إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
حصة هذا اليوم من الأحاديث: هو حديث أبي محذورة وحديث أنس بروايتيه، وإن أمكن أن نأخذ حديث أبي جحيفة فسنفعل إن شاء الله تعالى.
فالحديث الأول حديث أبي محذورة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان، فذكر فيه الترجيع). يعني: ذكر أبو محذورة فيه الترجيع.
أخرجه مسلم، ولكن ذكر التكبير في أوله مرتين فقط، وأخرجه الخمسة فذكروه -أي: التكبير- مربعاً.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علّمه الأذان وأمره أن يؤذن به في مكة، وظل مؤذناً بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم كان بنوه من بعده يتوارثون الأذان في مسجد الكعبة، واشتهر براوية حديث الأذان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان لتعليم النبي صلى الله عليه وسلم الأذان قصة ذكرها النسائي وغيره وهي أنهم: ( لما رجعوا من حنين كان مجموعة من الناس يقلدون المؤذن يستهزئون به، يقلدونه بأصواتهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا مسمع صوت إنسان حسن الصوت هاهنا؟ فأمر بهم فجيء بهم إليه فأذنوا واحداً واحداً، فلما أذن أبو محذورة
هذا حديث أبي محذورة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان فذكر فيه الترجيع ) .
هكذا جاء في رواية مسلم في معظم أصوله: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله -يقولها بصوت منخفض ثم يعود مرة أخرى- أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، ثم يكمل بعد ذلك الأذان مثنى مثنى، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله )، هذه رواية مسلم لصيغة الأذان في حديث أبي محذورة رضي الله عنه.
وهذه الصيغة أيضاً رواها جماعة من العلماء -كما أشار المصنف- بشيء من الاختلاف، فأخرجها أصحاب السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، ورواها أيضاً البغوي والبيهقي والطحاوي وغيرهم.
إذاً: حديث أبي محذورة فيه التكبير في أول الأذان مرتين فقط، وليس أربعاً كما هو في حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه.
وهذا الموضع ذكر أهل العلم أن الراجح فيه: تربيع التكبير، يعني: موافقة الأئمة الأربعة أصحاب السنن في إخراج الحديث، فإن المصنف ذكر أنهم أخرجوا الحديث -الأربعة، بل الخمسة- يعني -مضافاً إليهم الإمام أحمد - أخرجوا الحديث بتربيع التكبير، أو أخرجوه فذكروه مربعاً في أول الأذان: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. فقد رجح جماعة من أهل العلم أن الصحيح أن التكبير مربع في أول حديث أبي محذورة، كما قال ابن القطان: الصحيح في هذا تربيع التكبير.
ووجوه ترجيح كون التكبير أربع مرات كثيرة، منها ما يلي:
أولاً: أن لفظ التكبير أربعاً رواه بعض رواة صحيح مسلم، فقد جاء في إحدى روايات الفارسي عن مسلم : أنه ذكر التكبير في هذا الحديث أربعاً وليس مرتين. إذاً: هو في بعض روايات مسلم بالتربيع.
الأمر الثاني: أن الإمام النسائي روى هذا الحديث عن شيخ من شيوخ مسلم في الحديث نفسه وهو إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، رواه النسائي عن إسحاق بن إبراهيم وهو شيخ مسلم في نفس الحديث، يعني: مسلم روى عنه الحديث نفسه، فـالنسائي روى عنه الحديث فذكر فيه تربيع التكبير، ومسلم روى عنه الحديث فذكر فيه التثنية، فـالنسائي وافق مسلماً في شيخه وخالف في الرواية، فـالنسائي ذكر التربيع في التكبير، أما مسلم فإنه اقتصر على التثنية.
الوجه الثالث: أن هذا اللفظ الذي هو تربيع التكبير فيه زيادة ثقة، فلم يقتصر على ثنتين بل زادها إلى أربع، فيجب قبولها خاصة مع وجود المرجحات الأخرى كما سلف.
الوجه الرابع: أن الأئمة الذين أخرجوا الحديث -كـأبي داود والترمذي وابن ماجه - ذكروا عدد ألفاظ الأذان فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم علّمه الأذان تسع عشرة كلمة، وعلمه الإقامة سبع عشرة كلمة، فلما قال: علمه الأذان تسع عشرة كلمة أصبحت كلمات الأذان معدودة مربوطة كما يقال: إن هذا جامع مانع، فلما عدها وقال تسع عشرة كلمة تبين بيقين أن التكبير مربع؛ لأننا لو اقتصرنا على تكبيرتين يصبح الأذان سبع عشرة كلمة، فإذا كان الأئمة: أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم ذكروا أن عدد جمل الأذان تسع عشرة؛ فلابد أن يكون التكبير في أول الأذان أربعاً، وهذه الرواية عندهم رواية صحيحة أخرجها الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وصححها جماعة من أهل العلم.
المرجح الخامس: أن هذا هو الموافق لحديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه السابق، فإنه ذكر التكبير في أوله أربعاً.
والمرجّح السادس: أن هذا ينسجم مع ما رواه الشيخان -وسيأتي بعد قليل- من حديث أنس رضي الله عنه قال: ( أمر
هذه ستة مرجّحات تقريباً ترجّح أن التكبير في أول حديث أبي محذورة أربع وليس تكبيرتين فقط. هذا هو الموضع الأول الذي يخالف فيه حديث أبي محذورة حديث عبد الله بن زيد .
فالترجيع هل هو مذكور في حديث عبد الله بن زيد ؟ كلا. حديث عبد الله بن زيد لم يذكر فيه الترجيع، لكنه مذكور هاهنا في حديث أبي محذورة، ولذلك قال المصنف: [ فذكر فيه الترجيع ]. ولا شك أن أبا محذورة لم يذكر لفظ الترجيع، وإنما ذكر أن الرسول عليه السلام علّمه أن يقول: ( أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله -قال: ثم يعود فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله مرة أخرى- )، فقوله: فذكر فيه الترجيع هذا هو من تعبير المصنف، وهو معلوم لا إشكال فيه.
فذهب جماعة كثيرة من أهل العلم إلى أن الترجيع في الأذان سنة. ومن أشهر من قال بسنية الترجيع في الأذان: الإمام الشافعي، بل إن البغوي نسب القول بالترجيع وأنه سنة إلى جمهور العلماء، نسب للإمام أحمد وإسحاق وغيرهما أنهم يقولون بسنية الترجيع في الأذان؛ أخذاً بحديث أبي محذورة هذا، وهو حديث صحيح كما هو معلوم، وكذلك ممن نسبه إلى الجمهور: الإمام الصنعاني في سبل السلام .
القول الثاني: يقول بعدم مشروعية الترجيع، وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله والثوري، يقولون: إن الترجيع ليس بسنة ولا مشروعاً في الأذان.
والقول الثالث: هو مذهب الإمام أحمد وإسحاق وجماعة من فقهاء أهل الحديث، يقولون: إن الترجيع سنة وعدم الترجيع أيضاً سنة، فعله سنة وتركه سنة، أي: أن هذا من الاختلاف المباح، فهو من باب التنوع في العبادات، مثلما ورد -مثلاً- في صيغ وصفات صلاة الخوف، كلها سنن، ومثلما ورد في أنواع التشهدات، كلها سنن، ومثلما ورد في أدعية الاستفتاح، كلها سنن، وما أشبه ذلك من العبادات التي جاءت على أنحاء مختلفة ثابتة، فيعمل بهذا تارة ويعمل بهذا تارة.
وهذا القول هو أحسن الأقوال وأعدلها، إن يقال: إن الترجيع سنة وتركه سنة، فيرجع أحياناً ويترك أحياناً، ويرجع في مكان ويترك في مكان آخر؛ ليعمل بالسنة كلها، ولا يكون عطّل شيئاً من السنة؛ وذلك لأن ترك شيءٍ من السنة قد يفضي إلى أن يعدها الناس بدعة إذا نسيت وأهملت؛ وقد يجعل بعضُ الناس بسبب ترك السنة المستحب واجباً، ويترتب على ذلك التفرق والاختلاف، فمن يفعل هذه السنة يعتب على من لم يفعلها، ومن لا يفعلها يعتب على من يفعلها، فيترتب على ذلك التفرق والتمزق والاختلاف، فلذلك فإن القول الراجح في هذه المسألة هو مذهب فقهاء الحديث كـأحمد وإسحاق وغيرهما، وهو أشمل من قول الشافعي وأشمل من قول أبي حنيفة، أنهم يقولون: يرجع أحياناً ويترك أحياناً.
وهذا ما نسبه الإمام ابن عبد البر إلى أحمد وإسحاق وداود الظاهري وابن جرير الطبري وغيرهم، فإنه قال رحمه الله: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن هذا كله من الاختلاف المباح، فإن شاء كبر في أول الأذان تكبيرتين، وإن شاء كبر أربعاً، وإن شاء رجع في الأذان في التشهدين وإن شاء لم يرجع، وإن شاء ثنّى الإقامة كلها وإن شاء أفردها إلا لفظ: قد قامت الصلاة، هذا كله من المباح. هذا معنى كلام الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله، وهذا القول قول حسن.
لا شك أن عدد كلماتها سبع عشرة كلمة كما جاء، لكن هذه الكلمات السبع عشرة هي أنه يكبر في أول الإقامة أربعاً، يعني: هكذا إقامة أبي محذورة التي علمها إياه النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان قال له: ( قل في الإقامة: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر )، فيكبر في أول الإقامة أربع تكبيرات ثم يقول: ( أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الصلاة، حي على الفلاح حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ) . فهي كأذان بلال إلا أنه زاد فيها قوله: (قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة) مرتين.
على كل حال هذا قول مهجور متروك أشبه ما يكون بالقول الشاذ، وقد نسبه الإمام النووي في كتاب المجموع إلى أنه قول شاذ في مذهب الشافعية.
ولا شك أن دليل هؤلاء ظاهر، فإنهم استدلوا بحديث أنس القادم: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
حجة أصحاب هذا القول: أولاً حديث أنس رضي الله عنه: ( أُمر
ثانياً: حديث عبد الله بن زيد السابق وفيه النص على هذه الصيغة كما سبق بيانه، وهو يعتبر نصاً في هذا الباب.
ومن أدلتهم ما رواه أبو داود السجستاني وكذلك أبو داود الطيالسي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم بسند صحيح صححه ابن خزيمة وصححه النووي وصححه ابن سيد الناس اليعمري وغيرهم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: ( كان الأذان على عهد رسول الله صل الله عليه وسلم -أو قال: إنما كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم- مثنى مثنى والإقامة فرادى، إلا أنه يقول: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة )، فهذا من حججهم على أنه يستحب أو يشرع للمؤذن أن يفرد الإقامة بالنسبة لألفاظ الأذان.
القول الرابع: أنها سبع عشرة كلمة، وهذا هو مذهب أبي حنيفة والثوري وابن المبارك، وهنا تكون الإقامة كأذان عبد الله بن زيد الذي ورد في الحديث الأول، سوى أنه يضيف إليها قد قامت الصلاة.
وحجة أصحاب هذا القول حديث أبي محذورة في الباب، وهو حديث صحيح لا مطعن فيه بوجه من الوجوه فلذلك يحتج به لذلك .
ولذلك نقول: إن القول الراجح في موضوع الإقامة هو كالقول الراجح في موضوع الأذان، أن أذان بلال وأذان أبي محذورة كلاهما جائز ومشروع، فكذلك إقامة بلال وإقامة أبي محذورة كلتاهما جائزة وكلتاهما مشروعة، فلا بأس أن يقيم مرة هكذا ومرة هكذا.
وهذا القول في الواقع تحكم ولا دليل عليه، فإذا ثبت أن للأذان صيغ كلها واردة وللإقامة صيغ كلها واردة فلا داعي لأن نربط الأذان بالإقامة، بل يمكن أن يؤذن أذان بلال ويقيم إقامة أبي محذورة، أو يؤذن أذان أبي محذورة، ويقيم إقامة بلال، لا حرج في ذلك.
وهذا الحديث مشكل وإن احتج به من يقولون بتثنية الإقامة إلا أنه مشكل؛ من جهة أنه ذكر أن بلالاً يثني الإقامة.
والوارد في الصحيح -كما سمعتم- أن بلالاً أُمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة لا يثني الإقامة، ولا شك أن حديث الأسود بن يزيد -وإن كان فيه مقال- إلا أنه مع ذلك معارض لما في الصحيح، فإذا ثبت -على فرض ثبوته- فإنه يجمع بينه وبين حديث أنس بأحد وجوه:
إما أن يقال: إن قوله: (إن بلالاً كان يثني الإقامة) أن يكون يقصد بذلك لفظ (قد قامت الصلاة)، يعني: بلال إذا أقام قال: قد قامت الصلاة مرتين، وهذا لا إشكال فيه، بل هو موافق لما في الصحيح: إلا قد قامت الصلاة كما في صحيح البخاري . هذا وجه من وجوه الجمع.
الوجه الثاني: أن يقال بأن بلالاً كان يفعل هذا تارة وهذا تارة، فمرة كان بلال يوتر الإقامة كما أمره النبي عليه السلام في حديث أنس، فيقتصر من كل جمله على لفظ واحد، إلا التكبير -كما هو معروف- في أوله وآخره، وإلا قد قامت الصلاة، ومرة يؤمر بأن يثني الإقامة فيقول كل لفظ مرتين، فيقول مثلاً: أشهد أن لا إله إلا الله مرتين، أشهد أن محمداً رسول الله مرتين، حي على الصلاة مرتين، حي على الفلاح مرتين، فيكون يفعل هذا تارة وهذا تارة، وهذا مثل ما سبق.
الاحتمال الثالث: أن يكون أحد الحديثين ناسخاً للآخر، وقد ذهب الطحاوي إلى ذلك، فقال: إن أحاديث التثنية -الأمر بتثنية الإقامة- ناسخة لأحاديث الإفراد، وهذا ينسجم مع مذهب الحنفية، والطحاوي رحمه الله حنفي كما تعلمون، وعكس المسألة البيهقي والحازمي في الاعتبار فقال: إن أحاديث الإفراد يحتمل أن تكون ناسخة لأحاديث التثنية، وهذا أيضاً موافق لمذهب الإمام الشافعي رحمه الله في الإقامة كما سبق.
والراجح أنه لا نسخ في ذلك، بل إقامة بلال مشروعة، وإقامة أبي محذورة مشروعة يفعل هذا تارة وهذا تارة كما سبق.
وفعلاً كلام ابن الوزير رحمه الله كان في نفسي وفي خاطري؛ لأنني كنت أقول: سبحان الله! كيف يقع الاختلاف في أمر الأذان مع اشتهاره وإعلانه؛ لأن العادة جرت أن الأمور المعلنة تتوفر الدواعي على نقلها، وقلما يخطئ فيها الراوي، ولا يعتمد فيها على رواية شخص واحد فقط.
ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله -أيضاً-: إن الرواية في الأذان تكلف، يعني: كأنه يقول: إن رواية صيغ الأذان والإقامة تكلف؛ لأن الأذان والإقامة مما يعلن به على رءوس الأشهاد في الحرمين، في المسجدين، يعني: مسجد مكة ومسجد المدينة، ويسمع به المهاجرون الأنصار، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا محذورة ثم سعد القرظ أن يؤذنا بـمكة ثم ورثتهما وذريتهما من بعدهما، وكانوا يؤذنون بأذان.
فلو افترض أن إنساناً ادعى أنهم قد أخطئوا في الأذان وأخطأ من يسمعهم فلم يعترض عليهم ثم جاء ليخبرنا من أقصى الدنيا بذلك، لكان مثل إنسان أتى يسألنا عن مكان منى ومكان عرفة ومزدلفة والمواقيت، فلما أخبرناه بها خالفنا وخطأنا في ذلك.
قال الشافعي رحمه الله: بل إن إمكانية قبول أن يخالفنا في عرفة أو منى أقرب وأجوز من أن يخالفنا في الأذان والإقامة، فإن الأذان والإقامة تعلن، فـالشافعي رحمه الله يقول: إن الرواية للأذان والإقامة تكلف، هكذا قال؛ لأنها من الأمور الظاهرة المشهورة.
الأمر الأول تثنية التكبير في الأذان، أن يقتصر على تكبيرتين فقط في أول الأذان، فهذا ترجح أن الرواية الراجحة أن التكبير في أول الأذان أربع حتى في حديث أبي محذورة . فلا يشرع للإنسان أن يثني التكبير، لكن لو ثنى التكبير لا ينكر عليه؛ لأن عنده رواية في صحيح مسلم فيها تثنية التكبير، فلا ينكر عليه.
وكذلك من الأشياء التي وردت ولا يعمل بها لعدم ثبوتها الاقتصار من الإقامة على تسعة ألفاظ، بأن يقتصر على قول: الله أكبر مرة واحدة في البداية وكذلك في النهاية كما ورد أخذاً بظاهر حديث بلال؛ لأنه ثبت من السنة ما يخالف هذا.
وكذلك قول ابن خزيمة : إذا أذن -مثلاً- بأذان أبي محذورة لابد أن يقيم بإقامة أبي محذورة، هذا لا عبرة به، ومثله -أو قريب منه- الاقتصار على كلمة واحدة من لفظ (قد قامت الصلاة)، وهذا وإن كان مذهب الإمام مالك إلا أن الرواية الصحيحة بخلافه، وكذلك المعمول به في سائر الأقطار والأمصار في العالم ...
ولكن أيضاً لو أن إنساناً اقتصر من لفظ (قد قامت الصلاة) على واحدة لا أرى أنه ينكر عليه في ذلك، يُعلَّم، لكن إن كان متبعاً في ذلك لأثر أو مقلداً لإمام فإنه لا يتعدى بذلك الأمر. هذا ما يتعلق بحديث أبي محذورة .
ولذلك روى النسائي بسند صحيح عن أنس قال: ( أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً بلالاً
وقوله: (أن يشفع الأذان) يشفع: من الشفع وهو ضد الوتر، والمعنى: أن يقول كل كلمة مرتين، فشفع التكبير أن يقوله أربعاً، شفع التكبير في أول الأذان أن يقوله أربعاً، وشفع ما عداه أن يقوله مرتين فقط.
(ويوتر الإقامة) أي: يجعل ألفاظ الإقامة وتراً، والمقصود بالإقامة: هو النداء الثاني للقيام إلى الصلاة، المقصود بالإقامة: النداء الثاني للقيام إلى الصلاة.
في قوله: (ويوتر الإقامة إلا الإقامة)، ما المقصود بالإقامة الثانية: (ويوتر الإقامة إلا الإقامة)؟
المقصود بالإقامة الأولى: النداء إلى الصلاة، يعني: كون المؤذن يقول: الله أكبر الله أكبر إلى قوله: لا إله إلا الله، فكله يسمى إقامة، لكن الإقامة المستثناة في قوله: ( إلا الإقامة )؟
بينه المصنف بقوله: (إلا قد قامت الصلاة)، إذاً: فالمنفي غير المثبت كما يقول العلماء، فقوله: (يوتر الإقامة) يعني: يوتر ألفاظ إقامة الصلاة، وقوله: ( إلا الإقامة ) يعني: إلا لفظ (قد قامت الصلاة) فإنه لا يوتره، بل يقوله شفعاً مرتين: (قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة)، كما جاء في حديث الأسود بن يزيد، وكما جاء في حديث عبد الله بن عمر، وكما جاء في حديث عبد الله بن زيد، وكما في حديث أنس هاهنا عند البخاري، هذه كلها شواهد تدل على أن لفظ (قد قامت الصلاة) تقال مرتين.
ومعنى قوله: (يوتر الإقامة) سبق بيانه مرات على القول الراجح مذهب الجمهور: أن المقصود بإيتار الإقامة بالنسبة إلى الأذان، أو باعتبار غالب ألفاظها، وإلا فإن التكبير في أول الإقامة مثنى وكذلك فيما قبل آخرها.
وقد أجمع أهل العلم على أن لفظ لا إله إلا الله في آخر الإقامة وتر، لم يختلفوا في ذلك كما ذكره جماعة من المصنفين.
ومسلم رحمه الله لم يذكر لفظ قوله: ( إلا الإقامة )، وقد سبق أن بينت في هذا الحديث تعارضاً مع ما ورد من حديث الأسود بن يزيد، وأنه يجمع بينهما بأحد ثلاثة وجوه:
إما يقال بالنسخ وهو ضعيف. وإما أن يقال بحمل كل حديث على حال، وهذا أحسن ما يمكن أن يقال. وإما أن يقال بتضعيف تلك الرواية.
هذا ما هناك في حديث أنس رضي الله عنه، ليس فيه شيء جديد؛ لأن ألفاظ الإقامة سبقت والخلاف فيها سبق ومضى.
والترجيع يسمعه القريب، يسمع من حوله ثم يصرخ بها ويرفع صوته ليسمعه البعيد.
أما رواية ابن ماجه: (وجعل إصبعيه في أذنيه) فليس فيها زيادة أو جديد عن الرواية الأولى.
وأما رواية أبي داود ففيها: (أنه لوى عنقه لما بلغ حي على الصلاة يميناً وشمالاً)، وفيها قوله: (لم يستدر)، كما سيأتي، ثم قال المصنف: وأصله في الصحيحين.
أبا جحيفة
قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بـالأبطح، قال: فأتىبلال
بماء فتوضأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق بالناس يأخذون من مائه، فمن نائل وناضح، ثم أذنبلال
فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا: حي على الصلاة، حي على الفلاح، ثم أقام ونصب عنزة فصلى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . فـالبخاري ومسلم ذكرا الحديث ضمن قصة قدوم وهب بن عبد الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بـالأبطح بـمكة .وقوله: ( وإصبعاه في أذنيه )، ذكر النووي رحمه الله أن المقصود بالإصبعين هاهنا: السبابتان، أن المقصود بالإصبع السبابة، وخالفه في ذلك بعضهم فذكروا أن المقصود: الإبهام، كما أشار إليه الصنعاني في سبل السلام، ولا أدري ما المعتمد في ذلك.
على كل حال يمكن أن نشير إلى شيء من ذلك؛ ليبين الترجيح أيهما الذي يوضع في الأذان، كما أن فيه قوله في رواية أبي داود : ( ولم يستدر ) .
ولذلك فإن حديث أبي جحيفة في بيان بعض آداب الأذان:
الأدب الأول الذي ذكره أبو جحيفة : هو أن المؤذن يميل برأسه يمنة ويسرة في النداء للصلاة في الحيعلتين: حي على الصلاة، حي على الفلاح، وهذا ذكر العلماء له ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يلتفت يميناً في قوله: (حي على الصلاة حي على الصلاة)، يعني: يلتفت يميناً وإصبعاه في أذنيه يقول: حي على الصلاة حي على الصلاة، ثم يلتفت شمالاً ويقول: حي على الفلاح، حي على الفلاح، كما ذكر ابن دقيق العيد وغيره.
الصيغة الثانية: أنه يلتفت يميناً في حي على الصلاة ثم يعود إلى القبلة، ثم يلتفت في (حي على الصلاة) مرة أخرى ثم يعود، ثم يلتفت شمالاً في (حي على الفلاح) ثم يعود، ثم يلتفت مرة أخرى ثم يعود، وهذه قريبة من الأولى.
الصيغة الثالثة: قالوا: يقول: (حي على الصلاة) ذات اليمين، مرة، ثم يقول: (حي على الصلاة) الأخرى ذات الشمال، ثم يقول: (حي على الفلاح) ذات اليمين، ثم يقول: (حي على الفلاح) ذات الشمال؛ ليكون لكل من السامعين في اليمين وفي الشمال نصيب من (حي على الصلاة) ومن (حي على الفلاح).
هذه ثلاث صيغ للاستدارة بالرأس، ولم يرد في الحديث تفصيل لذلك، إلا أنه قال: (وجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا: حي على الصلاة حي على الفلاح)؛ ولذلك فإن هذه الصفات كلها محتملة ولا يمكن ترجيح بعضها على بعض؛ لعدم وجود الدليل القاطع الواضح في هذه المسألة، والخطب فيها أيضاً يسير.
ولكن بالنسبة لأصل الاستدارة أو الالتفات فإن العلماء ذكروا: أنه سنة، جمهور العلماء، هذا مذهب الشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي وأبي ثور : أن الالتفات في الأذان سنة، ويمكن أن ينسب أيضاً إلى أبي حنيفة، ونقل عن ابن سيرين أنه يقول: يكره الالتفات، وكأنه رأى أنه يشرع للمؤذن أنه يستقبل القبلة، فقال: يكره الالتفات. والراجح -لا شك- قول الجمهور في مشروعية الالتفات ذات اليمين وذات الشمال.
الأدب الثاني الذي أدب به الرسول صلى الله عليه وسلم مؤذنه بلالاً: هو أن يضع إصبعه في أذنيه، ووضع الأصبعين في الأذنين المقصود بهما: طرف الإصبع الأنملة وليس الإصبع كله، إنما هذا كناية كما هو معلوم بلا شك. والأقرب أن الذي توضع هي السبابة، ولا أعلم دليلاً يمكن أن يعتمد في ذلك إلا ما ورد في موضوع غسل الأذنين -كما سبق معنا- أنه يدخل إصبعيه السباحتين أو السبابتين في أذنيه، فيمكن أن يؤخذ من هذا على سبيل الالتماس أو الإشارة أن الأصبع التي توضع في الأذن عند الأذان هي السبابة.
أما قول المصنف رحمه الله في رواية أبي داود قال: ( ولم يستدر )، يعني: بلالاً، فإن لفظ (ولم يستدر) عند أبي داود ضعيف فيه قيس بن الربيع متكلم فيه، وعارضه رواية أخرى عن الحجاج بن أرطأة عند ابن ماجه وابن أبي شيبة وغيرهما وسعيد بن منصور، وفيها قال: ( واستدار في أذانه )، وقد وافق الحجاج جماعة وخالفه آخرون، ولذلك فإن الأقرب أن لفظ (ولم يستدر) ولفظ (واستدار) كلاهما لا يثبت، لم يثبت لفظ أنه استدار في أذانه ولم يثبت لفظ أنه لم يستدر في أذانه، وعلى فرض ثبوته فإن الاستدارة محمولة على الالتفات، وليس المقصود أنه يستدير بجميع بدنه وإن قال به بعض الفقهاء، فالراجح أنه لا يشرع للمؤذن أن ينصرف عن القبلة بجميع بدنه، إلا أنه عند الحيعلتين يلتفت يميناً وشمالاً برأسه فقط.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر