدعني أذهب للجهاد في سبيل الله، فخلى أبو بكر رضي الله عنه سبيله، ثم خرج إلى الجهاد)، ويقال: إن عمر رضي الله عنه حين خرج إلى الشام وذهب إلى بيت المقدس لقي الصحابة وفيهم بلال، فطلب عمر من بلال أن يؤذن فأذن بـالشام حتى بكى عمر وبكى المسلمون جميعاً، وتذكروا الحال التي كانوا عليها زمن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالصحيح أن بلالاً خرج إلى الشام في الغزو والجهاد وظل هناك حتى مات رضي الله عنه وأرضاه، وكان موته سنة عشرين تقريباً، وقال بعضهم: في طاعون عمواس، وطاعون عمواس كان في السنة الثامنة عشرة.
المهم أنه كان في سنة عشرين تقريباً، ودفن بـالشام، إما بـداريا أو بـدمشق، أو بما حولهما، فالمهم أن بلالاً خرج إلى الشام في الغزو وظل هناك حتى مات رضي الله عنه ودفن بها، فهذه القصة المروية عن بلال لا تصح ولا تثبت بوجه من الوجوه.
هذا والله تبارك وتعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.