إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
الحديث الأول عندنا هو حديث عبد الله بن زيد، ثم الزيادة التي رواها الإمام أحمد في آخره، ثم حديث ابن خزيمة عن أنس.
أحمد الله ذا الجلال وذا الإكرام حمداً على الأذان كثيرا
إذ أتاني به البشير من الله فأكرم به لدي بشيرا
في ليال وافى بهن ثلاث كلما جاءت زادني توقيرا
وهي رواية مرسلة ساقها ابن ماجه في آخر الحديث ولا تصح، ليست على شرط الحديث من حيث الصحة، والحديث رواه أيضاً ابن خزيمة -كما أشار المصنف- وقال عقب روايته: سمعت محمد بن يحيى يقول: ليس في أخبار عبد الله بن زيد بن عبد ربه في الأذان خبر أصح من هذا. وهذا -يعني: تصحيح محمد بن يحيى لهذا الحديث- وإن كان لا يدل ضرورة على أنه يصححه، فهو يقول: ليس هناك خبر أصح منه، ولا يلزم من ذلك قطعاً أن يكون صحيحاً، لكنه يومئ إلى ذلك، وقد صح الحديث، صححه جماعة من أهل العلم كما سيأتي.
وممن خرج الحديث أيضاً ابن حبان في صحيحه والبيهقي.
وإذا أردنا أن نعرف من صحح الحديث، فممن صححه -كما سبق- الترمذي، قال: (حسن صحيح) عقب روايته.
وكذلك نقل الترمذي تصحيح الحديث عن الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، يقول -كما في كتاب العلل الكبير للترمذي، وهو مطبوع منفرد العلل الكبير للترمذي - قال: سألت محمد بن إسماعيل عن حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه في الأذان، فقال: هو عندي صحيح. يعني البخاري قال: هو عندي صحيح. وكذلك ابن خزيمة قال: هو حديث صحيح من جهة النقل، وأخرجه في صحيحه، ونقل كلمة محمد بن يحيى كما أسلفت قبل قليل، وهي قوله: ليس في أخبار عبد الله بن زيد في الأذان خبر أصح من هذا.
وممن صححه أيضاً ابن حبان، فإنه أخرجه في صحيحه، وهذا يعني تصحيحه له، وكذلك صححه الإمام الدارقطني والشوكاني في السيل الجرار وغيرهم من أهل العلم.
والحديث رجاله ثقات، إلا أن في إسناده محمد بن إسحاق بن يسار صاحب السير والمغازي، وقد سبق معنا مراراً أنه صدوق مدلس، فحديثه حسن، وقد صرح بالتحديث ابن إسحاق في هذا الحديث، فحديثه حسن لذاته ولكنه صحيح لشواهده، فإنه جاء لحديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه في الأذان شواهد عديدة، أحسنها وأصحها حديث أبي عمير بن أنس بن مالك عن عمومة له من الأنصار، وفيه ذكر القصة، قصة الحديث بتمامها تقريباً، وفيه: [ أن عبد الله بن زيد ذهب إلى بيته وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأري الأذان في المنام ]، وفيه أيضاً: ( أن
وحديث أبي عمير بن أنس عن عمومته من الأنصار رواه أبو داود والبيهقي، وقال ابن حجر في فتح الباري : إسناده صحيح. وهو كما قال؛ فإن رجال الإسناد ثقات لا مطعن في أحد منهم، وبه يرتقي حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه -حديث الباب- من كونه حسناً لذاته لحال محمد بن إسحاق إلى كونه صحيحاً لغيره.
كما أن من شواهد حديث الباب مرسل عن سعيد بن المسيب رواه عبد الرزاق والبيهقي، وشاهده الثالث أيضاً مرسل عن الشعبي، رواه إسحاق بن راهويه في مسنده كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في كتاب المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية، وفي النسخة المسندة من كتاب المطالب العالية -وهي نسخة لا تزال مخطوطة ذكرت فيها تلك الأحاديث بالأسانيد- قال ابن حجر : وهذا مرسل صحيح، وهو شاهد جيد لحديث محمد بن إسحاق الذي في السنن.
إذاً: الحديث حسن لذاته صحيح لغيره باختصار.
الحديث طويل في بعض المصادر كما في سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد، وفيه: ( أن
( إنها لرؤيا حق، قم فألقه على
أما البوق فهو القرن، وهو شيء مجوف مثل القمع ينفخ فيه فيحدث زمراً وصوتاً، وكانت اليهود أيضاً تستخدمه في الدعاء إلى عباداتها وصلواتها.
هذا معنى ذكر الناقوس وذكر القمع، فهي أشياء يدعو بها أهل الكتاب إلى صلواتهم بدون ذكر معها، ليسوا يذكرون الله فيها أو ما أشبه ذلك كما يتوهم بعض الجهلة، كلا، وإنما يضربون بهذه الخشبة على الأخرى للنداء إلى الصلاة.
أما بالنسبة لليهود فهم ينفخون مثل الصفير -مثلاً- أو مثل نوع من الموسيقى، ينفخون ينادون به إلى صلواتهم، وقد وجد في المسلمين من يضاهيهم، كما رأينا في بعض بلاد الإسلام في المساجد طبولاً عظيمة، فسألنا: لماذا هذه؟! قالوا: ينادى بها إلى الصلاة؛ فإن المؤذن إذا أراد أن يؤذن أتى وبدأ يضرب هذا الطبل العظيم ضرباً شديداً يسمع على مسافة بعيدة، فقلنا: ولماذا؟ قالوا: لأن المؤذن لا يرى الأذان بالميكروفون؛ لأنه بدعة الميكروفون! هذا في أندونيسيا، فيضطر إلى هذا الطبل حتى يبلغ من لم يبلغه الأذان. وهذا من الانتكاس في المفاهيم، وأحياناً تقول العرب: شر البلية ما يضحك.
أما قوله: (طاف بي وأنا نائم رجل) فمعنى الطواف: طاف يطيف، أي: إشارة إلى الخيال الذي يلم به عند النوم.
وأما الدوران فيقال: طاف يطوف، كما تقول: طاف بالكعبة يطوف بها، أي: يدور حولها.
أما الإحاطة إذا كان هناك شيء محيط بشيء مثل جدار أو غيره فإنك تقول: أطاف يطيف.
إذاً: هناك فرق بين طاف يطيف هذا يستخدم للطيف الذي يلم بالإنسان عند النوم أو السِنة، أما طاف يطوف فيستخدم للدوران، أما أطاف بهمزة التعدية -أطاف يطيف- فهذا يستخدم في الشيء المحيط بشيء آخر.
[(فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر). فذكر الأذان بتربيع التكبير] هذا من كلام المصنف رحمه الله: (بتربيع التكبير) أي: أنه يقول في أول الأذان التكبير أربع مرات: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر.
بغير ترجيع، والترجيع مأخوذ في اللغة من الرجوع إلى الشيء بعد تعديه وتجاوزه.
والترجيع في الأذان: هو أن المؤذن يقول الشهادتين بصوت منخفض ثم يعود مرة أخرى فيصوت بهما، فيقول -مثلاً-: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر. ثم يقول بصوت منخفض يسمعه من حوله فقط: أشهد أن لا إله إلا الله .. أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله .. أشهد أن محمداً رسول الله، ثم يعود مرة أخرى فيصوت بصوت مرتفع: أشهد أن لا إله إلا الله .. أشهد أن لا إله إلا الله، وهكذا شهادة أن محمداً رسول الله. هذا هو المقصود بالترجيع في الأذان، وقد ثبت ذكر الترجيع في الأذان وأنه مشروع في حديث أبي محذورة في صحيح مسلم، وسيأتي خبره إن شاء الله تعالى. هذا معنى الترجيع.
قول المصنف رحمه الله: [والإقامة فرادى] يعني: أن ألفاظ الإقامة فردية، وليس هذا على إطلاقه، فإنه يحتمل أحد أمرين: إما أن يكون المقصود بقوله: (والإقامة فرادى) أي: في غالب ألفاظها بأنه يقول الشهادتين كل واحدة منهما على انفراد، وكذلك: (حي على الصلاة .. حي على الفلاح) يقولها كل واحدة منها على انفراد، والتكبير في الأخير يقوله على انفراد، فيحتمل أن قوله: (والإقامة فرادى) أي: في غالب ألفاظها.
ويحتمل معنى آخر، وهو أن قوله: (والإقامة فرادى) أي: بالنسبة للأذان، فكأنه جعل قول المؤذن -مثلاً- في أول الأذان: (الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر) جعل كل تكبيرتين كأنهما شيء واحد، فالمقيم أخذ واحدة منهما، وإن كانت تكبيرتين مكونة من لفظين، لكنها واحدة بالقياس إلى الأذان، ولذلك قال النووي -رحمه الله- في المجموع : ولهذا قال أصحابنا: يستحب أن يجمع التكبيرتين بنفس واحد، هكذا قال النووي عن فقهاء الشافعية، قال: يستحب أن يجمع التكبيرتين بنفس واحد، فيقول: الله أكبر الله أكبر، يعني في الأذان، وكأنهما جملة واحدة، فيكون قوله: (والإقامة فرادى) أي: بالنسبة إلى الأذان، وإلا فلفظ التكبير مثنى.
وكذلك قوله: (قد قامت الصلاة) فإنه مثنى، ولكنه قد استثناه في هذا الحديث كما استثناه في حديث أنس بن مالك في الصحيح: ( أُمر بلال
قال: ( فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنها لرؤيا حق... ) إلى آخر الحديث. هذه أهم الألفاظ التي تحتاج إلى بيان في هذا الحديث.
وقد جمع الحافظ ابن حجر -كما ذكر- في تهذيب التهذيب جمع مجموع روايات ذكرت عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه غير خبر الأذان في جزء منفرد، وأشار ابن حجر إلى أنه لا يصح منها شيء.
إذاً: الخبر الوحيد الذي صح عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خبر الأذان، أما بقية الأخبار فإنها لا تصح، وقد روى الإمام أحمد وغيره شيئاً من هذه الأخبار، يراجع في المسند .
وقد تأخرت وفاة عبد الله بن زيد بن عبد ربه، فتوفي عام (32) للهجرة كما ذكر ذلك يونس بن بكير وخليفة بن خياط وغيرهما من المؤرخين، وهذا هو الراجح أنه توفي سنة (32) للهجرة وتأخرت وفاته. وهو غير عبد الله بن زيد الذي سبق معنا في حديث صفة الوضوء، فصاحب صفة الوضوء هو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني، وكلاهما أنصاري، هو وصاحب الأذان كلاهما من الأنصار، لكن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني صاحب صفة الوضوء ذكر الواقدي أنه هو الذي قتله مسيلمة الكذاب في قصة معروفة عند أهل السير.
هذا فيما يتعلق براوي الحديث.
ابن حجر
في فتح الباري . الفائدة الثانية: بيان متى شرع الأذان، فإن الصحيح أنه شرع وأن هذه القصة -قصة الرؤيا- حدثت في السنة الأولى من الهجرة، وقيل: في السنة الثانية من الهجرة، وقيل: بل إن الأذان كان في أول الإسلام وأول ما فرضت الصلاة، وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم سمع الأذان من جبريل ليلة المعراج، وأيضاً قال الحافظابن حجر
: والحق أنه لا يصح شيء من هذه الأخبار، وقد جزمابن المنذر
-والكلام لا يزال لـابن حجر
- قال: وقد جزمابن المنذر
بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ينادي للصلاة منذ أن بعث إلى أن هاجر إلى المدينة . إذاً: فالصحيح أن الأذان شرع في المدينة في السنة الأولى من الهجرة. والفائدة الثالثة: بيان من رأى رؤيا الأذان، فإن الحديث في رواياته صريح في أن الذي رأى رؤيا الأذان هوعبد الله بن زيد بن عبد ربه
، والثاني الذي رأى الرؤياعمر بن الخطاب
، ولا يصح غير هذا، فقد ذكر بعضهم: أن أبا بكر رأى الرؤيا، وذكر آخرون أنبلالاً
رآها، بل ذكرالغزالي أبو حامد
وغيره من الفقهاء: أن من رأوا هذه الرؤيا -رؤيا الأذان- سبعة من الصحابة، بل أوصلهم بعضهم إلى أربعة عشر صحابياً، وهذا كله لا يصح، أنكرهالنووي
وابن الصلاح
وابن حجر
وغيرهم من أهل العلم، لا يثبت أن أحداً من الصحابة رأى رؤيا الأذان إلاعبد الله بن زيد بن عبد ربه
وعمر بن الخطاب
رضي الله عنهم أجمعين. ومن فوائد الحديث: بيان صفة الأذان، وهي الصفة المذكورة في الحديث، وهي صفة الأذان الموجودة في بلادنا هذه، وكذلك للأذان صفات أخرى سيأتي الإشارة إلى بعضها. ومن فوائده: بيان صفة الإقامة، وهي -أيضاً- إحدى صفات الإقامة، وهي الإقامة المعروفة في هذه الديار ثابتة في السنة، وقد جاءت الإشارة إلى صفات أخرى ثبتت أيضاً في السنة غير تلك الصفات. ومن فوائد الحديث: بيان الرؤيا الصالحة، وذلك فيما رآهعمر
ثمعبد الله بن زيد
. وهل يدل الحديث على أن الرؤيا الصالحة قد يثبت بها شرع؟ هذا سؤال. الحديث دليل على فضل الرؤيا الصالحة، حتى قال الرسول عليه السلام: (ابن زيد
ورآهعمر
، ونظير ذلك ما ثبت في الصحيح في خبر ليلة القدر، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عبد الله بن زيد
: (بلال
فألقه عليه؛ فإنه أندى منك صوتاًإذاً: الصنعاني في سبل السلام تعقب المصنف من وجهين:
الوجه الأول: أن قوله: وزاد أحمد في آخره قصة قول بلال، يقول: هذا ليس من الحديث، وإنما هو حديث آخر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال . هذا استدراك.
الاستدراك الثاني: أن الصنعاني يقول: إن هذا الحديث -الذي هو حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال - ضعيف ومنقطع، وكان على المصنف أن يبين ضعفه وانقطاعه كما هي عادته.
وهذا الذي ذكره الصنعاني رحمه الله ليس مسلماً ولا جيداً؛ فإن الصواب مع المصنف فيما ذكر، فإن الإمام أحمد وغيره رووا قصة قول بلال من نفس حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه ؛ فإنهم ذكروا في الحديث السابق نفسه -حديث عبد الله بن زيد - قال: ( فذهب بلال بلال سعيد بن المسيب
إذاً: الزيادة هي من حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وليست من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال كما توهمه الصنعاني فيما ظهر لي من كلامه.
لكن هذه الزيادة ضعيفة، فهي من رواية محمد بن إسحاق وقد عنعنها ولم تثبت -فيما أعلم- متصلة، كما أنه خالف محمد بن إسحاق غيره كـيونس ومعمر، فرويا الحديث مرسلاً وبدون هذه الزيادة.
إذاً: فالزيادة هاهنا لا تصح؛ لأنه تفرد بها ابن إسحاق كما سلف، تفرد بها ابن إسحاق عن الزهري، وخالفه فيها غيره فرووه مرسلاً، يعني: لم يذكروا فيه عبد الله بن زيد ولم يذكروا تلك الزيادة.
فالزيادة -على كل حال- لا تصح متصلة إلى عبد الله بن زيد، وهذا الذي رجحه جماعة من أهل العلم كـالبيهقي في سننه والحافظ ابن حجر كما في الفتح، قال: الرواية المرسلة أرجح.
بلالاً
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم فصرخ: الصلاة خير من النوم ) له شاهد رواه ابن ماجه في سننه عن سعيد بن المسيب عن بلال، وهذا الشاهد فيه علتان:العلة الأولى: الانقطاع؛ فإن سعيد بن المسيب لم يلق بلالاً ولم يرو عنه، فالرواية الصحيح أنها مرسلة، وبذلك تكون رجعت إلى الرواية الأولى، فهي الأولى وليست شاهداً لها، إنما قد يظن أنها شاهد.
العلة الثانية: أن هذا شاهد وفيه علة الإرسال كما ذكرت، فيه علة الإرسال، فيعود إلى الأول، فلا يزيده قوة وإنما هو هو.
أما حديث بلال الذي أشار إليه الصنعاني فهو يشير إلى قوله رضي الله عنه: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أثوب في شيء من الصلوات إلا في صلاة الفجر ).
هذا حديث بلال الذي توهمه الصنعاني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال قال: ( نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أثوب في شيء من الصلوات إلا صلاة الفجر ) .
وهذا الحديث أيضاً لا يصح، حديث نهي بلال عن التثويب إلا في صلاة الفجر أيضاً لا يصح؛ لانقطاعه بين عبد الرحمن بن أبي ليلى وبلال أولاً، فهو مرسل على الصحيح، ولأن فيه أبو إسرائيل الملائي بضم الميم، الملائي نسبة إلى بيع الملاء وهي العباءة أو نوع من الثياب أو نحوها، وأبو إسرائيل الملائي هذا ضعيف عند جمهور المحدثين ومنحرف عن عثمان رضي الله عنه، ففيه بدعة، ولذلك قال الإمام أمير المؤمنين في الحديث عبد الله بن المبارك، قال: إن من نعمة الله على المسلمين ضعف حفظ أبي إسرائيل الملائي . يعني: لأنه صاحب بدعة لئلا يغتر الناس به، فهو كما قال الجوزجاني : ضعيف زائغ. مشيراً إلى أنه صاحب بدعة، نقل عنه أنه يسب عثمان رضي الله عنه.
إذاً: حديث أن بلالاً نهى أن يثوب في شيء من الصلوات إلا في صلاة الفجر لا يصح.
ويطلق التثويب في الأذان على ثلاثة معان:
المعنى الأول: أن يقصد بالتثويب أن يقول في أذان الفجر: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، وهذا الذي فسره به الإمام أحمد، كما ذكر ذلك الترمذي، وهو التثويب المشروع، أن يقول في أذان الفجر: الصلاة خير من النوم، هذا التعريف الأول أو النوع الأول من التثويب، وهو مشروع.
النوع الثاني: هو أن يقول بين الأذان والإقامة بعض ألفاظ الأذان، فإذا انتهى المؤذن من الأذان وانتظر قليلاً قام مرة أخرى وقال: حي على الصلاة حي على الفلاح وما أشبه ذلك، يعني: تنبيهاً للناس كأنه يقول: أسرعوا إلى الصلاة تأخرتم أسرعوا. هذا المعنى الثاني للتثويب وبه فسره إسحاق، وهذا التثويب بدعة لم يرد في شيء من السنن، ولذلك نقل: (أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه دخل مسجداً فقام المؤذن يثوب للصلاة -يعني: ينادي لها مرة أخرى بعد الأذان-. فخرج عبد الله بن عمر وقال: (أخرجتني البدعة من هذا المسجد) رضي الله عنه، كانوا شديدي الحساسية من البدع وشديدي الغيرة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا التثويب المبتدع قال بعض الحنفية بأنه مشروع في كل الصلوات أو بعضها، أو للأمير خاصة إذا تباطأه المؤذن فإنه يقول: السلام عليك -أيها الأمير- ورحمة الله وبركاته، الصلاة، الصلاة، حي على الصلاة حي على الفلاح، وهذا لا أصل له في الدين كما سلف، وإن قاله بعض الفقهاء وأثبتوه في مصنفاتهم.
المعنى الثالث للتثويب: هو الإقامة، الإقامة تسمى تثويباً؛ لأنها رجوع مرة أخرى إلى النداء للصلاة بعد الأذان، وقد سميت تثويباً كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان، فإذا قضي التأذين رجع، فإذا ثوب بالصلاة أدبر )، ما معنى (فإذا ثوب بالصلاة)؟
أقيمت الصلاة، ( أدبر، فإذا قضى التثويب رجع حتى يخطر بين الإنسان وبين نفسه ).
والحديث رواه ابن خزيمة -كما ذكر المصنف- في صحيحه، ورواه البيهقي أيضاً في سننه وزاد: ( الصلاة خير من النوم مرتين )، وقال البيهقي : إسناده صحيح. ورواه أيضاً الدارقطني وابن السكن وغيرهم، وقد صحح الحديث جماعة من أهل العلم منهم البيهقي كما أسلفت، قال: إسناده صحيح، ومنهم ابن السكن أيضاً كما أسلفت، رواه في صحيحه، ومنهم ابن سيد الناس في شرحه للترمذي وغيرهم من أهل العلم، والحديث سنده جيد.
وقد صح التثويب في صلاة الفجر عن جماعة من الصحابة كـعمر وابن عمر وأنس بن مالك وبلال وأبي محذورة، وجماعة من التابعين كـالحسن البصري وابن سيرين، وكثير من أهل العلم كالإمام أحمد ومالك والشعبي والثوري وغيرهم، وهو مذهب الجماهير، وقد نقل الإمام النووي في المجموع أنه خالف في ذلك أبو حنيفة فقال: لا يشرع التثويب في الصلاة. وأنا في شك من هذا النقل ويحتاج إلى تثبت ما نقله النووي عن أبي حنيفة أنه خالف في مشروعية التثويب، وأعني بالتثويب الذي هو قول: (الصلاة خير من النوم) في أذان الفجر، فالمشهور عند الحنفية أنه مشروع، فهم في ذلك كغيرهم من المذاهب.
وممن قال بمشروعية التثويب أيضاً داود الظاهري والظاهرية عموماً وإسحاق بن راهويه وفقهاء الحديث وغيرهم من أهل العلم.
وكذلك نقل عن الحسن بن صالح أنه قال: يشرع التثويب أيضاً في صلاة العشاء؛ لأن بعض الناس قد ينام عنها، وهذا الذي نقل عن الحسن بن صالح يحتمل -والله أعلم- أنه يقصد النداء بقوله: الصلاة خير من النوم، بدليل أنه ذكر النوم عن صلاة العشاء.
على كل حال الصحيح الذي لا إشكال فيه أنه لا يشرع التثويب بـ(الصلاة خير من النوم) إلا في أذان الفجر.
اختلف أهل العلم في النداء بـ (الصلاة خير من النوم) هل يكون في أذان الفجر الأول الذي قبل الوقت ( إن
واستدل هؤلاء على أنه يشرع في الأذان الأول من صلاة الفجر بأدلة، منها:
أولاً: حديث ابن عمر رضي لله عنه أنه قال: ( كان في الأذان الأول بعد الفلاح الصلاة خير من النوم مرتين )، والحديث رواه البيهقي والطحاوي وسنده حسن، حسنه جماعة من أهل العلم كـابن حجر والشوكاني، وصححه آخرون كـابن سيد الناس وغيره.
حديث ابن عمر عند البيهقي : ( كان في الأذان الأول بعد الفلاح والصلاة خير من النوم ) فهذا ليس نصاً، لكن ظاهره أن المقصود الأذان الأول من الفجر الذي يكون قبل الوقت.
ومن أدلتهم أيضاً حديث أبي محذورة عند أبي داود والنسائي وغيرهما قال: ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه الأذان وأمره أن يقول: الصلاة خير من النوم في الأذان الأول من الصبح ) . وحديث أبي محذورة هذا عند أبي داود والنسائي في سنده ضعف، فيه مجاهيل، فهو لا يصح، وبالتالي لا يصح الاستدلال به. هذا القول الأول وهذه أدلته، وتبقى لهم من الأدلة حديث ابن عمر عند البيهقي والطحاوي كما أسلفت.
وقريب من هذا القول من قال: يشرع في أحدهما لا على التعيين، يعني: يجوز له أن يثوب بالأذان الأول ويجوز له أن يثوب بالأذان الثاني، وهذا -كما ذكرت- هو ظاهر إطلاق كثير من الفقهاء، وعلى مدى القرون الأولى لم يكن كثير من الناس يميز أين يوضع هذا النداء، هل يوضع في الأذان الأول أم يوضع في الأذان الثاني، وإنما ظهرت هذه القضية عند المتأخرين أكثر من المتقدمين، وقد اختار هذا القول في التخيير من فقهاء نجد المتأخرين الشيخ علي بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد الدعوة السلفية في الجزيرة العربية، كما في مجموعة الرسائل النجدية الجزء الأول، حيث قال في فتوى له: إن الأمر عندنا على السعة، فإن نادى بها في الأذان الأول فحسن، وإن نادى بها في الأذان الثاني فحسن، والأولى لمن أراد الاقتصار على أحدهما أن يجعلها في الأذان الأول، الأولى لمن أراد الاقتصار على أحدهما -يعني: على أحد الأذانين- أن يجعلها في الأذان الأول، ثم بين اختياره أنها تقال في الأذانين كليهما، قال: وأحسن من ذلك أن تجمع في الأذانين كليهما فينادى في الأذان الأول وفي الأذان الثاني أيضاً: الصلاة خير من النوم. هذا اختياره جمعاً بين الأدلة وتوفيقاً بين النصوص.
أولاً: لأن إطلاقهم أنه يكون في أذان الصبح فإن المقصود بالأصل في الأذان النداء إلى الصلاة كما سبق، والأذان الأول ليس للنداء إلى الصلاة، وإنما بين الرسول صلى الله عليه وسلم حكمته بقوله: ( إن
الدليل الثاني: ما رواه البيهقي في سننه بسند صحيح عن نعيم بن النحام قال: ( كنت في لحاف امرأتي أو في مرط امرأتي في غداة باردة -الرجل رضي الله عنه متلفلف مع زوجته في لحافها في غداة باردة- قال: فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفجر، قال: فقلت: لو قال: ومن قعد فلا حرج )، يعني: تمنى أن يعطى الناس رخصة في عدم الخروج؛ لأن الجو بارد وهو في الحال الذي ذكر رضي الله عنه، قال: ( فلما قال: الصلاة خير من النوم قال: ومن قعد فلا حرج، ومن قعد فلا حرج )، وهذا الحديث -كما أسلفت- صححه الحافظ ابن حجر، سنده صحيح وصححه الحافظ في فتح الباري .
الحديث يدل من وجوه عديدة على أن (الصلاة خير من النوم) تكون في الأذان الثاني:
أولاً: قوله: (في غداة) لأن الغداة تطلق على ما بعد طلوع الفجر وقبل الزوال، في الغداة والعشي، فالغداة ما بعد الفجر إلى الزوال، والعشي هو ما بعد الزوال، هذا دليل.
ثم قوله: (نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفجر) دليل على أن ذلك النداء كان دعاء إلى الصلاة، وهذا إنما يصدق على الأذان الثاني لا على الأذان الأول.
الوجه الثالث في الحديث قوله: (لو قال: ومن قعد فلا حرج، ثم قال المؤذن: ومن قعد فلا حرج) فإن المناسب لهذه الكلمة هو الأذان الثاني؛ لأنه هو الذي يخرج الناس بعده إلى المسجد، فيقال لهم: من قعد منكم في بيته وصلى في بيته لشدة البرد فلا حرج عليه في ذلك.
وربما يستدل أيضاً أصحاب هذا القول بحديث الباب الذي ذكره الإمام أحمد في آخر حديث عبد الله بن زيد وفيه: ( أن
والرأي الغريب في الأمر أن الشيخ الألباني -غفر الله لنا وله- في تمام المنة قال: إن هذا من البدع المخالفة للسنة، كون (الصلاة خير من النوم) في الأذان الثاني، وهذه في الواقع مجازفة لا تنبغي من مثل الشيخ في جلالة قدره وعظيم منزلته، لكن لكل جواد كبوة.
والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر